الواقع ومتغيراته
قراءة في قصص
( مجدي جعفر- أحمد عبده)
في مجموعته القصصية الأولي ( أصداء رحلة شاب علي مشارف الوصول) يتفاعل الكاتب
( مجدي جعفر) مع الواقع المعيش بمتغيراته المختلفة ، تفاعلا – إيجابيا – ينعكس علي معظم القصص التي تتكون من واحد وعشرين قصة قصيرة ، وأربع قصص قصيرة جدا (1) .
لقد انعكست معظم المتغيرات التي حدثت في مصر السبعينيات ، بأبعادها السياسية والاجتماعية والاقتصادية ، بشكل واضح ، علي تجربة الكاتب ومن ثم شكلت رؤيته ، وحددت موقفه تجاه الواقع ، وتجاه الحياة التي يستحضر منها شخوصه ، ويستمد منها تجاربه .. ويتأمل الكاتب الأساليب المتباينة لمعاركة الواقع ، ويتتبع ويرصد طبيعة العلاقات الإنسانية التي أنتجتها تلك المتغيرات ، وعلي وجه الخصوص : المتغير الاقتصادي ، حيث إن انتهاج مصر لسياسة الانفتاح الاقتصادي في عام 1974 - وهو وقت مبكر حتى بالنسبة للدول التي كانت مستعدة لاحتضان هذا النهج ، فما بالك بمصر التي لم تكن مهيأة بعد للممارسة . والانفتاح الاقتصادي - تحديدا - متغير كبير ، أحدث أثره علي اختلال منظومة القيم الاجتماعية والأخلاقية نتيجة لإفساحه المجال أمام الطبقات الطفيلية ، لكي تطفو علي السطح تمارس سطوتها بقوة المال فكان نتيجة لذلك أن ازداد فقر الفقراء ، وازداد غني الأغنياء ، وأصبح أبناء الطبقة المتوسطة ، علي شفا حفرة من الفقر فانهارت أحلامهم ، وأصبحت - رغم ضآلتها - أحلاما مستحيلة ، فلجأ معظم أبناء هذه الطبقة إلى الهجرة خارج الوطن ، للبحث عن أسباب الحياة ولتحسن أحوال المعيشة ، التي أصبح عنصر الاستهلاك فيها عنصرا رئيسا.
تلك الهجرة تركت آثارا جلية علي كل شيء ، ليس فقط علي منظومة القيم ، بل إنها أدت إلى انكسار الروح لدي الشخصية المصرية .. انكسار الروح ، أدي إلى تداعي وانحسار بعض المفاهيم مثل : مفهوم الوطن - مفهوم الشرف - مفهوم الكرامة وأدي إلى إغماض العين عن تقاليدنا ، وعاداتنا ونظم حياتنا ، فكان الدوران في الدائرة المفرّغة من الأهداف غير الواضحة تعبيرا عن ضياع الهوية ، وتأكيدا لفكرة الاستلاب.
وكان للمتغير السياسي أثره البالغ في تشكيل عقلية ووجدان الإنسان في مصر ، خاصة بعد اتفاقية ( كامب ديفيد ) وما تبعها من سياسات تمس الإنسان مسا مباشرا ، ومنها علي وجه الخصوص سياسة التطبيع ، تلك السياسة التي دفعتنا دفعا لتغيير ما ترّسخ في نفوسنا منذ سنوات طويلة - ومازال - من أن إسرائيل هي العدو الأول للإنسان العربي ، ومن الصعب عليك قبول هذا في ظل الإرهاب الصهيوني الذي يتبع سياسة خلط الأوراق . ويدخلك في متاهة البحث عن مفاهيم كانت محددة في ذهنك سلفا ولم تعد محددة اليوم ، مثل مفاهيم : المقاومة .. المواجهة .. تحرير الأرض .. السيادة .. الهوية .. التبعية .. الهيمنة .. الخ .
ولا يمكن لأي كاتب كان أن يتنصل من كل هذا ، إذا كان ملتزما بضرورة التعبير عن هموم الوطن والمواطن ، إذا كان ملتزما بمعيار الصدق الفني .. المعيار الأول لأي عمل إبداعي ناجح .
لا يمكن لأي كاتب كان أن يخلق عالما أفلاطونيا لا علاقة له بالواقع المعيش ، ولا علاقة له بجوهر الإنسان الذي هو محور الحياة والوجود .
ومن ثم تدعونا إلى الاندهاش العبارة التي جاءت في الدراسة المرافقة للمجموعة التي كتبها الناقد ( د. خليل أبو ذياب) (2) ويقول فيها " شرع قاصنا الشاب يشخص همم مجتمعه الريفي المحطوم ويرصد ملامحها ، محاولا البحث عن الدواء الناجع لها ، وان أظهر في جوانب كثيرة من إبداعاته حالة من الاستسلام أو السلبية التي تزيد الوضع سوءا ، وتشيع قدرا ظاهرا من اليأس والإحباط ، وهذا أمر يدفعنا إلى أن نهيب بالقاص لتبديل وسائله وأدواته ، وتغيير أساليبه ، واصطناع الجدية في وضع ( الصوي) - يقصد الضوء- علي طريق الواقع لئلا تتحول السلبية والاستسلام إلى فلسفة أو أيديولوجية قائمة لا يرجي منها أي نفع أو خير" (3).
تلك العبارة حق يراد به باطل ، لأنك حين تقوم بتوجيه السؤال إلى الكاتب - أي كاتب - وتقول : لماذا تكتب ؟؟ سيجيبك علي الفور : أكتب لأن هناك شيئا أود أن أقوله ، وتصبح هذه الإجابة بديهية تماما ، لا نختلف حولها أبدا . ولكن أن نقول للكاتب "إن تناولك لمظاهر الاستسلام والسلبية ، تزيد الوضع سوءا ، وتشيع قدرا ظاهرا من اليأس والإحباط" هذه العبارة تنطوي علي تناقض في داخلها ، إذ إنها تدعو الكاتب إلى الاستسلام والسلبية تجاه قضايا مجتمعه ، وهو يكتب – كما قلت – لأن هناك شيئا يود أن يقوله .. دعه يقوله بالطريقة التي يراها ، وعلينا أن نبحث عن ذلك المعيار الذي أغفلناه في دراساتنا النقدية الآن , وأعني به معيار الصدق الفني ، وبدلا من أن نقول له: استبدل وسائلك وأدواتك ، وغير أساليبك .. نقول له : قم بتطوير أدواتك وأساليبك بالقدر الذي تستطيع معه استقبال العمل الإبداعي استقبالا جيدا .
وتأتي قصص : ( مصري1 – مصري 2- حكاية كان الغدر- لماذا – الخروج- أم دغش ) لتعالج – من عدة زوايا- موضوعا واحدا هو موضوع : الهجرة خارج الوطن ، كنتيجة من نتائج انتهاج سياسة الانفتاح الاقتصادي ، التي أشرنا إليها ، وتأتي قصص أخري لتعبر بشكل مباشر عن نتائج هذا الانفتاح علي أبناء الطبقة المتوسطة مثل قصص: حكاية البنت والولد – القادم – الصرماتي .
وعن اختلال منظومة القيم ، وتأكيدا لفكرة الاستلاب تأتي قصص : بنات أمريكا- انتظار- الثمن – الجني آدميون ، وعلي الرغم من أن الكاتب شدته مظاهر الخلل الذي حدث في المجتمع بشكل عام ، والمجتمع الريفي بشك خاص ، نراه يقدم قصصا يطرح من خلالها الرغبة في التغيير ، وضرورته من أجل مواجهة المستقبل مثل قصص: المهر – طريق الندامة – أصداء رحلة شاب علي مشارف الوصول.
التحولات التي حدثت في القرية المصرية في السبعينيات ، تحولات كبيرة ، عكست ظواهر متنوعة منها : تجريف الأرض لبناء المساكن عليها ، وهذا السلوك أدي إلى إثراء أصحاب تلك الأراضي إثراء فجائيا ، ومنها عدم الاهتمام بخدمة وزراعة المحاصيل الكبيرة مثل القطن والقمح نتيجة هجرة الفلاحين المدربين ، فأثر ذلك علي الإنتاج الذي جاء ضعيفا . المزارع في قصة
( مصري 1) ترك قريته وأرضه مهاجرا الي العراق ، فلم يهتم بها ، ولم يتابعها فجاء محصوله ضعيفا ، وتحرّر محضر باسمه - أثناء غيابه- لأن الأرض ضنت بالأرز ، ولم يتم توريد الحصة المقررة ، وفي نفس الموقت بخس محصول القطن ، الذي أرتفع ثمنه " اللوزة ناشفة ضعيفة والأنفار عملة نادرة " ص 107 هذا المزارع أقام بيتا علي أرضه المزروعة ، التي لم يعطها اهتماما يتساوي مع اهتمامه بإنقاذ الطفل العراقي الذي سقط من أمه في ماء النهر .
أوضح الكاتب مفارقة بين موقفين متضادين : العراقيون يهتفون بحياة المصري الشهم الذي أنقذ الطفل من الغرق ، وهو نفسه معرض للغرق ، ويحتاج الي من ينتشله !!
وعلي الرغم من أن السفر الي الخارج كان الوسيلة الناجعة لتخطي عقبات القهر الاقتصادي ولتحقيق الأمنيات ، ومنها أمنية زواج الشاب من الفتاة التي يحبها ، إلا أن السفر لم يكن هو الحل الأمثل لبطل قصة ( مصري 2) الذي ترك كل شيء حتى يستطيع الاقتران بحبيبته ، لكنها اقترنت بواحد آخر ثري ، يملك المال بالفعل ، وكأن لسان حال الكاتب يقول : (اللي سبق أكل النبق ) كما يعبر المثل العامي المصري عن هذا الموقف .
ولذلك يقرر فجأة - في نهاية القصة - الاقتران بامرأة وطنية يستطيع معها تخطي الصعاب والوصول الي ما يريد من أقصر الطرق ، وأسهلها !
الكاتب يشير – فنيا – الي اختلال منظومة القيم ، المرتبط بالبعد الاقتصادي الذي يدفع بالاحتياجات المادية الي مقدمة الاهتمامات بدون وجود الإمكانيات المساعدة ، ومن ثم تكون الوسائل غير أخلاقية ، وغير مشروعة أحيانا .
البعد الاقتصادي في قصة ( لماذا) هو الذي دفع الولد مدرس الموسيقي ، لكي يقوم ( بلم النقوط) للعالمة التي عمل معها مطربا !! وهو الذي دفع البنت التي تحبه ، وتعمل مدرسة للغة الإنجليزية ، لممارسة أسلوب إرهاب التلاميذ ، والتلويح لهم بدفتر المكتب ، ليلجئوا الي تعاطي الدروس الخصوصية .. أبناء الطبقة المتوسطة ، استسلموا للفجوة التي أحدثها المتغير الاقتصادي السريع ، وباتوا يؤمنون بأن الغاية تبرر الوسيلة للوصول الي الأهداف ، وتحقيق الأحلام والحلم هنا هو : الارتباط بالزواج ذلك الرباط المقدس ، الذي يقوم بوسائل غير مقدسة ! والتعاطف مع القضايا القومية الكبرى مثل قضية احتلال العراق للكويت في عام 1990 ، لا يجيء دفاعا عن المصالح العليا ، ولا يجيء لأسباب وطنية مخلصة بقدر ما جاء خوفا علي الأحلام التي لن تتحقق مع هذا الغزو .
بطل قصة ( ليلة كان الغدر) يحلم بالسفر الي الكويت ، وحين سمع نبأ احتلال الكويت قال : " انكوي قلبي ، وظللت أبكي وأبكي " ص100
إن الغدر لم ينل الدولة بمفردها ، بل نال حلمه ، ليصبح مثل صديقه العائد من الخارج محملا بالهدايا والمال يقول " الأسر الكبيرة ارتضت بهم أزواجا لبناتها ، عقارات وأطيان ، محلات وسيارات وفلوس في البنوك ، حياة ناعمة وهادئة ومستقرة ص 99 .. مصالح طبقية .. بالمدخرات تذوب الفوارق وتتلاشي الحواجز .
والزوجة في قصة ( حكاية مصرية ) تحث زوجها علي السفر للخارج ، ليستطيع مواجهة تكاليف الحياة ، وتمارس سطوتها كامرأة نكدية ، حتى يلين عزمه ، ويستجيب لرغبتها ، لكنه لا يهتز أمام ثورتها اليومية ، ويذهب الي الجريدة التي بين يديه يقرأ فيها عله ينسي .. وحين يُسمي الكاتب قصته باسم ( حكاية مصرية ) فانه يريد أن يقول : إن تلك الحكاية هي حكاية كل يوم .
وفي قصة ( أم دغش) يقدم القاص ( مجدي جعفر) عملا محكم البناء – بالفعل – ويعد نموذجا جيدا ، يقاس عليه . فهو يقوم بالتمهيد للحدث ، ويضع المقدمات التي تُفضي - حتما - الي النهايات ، أم دغش تجمع ريش ( الحمام) وتصنع منه جناحين كبيرين ، والراوي - في القصة - يتساءل لماذا تفعل أم دغش هذا !؟ أتريد أن تطير بهذين الجناحين ؟ ويمر الموقف ، لينمو داخل القصة ، وقرب النهاية ، تصطدم عربة طائشة بولدها ( دغش) فيموت علي الفور ، فتقف أم دغش أعلي قمة البرج تلبس الجناحين ، يغطي الريش والزغب مناطق كثيرة من جسمها العاري ، وحولها الحمام يحلق وينوح ، صحنا فيها أرجعي .. ارجعي يا مجنونة ، وتنتهي القصة أما لماذا فعلت أم دغش هذا ؟ ولماذا أقدمت علي الانتحار ؟ لأنها تزوجت عجوزا مزواجا بغير رغبتها ، أجبرها أبوها بمساعدة العمدة وطبيب الصحة علي الزواج من الرجل الخليجي ، الذي أخذها معه لتعيش عشرين عاما غير سعيدة .. تحلم كل يوم بالعودة الي مصر ، لكنها لا تستطيع .. وكان ( دغش) السبب الذي جعلها تتمسك بالحياة ، برغم مطاردة حلم العودة لها دوما ، وهي تجد مع المصريين الذين تقوم بتسكينهم في حجرة السطح ، الأمان ، والجسر الذي يربطها ببلدها مصر .
السفر الي خارج الوطن باعتباره وسيلة للنجاة من الفشل ، أو النجاة من الموت ، هو موت معنوي يماثل الموت الحقيقي ، ولذلك يقوم الكاتب بالمزاوجة التقليدية بين لحظتّي : الموت والحياة باعتبارهما وجهين لعملة واحدة .
في قصة ( الخروج) نجد الخروج من الوطن يقابله خروج من الحياة ، الأم العجوز تموت في نفس اللحظة التي تُقلع فيها طائرة الابن المسافر الي الخارج بحثا عن أسباب الحياة المفتقدة في بلاده فقّد جاءه عقد عمل ، وأمه لم تكن راضية ، وتقول قولتها الحكيمة : من خرج من داره قل مقداره ، وتضرب له مثلا بأبيه الذي رفض الاستيلاء علي الذهب والعملات القديمة حين وجدها داخل صندوق مومياء فرعونية ، بعد أن ضرب الأرض بفأسه.. و رفض - كذلك - مكافأة الحكومة نظير أمانته ، وحين مات لم يترك لولده إلا الفقر ، لكن العجوز راضية ، وتري أنه قد ترك له الكثير من القيم ، التي هي أثمن من المال ، لكن الابن غير راض يسعي للتغيير وكذلك زوجته التي تشجعه علي الرحيل . البطل في القصة من جيل آخر لا يحمل نفس ملامح الأب ( لم يزل صامتا يحملق في صورة أبيه يفتش عن ملامحه) ص 33
وقصة القادم تذكرني بموقف المسئول الإسرائيلي في مسرحية ( سعد الدين وهبة ) المحروسة 2015 الذي طلب من الفلاحين في المحروسة زراعة السحلب والجنزبيل والمغات بدلا من القمح والقطن !! لأن سعد الدين وهبة أراد التحذير من مغبة مواصلة التطبيع الزراعي مع إسرائيل ، الأمر الذي سيوصلنا بعد سنوات قليلة قادمة ، للفقر والجوع ، ومن ثم يصبح من السهل علي الأعداء التحكم والسيطرة وامتلاك زمام الأمور . ومجدي جعفر في قصة القادم يجعل الزائر الأنيق الذي جاء الي القرية بعد طول انتظار ، يدعو الناس لزراعة الورود بدلا من زراعة القمح لأنه بني مصنعا للعطور في القرية ، وهاهو مسئول الزراعة يصرخ في الناس متشنجا مبينا لهم أهمية زراعة القمح ، ولا حياة لمن ينادي ، لأن الناس انجذبوا الي الزائر ، ظنا منهم بأنه سيحل مشاكلهم المستعصية علي الحل ! وعلي الرغم من تحذير شيخ القرية لأهلها من مغبة الاستسلام لرغبات الزائر ( الخواجه) نجدهم يندفعون اندفاعا للترحيب به واستقباله " انه قادم ومعه هدايا كثيرة ، سيعطي كل طفل في القرية جلبابا وحذاء ، وبنطلونا ، ويوزع حلوي وشكولاته ، ويذبح كل يوم عجلا ، يوزع علي أهل القرية الفقراء ويدفع لهم مصروفات المدرسة ، ويشتري كتب وكشاكيل ، سيزوج البنات ويعلم الأولاد ، يشغل المتعطلين ، يبني دورا للمحتاجين ، يعطي المحروم والمسكين وابن السبيل "ص22
العوز والحاجة تدفع الإنسان الي التنازل ، وتؤدي به الي الضعف ، ومن ثم يكون من السهل علي الأقوياء القادرين السيطرة عليه ، ودفعه لتحقيق أهدافهم ، وتلك الفكرة طرحها النظام العالمي الجديد في علاقات الدول بعضها بالبعض الآخر من يستطيع العيش في هذا العالم هم الأقوياء وليس الضعفاء . وحين يلجأ الكاتب الي استخدام الفعل المضارع في القصة ، فانه يحذرنا – بالفعل – من مغبة الاندفاع نحو الآخر بغير روية ووعي وأن هذا الذي يحدث ، يحدث الآن وليس في أي وقت آخر ..
( الصرماتي ) الذي كان لص أحذية المساجد ، يتحول الي ماسح أحذية ، ثم صرماتي قبل هزيمة 67 ، وبعدها يستفيد من أجواء الهزيمة ، ويشتري بضاعة محلات الأحذية بأثمان بخسة حيث إن الكل يعيش في مأتم ، ولا يشتري شيئا ، لكنه بعد انتصار أكتوبر 1973 ، وبعد سياسة الانفتاح ، استأجر محلا كبيرا في المدينة الواسعة ، حمل اسمه ، وأصبح – بالطبع – تاجرا مرموقا.
الصرماتي نموذج حي للطبقات الطفيلية التي استفادت ، وعملت علي إفساد الحياة من حولنا .
مازلنا نتحدث عن أثر المتغير الاقتصادي علي الشخصية المصرية ، ونتتبع – مع الكاتب – طرق المعالجة المختلفة والمتنوعة لهذا الموضوع . وتأتي قصة ( حكاية الولد والبنت ) ليعارض بشخوصها ، قصته السابق الإشارة إليها ، وهي قصة ( لماذا) ، فالولد في هذه القصة لم يتنازل ويقبل العمل بصحبة راقصة ، بل تمسك بالقيم ، ولم يتخل عن مبادئه ، وتمسك بمواقفه تجاه مشاكل العالم المختلفة ، يفعل هذا برغم أن حبه للفتاة أضحى مهددا ؛ نتيجة لسنوات الانتظار الطويلة ، ولم يستطع فيها أن يفعل شيئا ، يقربه من الفتاة التي تحبه ، ويحبها ، البنت واقعية تحدثه عن السنوات التي مرت ، والصعوبات التي ينبغي مواجهتها والولد رومانسي شاعر تحدثه عن الزواج ، فيحدثها عن مؤتمر السلام ، تفكر في البيت والاستقرار والأسرة ، وهو يفكر في الوطن . نقطة الالتقاء بينهما منعدمة ، ولذلك فان العلاقة تنتهي بشكل طبيعي وتلقائي ، ويبدو أمامنا الكاتب وكأنه يترجم - قصصيا - ما ذكره الشاعر العراقي ( بدر شاكر السياب) في إحدى قصائده حين قال :
( كان وهما هوانا
فان القلوب والصبابات
وقفٌ علي الأغنياء )
إن الكاتب ( مجدي جعفر) يملك القدرة علي التقاط اللحظة القصصية ، وتنميتها وتطويرها وابراز ما فيها بما يثير اهتمام القارئ . والأبطال في القصص يتصرفون – أيضا- بطريقة تثير الاهتمام والترقب ، فهناك شخص يتزوج امرأة من الجان ( جنية ) في قصة ( الجني آدميون) .
القصة تبدأ بتقديم المشكلة مباشرة ومؤداها : أن أهل القرية لا يجرءون علي بناء البيوت بالقرب من الخرابة المهجورة ويتصورون أن أصواتا تنطلق في الليل منها ، ويعتقدون أن الجان يسكنها ، ويأتي العمدة ليخرج عن الأعراف والتقاليد ، ويتحدي إرادة الخائفين ، ويقرر الزواج من الجنية ( سارتاليزا) . ومع ذلك ازداد خوف أهل القرية من سكان الخرابة ، وكانوا يبغضون قاطنيها " فهم الذين ينشرون الفساد ، ومن معدن غير معدننا " وظلت حياة العمدة مع الحبيبة تسير سيرا طبيعيا إلى أن تلد طفلا ، هو مزيج من الطين والنار !! ، ويعلن العمدة أنه مؤسس الجنس الجديد ( الجني آدميون) ، فيكون رد فعل أهل القرية عنيفا ، حين انتفضوا واسكنوا صدر العمدة عدة رصاصات.
إن هذا الموقف الغرائبي يثير اهتمام القارئ ، ويدفعه إلى التفكير للوصول إلى المعني ، فالكاتب لا يقصد من خلال الفنتازيا تحقيق المتعة فقط ، بل يريد توصيل شيء ما إلى القارئ ، ما هو هذا الشيء؟؟ إنها المخاطر التي يتعرض لها الإنسان المعاصر من قِبل القوي الخارجية التي تريد السيطرة ، فتلجأ لأسلوب طمس الهوية بمساعدة المتعاونين معها ، والمستفيدين منها . والنهاية تعكس موقفا إيجابيا للجموع الذين رفضوا الانصياع ، وقاوموا المتعاون والمستفيد .
القاص هنا مولع بالحدث الذي يستدعيه من الخيال ، والحدث هو خروج عن المألوف ، لكن هذا الخروج قد يُعرض القصة للخطر كما حدث مع قصة ( أصداء رحلة شاب علي مشارف الوصول ) تلك القصة الرومانسية البالغة الرهافة والشاعرية يتناول فيها تجربة شاب أحب امرأة حبا رومانسيا جميلا ، وبادلته المشاعر ذاتها وبنفس الدرجة ، نراه يتحدث إلى طبيبه فنشعر منذ البداية ، أن ثمة شيء ما قد حدث ، لكن الكاتب يستطرد مع بطله ، وبأسلوب التداعي الحر يدفعه للحديث لنعرف أنه مر بتجربة حب رومانسية مع فتاة رآها علي الشاطئ، يعمل مهندسا وهي شاعرة ، ومن خلال أسلوب التداعي نعلم أنه ابن لعالم مصري تزوج أمريكية أثناء وجوده هناك ، وعندما قرر العودة إلى مصر اغتالته رصاصة ، مما تسبب في دخول أمه الأميركية للمصحة النفسية ، وفي نهاية القصة نعلم أن سبب أزمته : زهد الحبيبة المفاجئ ، حيث أخذت تحدثه عن العالم الآخر ، فبدت أمامه ( مجذوبة) ثم فاضت روحها في ثوان معدودات . والقصة علي هذا النحو تمتلئ بالأحداث والمواقف ، وتعكس بُعدا ميلودراميا غير واضح ، هي ممتلئة بالشجن نعم ، لكنها تحتوي علي استطرادات كثيرة ليست في صالحها ، فاللغة الوجدانية التي جاءت بضمير المتكلم يمكن ألا تتوقف نهائيا ، لأن الموقف القصصي أو الحدث ساكن وغير متحرك ، وإذا تحرك فان حركته تكون فجائية ، وبلا مبرر واضح .
هذا ما قصدته من عبارة إن الحدث حين يكون خروجا عن المألوف ، ولا يستطيع الكاتب السيطرة عليه ، قد يُعرض القصة للخطر ، فالموقف الذي وصلت إليه الحبيبة في القصة ، وأدي إلى موتها لا مبرر له ، تشعر أنه ُمقحم من أجل إبراز أزمة الشخصية ليس إلا ! فالمرأة لم تتعرض لمشكلات معقدة مثل تلك المشكلات التي تعرض لها وواجهها في حياته : مقتل الأب .. دخول الأم إلى مصحة الأمراض النفسية .
ينبغي علي كاتب القصة القصيرة الانتقال من المجرد إلى الملموس بتلقائية ، تجعلنا مهيئين لتلقي تجربته ، واستقبالها بشكل جيد .
وفي قصة ( نجم إذا بزغ ونجم إذا هوي ) يعني الكاتب بالمقطع الأول نجم إذا بزغ ., نجم العلم ، وبالمقطع الثاني ( نجم إذا هوي) نجم التخلف ، انه الصراع الأزلي بين العلم والجهل فشيخ الجامع توقف عند الابتدائية الأزهرية يُعلن أمام الناس أنه رأي في المنام الرسول عليه الصلاة والسلام ، وقد أمره قائلا : قم يا إمام ، في صحن دارك معزة عشار من دون أن يمسسها تيس الذي يتشكل في بطنها جدي مبروك آية للناس ، وفي لبنها شفاء العاقر ستلد بإذن الله ، إذا شربت من لبنها ، والكسيحة تمشي والعانس تتزوج !! ص111 والناس يتقاطرون أمام بيت الشيخ قطارات وصفوف ، في نفس اللحظة هناك نجوم تبزغ ، نجوم العلم الذين تحملوا امتعاض أبناء المدينة من ملابسهم ، وتأففهم من لهجتهم الريفية ، تلك النجوم سُتزيل مساحات العتمة التي انتشرت داخل القرية ، ويمثلها سلوك الشيخ المتخلف .
وفي نفس الإطار ، تدور أحداث قصة ( طريق الندامة) التي ينتصر فيها الكاتب لفعل المعرفة والبحث الدائم عنها والسعي إليها مهما كانت المخاطر ، ومهما كانت العقبات ، فطريق الوصول إليها لن يكون هو ( طريق الندامة ) كما يظن معظم الخانعين الكسالى من أهل القرية ، الذين تابعوا - عن بعد - وبلا مشاركة فعلية ، محاولة الفتي والفتاة تخطي الصعاب ، ومتابعة ما يحدث علي الجانب الآخر من القرية ، ذلك الجانب الذي يعتبره أهل القرية جالبا للمخاطر.
القصة تؤكد علي معني هام : إن سمة الإنسان الإيجابي هي الجسارة ، وسمة الإنسان الاتكالي هي الركون إلى الخوف والكاتب ينتصر لسمة الجسارة ، ويشجب الخوف .
البعد السياسي حاضر في معظم قصص المجموعة ، لأنه يعكس رؤية وموقف الكاتب تجاه الحياة ، وتجاه الناس ، ويجعله قادرا - في الوقت نفسه- علي فهم طبيعة العلاقات التي تربط الإنسان بالإنسان ، والتي تربط الإنسان بالسلطة ، ربما يكون البعد حاضرا بشكل مباشر كما في قصص ( بنات أمريكا – المهر ) وربما يكون حاضرا في الخلفية كما في معظم القصص التي أشرت إليها .
والكاتب حين يستفيد من هذا البعد ينأي عن المباشرة ، باحثا عن الموقف الذي يحمل فكرته وهو موقف قصصي في المقام الأول ففي ( بنات أمريكا) يعكس ولع وانبهار البعض بالنموذج الأمريكي رغبة في تحقيق ومعايشة الحلم الأمريكي المسيطر علي معظم شبابنا .. إنها الهيمنة في أقسى صورها ، أن تُصدر للعالم الثالث صور الحلم الأمريكي ، المُدعم لفكرة الاستلاب التي أشرنا إليها من قبل . صاحب المقهى مفتون بالبنت الأمريكية ، التي يراها من خلال شاشة التلفزيون ، مفتون بجمالها ، وجسدها ، وفي نفس الوقت هناك ولد في المقهى يزعق منفعلا أثناء مشاهدة مباراة بين بنات الصين وبنات أمريكا " لا للهيمنة الأمريكية ، ولا للقطب الواحد وراح يصب جام غضبه لرواد المقهى عن تحيز أمريكا الأعمى لإسرائيل وموقفها من العراق وليبيا ، وشفطها لأموال الخليج " ص121
ونبرة القصة زاعقة ، حتى أنك تشعر أن الفتي الذي يزعق بالشعارات هو المؤلف نفسه ، وليس سواه !! إن البُعد السياسي في القصة - أي قصة - ينبغي أن يتحول إلى فعل ، أو يأتي في صورة فعل .
وفي قصة ( المهر ) يقدم القاص مقابلة بين موقفين متعارضين : الموقف الأول يتعلق ببطل القصة المحارب القديم ، الذي استشهد أبوه في حرب يونيه 67 ، والموقف الثاني يتعلق بسكان الشقة المواجهة له ، هؤلاء الذين لا ينامون في الليل ، ويمارسون متعة السهر والشراب والرقص حتى الصباح ، من خلال هذه المقابلة المتعارضة ، يمكن الوصول إلى المعني ، يراقبهم البطل أثناء وقوفه في بلكونة حجرته داخل اللوكاندة التي نزل فيها . وفعل المراقبة يفجر في داخله الذكريات التي حدثت في الماضي إبان هزيمة يونيه 67 ، وما بعد انتصار أكتوبر 73 ، الصخب الذي يراه صخب فارغ ، والصخب الذي عاشه ومر به يتعلق بشرف الوطن ، ويتذكر كيف أن حبيبته ( هند) علقت زواجها منه علي شرط تحرير سيناء أولا لتكون مهرها ! ويتذكر زميله المسيحي المتزوج حديثا ، والذي فقد رجولته ، بعد فقد سيناء ، ولم يستطع الاقتراب من زوجته إلا بعد تحريرها .
ما يؤخذ علي هذه القصة هو أنها أغفلت أشياءَ كثيرة منها: يتحدث الراوي ويذكر أنه كان يعيش في شقة مفروشة قبل ذلك ، لكنه الآن ينزل في لوكاندة .. ولا نعرف لماذا نزل إلى هذه اللوكاندة ؟
والد البطل استشهد في حرب يونيه ، وفي نفس الوقت شارك الابن في نفس الحرب .. كيف ؟ المباشرة في استخدام الرموز في القصة : سيناء مهر هند – الزوج يفقد رجولته حين ُفقدت الأرض.
لقد لعبت اللغة دورها في إبراز المقابلة بين ما يحدث الآن ، وما حدث بالأمس ، بين الذين لا هدف لهم في الحياة سوي المتعة وبين الذين هدفهم هو تحرير الأرض . المقابلة بين السلب والموجب . يقول: " فتي ينظر لفتاة بشبق ، ينظر لعسكري إسرائيلي بشذر ، يلف خصر الفتاة بيديه ، بيديه الممتلئتين يلف عنق العسكري يضغط الفتي يد الفتاة ، يضغط علي عنق العسكري ، يلثم عينيها ، ينبش عينيه بأظافره ..
رائحة الشواء تملأ انفي يا هانم
الجوع يقرص أحشائي يا أمي .. ص 54
ونتيجة لهذا المجتمع المادي ، يتلاشي الإحساس بالتواصل بين أفراد الأسرة الواحدة ، الولد الصغير والجد العجوز كلاهما ينتظران اهتمام الآخرين بهما ، فهما – معا- في حاجة إلى الحنان والدفء المفتقدين ، بسبب انشغال الجميع بالعمل ، الطفل يسأل الجد : متي يتفرغون لي يا جدي .. فأنا أنتظر ، ويخبره الجد : وأنا أيضا ص 95
ويعالج القاص في قصته ( الثمن ) مظهرا من المظاهر التي تعكس الانهيار الأخلاقي الذي حدث في المجتمع الريفي ، وأدي إلى اختلال منظومة القيم – كما أشرنا إلى ذلك من قبل – الفقر يدفع الأطفال الصغار للدخول إلى ( جنينة البيه ) لسرقة الفاكهة لكن الحارس ( حمد) يطاردهم ويعنفهم ، وفي نفس الوقت يستغل براءتهم وينفرد بالطفلة ( ليلي) التي نما في صدرها ( قرصين من العجين) ص14 داخل الجنينة ، تخرج بعدها وفي حجرها فاكهة كثيرة ! والقارئ يعرف جيدا ما يحدث بين ( حمد) وليلي الصغيرة.
انه يغتال براءتها ويعطيها الفاكهة ثمنا لذلك ،وصديقها الصغير الذي هو راوي القصة ، لا يعلم - تحديدا -
ما الذي يحدث؟ هو فقط يراقب ، ويصرح بمخاوفه من مطاردة ( حمد) له ، وللأولاد حين يأتون للحصول علي الفاكهة .
اللغة مكثفة جدا ، وإيحائية ، وسلسة .. فقط ذلك الحوار المكتوب بجمل وعبارات رصينة لا تتوافق وطبيعة اللغة القصصية المستخدمة
خبريني ليلي عما بك ، فأنا أفعل المحال من أجلك ص12
هل أنت ليلي أم عفريتتها ، خبريني ، ماذا فعل بك حمد؟
الضمير المستخدم في السرد هو ضمير المتكلم .. الراوي هو بطل القصة في نفس الوقت ، أي أنه مشارك فاعل في الحدث ، ومن ثم يقوم بكشفه ، والكاتب استطاع بهذا الضمير أن يقدم
قصة جيدة لم تقع في الآفة التي يمكن أن تصيب أي قصة تعتمد علي ضمير المتكلم ، وأعني بها آفة الرصد الخارجي للحدث ، أو الموقف ، أو المشاعر.
فحين يقول الكاتب علي لسان الصبي في نهاية القصة " تمنيت لو أن معي سكينا أغمده في قلبه " بعد أن رأي ( حمد) يتسلل ومعه ليلي إلى الجنينة ، هنا لم يصرح لنا لماذا يريد إغماد السكين في قلبه ، لأن القارئ يعلم الإجابة ، التلميح لا التصريح سمة من سمات القصص الجيد .
هناك مجموعة من القصص الأخرى التي تحتاج إلى وقفة من الكاتب ، لأنها مجرد إرهاصات أولية لم تكتمل بعد ، وما زالت عناصرها الفنية تحتاج إلى تطوير خاصة علي مستويي : المعالجة / اللغة . منها ( العرافة – شموس- أربع قصص قصيرة جدا) .
قصة العرافة لا تقوم علي فكرة محددة ، ومن ثم فان الهدف فيها يضيع ، والمعني يتلاشي، واللغة في هذه القصة جاءت غاية لذاتها ولم تكن أداة للتوصيل ، فماذا تعني عبارة مثل : من منتصف المسدس خرج مستقيم ليلاقي نقطة تقاطع المستقيمات المتوسطة في المثلث وخرج مستقيم آخر من منتصف المسدس ليلاقي نقطة تقاطع القطرين في المربع وهلم جرا من المستقيمات اللامتناهية التي خرجت من المسدس ، وتمكنت من التحكم في كل الأشكال ص 89
واللغة بشكل عام ، لغة قصصية جيدة ، حيث إن الكاتب لم يستطرد ولم يلجأ إلى الحشو الزائد ولم يكن مغاليا في جمالياتها غير الفنية ن هو يبحث عن الجملة الموحية التي تحمل توترا يتساوي مع توتر اللحظة ، أو الموقف أو الحدث ، أو الشخصية .
ونراه يلجأ إلى المفارقة اللغوية - أحيانا – ليعكس مفارقة أخري هي مفارقة الموقف القصصي كما حدث في قصة ( المهر) وكمثال لهذا البعد استحضر العبارة التالية :
" فتي ينظر لفتاة بشبق ، ينظر لعسكري إسرائيلي بشذر ، يلف خصر الفتاة بيديه ، بيديه يلف عنق العسكري .. الخ ص54
ومن قصة ( حكاية البنت والولد) قال الولد وهو يفرك يدي البنت : عقد مؤتمر السلام ضروري
قالت البنت : عقد القران أكثر ضرورة لقطع السنة الناس .
الدولة الفلسطينية ضرورة لإيواء الفلسطينيين بعد طول تشرد. - إيجاد الشقة ضرورة لتأوينا
ويستمر الحوار داخل القصة علي هذا النحو . كل يفكر فيما يشغله وأحيانا نجد لغة راصدة ، وكنموذج لها نقرأ هذا المقطع من قصة ( ليلة كان الغدر) : انطلق من زريبة بعيدة خوار بقرة ، ونهق حمار مربوط ، في الشارع بجوار عربة حنطور ، ونهضت امرأة من نومها وصعدت إلى السطح تحمل فوق رأسها قصعة لمت بداخلها روث البهائم لتصنع منه وقودا وامرأة أخري لفت رأسها بفوطة ، وفتحت شرفتها بحذر .. الخ ص 98
هذا الرصد يُعد خارج السياق القصصي ، طالما أنه لم يُضف جديدا ، وطالما أنه قابل للاستمرار والتداعي .ويلجأ الكاتب إلى المزاوجة – أحيانا – بين العامية والفصحي في لغة الحوار .
من قصة القادم : سأبعث لزوجي ليأتي من الخليج..
خيرا تفعلين يا أخت ، ملعونة الغربة ، وبكره الأرض تطلع الذهب .
وأنا سأبعث لزوجي في الأردن.
والنبي حيلهم يتهد بره ،ويقل مقدار هم ويضيع عرقهم ص 21
وأحيانا يلعب الحوار في القصة دورا في كشف المفارقة بين موقفين متضادين كما حدث في قصة ( حكاية الولد والبنت ) التي أشرنا إليها من قبل ، الولد يتحدث عن شيء ، والبنت تتحدث عن شيء آخر تماما ، ولا يلتقيان عند نقطة واحدة ، لكن الحوار المباشر يكون زاعقا أثناء كشف انفعالات الشخصية . والحوار في القصة مجرد أداة وليس عنصرا رئيسيا .
وفي بعض الأحيان نلمس جنوحا بلغة الحوار ، بحيث إننا لا نجد علاقة بين الحوار والشخصية أو بين الحوار والموقف ، كما حدث في قصة ( بنات أمريكا) يقول صاحب المقهى موجها خطابه إلى الرواد : " تا الله إذا اشتهيت التفاح الأمريكاني فهناك خدودهن ، وإذا أردت قمح أمريكا فهناك شعورهن ، البنت منهن تبدو سامقة كجبل ، ولكم تمنيت أن أرقد في حضن جبل " ص122
والسرد في قصص المجموعة اعتمد علي ضميرين رئيسيين هما ضمير المتكلم ، وضمير الغائب ، وكان ضمير الغائب هو الغالب حيث إن الكاتب يعالج موضوعات لا يكون طرفا فيها بل يكون نائبا عن الغير . وحين يصبح الراوي جزءا من الحدث ، أو شاهدا عليه ، يلجأ القاص إلى استخدام ضمير المتكلم ، وهناك تداخل بين الضمائر المتعددة : المتكلم والمخاطب والغائب في قصتّي ( أصداء رحلة شاب – كسوف) هذا التداخل تم بشكل فني ، وبما يتوافق وطبيعة التجربة وطريقة المعالجة ، والتداخل أحدث تدفقا في السرد وساعد علي سرعة الإيقاع ولهاث اللحظة .
وفي النهاية نستطيع أن نقول إن الكاتب ( مجدي جعفر) يستقي موضوعاته من الواقع المحيط به ومن الحياة ، متصل بالعالم الذي ينتمي إليه ، عالم البسطاء الذين يحلمون بغد أفضل ، ويسعون من أجل تحقيق الحلم ، ما شاء لهم السعي ، وأحيانا يركنون إلى الرضا والقناعة، متصل بأمثالهم الشعبية المفعمة بالدلالة ، المترعة بالمعاني ، ويقدم شخوصا يملكون جسارة الإقدام والمواجهة مهما كانت المخاطر ، ومهما كانت النتائج .
في قصة طريق الندامة يقول: الكل يخشي الاقتراب منه ، الأمهات يحذرن صغارهن ، أصر هو ، كما أصرت هي علي أن يقطعاه ولو كلفهما العمر ، قال : سنمضي بقوة لا تفتر ، وعزيمة لا
لا تكل ص16
في (الثمن) : أمسك بنا من قبل مرات وأشبعنا ضربا ، ولكنا أبدا لم نكف عن التسلل إلى الجنينة طمعا في سرقة العنب والبلح والبرتقال والخوخ والليمون ص11
وفي قصة ( الجني آدميون) تتم مواجهة العمدة ، ويُقتل بسبب خروجه علي الأعراف ، حين تزوج من الجنية ، التي ولدت طفلا هو مزيج من الطين والنار ..
وتأتي مجموعة ( نقش في عيون موسى) للقاص " أحمد عبده"( 1) لتقدم رؤية أخري لموقف الكاتب الجديد تجاه القضايا القومية المطروحة علي الساحة العربية الآن ، ومنها قضية الصراع العربي الإسرائيلي ، و خاصة انتفاضة الشعب الفلسطيني والعمليات الاستشهادية المصاحبة لها .
وهذه المجموعة ُتبين أن فن القصة القصيرة قادر علي معالجة الموضوعات المعقدة ، وتقديمها إلى القارئ في قالب جديد .
وأحيانا يكون الفن عاجزا عن التعبير في موضوعات نراها في الحياة الحقيقية أشد وطأة وتأثيرا علي الإنسان ، لو أن الفنان أو الكاتب تناولها في عمل فني أو أدبي .
وربما لهذا السبب يتساءل كاتب هذه المجموعة في الإهداء الذي وضعه في الصفحة الأولي " ما معني أن أهدي لك أقوالا؟! كان من المفروض أن أهدي لك أفعالا ، لكن ما حيلتي وأنا لا أملك ما يليق بك ؟! ما حيلتي وأنا لا أملك سوي الكلام؟!
تتكون المجموعة من تسع وعشرين قصة قصيرة ، وضعهم الكاتب في ثلاثة أقسام ، يحمل كل قسم عنوانا منفصلا عن الآخر ( أنا أمة وحدي- كان العار أن نظل في العار- ولولا قلبك الحساس) في القسم الأول ( أنا أمة وحدي) يكتب عشر قصص تتناول – في معظمها- موضوعا واحدا بمعالجات مختلفة ، فتبدو وكأنها تنويعات قصصية علي لحن واحد) المقاومة والاستشهاد.
وربما يكون موضوع الاستشهاد من الموضوعات الجديدة التي لم يتطرق إليها الكُتاب كثيرا ، في أعمالهم الأدبية ، ويُحسب للكاتب أنه حاول معالجته في أكثر من قصة قصيرة ، واللغط الذي يدور حول فعل الاستشهاد من حيث تجريمه أو الثناء عليه ، أمر لا ينبغي التعويل عليه كثيرا ، لأن الإعلام الغربي الذي مازال يخلط بين مفهومّي المقاومة والإرهاب ، هو نفسه الذي يخلط بين مفهومّي : الاستشهاد والانتحار . وهو إعلام يعكس كراهية الغرب لكل ما هو عربي واسلامي .
والشهيد لغة : من شهد: وهو يأتي بمعني الشاهد ، ومن قُتل في سبيل الله تعالي ويجمع علي شهداء ، وأشهاد . ومنه الشاهد : الحاضر ويُجمع علي شهود وأشهاد ، وهو أيضا من يؤدي الشهادة . ومن معانيه الدليل ، وقد سبق أن العلماء أخذوا من كل معني من هذه المعاني سببا لتسمية قتيل معترك الكفار شهيدا ، والشهيد اصطلاحا عند العلماء هو من قتله المشركون ، أو ُوجد مقتولا في المعركة ، أو عاد عليه سلاحه فقتله .
والناظر إلى شهداء الشعب الفلسطيني يجد أنهم تعرضوا لواحد من الأسباب الثلاثة السابق الإشارة إليها ، أو تعرضوا لأكثر من سبب .
والشهداء في قصص المجموعة ، يعلنون أدانتهم للواقع العربي المتخاذل ، ويعبرون عن غضبهم تجاه سلبية المجتمعات المحيطة بهم ، فهاهو الشهيد في قصة ( أنا أمة وحدي 1) يسخر من الذين سيشاهدونه ينفجر في أعدائه ، وكأنهم يشاهدون فيلما سينمائيا وإمعانا في إدانة سلبيتهم ، يأمرهم بالمكوث أمام التلفاز ، وعدم الانصراف حتى تجيء اللحظة المرجوة ( أرجوكم اصحبوا أولادي معكم ، فهم لا يملكون النت ، ولا الدش ، لكي يروا أباهم وهو ينفجر ) ص 4
وفي قصة ( أنا أمة وحدي 2) يُقدم الشهيد أدانته لأجهزة الإعلام التي تعرض صورا زائفة لمفاهيم : الكرامة – العزة – النصر لنا – القدس عربية !! في حين أنها تتخاذل أمام العمليات الإجرامية التي يقوم بها العدو تجاه الشعب الفلسطيني " تركت مشاهدة الجهاز العجيب لففت الحزام حول جسدي ، وعند الذروة ، وفي الشارع التجاري المزدحم دائما انفجرت ص 9
والفدائي في القصص التي تحمل أرقام ( 1،2) يقرر أنه سيموت حتما ، وهذا قدره ، وعليه أن يقرر الموت استشهادا في سبيل الأرض ، وعليه أن ينجح في ذلك حتى لا يُساق إلى حبل مشنقة العدو ( فدائي 1) أو يموت رميا بالرصاص ( فدائي2) ، والشهيد في قصة ( تعبئة) يُقدم علي الفعل ويتمني أن يعود من جديد ، لكي يستشهد من جديد ، لإيمانه بأن ما يقوم به شيء حتمي وضروري.
وفي قصة ( قناعة) يؤكد علي قيمة الشهادة ، ومعناها لأنها جعلته قريبا من الله " سدرة المنتهي تحوم حول أسوارها روحي " ص18
وهو في قصة ( توحد) ُيقبل علي الشهادة راضيا مرضيا لشعوره أنه يدافع عن حياة أمه وابنته وأخته . يقول : " أحببت الموت حين رأيته في عيون أمي .. أختي .. ابنتي ، عشقته ، أدمنته ، توحدت معه ، توحدت به ، فليكن أنا الموت ص20
ويطرح الكاتب فكرة المقاومة باستخدام السلاح في قصته ( ملاحقة) .
والتأكيد علي فكرة المقاومة وضرورتها هو الهدف من كتابة هذه القصص ، لأن الكاتب لم يكتبها للتسلية ، أو لإزكاء وقت الفراغ إنما كتبها ليؤكد أن العدو الصهيوني ، لن يتراجع عن أحلامه إلا بمقاومته ، والتصدي له ، فالأطماع الصهيونية لا نهاية لها ، ولا حدود، ومن الغريب أن الكاتب الروسي الشهير ( ديستيوفسكي) كان قد لاحظ تلك الأطماع منذ وقت مبكر ، وقام بتسجيل شهادته في عام 1877 في مقال أسماه ( المسألة اليهودية ) توقع فيه قيام دولة إسرائيل قال: " لا أستطيع أن أصدق صراخ اليهود الذين يدعون أنهم مضطهدون ومهانون إلى هذا الحد الذي يزعمون ، وفي رأيي أن الفلاح الروسي ، بل أي فرد روسي بشكل عام يتحمل من الأعباء أكثر مما يتحمله اليهودي " ثم يتحدث عن إيمانهم بمبدأ ( الاختيار الحر ) لمكان الإقامة ، ويتساءل : هل تري أن الإنسان الروسي حر ، حرية مطلقة فيما يتصل باختيار مكان الإقامة ؟!أليست باقية إلى الآن ، تلك القيود التي خلفّها نظام الرق ، والتي التفتت إليها الحكومة منذ زمن ؟! أما فيما يتعلق باليهود فان الجميع يرون أن حقهم في اختيار مكان الإقامة قد توسع توسعا كبيرا في العشرين عاما المنصرمة ، لقد ظهر اليهود علي كل حال في روسيا في المناطق التي لم يرهم فيها أحد من قبل ، ومع ذلك فان اليهود مازالوا يواصلون شكواهم من الحقد والاضطهاد !!(5)
ماذا ينبغي عليك أن تفعل لمواجهة تلك الأطماع التوسعية القديمة ؟! هل ينبغي الارتكان إلى الصمت ؟! أم إلى الجسارة والمقاومة ؟!
وفي الجزء الثاني من المجموعة والذي عنوانه : ( كان العار أن نظل في العار) ُيقدم الكاتب ست قصص قصيرة تدور - كلها - حول موضوع واحد وهو حرب اكتو بر 73 ، أي أنه يتعرض لتناول بُعد آخر من أبعاد المقاومة .. المقاومة بالحرب دفاعا عن النفس والأرض ، وفي نفس الوقت تُشارك هذه القصص مع القصص التي قبلها في التأكيد علي أن العدو الإسرائيلي يُهدد أمن الوطن العربي كله سواء في فلسطين أو مصر أو أي بلد عربي آخر ، وتؤكد علي أن العدوان الصهيوني لا يُفرق بين بلد وآخر طالما أن الأطماع التوسعية قائمة ، وتدفعه نحو تحقيق الأهداف المُعلنة وهي أن يمتد وطن إسرائيل من النيل إلى الفرات .. تكرار المعالجات القصصية للموضوع الواحد يعكس تأكيد هذه الفكرة .
وهو يبدأ تلك المجموعة من القصص بقصة تتناول هزيمة 67 من زاوية التأكيد علي حقيقة معروفة ، وهي أن الجيش المصري لم يُحارب في تلك الحرب ، لأن عنصر المباغتة شلّ حركته وضرب المطارات جعله يتحرك بلا حماية مما عرّض جنوده للموت أو الأسر .
ويتضح هذا المعني في قصة ( الوليمة) في لقطة عبثية تماما نري القائد – فيها – يأمر بجمع أفراد كتيبته ووضع القيود حول أيديهم وأرجلهم !! بناء علي الأوامر التي جاءته من رؤسائه ، وهذا الأمر أثار دهشة الجنود الذين لا يعرفون السبب . ويبرز الكاتب دهشة
الراوي حين يتساءل : لماذا يفعلون معنا هذا؟! - وفي موضع آخر - لو أنهم أرادوا قياس قدرتنا علي العمل فقد نجحوا في ذلك ، إذ حط علي وجوهنا ذباب سيناء كله ، وما تململنا ، لو أن ثعابين وعقارب الصحراء دخلت بين ملابسنا ما فزعنا ولا جزعنا منها ، فنحن مدربون علي تشريح أجسادنا بشفرات الحلاقة عندما يعضنا ثعبان أو يقرصنا عقرب ص 35/36 وتزداد دهشة الجنود حين يرون القائد يقوم بتقييد نفسه معهم !! وبعد لحظات تقترب منهم دبابات إسرائيل التي يهبط منها الجنود ويقومون بفك قيود الرجل ويدفعونهم نحو عربات الأسر . إن هذا الفعل العبثي فيه إشارة للمعني الذي أراد الكاتب أن يقوله وهو أن الجندي في حرب يونيه لم يُحارب مُطلقا ، والقصة تشير إلى القادة العسكريين بإصبع الإدانة ، وتحملهم مسئولية ما حدث .
ويتحدث الكاتب عن حرب الاستنزاف في قصة ( الأشباح) وهي الحرب التي تمت – بصورة متقطعة- بغرض إرهاق العدو وشل قدرته القتالية ، فضلا عن تدريب الجندي المصري علي المواجهة ، واعادة الثقة التي افتقدها نتيجة الهزيمة ، وهي تتناول تفاصيل عملية فدائية ناجحة ، قام بها المصريون في البحيرات المرة ، وتم فيها تفجير مخزن كبير لأسلحة العدو . وأشار الكاتب في هامش القصة ، إلى أنها مستوحاة من سجلات حرب اكتوبر بينما أشار في متنها إلى أن الأحداث تمت خلال شهر يوليه " كانت النار تُعربد في المنطقة ، أحالت ليل سيناء إلى نهار حارق ، يحرق ليل يوليه الساكن " وهذا الأمر يعكس تناقضا ينبغي الالتفات إليه .
ويتحدث عن فترة ما بعد حرب اكتوبر وتحديدا في عام 1995 أي بعد إبرام اتفاقية السلام بين مصر وإسرائيل بسنوات طويلة تلك الاتفاقية التي اُتفق فيها علي إقامة ما ُسمي بالتطبيع ، وكان من مظاهره : حضور الوفود السياحية الإسرائيلية إلى مصر ، للتعرف علي آثارها ، والتعرف علي آثار ما بعد الحرب ، ومن هذه الآثار ( عيون موسى ) في القصة التي تحمل عنوان
( نقش في عيون موسى) .
يتذكر بطلها ذلك اليوم الذي تم فيه تحرير الأرض ، وكيف أنه قام مع زملائه بحفر أسمائهم بسناكي البنادق علي ألواح الفورمايكا وظلت من يومها منقوشة وواضحة ، مما جعل المُرشد السياحي الإسرائيلي يُخاطب إحدى الشقراوات مشيرا إلى الأسماء المحفورة قائلا : ممكن يكون الولد جاد قناوي ، هو الذي غرس السونكي في بطن عزرا ، أخاك يا لينا ؟! ص60
فيرد عليهم راوي القصة قائلا : وممكن تكون واحدة منكن هي أخت أو أم شيمون الذي كنت قد أسرته أنا !! ص 60
القصة تؤكد علي معني هام وهو : أن السلام بيننا وبين إسرائيل أتاح للعدو الاستمتاع بممارسة بعض مظاهر التطبيع ، ومنها حرية التجول في شوارع مصر !! وأنه ليس سلاما حقيقيا ، لأن مشاعر العداء والكراهية ما زالت قائمة ، وما زالت هي هي ، وكأني بالشاعر ( أمل دنقل ) أسمعه وهو يردد هذا المقطع من قصيدته ( لا تصالح) قائلا :
هل يصير دمي – بين عينيك – ماء ؟؟
أتنسي ردائي الملطخ ..
تلبس - فوق دمائي – ثيابا مطرزة بالقصب؟
إنها الحرب .. قد تثقل القلب ..
لكن خلفك عار العرب ..
وتأتي قصة ( الشهيد) نموذجا للقصص الذي يعكس المزاوجة بين المسألة الاجتماعية والمسألة السياسية ، تلك المزاوجة التي ينبغي أن يقوم عليها أدب المقاومة ، وأدب الحرب ، حتى لا يكون الإبداع مباشرا وخطابيا ودعائيا .
وتتناول القصة صورة من صور ارتباط المشاعر بين الشهيد وأهله ومحبيه ، فهاهي سعدية في ليلة عرسها " لا تجد علي ملامحها انشراح قلوب العرايس، ولا براح ابتسامة ( بنت البنوت) ليلة دخلتها ص62 لماذا ؟؟ لأن أول شيء وقعت عليه عيناها ، وهي جالسة في الكوشة كانت صورة الشهيد – شقيق العريس- الشهيد إسماعيل ، وهو في البدلة الميري والبيريه مائل علي حاجبه الأيمن ، وكانت تحبه ومن ثم نجدها في ليلة عرسها تناجي صورته بعينيها ، وتعيش مع روحه بمشاعرها.
والكاتب ( احمد عبده) أجاد - بالفعل – تصوير المشاعر الداخلية لتلك الفتاة ، أجاد استبطان الداخل وابراز الانفعالات، ورسم الشخصية ، واهتم - في قصته- برصد التفاصيل الصغيرة والدقيقة جدا ، التي تُعمق المعني ، ولا تضر المعالجة ، والمزاوجة بين السياسي والاجتماعي تتحقق – كذلك – في قصة ( زمن ) ، وفيها يقدم الكاتب صورة أخري من صور الحياة الاجتماعية لواحد من الجنود الذين شاركوا في الحرب ، وخرجوا منها بإصابة أو عاهة .. البطل في القصة أصيب بشظية في ساقه ، التي تم بترها علي الفور نراه – بعد انتهاء الحرب – يعمل في ملهي ليلي !! خمارا للعنب وحين قدم كأسا للراقصة دفعته عنها ، فسقط علي الأرض
وانخلعت ساقه الخشبية ، وتلك هي اللحظة التي فجرت القصة. ولعبت لغة التداعي بضمير المخاطب وضمير الغائب لعبتها في التعبير عن الانفعالات المنبثقة من تلك اللحظة المشحونة بالانفعالات المتنوعة . وحين قامت الراقصة بوضع بعض النقود في حجر منصور الأعرج ، في محاولة منها لاسترضائه ، نهض من رقدته ، ورمي في وجهها ما أعطت ! والكاتب نجح في التعبير عن الحالة التي وصل إليها بعض المحاربين القدماء ، والمصابين في الحرب ، الذين لم يجدوا الرعاية الواجبة لهم من الدولة ، نظير ما قدموه من تضحيات من أجل الوطن ، ومكافأة وتقديرا لهم في مقابل ما بذلوه من عطاء . لأن إهمالهم بعد انتهاء الحرب ، يعني أنهم يتساوون مع الذين لم يقدموا شيئا للوطن !! فالذين حاربوا والذين استشهدوا، والذين أصيبوا في الحرب ، فعلوا كل هذا من أجل حماية الآخرين ، ولم يفعلوه من أجل حماية أنفسهم ، فهل يستقيم الأمر لو أننا وضعنا الجميع في سلة واحدة ؟
والحاج متولي في قصة ( شربات الفرح) يدفع بولديه إلى الجبهة للاشتراك في الحرب ،وحين قامت " قام بتوزيع الشربات طول النهار علي أهل القرية ، والكراملة والعسلية علي عيال البلد" ص95 فعل هذا لأن الجميع كان ينتظر تلك اللحظة بعد ست سنوات من الصمت والملل ، فقد صارت نفوس الناس - علي حد تعبير الكاتب- ( دبلانة وضحكتهم بهتانة) .. والحاج متولي حين فكر في احتمال استشهاد ولديه ، لم يجزع ، غير أنه عبر عن رغبته في رؤيتها متزوجين وبالفعل يراهما بعد عودتها من ميدان القتال ، ويزفهما في ليلة واحدة ، ويقوم بتوزيع الشربات بنفسه .
ويمكن إجمال بعض الملاحظات المتعلقة بالقصص التي جاءت في هذا الجزء من المجموعة .. ومنها : أن الكاتب لم يهتم بإبراز البُعد الاجتماعي لشخوص قصصه ، وهو البُعد الذي يُعمق الفكرة وُيثري الرؤية ، وينأي بها عن المباشرة والخطابية ، وأحيانا الدعائية كما حدث في قصص ( الوليمة – الأشباح- شربات الفرح ) .. في حين أنه نجح في تقديم قصص جيد ، حين قام بالمزاوجة بين السياسي والاجتماعي . ولقد كانت اللغة متوافقة مع طريقة معالجة الكاتب لموضوعاته ، بمعني أنها جاءت لغة فنية تعتمد علي الكشف والإيحاء في القصص التي ابتعدت عن المعالجة المباشرة الزاعقة ، وكان العكس صحيحا .
وأحب أن أضرب أمثلة أدلل بها علي مباشرة اللغة .. في قصة ( الأشباح) نقرأ : " لسان حالهم يقول : قادمون إليك يا سيناء ، لكي نثبت للعالم كله أننا لا زلنا أحياء ، وسنظل أحياء ، لن نمت أبدا .. حتى لو ُقتلنا هناك .." ص 42وفي نفس القصة نقرأ : " المارشات العسكرية يشيب لها الو لدان ، وتلهب حماس الجدعان ، حتى الأفرع ، لا تستبعد أن شعره من الممكن أن يطلع .." ص100 وهناك مباشرة في استعمال الكاتب للرموز : في قصة الأشباح نقرأ : " لاذ القارب بحضن سيناء ، التصق بجانبها ، نام تحت جناحها ، قال لها دثريني ، وراح يتصنت علي فحيح الأفاعي المتغلغلة في جحورها ص 44 .. وفي الموقف الذي عبر فيه الكاتب عن أننا قمنا واقفين علي أرجلنا بعد العبور ، حين جعل ( أم عنتر) تقوم من رقدتها التي طالت ، ووقفت علي رجليها بعد أصابتها بالشلل طوال سنوات الهزيمة الست !!
وثمة عبارات تُعد حشوا زائدا ومن أمثلتها : " أولا هي أسطي من النوع الذي اذا جمعناه كان ( أساطين) وليس أسطوات ، فأسطي وأسطي وأسطي أساطين يا منصور .. كانوا كما يطلقونها علي أر سطو وبيتهوفن والزمخشري .. علي كل هؤلاء أساطين .. أولئك مساكين . ثم يعلق – تأكيدا علي أن العبارات تعد من قبيل الحشو الزائد – ( ليس هذا موضوعنا ) !! ص 76
ويُقدم الكاتب ثلاث عشرة قصة قصيرة في الجزء الثالث الذي يحمل عنوان ( ولولا قلبك الحساس ، ما حسبتك في عداد الناس ) فيها تجارب متنوعة من حيث اختيار الموضوع ، وطريقة المعالجة ومن بين تلك القصص عشر من النوع الذي نُطلق عليه عبارة القصة القصيرة جدا .
في ( غرفة الزيارة ) يستعرض الكاتب مظهرا من المظاهر التي تحدث داخل السجون ، وهو لقاء الزائر مع المسجون في غرفة السجن ، وكيف أن الزيارة تمثل طوقا للنجاة - للحظات قليلة - بالنسبة للمسجون ، وكيف أن المحروم من الزيارة -أي الذي لا يجد من يزوره - يشعر بالوحدة ، والغربة الشديدة . والكاتب يُقدم قصته اعتمادا علي الرصد الخارجي ، فلا نعرف شيئا محددا عن السجين الذي ينتظر زيارة أمة بفارغ الصبر ، ولا نعرف شيئا عن الأم التي ضربت صدرها ، بحسرة حين سمعت الصول يُنادي علي أسماء المُفرج عنهم ، ولم تجد ابنها ضمن هذه الأسماء ، اللغة الراصدة تُضر بالتجربة القصصية ضررا بالغا ، وعلي الرغم من أن هذه القصة تقدم أشخاصا يحتاجون إلى تعريتهم من الداخل وبيان حجم المعاناة التي يشعرون بها ، إلا أننا نراه قد اكتفي بالتعبير عن المشاعر الخارجية فقط "أخت تنظر إلى شقيقها الذي كان ولا يزال – رغم البدلة الزرقاء مثلها الأعلى ، خاصة بعد رحيل الأب .. زوجة زاغت عيونها ، فإذا نظرت إلى زوجها – وهو في البدلة الزرقاء – انكمشت داخل أحزانها .. الخ ص 109
وفي قصة البالون ُيقدم القاص تجربة بسيطة ، تعكس دلالة عميقة .. العلاقة بين الأغنياء والفقراء ، علاقة محفوفة بالمخاطر بين الفئتين ، ومن الصعب حدوث تصالح اجتماعي بينهما .. فالرجل الذي يُمارس الإطراء الكاذب ، والمبالغ فيه للباشا ، حتى يوافق علي التوسط لابنه لكي يكون ضابطا ، وقع في الفخ دون أن يشعر ، وبحسن نية لأنه لا يعلم الفروق ، فقد توهم أن الباشا سيوافق ، وأن ولده سيصبح ضابطا ، ولذلك يتمادي في ممارسة حُسن النية ، ويُخبر الباشا بأن ولده حين يكبر ويصير ضابطا له شأن عظيم ، ربما يتوسط للمحروس ابن الباشا !! في تلك اللحظة ينتفض الباشا من مكانه ، وينفجر في الرجل ..
لجأ الكاتب إلى استخدام ( البالون ) الذي يقوم الباشا بنفخه لطفله الصغير ، ليُصبح معادلا موضوعيا للتجربة ، حيث إن اللحظة التي أنتفض فيها الباشا ، هي نفسها التي انفجر فيها البالون في وجه الرجل ، لقد كان البالون حيلة فنية ناجحة للتعبير المعتمد علي الإيحاء ، والتلميح ، لا التصريح والإعلان ..
لقد تسربت فكرة الفروق الطبقية - التي وجدناها في قصة ( البالون )- إلى قصة ( رحلة ) فبطل القصة الذي استقل القطار ودخل - عن طريق الخطأ – إلى عربة الدرجة الأولي ، ثم ظل يتنقل رويدا رويدا من عربة إلى عربة أخري ، ومن درجة إلى درجة ، لأنه لا يملك المال الكافي لدفع ثمن تذكرة الدرجة الأولي هذا الرجل وجد نفسه أخيرا داخل علبة السردين ، أي داخل عربة الدرجة الثالثة ، تلك العربة التي لم يجد فيها مكانا لقدمه ، وتكون عبارة ( زحزح رجلك ِسنة ) التي قالها الكمساري ، عبارة بليغة تُعطي الدلالة ، وهذا ما ينبغي علي لغة القصة القصيرة أن تهتم به أن تكون لغة إيحاء وتلميح ، لا لغة إفصاح وتصريح .
القصص القصيرة جدا ( الرقصة الأخيرة - صراع - ممالك - الأول - كتب - احتمال -إثبات - قهر - الميت الحي - امتداد ) تعتمد علي محاكاة التجارب الشعرية ، وتعكس غموضا وضبابية ، ويُصبح المعني – فيها – في بطن الكاتب !! وهناك بديهية لا ينبغي تجاهلها وهي أن التجربة الفنية هي التي تفرض شكلها ، ومن الصعب عليك أن تقول : سأكتب أقصوصة ، فتكتب ، أو أن تقول سأكتب رواية ، فتكتب .. وهكذا ..
هوامش:
1) أصداء رحلة شاب علي مشارف الوصول – مجدي محمود جعفر – أصوات معاصرة – العدد 52 – السنة العشرون – يناير 2000 – ديرب نجم .
2) د. خليل أبو ذياب – ناقد فلسطيني – أستاذ الأدب والنقد بكلية اللغة العربية بالرياض – جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية ( المرجع السابق) ص 139
3) المرجع السابق ص 140
4) نقش في عيون موسى – قصص قصيرة – أصوات معاصرة – العدد 93 – السنة 23 – مايو 2002
5) المسألة اليهودية – ترجمة د. أحمد الخميسي – مجلة أدب ونقد – العدد رقم 69 – مايو 1991