جاسم الفارس
الحوار المتمدن-العدد: 7286 - 2022 / 6 / 21 - 21:46
المحور:
الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع
داريوش شايغان فيلسوف ايراني معاصر, ولد في طهران في 24/1/1935م, في بيئة متنوعة عرقياً وثقافياً, والده تركي ايراني شيعي, وأمه سنية من سلاطين جورجيا, يتكلمون لغات مختلفة, ومدرسته ضمت أصدقاء متعددي الثقافة والإنتماء, معلم أرمني, وصديق مسيحي, وآخر يهودي, وآشوري, وزرادشتي, تعلم لغات عدة مع لغته الأم, الفرنسية والانكليزية والسنسكريتية, واستوعب ثقافات عصره بدقة لا سيما الثقافة الهندية والصينية والأوربية والأفريقية , فضلاً عن ثقافته الإسلامية.
إن هذا التنوع اللغوي والثقافي والمعرفي والفكري, جعل من داريوش فيلسوفاً انطوت فيه الثقافة الإنسانية برؤية حضارية عريقة, سهلت عملية تطوره الفلسفي, وقادت تحولاته الفكرية بخطى رصينة, ليقدم للعالم خارطة طريق السلام والرضا, وبغية الوقوف على الملامح الأساسية في فكر داريوش وتحولاته نستعرضها في الآتي:ــ
أولاً: التحدي المعاصر والهوية الثقافية:ــ
وهي القاعدة التي انطلقت حياته الفكرية منها ، كان مفهوما الهوية والتحدي من المفاهيم المحورية التي شغلت فكره في مرحلة انطلاقه الأولى ..
يوضح داريوش مفهوم التحدي من خلال آلياته الفكرية بوصفه عنصراً أجنبياً, ولكونه كذلك يطالبنا أن يعيد التوازن المختل إلى نصابه, وكلما كان هذا التحدي أقوى, كانت الجهود اللازمة للتغلب عليه أكبر وأصعب, وكانت الوقفة اللازمة لتحليل الواقع ومعرفة القوى الفاعلة والوسائل الضرورية للانتصار على هذا التوتر أكبر أهمية وضرورة في الانتصار على أي تحد أو أزمة, يتحول تكافؤ القوى المؤثرة والتجانس البنيوي للأفكار الفاعلة في التوتر, أداةً لولادة جديدة, ولإعادة تشكيل الذات, وإيجاد قوى وطاقات جديدة, وهذه بالتحديد الظاهرة التي نطالها غالباً في صدام الحضارات وفي النهضات الموفقة نسبياً التي تشهدها ثقافة من الثقافات.
يوضح داريوش أن هذه الإحتكاكات والصدمات والحوارات والنهضات التي تتفتح وتزدهر داخل إحدى الحضارات هي بالنسبة لصانعيها والمتأثرين بها ومستلهميها والمستفيدين منها, كانت يقيناً في حكم (التحدي), وكانت الى ذلك سبباً في حريتهم وازدهارهم وتفعيل طاقاتهم الخلاقة.
وبذلك يكون (التحدي المعاصر) هو نقطة تقاطع العديد من المفاهيم الأساسية التي زادت منذ إنبثاقها والى اليوم مساحة تطور معين, ولذا فهي في تطورها تصوغ ماهية التفكير الغربي. أن تكون هذه المفاهيم قد بلغت أقصى أشكال تحولها في نطاق التحدي المعاصر, وباتت اليوم في حكم المفاهيم شديدة التخصص.
في هذه المرحلة يشارك داريوش في تحدي المفاهيم الغربية العدمية, فعلى سبيل المثال، يرفض أن يكون الإنسان (فكرة) بمعزل عن الأمور, يتخبط داخل ورطة العدم, ويتوكأ وجوده على حريته وحسب, إنما يؤكد داريوش على أن الإنسان (عالم صغير) زاخر بالأبعاد, له صِلاته السحرية والباطنية بكل مراتب الوجود. وبهذا المعنى يوضح داريوش مفهومه للعالم, فليس العالم قبساً من العقل الجزئي, ولا شبكة من القوانين الفيزياوية والرياضية, العالم حضور في ( كل) يكشف النقاب عن وجهه لا في موضوعية الأشياء, بل في الكشف والشهود, وفي هذا الإطار لن يكون الله تكليفاً ولا مشروطاً يمليه العقل العملي( كانت) ولا إشعاعاً من الروح الإنسانية( فيورباخ) ولا هو ثمرة الاغتراب الديني (ماركس), وإنما هو تجلٍ قدسي وبداهة مباشرة بلا أية وسائط, إن هذه البداهة هي الواقع أصالة تبني الحقيقة قبل عملية التنوير, بل قبل أي تنوير قد يجود العقل, وليست بداهة ذاتية المحور(كوجيتو) وتطورات ديكارتية, جلية مميزة.
في بحثه( الأصنام الذهنية والذاكرة الأزلية), يقارن برؤية منهجية بين الذاكرة الشرقية والذاكرة الغربية, فيرى أن الذاكرة الشرقية تختزن تلك الأصنام الذهنية التي أشار إليها (فرنسيس بيكون) في كتابه المهم( الأورغانون الجديد), فهي بمثابة أمانة, في حين يرى أن الفكر الغربي يعمل على إقصاء الأصنام الذهنية, أو تحطيمها, عند هذه الحالة يقرر داريوش أن( مكافحة الذاكرة) هي أحد العناصر المهيمنة في الفكر الغربي الحديث, الذي يسعى أن يكون فكراً تجريبياً يبتني على شيئية الحقائق العينية, فضلاً عن إهتمامه بالفرز بين العلم الشهودي والعلم العملي, وبين الدين والفلسفة, وبين الروح والجسم.
لقد كشف (بيكون) من خلال كتابه (الاورغانون الجديد) عن قرارات الفكر الغربي المنهجية والمعرفية والعملية, وهو ما عجز عنه الفكر العربي الإسلامي بخاصة, في إطار الفكر الشرقي الاسيوي, ذلك لأنه في إطار الفكر الغربي, فإن المسافة بين الدين والفلسفة, والروح والجسم, وبين العلم الشهودي والعلم العملي, الذي يمثل ثنائية كامنة في البنية التأسيسية للفكر الغربي, ولا نجد ما يعادلها في الفكر الشرقي بعامة( والعربي الإسلامي بخاصة) وحتى لو وجت هذه الثنائية في الشرق، فهي لا تسفر أبداً عن فصل حاسم بين الطرفين يمثل غرابةَ واجنبيةَ أحدهما عن الآخر، بعبارة أخرى، يبقى الجسد تابعا للروح، والعلم العملي للعلم الشهودي، وتبقى الفلسفة والدين وجهين لحقيقة واحدة.
في هذه المرحلة يؤكد داريوش على ( الذاكرة الأزلية) بوصفها الذاكرة القومية لكل شعب, فهي ذات طابع اجتماعي, وهي علم أنساب ذلك الشعب, وهي التي تحافظ على اتصاله بالاحداث الأزلية والأساطيرية.
والذاكرة الأزلية لا تعرف الزمن, لأنها متعالية على أجزاء الزمن الثلاثة.. ولأنها مخزن الكينونات, لذا كان لها رسالتها ورغبتها في أن تحافظ على هذه الرسالة حية في قلب الإنسان وذهنه.
وقد عبر داريوش عن تجلي مفهوم الأمانة في أروع أشكاله بالمنظور الإسلامي, تلك الأمانة هي الرسالة التي تلقاها الإنسان من الله عز وجل, التي عبر عنها القرآن الكريم في الآية(172) من سورة الأعراف, قال تعالى:" وإذ أخذ ربك من بني آدم من ظهورهم ذريتهم وأشهدهم على أنفسهم ألست بربكم* قالوا بلى شهدنا أن تقولوا يوم القيامة إنا كنا عن هذا غافلين". وهذا هو يوم الميثاق والعهد, والميثاق هو الدعوة الى الوفاء للرسالة الكامنة في الأمانة.
ثانياً: الاقتراب من الغرب :ــ
تَوَّج هذه المرحلة صدور كتاب( النفس المبتورة, هاجس الغرب من مجتمعاتنا), وكتاب(ما الثورة الدينية, الحضارات التقليدية في مواجهة الحداثة), تميزت هذه المرحلة بخطوة جديدة في مسيرة داريوش الفكرية, إذ بدأ(التحوّل) يرسم خطاه باتجاه التقارب مع الغرب واستيعابه أكثر, ليدخل مرحلة الافتراق عن الدفاع عن( الهوية) ونقد التراث والتاريخ.
يقول داريوش عن هذه المرحلة في مقدمة كتابه ( النفس المبتورة), بأنه بحث في تشوهات الفكر والروح التي تشوب حضارات لم تشارك التاريخ أعياده, بل راحت تتقهر.. وتعدى الكتاب مدى الشرق الى العالم كله, فهو يطال معظم الحضارات التي ما تزال بناها العقلية محكومة بالتراث وتعاني استيعاب الحداثة.
يعتمد داريوش مصطلح (المركز / الأطراف) في تحليلاته الفكرية، وهو استخدام دقيق جداً لمصطلح يرسم صورة واضحة الأبعاد لخارطة العالم المعرفية والعلمية، فيرى أن أهل أطراف العالم يعيشون في زمان الصراعات بين مختلف قوى المعرفة ومناهجها واتجاهاتها" وأنهم واقعون في فجوة العوالم المتفارقة التي تتدافع فيشوه أحدها الآخر. إن فهمنا لهذا الأزدواج بشكل صريح, ومن دون نفور يمكن أن يغنينا ويوسع شبكة معارفنا وشبكة أحاسيسنا, أما إذا كبتنا هذا الأزدواج القيمي ونطرده من المجال النقدي للمعرفة, فسيعمل هذا على إغلاقنا على نفوسنا, وحبسنا فيها, ويبتر نظرتنا الى العالم الذي يصير واقعه مشوهاً, وكذلك في خيالات الفكر, وبذلك يصبح العالم كالمرآة المكسورة.
يقرر داريوش حقيقة أن وراء هذه الاختلافات الفكرية, عالمان متنازعان, واختباران تاريخيان مختلفان, لا يمثلان, على الرغم من التفاوت الكامن بينهما سوى وجهين لتجربة واحدة وحيدة للإنسان في العالم، وعلى المجابهة النقدية لهذين العالمين, سيتوقف, في المستقبل, إمكان الحوار بين سكان المعمورة.
أما في(ما الثورة الدينية) فيعالج داريوش موضوع اشكالية حضارية لم يعد العالم الإسلامي وحده يعانيها, إنما معه الصين والهند وافريقيا, وقفوا عاجزين عن مواجهة الحداثة, ذلك أن هذه الحضارات بينها تجانس مشترك, (التجانس البنيوي). كشف عنه داريوش في ضوء تحليل منهجي مقارن يعرف فلسفياً بـ(المماثلات التناسبية).
وكذلك اعتمد داريوش رؤية حضارية شاملة للكوكبتين الثقافيتين الشرقية والغربية, ذلك أن الحضارة عند داريوش كل ممفصل لا يحتمل أي فرز، فالأجزاء لا تتحرك بمعزل عن الكل, وهذا الكل له منطقه الخاص وقانونه ومقولاته.
إن تجاوز داريوش النزعة التجريبية, هي بداية التحول من منطق( الهوية) وحدودها الى منطق( الوحدة الحضارية الشاملة). والبحث في آليات التقارب والحوار مع الغرب, من خلال رصد عوامل انبثاق عصر العلم وآلياته وما أحدثه من تغير نوعي في تفكير الإنسان الذي غادر الكنيسة الى المختبر, وغادر التأمل الى العقل ومنجزاته الخلاقة.
وكذلك من خلال استيعاب لمأزق الحضارة الشرقية التي لم تستطيع أن تعيد بناها الفكرية التي تفككت بفعل هجمة الحداثة, ولم تتمكن من إعادة بنائها, فضلاً عن عدم قدرتها على المشاركة في بناء الحضارة الإنسانية المعاصرة, الأمر الذي يقود داريوش الى طرح رؤيته الفكرية الجديدة لمعالجة الأمر والخروج من هذا المأزق, المتمثلة بـ:ــ
1ــ فصل السياقين الثقافيين الغربي والشرقي عن بعضهما, من خلال الفصل بين الدين والايديولوجيا, فالايديولوجيات الدينية ليست ديناً, إنما هي أفكار صيغت على هامش الدين, وتجاوزته,, وبالتالي فهي خاضعة للنقد والتنحي عن ساحة التدين؛ وأن قوانين التاريخ لها معاييرها المختلفة عن معايير العودة العمودية الى الوجود.
2ــ اعادة قراءة الغرب برؤية انسانية حضارية , فقد أنجز الغربيون من خلال هنري كوربان, الذي فسر المسافة من هيدغر الى السهروردي, موضحاً قدرة الغرب على التعامل مع الثقافات الإنسانية,, فعلى الشرقيين أن يردوا الرحلة في الاتجاه المعاكس.
ثالثاً: صداقة الغرب:ــ
بدأت(نشوة التحوّل) تسكن داريوش, وهو يتوغل في حقائق الوجود الإنساني, واكتشاف أغوار النفس الإنسانية,, والبنيات الحضارية في العالم, فيدخل مرحلة الصداقة مع الغرب, يتوج هذه المرحلة كتابه (هوية بأربعين وجهاً).
في هذه المرحلة, يعلن داريوش تمسكه بما أسماه(الهويات الحدودية), وهو مفهوم فلسفي حضاري مركزي يعبر عن المنطقة الحضارية التي تحقق( التلاقي المعرفي) وامتزاج الوعي, فهو أشد أبعاد ( التعددية الثقافية) خصباً وغرابة, ويرفض منطق (التعددية الثقافية) التي مثلتها(المركزية الأوربية) و(المركزية الأفريقية) اللتين غاصتا في مستنقع(الضغينة) أو(الهجومية).
يؤكد داريوش على أن التوسع العالمي لرأس المال بشكل تخطى حدود السلطة الوطنية وظهور الهويات القومية, وثورة الاتصالات, بترابطهم وفّر ميزاناً نظرياً جديداً اكتسبت فيه الثقافة معنى جديداً مستقلاً في الوطنية والقومية, واصبحت الثقافة منبتاً لحق الحكم الذاتي والجماعي, ومصدراً لقيم جديدة, فارتقت الثقافة بهذا المعنى الجديد الى مستوى مقولة شمولية عالمية تتمايز عن الثقافات الخاصة, إنها( ثقافة الثقافات) أو أي شئ (ما فوق الثقافة).
إن قراءة داريوش شايغان, ضرورة حضارية, بغية تعميق الوعي بضرورة التحولات الحضارية والاحساس بلذة نشوتها الخلاقة.
مصادر الدراسة
1ــ داريوش شايغان, الاصنام الذهنية والذاكرة الأزلية, دار الهادي للطباعة والنشر والتوزيع, بيروت ــ لبنان, ط/1, 1428ه ــ 2008م.
2ــ داريوش شايغان, النفس المبتورة, هاجس الغرب في مجتمعاتنا, دار الساقي, لندن, ط/1, 1991م.
3ــ داريوش شايغان, ما الثورة الدينية, الحضارات التقليدية في مواجهة الحضارة, دار الساقي, بيروت ــ لبنان, المؤسسة العربية للتحديث الفكري, جنيف, ط/1, 2004م.
4 - غربة زائر شرقي في الغرب، أنا شرقي شئت أم أبيت، حوار مع داريوش شايغان ، اجرى الحوار رضا خجسته رحيمي ومحمد منصور هاشمي. مجلة قضايا اسلامية معاصرة العدد 51-52/ صيف وخريف 2012م-1433هـ - مركز دراسات فلسفة الدين - بغداد.
-5 د. عبد الجبار الرفاعي - داريوش الفيلسوف المغمور - مجلة الكوفة - السنة الاولى - العدد 2 - شتاء 2013
#جاسم_الفارس (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟