|
حول ازمة قوي المعارضة السودانيه
محمد علي جادين
الحوار المتمدن-العدد: 1681 - 2006 / 9 / 22 - 10:32
المحور:
اليسار , الديمقراطية والعلمانية في مصر والسودان
في مناسبات عديدة ظل د.عبد الله علي إبراهيم يصف الفترة الراهنة في حركة التطور الوطني بأنها (فترة هرج) والتعبير ملئ بالدلالات والمعاني، ويعني حسب فهمي المتواضع، فقدان الاتجاه وعدم القدرة على التحكم في مجريات حركة التطور الواقعي، لأنها لم تعد تستند إلى عوامل موضوعية وأهداف سياسية واجتماعية عامة. والمشار إليه وصف هذه الحالة بـ (نهاية السياسة في الشمال) وذلك في مقالة بنفس العنوان في جريدة الأنباء في عام 1998، ويشير ذلك إلى نهاية السياسة كعملية صراع سياسي، اجتماعي وحوار وتفاعل وتسويات متواصلة ومستمرة، والتسويات تدخل هنا باعتبارها جزءاً أساسياً من عمليات الصراع والحوار والتفاعل، حسب المفكر الأيطالي قرامشي.
وما ظل يجري في بلادنا، طوال عقد ونصف لا علاقة له بمثل هذه العملية، هو أقرب إلى (الهرج) ويجسد فعلاً (نهاية السياسة) واستبدالها بعمليات صراع آخر، يفتقد الحوار والتفاعل والتسويات، ولا نقول ذلك يأساً من الإصلاح، كما اشارت كتابات عديدين من كتاب الصحف، وإنما بهدف شحذ الأذهان وبذل الجهد لمعرفة الواقع كما هو، ومن ثم التوصل إلى صيغ ملائمة للتعامل معه. ويفسر عبد العزيز حسين الصاوي هذه الوضعية بما يسميه (التراجع التحديثي) أي تدهور وزن القوى الحديثة خلال العقود الثلاثة الأخيرة تحت وطأة النظم العسكرية وانهيار الطبقة الوسطى وتدهور النظام التعليمي (الهوية والديمقراطية، دار عزة الخرطوم 2005) ويربط ذلك بالأزمة الوطنية الشاملة الجارية في البلاد، وهي أزمة حقيقية وعميقة.
نتيجة لضغوط هذه الأزمة، تراجع التجمع الوطني الديمقراطي من شعارات (سلم تسلم) و(اجتثاث النظام من جذوره) إلى شعارات (الحل السياسي الشامل) دون شروط مسبقة. وقبل ذلك ذهب السيد الصادق المهدي، زعيم حزب الأمة، إلى جيبوتي في 1999م بهدف الوصول إلى تسوية ملائمة مع نظام الإنقاذ، وهناك وجد استجابة واسعة من رئيس الجمهورية ووقتها قال (ذهبت اصطاد أرنباً فوجدت فيلاً) في اشارة متفائلة تبشر بامكانية الوصول إلى (تسوية وطنية شاملة) ولكن المدهش ان السيد الصادق لم يجد أرنباً ولا فيلاً، والتجمع الوطني لم يجد حلاً سياسياً شاملاً حتى بداية 2005م، والمفارقة ان رياح السلام والتسوية السياسية لم تنطلق من هذه المبادرات الوطنية المخلصة، بل من منبر دول الايفاد وشركائه الدوليين في مشاكوس/نايفاشا، وبعد ذلك جاء اتفاق القاهرة مع التجمع الوطني تحت رعاية الحكومة المصرية، واتفاق أبوجا مع حركة مناوي الدارفورية تحت رعاية الاتحاد الافريقي وشركائه الدوليين، وسوف ينضاف إليها اتفاق مع جبهة الشرق تحت رعاية دولة اريتريا، وكل ذلك يشير إلى ان الأزمة السودانية قد تم تدويلها بالكامل، شئناً ذلك أم ابينا، وهذا يعني فيما يعني غياب الإرادة الوطنية او على الأقل فشلها في تحمل مسؤوليتها في مواجهة مشاكلها الداخلية. وهي وضعية مؤسفة اياً كانت أسبابها، وتعكس بالفعل حالة (هرج) واضحة وتؤكد (نهاية السياسة) في السودان.
أهم هذه الاتفاقيات بالطبع هي اتفاقية مشاكوس/نايفاشا مع الحركة الشعبية (الجنوب) واتفاقية أبوجا مع حركة مناوي، والاتفاقيتان تمتا تحت رعاية افريقية (دول الايقاد والاتحاد الافريقي) وشركاء دوليين، بما في ذلك الأمم المتحدة والدول الكبرى الأساسية، ومع انها تحمل اختلالات وعيوباً كثيرة، فقد اشاعت الأمل في تحقيق السلام والاستقرار ولكنها في الواقع العملي لم تحقق الكثير رغم الاتفاقيات المفعلة والدستور الانتقالي القومي والنشاط المتزايد لقوى المعارضة السياسية والاجتماعية والجهوية، وبدلاً من تطوير الاتفاقيات الموقعة إلى تسوية وطنية شاملة، وحقيقة ظلت تطورات الواقع ترهن مصير البلاد في أيدي شركاء حكومة الوحدة الوطنية بمشاركة فعالة للأمم المتحدة والاتحاد الافريقي والقوى الكبرى الأساسية، وبالتالي اقصاء وابعاد القوى السياسية والاجتماعية الأخرى عن المشاركة في تقرير مصير وطنها، وهذا وضع مختل لا يساعد على تحقيق السلام والتحول الديمقراطي وتعزيز الوحدة الوطنية، بل سيؤدي فقط إلى مزيد من التوترات والصراعات الداخلية والتدخلات الدولية والإقليمية، ولا سبيل إلى تحقيق ذلك سوى بتطوير هذه الاتفاقيات إلى اتفاق قومي من خلال حوار وطني واسع وصولاً إلى تسوية وطنية شاملة وتاريخية، ويشمل ذلك بالضرورة حواراً دارفورياً يضع حداً لأزمة الأقليم ويحقق تطلعات أهله في المشاركة والتنمية.
ولكن.. لماذا تتردد نخبة الإنقاذ والحركة الشعبية في الإقدام على الدخول في هذا الطريق؟ لماذا لا تحسم حكومة الوحدة الوطنية أمرها وتطرح مشروعاً وطنياً يحقق أهدافها المعلنة ويعالج كافة جوانب الأزمة السودانية؟ الاجابة على هذه الأسئلة وغيرها هي مسؤولية نخبة الإنقاذ المسيطرة وقيادات الحركة الشعبية وحركة مناوي الدارفورية، والمهم هنا ان نطرح أسئلة أخرى على قوى المعارضة... صحيح ان قوى عديدة ظلت تعمل على اقصائها وابعادها عن المشاركة في تقرير مصير بلادها، ولكن... لماذا عجزت هي عن فرض نفسها في معادلة التسوية الجارية؟ هل حدث ويحدث ذلك فقط بسبب رفض أطراف هذه التسوية والقوى الدولية التي تقف خلفها؟ أم ان هناك أيضاً أسباباً أخرى ذاتية وموضوعية محددة؟ على قوى المعارضة الاجابة بوضوح على هذه الأسئلة وغيرها ونضيف هنا... لماذا فشل حزب الأمة في فرض إعلان جيبوتي 1999؟ ولماذا فشل التجمع الوطني في تنفيذ اتفاق القاهرة رغم مرور أكثر من عام على توقيعه؟ الاجابة واضحة، هي ضعف هذه القوى وعدم قدرتها على إحداث ضغوط شعبية كافية لتحقيق هذه الاتفاقيات وغيرها، والظاهرة الابرز هنا هي انقسام قوى المعارضة بين منبر القوى الوطنية بقيادة حزب الأمة، ومنبر التجمع الوطني بقيادة الاتحادي الديمقراطي هل يعكس ذلك صراع أنصار وختمية؟ وهناك تعرض معظم الأحزاب المعارضة لانقسامات وتوترات محتدة، ونشير هنا إلى ضعف ردود فعل هذه القوى تجاه زيادات الأسعار الأخيرة مع تقديرنا الكامل للخطوات التي قامت بها، والملفت في كل ذلك ان المبادرة كانت من الأحزاب الصغيرة وليست من الأحزاب الجماهيرية، وقد أدى ذلك إلى ارتفاع أصوات عديدة في نقد قوى المعارضة وكشف سلبياتها ومطالبتها بتصحيحها بدلاً من القاء اللوم على نخبة الإنقاذ المسيطرة وسلبية مواقف الحركة الشعبية. وكمساهمة في هذا المجال أشير إلى كتاب عبد العزيز الصاوي (الهوية والديمقراطية) المشار إليه أعلاه والذي طرح فيه فكرة (مراجعة استراتيجية المعارضة في ضوء متغيرات الواقع والتجربة السابقة) واشير أيضاً إلى مقال كتبته ونشرته في جريدة الأيام في مايو 2005 وجاء فيه : (ان محدودية فعالية التجمع الوطني، التي تقر بها كافة أطرافه، مقارنة بحجمه ووضوح خطه السياسي، تعود أساساً إلى تدهور وزن القوى الحديثة المستنيرة خلال العقود الثلاثة الأخيرة، وذلك نتيجة تفاعل ثلاثة عوامل أساسية، هي:
1- ترييف المدن والقطاع الحديث عموماً تحت وطأة الحروب الأهلية وانهيار الهياكل الاقتصادية والاجتماعية الزراعية والبدوية.
2- انهيار الطبقة الوسطى في خضم التدهور الاقتصادي العام وسياسات التحرير غير المرشدة ديمقراطياً واجتماعياً.
3- التوسع الكبير في التعليم على حساب نوعيته، من حيث المناهج وأساليب التدريب والبنيات التحتية. وذلك بالإضافة إلى عوامل ثانوية مثل الهجرة إلى الخارج. وبما ان حركة المعارضة للأنظمة الديكتاتورية العسكرية تستمد زخمها من حيوية القوى الاجتماعية الحديثة، فإن كافة أساليب العمل المجربة في اكتوبر 1964 ومارس /أبريل 1985 وحتى الاساليب الجديدة (العمل المسلح) ظلت تفتقد إلى القاعدة الاجتماعية التي تتجاوب معها وتمارسها، وفي الوقت نفسه، فإن ديكتاتورية الإنقاذ تجد مصدر قوة إضافي، مقارنة بالأنظمة العسكرية السابقة، في نفس ظاهرة تدهور حيوية القوى الحديثة والمجسده في انتشار الفهم التقليدي للدين مقترنة بضغوط معيشية وأمنية وسياسية هائلة. ومن هنا فإن التركيز على العوامل الذاتية لضعف قوى المعارضة كسبب لمشكلة عدم فاعلية التجمع الوطني وقوى المعارضة الأخرى، يبدو في غير محله- والحقيقة الواضحة هي ان مسؤولية هذه القوى في عمومها تنحصر أساساً في عدم التعمق في البحث عن جذور الأزمة على النحو المشار إليه أعلاه حتى الآن، وبالتالي عدم التعامل مع مسبباتها وافرازاتها رغم مظاهرها البارزة في نمو واتساع التيارات السلفية الدينية والقبلية والجهوية وفي انعدام التجاوب مع المجهودات الكبيرة التي بذلتها وتبذلها بعض الأحزاب بما في ذلك تجربة العمل المسلح...
وهذه الوضعية تشمل، بالطبع، نخبة الإنقاذ المسيطرة والأطراف الأخرى في حكومة الوحدة الوطنية، وربما بصورة أكبر وأوسع0 ويشكل ذلك أحد الأسباب التي تمنعها من الإقدام على طرح مشروع تسوية وطنية شاملة.
المهم ان على قوى المعارضة تفهم جذور الأزمة الوطنية الشاملة الجارية في البلاد، والانطلاق من حقائقها في نشاطها اليومي... والخطوة الأولى في هذا الاتجاه تبدأ بتوحيد منبرها ونشاطها في اتجاه عمل صبور وطويل لبناء البديل الديمقراطي وسط جماهير الشعب ومن ثم فرض التسوية الوطنية الشاملة.
#محمد_علي_جادين (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
شبكة الديموقراطيين العرب، خطوة طال انتظارها
-
ميزانية حكومة السودان: نقد وتقييم
-
بدايةالمرحلةالانتقالية في السودان
-
اعادة نظر في استراتيجية المعارضه السودانيه: دعوة للنقاش
المزيد.....
-
تحليل لـCNN: كيف غيرت الأيام الـ7 الماضية حرب أوكرانيا؟
-
هل الدفاعات الجوية الغربية قادرة على مواجهة صاروخ أوريشنيك ا
...
-
كيف زادت ثروة إيلون ماسك -أغنى شخص في العالم- بفضل الانتخابا
...
-
غارة عنيفة تهز العاصمة بيروت
-
مراسلة RT: دوي انفجارت عنيفة تهز العاصمة بيروت جراء غارة إسر
...
-
عاجل .. صافرات الانذار تدوي في حيفا الآن وأنباء عن انفجارات
...
-
أوستن: القوات الكورية الشمالية في روسيا ستحارب -قريبا- ضد أو
...
-
ترامب يكشف أسماء جديدة رشحها لمناصب قيادية في إدارته المقبلة
...
-
البيت الأبيض يبحث مع شركات الاتصال الاختراق الصيني المشتبه ب
...
-
قمة كوب29: الدول الغنية ستساهم ب 250 مليار دولار لمساعدة الد
...
المزيد.....
-
كراسات التحالف الشعبي الاشتراكي (11) التعليم بين مطرقة التسل
...
/ حزب التحالف الشعبي الاشتراكي
-
ثورات منسية.. الصورة الأخرى لتاريخ السودان
/ سيد صديق
-
تساؤلات حول فلسفة العلم و دوره في ثورة الوعي - السودان أنموذ
...
/ عبد الله ميرغني محمد أحمد
-
المثقف العضوي و الثورة
/ عبد الله ميرغني محمد أحمد
-
الناصرية فى الثورة المضادة
/ عادل العمري
-
العوامل المباشرة لهزيمة مصر في 1967
/ عادل العمري
-
المراكز التجارية، الثقافة الاستهلاكية وإعادة صياغة الفضاء ال
...
/ منى أباظة
-
لماذا لم تسقط بعد؟ مراجعة لدروس الثورة السودانية
/ مزن النّيل
-
عن أصول الوضع الراهن وآفاق الحراك الثوري في مصر
/ مجموعة النداء بالتغيير
-
قرار رفع أسعار الكهرباء في مصر ( 2 ) ابحث عن الديون وشروط ال
...
/ إلهامي الميرغني
المزيد.....
|