|
حينما ينهب الماضي، يدفع الجميع الثمن
عباس موسى الكعبي
الحوار المتمدن-العدد: 7284 - 2022 / 6 / 19 - 18:34
المحور:
دراسات وابحاث في التاريخ والتراث واللغات
بقلم: جوناثان غورنال ترجمة: عباس موسى الكعبي
قصة البشرية ملك لنا جميعًا ، لكن اللقى والقطع الأثرية التي ترمز إلى تلك القصة فهي لا تنتمي سوى إلى المكان الذي نشأت فيه. في قصة الخلق البابلية إنوما إليش Enuma Elish ، تم العثور على أسطورة الخلق البابلية منقوشة على سبعة ألواح طينية تعود إلى القرن السابع قبل الميلاد، بعد ان جرى التنقيب عنها في نينوى في القرن التاسع عشر ، ومن هناك، نالت إريدو، الواقعة في جنوب بلاد ما بين النهرين، تسمية أول مدينة في العالم. رغم العمر الممتد إلى 8000 سنة، لا يوجد اليوم سوى القليل من الأشياء الثمينة التي يمكن رؤيتها في الموقع القديم والمعزول على أطراف الصحراء الجنوبية للعراق على مسافة 35 كيلومترًا جنوب غرب الناصرية. ورغم ذلك ، فإن ما تبقى يعد ثمينا للغاية - بما في ذلك حفنة الحجارة وقطع الفخار التي سرقها سائح بريطاني من الموقع، وحكمت عليه أحدى محاكم بغداد، خلال هذا الشهر، بالسجن لارتكابه تلك الجريمة. وكما هو متوقع، ثارت ضجة في وسائل الإعلام البريطانية عند الحكم على السيد جيم فيتون ، 66 عاما ، الجيولوجي المتقاعد، بالسجن 15 عاما. وحتى كتابة هذه السطور، قام أكثر من 347000 شخص بالتوقيع على عريضة عبر الإنترنت تطالب الحكومة البريطانية بالتدخل في قضية السيد فيتون. بالطبع، الحكومة لا تستطيع عمل أي شيء، ولا ينبغي لها ذلك. فالعراق دولة ذات سيادة لها قوانينها الخاصة. كان السيد فيتون يدعي الجهل بقانون حماية الكنوز الأثرية العراقية ، لكن القانون لا يحمي المغفلين كما هو السائد في جميع أنحاء العالم. كان السيد فيتون قد واجه عقوبة الإعدام – وتلك عقوبة رادعة تدين بوجودها إلى عقود من النهب للكنوز العراقية القديمة - لكن المحكمة ارتأت، وبشكل واضح، أن جريمته لم تكن فظيعة بقدر جريمة الاستئصال الفاضح لكنوز البلاد العريقة التي أعقبت الاجتياح الأمريكي للعراق عام 2003. والعراق ليس البلد الوحيد في المنطقة الذي وقع تراثه فريسة للحروب والاضطرابات الاجتماعية. ففي عام 2017 ، أنفق متحف متروبوليتان للفنون في مدينة نيويورك 4 ملايين دولار أمريكي على تابوت ذهبي عمره 2000 عام تم تهريبه من مصر. وبعد ذلك بعامين، أُجبر المتحف على إعادة التابوت بعد أن تبين أنه نُهب خلال الثورة المصرية عام 2011. باختصار ، كان ينبغي على السيد فيتون أن يكون أكثر أدراكا وحذرا، فقد كان جيولوجيًا من حيث المهنة وعالم آثار هاوًا من حيث الميل والرغبة، وكان في جولة أثرية في العراق عندما قرر وضع القطع الأثرية في جيبه بغية سرقتها - وهو عمل لم يكن من الممكن تصوره بالتأكيد لو كان يقوم بجولة في موقع أثري في أوروبا. إن موقفه غير المبالي تجاه قدسية التراث العراقي القديم يعتبر صدى للغطرسة الإمبريالية التي نهبت الكثير من كنوز الشرق الأوسط وأماكن أخرى خلال القرن التاسع عشر وعلى أيدي "علماء آثار أثرياء وأجلاء" من بريطانيا!. ومازالت الخزائن وصناديق العرض في المتحف البريطاني في لندن، على سبيل المثال، مليئة بالقطع الأثرية التي سرقها مغامرين مفوضين رسميا، وهذه القطع تنتمي بموجب الحقوق إلى الدول التي تم أخذها من أراضيها. في عام 2019 ، قدمت الحكومة البريطانية عرضًا رائعًا إلى بغداد بإعادة حجرًا مسماريًا يرجع تاريخه إلى 3000 عام، تم نهبه مؤخرًا، وذلك لتحتفي بثقافة العراق وتاريخه الثريين، اللذين كانا "في صميم هويته الوطنية المعاصرة". ومع ذلك ، فمن بين مجموعة المتحف البريطاني الضخمة المكونة من 170000 كنز من بلاد ما بين النهرين التي تم التنقيب عنها وشحنها بواسطة علماء آثار بريطانيين مرخص لهم حصريا بموجب التفويض الإمبراطوري ، لم يكن هناك أي ذكر لثقافة وتاريخ العراق!، فقد جرى "الاستيلاء" على تلك القطع، حسب تعبير المتحف، وهو مصطلح أقل ازدراءًا وأكثر تهذيبا من مصطلح جرى "نهبها". في أريدوا، لم يتبق سوى آثار حضارة عظيمة كانت زاخرة ذات يوم. فقد ولت روافد نهر الفرات الواهبة للحياة التي كانت تتدفق حول التلال السبعة التي شكلت قلب المدينة، ففوق أعلاها ينتصب أعرق معبد في جنوب بلاد ما بين النهرين. ومع أن القصور والمعابد قد اختفت، إلا إن القرائن ماتزال موجودة، إذا كان المرء يعرف مكانها وكيفية العثور عليها. عدد قليل من الحجارة غير المتجانسة، التي من الواضح أنها عملت بأيدي بشرية، وجزء مما يبدو أنه جدار قديم وكأنه جرى التقاطه بحركة بطيئة اثناء الانزلاق مرة أخرى تحت الرمال ، هو كل ما تبقى من الزقورة الهائلة السابقة التي بنيت منذ حوالي 4000 سنة من الطين والطوب الاحمر. منخفض في الأرض ، كان صدى لقصر فخم تم بناؤه قبل 5000 عام. وفي كثير من الأحيان ، توفر قطع الفخار الموجودة في هذه المواقع القرائن الوحيدة التي تدل على أصولها وتسلسلها الزمني. تم اكتشاف الكثير في إريدو ورسم خرائط لها في الأربعينيات والخمسينيات من القرن الماضي من قبل اثنين من أبرز علماء الآثار العراقيين هما فؤاد سفر وسيد محمد علي مصطفى، فقد كانا قادرين على مقارنة القطع التي تم العثور عليها في اريدو مع تلك التي تم العثور عليها في باقي مواقع بلاد ما بين النهرين، مما ساعد على إنشاء روابط وفهم دقيق للتسلسل الزمني لتطور الحضارة. في أريدو، كانت هذه القطع أيضًا بمثابة طوابع زمنية ، حيث ساعدت علماء الآثار على تحديد وجود العديد من المعابد، التي تم بناؤها فوق بعضها البعض على مدى مئات السنين. وسواء كان الأمر قانونيًا أم لا ، فمن الواضح أن التقاط هذه القطع ووضعها في الجيب يعد أمر خاطئا. ربما يكون من الظلم أن يدفع جيم فيتون الثمن بصفته وكيلا عن النهابين والسارقين التابعين للإمبراطورية ممن سبقوه، والعصابات الإجرامية التي اتبعت هذا المسلك في الآونة الأخيرة، إذ سيقوم باستئناف الحكم، وفي مسعاه هذا ، نتمنى له كل خير. وبعد كل ذلك، وكما أشارت عائلته، من شبه المؤكد أن السجن لمدة 15 عامًا سيصل إلى السجن مدى الحياة. لكن الدرس المستفاد من هذه القضية هو ما ينبغي أن يأخذ في الاعتبار من جانب مدراء المتاحف في جميع أنحاء العالم، الذين يستمرون ، دون مبرر ، في تخزين الكنوز المسروقة في وقت كان فيه سكان الشرق الأوسط ، بالنسبة لمعظم الأوروبيين، لا يحسب لهم أي حساب. قصة الإنسان هي ملك لنا جميعًا، لكن الحطام والقطع الأثرية التي تعبر عن تلك القصة لا تنتمي سوى إلى المكان الذي نشأت فيه. وبسرقتها لغرض المصلحة الذاتية، فأن ذلك لا يعني سلب تراث بلد ما فحسب، وانما أيضًا حرمان الجميع من الفصول الحيوية الكامنة وراء القصة العظيمة والمشتركة للبشرية.
بغداد- 18 حزيران/ يونيو 2022
جوناثان غورنال صحفي بريطاني ، كان يعمل سابقًا مع صحيفة التايمز ، عاش وعمل في الشرق الأوسط وهو الآن مقيم في المملكة المتحدة.
المصدر: https://asiatimes.com/2022/06/when-the-past-is-plundered-everyone-pays-the-price/?fbclid=IwAR2AZu_bI1pfMwrm6buUssyTvc63ykIcNBKGu_qEhXbplrs3XyWkn8RKpSQ
#عباس_موسى_الكعبي (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
الاكتشافات الجديدة في العراق تعيد النظر بتأريخ بلاد ما بين ا
...
-
ابك ايها الغريب..
-
العراق: قلب الشرق الاوسط .. ح 12
-
العراق: قلب الشرق الاوسط 1925 .. ح 11
-
العراق: قلب الشرق الاوسط .. ح 10
-
العراق: قلب الشرق الاوسط .. ح 9
-
العراق: قلب الشرق الاوسط .. ح 8
-
العراق: قلب الشرق الاوسط .. ح 7
-
العراق: قلب الشرق الاوسط .. ح 6
-
العراق: قلب الشرق الاوسط .. ح 5
-
العراق: قلب الشرق الاوسط .. ح 4
-
العراق : قلب الشرق الأوسط .. ح 3
-
-العراق: قلب الشرق الاوسط- - ح 1
-
العراق: قلب الشرق الاوسط .. ح 2
-
مشروع التعريف بالروائيين العراقيين ومنجزهم الادبي - (13)..
-
مشروع التعريف بالروائيين العراقيين ومنجزهم الادبي - (14)..
-
مشروع التعريف بالروائيين العراقيين ومنجزهم الادبي - (11)..
-
مشروع التعريف بالروائيين العراقيين ومنجزهم الادبي - (12)..
-
مشروع التعريف بالروائيين العراقيين ومنجزهم الادبي - (10)..
-
مشروع التعريف بالروائيين العراقيين ومنجزهم الادبي - (9)..
المزيد.....
-
-حالة تدمير شامل-.. مشتبه به -يحوّل مركبته إلى سلاح- في محاو
...
-
الداخلية الإماراتية: القبض على الجناة في حادثة مقتل المواطن
...
-
مسؤول إسرائيلي لـCNN: نتنياهو يعقد مشاورات بشأن وقف إطلاق ال
...
-
مشاهد توثق قصف -حزب الله- الضخم لإسرائيل.. هجوم صاروخي غير م
...
-
مصر.. الإعلان عن حصيلة كبرى للمخالفات المرورية في يوم واحد
-
هنغاريا.. مسيرة ضد تصعيد النزاع بأوكرانيا
-
مصر والكويت يطالبان بالوقف الفوري للنار في غزة ولبنان
-
بوشكوف يستنكر تصريحات وزير خارجية فرنسا بشأن دعم باريس المطل
...
-
-التايمز-: الفساد المستشري في أوكرانيا يحول دون بناء تحصينات
...
-
القوات الروسية تلقي القبض على مرتزق بريطاني في كورسك (فيديو)
...
المزيد.....
-
الانسان في فجر الحضارة
/ مالك ابوعليا
-
مسألة أصل ثقافات العصر الحجري في شمال القسم الأوروبي من الات
...
/ مالك ابوعليا
-
مسرح الطفل وفنتازيا التكوين المعرفي بين الخيال الاسترجاعي وا
...
/ أبو الحسن سلام
-
تاريخ البشرية القديم
/ مالك ابوعليا
-
تراث بحزاني النسخة الاخيرة
/ ممتاز حسين خلو
-
فى الأسطورة العرقية اليهودية
/ سعيد العليمى
-
غورباتشوف والانهيار السوفيتي
/ دلير زنكنة
-
الكيمياء الصوفيّة وصناعة الدُّعاة
/ نايف سلوم
-
الشعر البدوي في مصر قراءة تأويلية
/ زينب محمد عبد الرحيم
-
عبد الله العروي.. المفكر العربي المعاصر
/ أحمد رباص
المزيد.....
|