إدريس الخلوفي
أستاذ باحث
(Lakhloufi Driss)
الحوار المتمدن-العدد: 7308 - 2022 / 7 / 13 - 17:53
المحور:
الادب والفن
حكايات عادية جدا، الحكاية الخامسة – تعبير الرؤيا
تركنا عائلة العربي مع المشاعر المتباينة، مشاعر الحزن التي أعقبت نبأ الوفاة، ومشاعر الفرحة التي ولدها تكذيب النبأ، فتعالت زغاريد النساء، وأخرج الجيلالي "بوحبة" (بندقية ذات طلقة واحدة، تصنع يدويا)، وأطلق طلقة في الهواء، ثم أعاد تعبئة البندقية، وأطلق طلقة ثانية وثالثة، وهذه الطلقات بقدر ما هي تعبير عن الفرح، بقدر ما لها دلالة انثروبولوجية، فهي ترمز إلى إطلاق النار على الأعداء، إنها قتل رمزي للعدو الذي يتربص بنا ويسعد لشقائنا أو يتشفى فينا. وبعد كل طلقة، كانت النسوة تزغردن، بينما الرجال يصلون على النبي، وكأنهم بذلك يبرزون للجيلالي أنهم في خانة الأصدقاء وليس في خانة الأعداء، استمرت الأفراح حتى مغيب الشمس، وعندما هم الحشد بالمغادرة، أقسم عليهم الجيلالي بألا يغادروا قبل مشاركته وليمة العشاء.
رحب الجميع بالدعوة، دخلت النساء إلى غرفة طويلة، لها بابان، أحدهما يؤدي إلى وسط الدار، والثاني يؤدي إلى الخارج، وهي غرفة يطلق عليها محليا " الروا" ويقصد بها غرفة الضيوف، يدخلها الضيف من الباب الخارجي، ويخرج أيضا منه، ولا يسمح إلا للنساء والأطفال أو الذكور الذين يدخلون في خانة المحارم بعبور الباب الداخلي، وإذا حدث أن استضاف أصحاب الدار ضيفا غريبا أو عابر سبيل يريد المبيت – واستضافة الغرباء أمر مألوف بالبوادي، لأنهم يعتبرون من العار رد الضيف- يقومون قبل النوم بإغلاق البابين الداخلي والخارجي بإحكام تفاديا لأي انفلات أمني، وعند الفجر يوقظونه ليتوضأ ويصلي، ثم يتناول وجبة الإفطار، وينصرف شاكرا أهل الدار. قد يتساءل بعضكم عن قضاء الضيف لحاجاته البيولوجية إذا ألحت في الطلب. هناك حل للضرورة القصوى، يتجلى في بالوعة توجد خلف الباب تسمى "المطهرة" وهي صالحة للحدث الأصغر، أما إذا تعلق الأمر بالحدث الأكبر، فما على الضيف إلا انتظار الصباح، وليكن الله في عونه.
بعد أن دخلت النسوة " الروا"، أخرج الرجال حصائر وأفرشة مهترئة، فرشوها في البيدر واتكأوا على جنباتهم وأقدامهم ممددة للوسط، تحلقوا بشكل دائري، كان أغلبهم بدون جوارب، والقلة ذات الجوارب، كان إبهامهم يطل من فتحات وتمزقات بالجورب، وعندما كان يهب نسيم من حين لآخر، كان يتشبع بروائح أقدام قضت اليوم كله سعيا وراء كسرة خبز، أو قوت يومي.
بدأ الرجال يتبادلون أطراف الحديث، وكان حديثهم يدور حول أشخاص ماتوا ثم عادوا إلى الحياة، فهذا يروي عن فلان الذي دفن ثم سمع صراخه فأعادوا استخراجه حيا، وذلك يروي عن شخص قطع نصف الطريق إلى الموت، ثم عاد ليحكي عن بعض ما رآه بين الحياة والموت، ويخفي بعض ما رأى بدعوى أن الحديث عنه يدخل في خانة الممنوعات... لقد تحدث كل الرجال عن قصص من هذا النوع، وحتى من لم تكن له قصة، ابتكرها حتى لا يعتبر أقل شأنا من غيره، ووسط حماس الجميع، كنت تجد صبيا أو شابا صغيرا يريد أن يحكي بدوره عن حكاية من هذا النوع، ليبرز بذلك أنه ينتمي إلى خانة الرجال، لكن عادة ما كان يقمع، ويطلب منه الصمت، بل غالبا يطرد من المجلس، وكأن الرجال انتبهوا فجأة لوجوده، فينهض غاضبا نادما على حديثه الذي أخرج بسببه من مجلس يعطيه إحساسا بالرجولة، فيحس كمآ لو أنه الشيطان طرد من الجنة. إن الأطفال في سن البلوغ يعيشون لسنوات مضطهدين، فهم مرفوضون من مجالس النساء، وكذلك من مجالس الرجال، ففي مجالس النساء يعتبرون رجالا، وفي مجالس الرجال يعتبرون أطفالا.
أما العربي، فكنا قد تركناه وهو يغادر المسجد الذي قضى فيه ليلته. حاول أن يسرع خطاه قبل طلوع الشمس، لأن الصيف كان في مطلعه، وكانت شمسه حارقة. بعد طلوع الشمس، كان العربي قد قطع مسافة محترمة، لكن قدماه كانتا قد تورمتا أكثر من ذي قبل، قصد العربي نبع ماء روى منه ظمأه، وغسل وجهه وأطرافه منتعشا ببرودة الماء، ثم أزال حداءه الذي التصق بقدميه، قام بغسلهما، ونزع لباسا داخليا قرر الاستغناء عنه، ومزقه إلى نصفين، لف كل نصف على قدم، وأعاد لبس حدائه، أحس بقليل من الراحة عن قبل، انتصب واقفا وقال: مهما يحصل، علي أن أواصل، حتى لو تركت جزءا من جسدي على الطريق، استمر يمشي حتى ناهزت الشمس كبد السماء، وكان الجوع قد أنهكه، قرر أن يتوقف عند أول مكان ظليل وبه ماء، وما هي إلا لحظات حتى عثر على ما يريده، لم يكن العثور على الماء والظل يشكل مشكلا لديه، فهو يسير في منطقة جبلية تكسوها الثلوج طيلة فصلي الشتاء والربيع، لهذا ففصل الصيف يشهد ذوبان تلك الثلوج التي تصنع جداول وعيونا لا تنضب.
استحم العربي ليتغلب على وعثاء الطريق، وأخرج الفواكه الجافة التي كان الفقيه قد أعطاه إياها، وأكل حتى شبع، ثم استلقى على ظهره طلبا للراحة، ومن كثرة تعبه، راح يغط في نوم عميق.
نام العربي حوالي ثلاثة ساعات، ولولا هلعه من الارتطام بالصخرة ما كان ليستيقظ، لقد عاوده الحلم مرة أخرى، إنه نفس الطائر العملاق، يحلق به عاليا حتى تبدو الأرض صغيرة، ثم يلقي به ليهوي على وجهه نحو الأرض.
هب العربي جالسا وقلبه يخفق بشدة، والعرق يتصبب من جبينه، أمسك صدغيه بين كفيه وضغط بشدة وكأنه يحاول منع رأسه من الانفجار، وإذا به يسمع صوتا يقول له: لا تخف يا بني، سيكون لك شأن عظيم.
التفت العربي يبحث عن مصدر الصوت، لكن دون جدوى. قال في نفسه، ربما لم أسمع أي شيء بل فقط شبه لي.
ووسط هدوء الغابة التي لا يسمع فيها إلا خفقان قلب العربي، وزقزقة بعض العصافير، وصرير حشرات الصرار، سمع العربي الصوت من جديد: ماذا بك يا العربي؟ أتبحث عني؟ أنا هنا أمامك. أصيب العربي بهلع شديد وجحظت عيناه وهو يحملق ولا يرى شيئا، واصل الصوت حديثه قائلا: أنظر أمامك مباشرة، أتراني؟ هنا كاد قلب العربي أن يتوقف من هول ما رأى، لقد كان أمامه ضفدع ضخم في حجم هر متوسط الحجم، يقف على قائمتيه الخلفيتين، ولما التقت عينيهما، واصل الضفدع قائلا أنا من أحدثك، ولعلي أفزعتك، لم يقو العربي على الإجابة، فكر في الهرب، لكن لم يقو على الوقوف.
واصل الضفدع قائلا: أعتذر على إخافتك، انتظر سأتحول إلى شكل مألوف لذيك، ثم ومض ضوء شديد الإشعاع وانطفأ بسرعة، فإذا بالضفدع يتحول إلى شيخ وقور، له شعر أبيض يسترسل على كتفيه، ولحية بيضاء تكاد تصل إلى بطنه، ويرتدي ثيابا بيضاء.
أحس العربي ببعض الطمأنينة، وجمع رباطة جأشه وقال: من أنت؟
أجاب الشيخ: ليس مهما من أنا، ولكن المهم هو ما سأقوله لك. أنصت ولا تقاطعني، لأن وقتي قصير، لعلك رأيت حلما مزعجا، وانا أعرف مضمون حلمك، بل أعرف أيضا أنه سبق أن رأيت نفس الحلم، عندما نمت في المسجد. كاد العربي أن يجن، كيف لهذا الشيخ أن يعرف بشأني وأنا لم أخبر أحدا عن حلمي؟ هنا أضاف الشيخ بعد أن قرأ الشيخ أفكاره، وقال لا تتعب نفسك بالأسئلة، فأنا أعرف عنك أكثر مما تعرف عن نفسك، والآن دعني أفسر حلمك قبل أن انصرف. إن تعبير رؤياك مفاده أنك ستصبح ذو شأن عظيم، وسترتفع عاليا، لكن ستسقط سقطة تكاد تودي بحياتك، لهذا احذر كثيرا، ولا تغتر بالمجد والشهرة، لأنك بمقدار مجدك وارتفاعك وعلو شأنك، ستكون سقطتك موجعة.
ومض الضوء من جديد، وإذا بالعربي أمام ضفدع عادي ينق، وأوداجه تنتفخ كأي ضفدع عادي، أخذ العربي يا شيخ لذي سؤال أخير، لكن الضفدع لا يعيره أي انتباه، قام العربي ليقترب من الضفدع قليلا، فهو يرغب في سؤاله عن مصيره وما تخبئه له الأيام، لكن الضفدع خاف منه وقفز في بركة ماء واختفى للأبد.
بدأ العربي يفرك عينيه وهو غير مصدق، هل ما مر به حقيقي، أم هي فقط تأثيرات الحمى التي جعلته يهلوس؟ سواء كان الأمر هكذا أو كذلك، فلم يستطع أي أحد أن يقنع العربي بأن ما رآه مجرد خيال، فهو قد يشك في أي شيء إلا في قصة الضفدع.
يتبع.....
#إدريس_الخلوفي (هاشتاغ)
Lakhloufi__Driss#
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟