|
العقلانية الكلاسيكية والقرار الإداري
إدريس الخلوفي
أستاذ باحث
(Lakhloufi Driss)
الحوار المتمدن-العدد: 7281 - 2022 / 6 / 16 - 19:54
المحور:
الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع
I- العقلانية الكلاسيكية والقرار: إذا كان عمل الإدارة هو في مجمله عبارة عن قرارات دائمة، أو سيرورة من القرارات التي تتراوح بين القرارات البسيطة إلى تلك الأكثر تعقيدا فإن القرار كنظرية أو كعلم، عرف محطات أساسية لعل أولاها هي مرحلة العقلانية الكلاسيكية. فالتطورات التي عرفتها التنظيمات، خصوصا مع البدايات الأولى للقرن العشرين، وانسجاما مع شعار النظام الرأسمالي الذي يقوم على أساس المردودية والتطور، وتنمية رأس المال، فقد برزت في الأفق مجموعة من التصورات والرؤى التي اتخذت كهدف لها، الوصول إلى أمثل وصفة من شأنها تطوير التنظيم، بل وضبطه والتحكم فيه إلى أقصى حد، وذلك طبعا قصد تحقيق مردودية أفضل، إن هذا الأمر، كان هو المسعى الذي سعت إليه جملة من التيارات والنظريات التي برزت كما قلنا، ببعض المجتمعات الغربية، سواء بأوروبا أو في الولايات المتحدة الأمريكية، وقد تباينت تصورات هذه المحاولات التي يمكن تصنيفها في إطار العقلانية الكلاسيكية التي أفرزت مجموعة من المفكرين - سواء في علم الإدارة، أو علم النفس، أو علم الاجتماع - الذين اتخذوا كهدف لهم البحث عن تنظيم علمي للعمل من شأنه أن يجعل التنظيم أكثر ضبطا، أكثر عقلانية، وذلك قصد زيادة التحكم في أنشطة التنظيم ورفع درجة التنبؤ والتوقع والاستعداد... وهؤلاء كما قلنا هم "العقلانيون الكلاسيكيون، أو كلاسيكيو التنظيم. 1- ماكس فيبر: العقلانية الكلاسيكية وعقلنة القرار: إن التصورات العقلانية للتنظيمات، تدين في جزء كبير منها لعالم الاجتماع الألماني ماكس فيبر، فقد تزامن ظهور المجتمع الحديث في نظر فيبر مع بروز تغيرات مهمة في أنماط الفعل الاجتماعي. لقد أخذ الناس في تلك الفترة بالتحول عن المعتقدات التقليدية التي ترتكز على الشعوذة، والدين، والعادات، والمواضعات الاجتماعية، وبدأ الأفراد عوضا عن ذلك بتبني أساليب التفكير العقلاني، الترشيد والحساب، التي تأخذ بالاعتبار معايير الكفاءة وتوقعات المستقبل، ولم يكن في المجتمعات الصناعية متسع للعواطف أو الاستمرار في القيام بأعمال معينة لمجرد أن الآخرين قد درجوا على إنتاجها في الماضي لأجيال عديدة، وقد أطلق فيبر اسم الترشيد العقلاني على تنمية العلوم، وتطوير التقنية، ونمو البيروقراطية. ويعني الترشيد العقلاني في هذا السياق، تنظيم الحياة الاجتماعية والاقتصادية انطلاقا من مبادئ الكفاءة المرتكزة على المعرفة التقنية. ففي حين كان الدين والعادات المتوارثة هي التي تقوم بالدور الأساسي في تحديد ما يحمله الناس من قيم واتجاهات في المجتمعات التقليدية، أخذ المجتمع الحديث يتميز بالترشيد العقلاني المتزايد لمجالات الحياة بما فيها الأنشطة السياسية والدينية والاقتصادية. لقد كانت الثورة الصناعية وتنامي الرأسمالية في نظر فيبر مؤشرا على توجه واسع نحو الترشيد. وما يميز الرأسمالية ليس الصراع الطبقي كما يرى ماركس، بل تطور العلوم والبيروقراطية: أي المؤسسات الضخمة، وكان فيبر يرى أن الطبيعة العلمية للغرب هي أبرز السمات التي تميز تلك المجتمعات. وكان يعتقد كذلك أن البيروقراطية، باعتبارها السبيل الوحيد لتنظيم أعداد ضخمة من الناس على أساس الكفاءة، تتسع مع تصاعد النمو الاقتصادي والثقافي، واستخدم فيبر اصطلاح "إبطال السحر" ليصف الطريقة التي اكتسح بها التفكير العلمي في المجتمعات الحديثة تيارات التعاطف الوجداني التي كانت سائدة في الماضي . هكذا كان فيبر يضع اللبنات الأولى التي ستمهد الطريق من أجل جعل القرار التنظيمي قرارا عقلانيا، لكن لم يكن فيبر متفائلا كل التفاؤل بالنتائج التي سيسفر عنها الترشيد العقلاني. لقد كان يتخوف من أن نظام المجتمع الحديث، قد يدمر الروح الإنسانية بسعيه إلى تنظيم وتقنين مجالات الحياة الاجتماعية كافة. ومن الهواجس التي كانت تساور فيبر، الآثار الخانقة اللاإنسانية للبيروقراطية وتداعياتها ومضاعفاتها على مصير الديمقراطية، وكان يرى أن أجندة عصر النهضة في القرن السابع عشر بما فيها من تطلع إلى التقدم، والثروة، والسعادة، عن طريق رفض العادات الموروثة والخرافات، وتبني العلم والثقافة قد تمخضت كلها عن مخاطر وأخطار جديدة للإنسان . وعلى العموم، فإن بوادر التنظيم العلمي للمؤسسات، والتنظيمات، مدينة في جزء كبير منها لهذا الهرم السوسيولوجي (ماكس فيبر)، الذي وضع اللبنات الأولى لعلم الإدارة، من خلال تركيزه على البيروقراطية كمدخل لتحسين أداء المؤسسات، والإدارات، واعتبرها الحل الأمثل للخروج من الارتجالية في التدبير والقرار، على اعتبار أن البيروقراطية هي الخضوع للمساطر والقوانين التي لا تدع مجالا للصدفة أو الأهواء الشخصية، ذلك أنها تسيير يعتمد على الكفاءة، والاختصاص، والاحتكام للقوانين، وسلطة المكاتب. 2- التنظيم العلمي للعمل: من أجل عقلانية مطلقة أ- التايلورية: إنها أحد أبرز التيارات الفكرية المنجزة في بداية القرن العشرين، والتي في بحثها عن تأمين فعالية التنظيمات، اهتمت بوضع مبادئ عامة لكل تنظيم عقلاني. في هذا السياق يأتي اهتمام تايلور* بتنظيم العمل على مستوى ورشات الإنتاج. إن الفكرة الأساسية التي انطلق منها تايلور هي اعتبار أن تنظيم العمل يمكن أن يكون موضوع علم، فعبر الرجوع إلى الإمكانات اللامتناهية للعلم، يمكن تنظيم الإدارة عقلانيا بالشكل الذي يسمح ببلوغ أفضل النتائج بعد أخذ الإكراهات التقنية والاقتصادية بعين الاعتبار . لكن ما المقصود بالعقلانية؟ باعتبارها المطمح الذي سعت إليه التايلورية. "يسمى الفعل عقلانيا في تراث العلم الاقتصادي، على الأقل كما عبر عنه باريتو في (بحث علم الاجتماع العام) عندما يكون موضوعيا، متكيفا بشكل جيد مع الأهداف التي يسعى إليها الشخص. فالعقلانية تعني في هذه الحالة تكيف الوسائل مع الغايات. أما الاقتصادي الحديث فيعرف من جهته السلوك العقلاني بصفته اختيار الفرد للفعل الذي يفضله من بين كل الأفعال التي تتوفر له إمكانية إنجازها، وباختصار بصفته خيارا متوافقا مع أفضليات معينة" . لقد لاحظ تايلور أن تطور تقسيم العمل، لا يكفي لتأمين الإنتاجية القصوى، وإن كان هذا الضعف يتمظهر من خلال صعوبة حصول الرؤساء على تعاون تابعيهم، وعجزهم عن مراقبة إنتاجيتهم الفعلية، فإن السبب الحقيقي لهذا الوضع يعود إلى ضعف معرفة الرؤساء بالعمل، واحتكار العمال لهذه المعرفة عبر التعلم في عين المكان. تقتضي مراقبة العمل إذن المعرفة الدقيقة بالعمل، وهذا الأمر لا يتأتى إلا من خلال العناصر التالية: - تولي الإدارة لعملية تجميع كل عناصر المعرفة التقليدية التي يحوزها العمال، ثم العمل على ترتيب هذه المعلومات، ومحاولة التركيب فيما بينها بشكل يسمح باستخلاص قواعد ومعادلات. - كل عمل ذهني يجب أن يسحب من الورشة، ليتم تركيزه في مكاتب التخطيط والتنظيم. - تحدد وبدقة مهمة كل عامل من طرف الإدارة، وذلك قبل موعد التنفيذ بيوم واحد على الأقل، ويتلقى كل عامل توجيهات وتعليمات مكتوبة، تحدد وبدقة المهمة التي عليه إنجازها، كما نبين له الوسائل التي ينبغي استعمالها ومدة التنفيذ. بهذا يحل الخبير في التنظيم التايلوري في محل الرئيس، فهو وحده من يستطيع وضع وتحديد طرق عمل أكثر عقلانية وفعالية. ومن ناحية أخرى يتم حصر نشاط العامل في التنفيذ، إنه الفصل الصارم بين العمل اليدوي، والعمل الذهني. لهذا ركز تايلور في دراسته لسيرورة الإنتاج على الزمن، والطرق والحركات، إذ من خلالها يمكن تجزيئ العمل إلى مهام بسيطة ومتشابهة، الأمر الذي يوفر ضوابط موضوعية في الإنجاز والمراقبة، كما يمكن من إقصاء الحركات الزائدة والمكلفة، وهو اقتصاد في الزمن، يمكن أن يوفر أرباحا تسمح للمشغل بدفع أجور مرتفعة كافية لتحفيز العامل، وإفراغ التهاون، أو الغش من كل جدوى. لقد كان هدف تايلور هو استعمال الجسم البشري بأفضل طريقة ممكنة، وأمام روتينية المهام التي عالجها، فقد بدا له الشغل كنشاط تابع للآلة، الشيء الذي أصبح معه السلوك البشري لا يطرح أية مشكلة، فالتصرفات السلبية لا تعود للاعقلانية الأفراد في العمل، بل إلى عدم جودة وملاءمة البنيات التي ينجز فيها العمل . إن كل فرد يفترض فيه أنه عقلاني، يبحث دائما عن الحد الأقصى لأرباحه المادية، فهم العامل هو الحصول على أجر مرتفع، بينما يبحث المشغل جاهدا عن تقليص كلفة اليد العاملة، لتحقيق هذا يجب البحث عن الإنتاج الأقصى، وهو ما يعني بالنسبة لتايلور أن مصالح المشغل والعمال متقاربة، فدوام نجاح أحدهما، لا يتأتى إن لم يصاحبه نجاح الآخر، لهذا يؤكد تايلور على ضرورة التنظيم العلمي للعمل في بلوغ الفعالية القصوى، وتجاوز طرق العمل الإمبريقية ليخلص إلى وضع ثلاثة مبادئ أساسية: - استعمال دراسة الزمن والأساليب لاكتشاف الطريقة المثلى في إنجاز عمل معين، أي تلك التي تسمح بأفضل متوسط إنتاج يومي. - تحفيز العمال لينجزوا العمل وفقا للطرق والمعايير المحددة من خلال وضع نظام للأجور والمكافآت. - استعمال خبراء متخصصين لتقنين العمل . يرجع الاعتقاد في إمكانية التنظيم العلمي للعمل لدى تايلور إلى قيام مقاربته على مسلمتين أساسيتين، تتعلق الأولى منهما بمسلمة "الحل الأمثل الوحيد" "One Best Way"، وهي تعني أنه يوجد بالنسبة لكل نشاط طريقة أمثل في الإنجاز، من هذا المنظور يتم اعتبار التنظيم ترابطا ميكانيكيا لمجموعة من المناصب يضم كل منها مهاما محددة يمكن دراستها علميا وضبطها، وبفضل المناهج العلمية يمكن لمهندسي التنظيم، بعد أخذ الإكراهات التقنية والاقتصادية بعين الاعتبار، تحديد أفضل طريقة ممكنة في تنظيم الإدارة بشكل يسمح ببلوغ أهدافها. أما المسلمة الثانية فهي مكملة للأولى، إنها مسلمة "الإنسان الاقتصادي"، أي الإنسان المحرك بالاعتبارات الاقتصادية حصرا، حافزه الوحيد هو الحصول على أفضل الأرباح وهذا ما يجعل منه عنصرا سلبيا يمكن توقع سلوكه بشكل دقيق، والتعامل معه كأداة قابلة للتعويض في أي وقت . يؤكد التصور التايلوري إذن على تركيز القرار في المكاتب، فهو يرى أن تنظيم العمل بشكل علمي، يجب أن يكون هاجس المسؤول عن التسيير والإدارة، فكان بذلك أحد أبرز المهندسين الذين ساروا بسرعة في عملهم، حتى أصبح ضمن مصاف المنظرين، وانطلق من فكرة أساسية ترتكز على تأسيس علاقة بين الإنتاجية ورخاء التنظيم وازدهاره، لأن نجاح التنظيم يمر بشكل ضروري عبر التسيير الجيد، كما أن رخاء العمال وأرباب العمل يأتي متلازما مع بعضه، عبر الرفع من الإنتاجية، وذلك انطلاقا من أربعة مبادئ أساسية للعمل هي: أولا: كل مهمة يجب أن تحلل وتفكك حتى تكون مضبوطة، ويتم تعديلها أو إلغاؤها إذا ثبت عدم ملاءمتها، وذلك حتى ينجز العامل عمله في أقل وقت، وهذا هو ما تعنيه كلمة التنظيم العلمي للعمل. ثانيا: يتم انتقاء العمال، وبعد ذلك تدريبهم بالطريقة التي تجعلهم قادرين على الإنتاج بأعلى إيقاع ممكن. ثالثا: المؤطر (المدير) والعامل يجب أن يتصرفا بأكبر قدر من التعاون والتضامن من أجل الخير للجميع. رابعا: الفعالية تمر عبر التخصص، حيث يتوجب على كل واحد أن يستقر بالمهمة التي يعطي فيها أفضل النتائج، سواء كان عاملا أو إطارا، فالنتيجة هي الأهم، والمرؤوس تابع للعديد من الرؤساء. فليست هناك وحدة على صعيد القيادة، بل على العكس هناك استقلالية في التخصصات. يبدو إذن أن القرار من منظور التايلورية، هو مسألة تنفرد بها الإدارة، حيث نلاحظ غياب أي أثر لمسألة المشاركة في القرار، ولعل هذا الأمر، بالإضافة إلى التركيز على المردودية فقط، وتغييب الأبعاد الإنسانية والعاطفية، واعتبار الإنسان (العامل / المستخدم) مجرد امتداد للآلة، هو ما جعل المدرسة التايلورية تواجه مصاعب أكبر من مسألة حدود الحاجة إلى معدات أو آليات عالية الكلفة، فهذه المدرسة كما يرى بعض الخبراء في علم الاجتماع الصناعي، تقوم على "الثقة الضئيلة"، - حسب تعبير انطوني غيدنز- فالإدارة هي التي تصمم الوظائف، وتضع الأهداف، وتتولى الإشراف الحثيث على العاملين الذين لا يتمتعون في هذه الحالة إلا بقدر قليل من الاستقلال، وحرية الحركة. ويجري رصد المستخدمين ومتابعتهم بمختلف أشكال الرقابة؛ لضمان انضباط العمل، ومستويات الجودة في الإنتاج. وقد تؤدي المغالاة في الإشراف المستمر إلى نتائج عكسية، لم تكن في حساب الخطط والمخططين: أي إلى تآكل روح الالتزام والروح المعنوية لدى العاملين، لأنهم لا يستطيعون إبداء رأيهم في أعمالهم أو في أساليب تنفيذها. وتشير دراسات عديدة إلى تزايد نسبة التذمر والتغيب والنزاع الصناعي في مواقع العمل؛ التي يسودها نسق الثقة المتدنية بين الإدارة والعاملين . والخطاطة التالية توضح التصور التايلوري لصنع القرا وتوضح الخطاطة طبيعة العلاقة بين الفاعلين في التنظيم، من وجهة نظر العقلانية الكلاسيكية، فالعلاقة كما نرى هي علاقة خطية عمودية، والقرار فيها يعرف اتجاها واحدا من الأعلى إلى الأسفل، ينطلق من المدير الرئيس، في اتجاه رؤساء المصالح، الذين يستقبلونه لتنفيذه عبر فرعين: أولا: في اتجاه الموظفين عبر ما يسمى بالتنظيم الإداري للعمل (OAT). ثانيا: في اتجاه العمال عبر ما يسمى بالتنظيم العلمي للعمل (OST). ب- هنري فايول والتنظيم الإداري للعمل OAT هو الآخر مهندس فرنسي ولد بفرنسا (1841-1925)، عرف مسارا مختلفا منذ أن كان مديرا عاما لمقاولة منجمية بفرنسا، وقد ظهر له كتاب سنة 1916 بعنوان: "Administration Industrielle et Générale" لم يكن موضوعه حول تنظيم المعمل، ولكن حول الإدارة وداخل سياق جد عام، وإذا كان هناك باحث يستحق أن يلقب أب التدبير، فإنه فايول بدون شك، حيث كان يرى أن وظيفة الإدارة العامة يمكن حصرها في خمسة مصادر هي: التنبؤ، والتنظيم، والقيادة، والتنسيق، ثم الرقابة، وإلى جانب هذه الوظائف، هناك ستة وظائف أخرى تضمن السوق للمقاولة هي: الوظيفة التقنية، والوظيفة التجارية، والوظيفة المالية، والوظيفة الأمنية، و الوظيفة المحاسباتية، و في الأخير الوظيفة التدبيرية. إن التدبير الجيد بالنسبة لفايول هو الذي يقوم على الانضباط ووحدة القيادة، على عكس ما اقترحه تايلور، فخضوع المصلحة الفردية للمصلحة العامة شيء أساسي، كما أن المكافأة تتناسب مع المجهودات. إن تصور فايول هذا، يندمج هو الآخر ضمن باراديغم التنظيم الفعال والأمثل، لكن إذا كانت التايلورية قد ركزت مجهودها على التنظيم العلمي للعمل (OST)، أي على ذوي الياقات الزرقاء. فإن هنري فايول ركز على "ذوي الياقات البيضاء"، أي على الموظفين خلف المكاتب، ولهذا عرفت نظريته باسم "التنظيم الإداري للعمل" (OAT) التي حاول أن يقدم من خلالها مبادئ عامة للإدارة. فوظيفة الإدارة حسب فايول تخص بالأساس الجسد الاجتماعي، بعيدا عن الوظائف الأخرى المرتبطة بالمواد والأدوات، فوظيفة الإدارة لا تركز اهتمامها إلا على الأشخاص، وقد صاغ فايول جملة من المبادئ الأساسية للإدارة، يمكن تلخيصها كالتالي: - إن صحة الجسد الاجتماعي وعمله الوظيفي الجيد يستلزم بالضرورة مجموعة من الشروط التي يمكن تسميتها بمبادئ أو قوانين أو قواعد - وكلمة مبادئ هنا لا تعني أفكارا صلبة - فليس هناك صلابة ولا مطلق في الإدارة، كل شيء هو مسألة قياس وتعامل مع الوضع . - لا يمكن أبدا تطبيق نفس المبدأ مرتين، عندما يتعلق الأمر بوضعيتين متشابهتين، ينبغي الأخذ بعين الاعتبار الظروف المختلفة، والمتغيرة للإنسان من جهة، ولباقي العوامل الأخرى من جهة ثانية. الأخذ بالاعتبار ما إذا كانت المبادئ مرنة وقابلة للتأقلم مع كل الحاجات. يجب معرفة ما نفعله معرفة جيدة، لأن الإدارة هي فن صعب يقوم على الذكاء والتجربة والقرار الملائم والمناسب. وقد حاول فايول تركيز هذه المبادئ وتوضيحها كالتالي: - تقسيم العمل: هو مسألة طبيعية نجدها عند الحيوان أيضا، وتقسيم العمل لا يسعى إلى إنتاج أفضل بنفس المجهود السابق، كما أن التكرار المستمر لنفس المهمة يؤدي إلى الإتقان. - السلطة - المسؤولية: إن السلطة هي حق التحكم والقدرة على تنفيذه. ويمكننا أن نميز لدى رئيس عمل ما بين السلطة التابعة لوضعه المهني والوظيفي، والسلطة الشخصية النابعة من معارفه وتجاربه وقيمه الأخلاقية، وموهبة القيادة، والخدمات التي يسديها. - لا وجود لسلطة بدون مسؤولية، أي بدون عقاب ومكافأة أو جزاء، والذي يرافق تطبيق السلطة. - المسؤولية هي النتيجة الطبيعية للسلطة، وطرفها النقيض الضروري الذي لا غنى عنه. - دائما عندما تمارس سلطة ما، تبدأ ولادة المسؤولية. - الحاجة إلى العقاب تستمد منبعها من مشاعر العدالة، ولهذا يجب الأخذ في الاعتبار أن المصلحة العامة تقتضي تشجيع الأفعال المفيدة، وإحباط الأفعال الأخرى غير المفيدة. - الانضباط: باختصار هو المواظبة، والطاعة / الخضوع، والنشاط، مع احترام الضوابط التي تربط بين المؤسسة والأفراد المنتمين إليها، وفي الغالب نجد مشاعر الانضباط بشدة في التنظيمات ذات الطابع العسكري "الانضباط يصنع أساس قوة الجيش" . وحدة القيادة: لإنجاز عمل ما كيفما كان، فإن المستخدم لا يمكن أن يتلقى الأوامر إلا من قائد واحد. - وحدة الإدارة: هذا المبدأ يعتمد على: قائد واحد، وبرنامج واحد من أجل مجموعة من العمليات التي تسعى إلى نفس الهدف، إن جسدا برأسين هو في العالم الاجتماعي كما في عالم الحيوان عبارة عن وحش أو غول أو مسخ. - تبعية المصلحة الخاصة للمصلحة العامة: في أي تنظيم لا يجب تغليب مصلحة فرد أو مجموعة من الأفراد على مصلحة التنظيم، مثلما لا ينبغي تغليب مصلحة فرد من الأسرة على مصلحة الأسرة كاملة، تماما مثلما تكون مصلحة الدولة دائما أولى من مصلحة أحد مواطنيها أو مجموعة مواطنين. إن تغليب المصلحة الخاصة أمر بديهي، لكن أحيانا قد تعكس الأمر بعض العوامل الإنسانية، كالجهل أو الأنانية، أو الطمع، أو الكسل، أو الضعف، وكل الأمراض الإنسانية الأخرى، لهذا يتطلب الأمر صراعا دائما للدفاع عن المصلحة العامة. - مكافأة المستخدمين: مكافأة المستخدمين هي تعويضات المستخدمين لقاء العمل، إنها ثمن الخدمة المنجزة، ينبغي أن تكون معقولة، وإذا أمكن الأمر، أن تكون مرضية في الوقت نفسه للمستخدم وللتنظيم، وللمشغل والمشتغل. درجة اللامركزية: تتعلق بنوعية الأنشطة التي تمارس، وكثيرا ما تتوقف على وجود الفاعلين، مع العلم أن المركزية هي نزعة طبيعية في حد ذاتها، أي ليست إيجابية ولا سلبية. التراتبية: هي ضرورية، لكن لا يمكن أن تمنع عمليات التواصل الجانبية التي تتخذ صفة الممرات الناقلة للمعلومات. الأمر: يكون ماديا، ويكتسي في بعض الحالات صبغة اجتماعية وأخلاقية رغم أن تحقيقه يتطلب معرفة دقيقة ودراية شاملة بالحاجات والموارد الاجتماعية للتنظيم، لأنه يعتبر مصدر التوازن المستمر للحاجات والموارد. العدل / الإنصاف: هو تحصيل حاصل للعدالة والسهر على تطبيقها، واحترام كل الاتفاقيات والشروط الموضوعة سلفا، وبالتالي لا يمكن خرقها من أي طرف من الأطراف المتعاقدين عليها. الاستقرار: يعتبر استقرار الفاعلين من العناصر الأساسية لنجاح التنظيم ما دام الفاعل يحتاج إلى وقت لإنجاز المهام المسندة إليه، فعدم استقرار الفاعلين يعتبر من الظواهر المرضية التي تصيب التنظيم، لذا عليه أن يوفر/ يتوفر على عنصر الاستقرار. المبادرة: أحد عناصر الارتياح والرضا بالنسبة للفاعل الذكي، وتعتبر أحد المثيرات التي يجب تشجيعها لأنها تمنح ثقة عالية بالنفس. - الاتحاد: إن اتحاد العمال أو خلق جو من الاتحاد والتضامن بين الفاعلين يكون عنصر قوة التنظيم بفضل وحدة الأمر وتنمية/ تطوير التواصل الشفاهي الذي يتميز بالسرعة والوضوح والانسجام، عوض التواصل الكتابي الثقيل والبطيء . - إن قيمة التعويضات تكون أحيانا مستقلة عن إرادة التنظيم والمستخدمين، فهي تخضع لمجموعة من الإكراهات والظروف، إنها مرتبطة بالحالة العامة للأعمال، وبالوضعية الاقتصادية للتنظيم، وترتبط أيضا بالحالة الاقتصادية العامة للمحيط، وبقيمة المستخدم وندرته أو وفرة تخصصه... . إن العناصر التي تم ذكرها، تمكن التنظيم حسب فايول - من إحكام جيد وضبط علمي لمختلف العمليات الإدارية التي يستلزمها العمل الإداري، إلا أن جملة من الإكراهات الخارجة عن الإرادة، قد تقف عائقا أمام فعالية هذه التدابير العلمية الدقيقة، خصوصا تلك الصادرة عن المحيط، "فقيم التعويضات تكون أحيانا مستقلة عن إرادة التنظيم والمستخدمين، فهي تخضع لمجموعة من الإكراهات والظروف، إنها مرتبطة بالحالة الاقتصادية العامة للمحيط، وبقيمة المستخدم وقدرته أو وفرة تخصصه.." . فكلما كان المستخدم ذو تخصص نادر، كلما كانت كفته راجحة في مجال المفاوضات، وكلما كان تخصصه وتكونه متوفرا في السوق، كلما كانت كفته ضعيفة حيث يسهل الاستغناء عنه وتعويضه بغيره. إن تصور فايول هو الآخر - كما قلنا - ينتمي لمجال العقلانية الكلاسيكية، فلقد حاول التنظير لإدارة فعالة منظمة تنظيما علميا، وتتجه نحو حالة الدرجة الصفر من الخطأ، فبتحديده لمبادئ الإدارة، اعتقد فايول أنه يستطيع ضبط التسيير والقرار إلى أكبر درجة ممكنة إن لم نقل مطلقة. 3- حدود العقلانية الكلاسيكية: يمكن اعتبار المدرسة الكلاسيكية تنفرد بالفكرة الميكانيكية للإنسان في العمل، حيث نجد سياسة "العصى والجزرة" حاضرة بقوة لديها، أي الثواب والعقاب، وعلى العامل أو الموظف في التنظيم أن يعمل ولا يفكر، أي أن ينجز المهمة المنوطة به بأكبر دقة وفي أسرع وقت، وفي هذا الإطار كان تايلور يقول للعمال: "عليكم أنتم أن تعملوا فقط، فمن يفكر موجود خلف المكاتب". إن العقلانية الكلاسيكية (النظرية الكلاسيكية) ركزت كل مجهوداتها على اكتشاف الطريقة المثلى التي يمكن من خلالها تنظيم العمل بشكل علمي، لكن أهملت تفاصيل تطبيقها. فقد كانت هذه النظرية ترى أن مشاكل التنظيم كلها يمكن أن تحل إذا ما استطعنا البحث عن طريقة فعالة، لكن أهملت بذلك أن التنظيم هو جملة من الفاعلين الذين لهم عواطف ومشاعر وثقافات مختلفة، كما أن لكل منهم استراتيجيته الخاصة وأهدافه الخاصة التي غالبا ما تكون مضمرة ويعمل على تحقيقها على هامش أهداف التنظيم. كما أن النظرية الكلاسيكية اختزلت الإنسان في آلة بسيطة هي مجرد امتداد للآلات الميكانيكية، حيث الزعامة محدودة جدا . كل هذه العوامل جعلت النظرية الكلاسيكية التي قامت على أساس العقلانية المطلقة، تتعرض لانتقادات شديدة، خصوصا من طرف المذاهب اللاحقة التي ترى أن أصحاب هذه المدرسة كانوا مرتبطين ومنسجمين مع ظرفيتهم في بداية القرن العشرين، وبالشروط الاقتصادية والاجتماعية التي كانت شروط خاصة، ومختلفة عما هو الأمر عليه اليوم، كما أن التايلورية حسب هذه الانتقادات كانت سلبية أكثر مما هي إيجابية. صحيح أن التايلورية حققت نموا اقتصاديا باهرا، لكن خلقت تدمرا كبيرا في الجانب الإنساني، فقد كان الإنسان مجرد امتداد للآلة وتم اختزاله في عضلاته. فعلى الرغم من المجهودات المبذولة منذ ماكس فيبر في محاولة "برقرطة" العمل التنظيمي، إذ اعتبر البيروقراطية ما هي إلا حالة خاصة من عملية "العقلنة" التي اكتسحت نهاية القرن التاسع عشر ومطلع القرن العشرين، فقد اعتبر فيبر أن عقلنة البيئة الطبيعية، والبيئة الاجتماعية، أمر ضروري لتمكين الإنسان من السيطرة الفعلية على الطبيعة والمجتمع، فالبيروقراطية استبدلت أنواع التنظيم القديم، وأصبحت أعلى شكل تنظيمي يسير حياة الناس. وعلى الرغم من محاولة تايلور التحكم في عمل العمال وحركاتهم وسكناتهم داخل المعامل، أو محاولة هنري فايول تنظيم وضبط عمل الإدارة، على الرغم من كل هذا، فإن اهتمام العقلانية الكلاسيكية بقي منصبا فقط على محاولة التحكم في السلوك الإنساني وتوجيهه، مهملة بذلك الاستراتيجيات الخاصة بالأفراد، وهوامش حريتهم إلا أن نقدنا هذا لا يعني سلب هذه المدرسة الرائدة شرف مساهمتها الفعالة، أولا في وضع اللبنات الأولى لعلم الإدارة وتسيير التنظيمات، وثانيا، فتح المجال أمام النظريات التي أعقبتها، من أجل فهمها أولا ومحاولة تجاوزها بعد ذلك. ولعل أبرز النظريات التي تلتها، كانت تلك التي تبنتها مدرسة العلاقات الإنسانية، والت عرضناهافي مقال معنون بالعلاقات الإنسانية من الإنسان الآلة إلى إنسان العواطف.
#إدريس_الخلوفي (هاشتاغ)
Lakhloufi__Driss#
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
التحليل الكيفي عبر التنظير، نحو أفق منهجي جديد للسوسيولوجيا
-
المنظومة التربوية وإشكالية الجودة
-
مدرسة العلاقات الإنسانية: من الإنسان الآلة إلى إنسان العواطف
المزيد.....
-
تحقيق CNN يكشف ما وجد داخل صواريخ روسية استهدفت أوكرانيا
-
ثعبان سافر مئات الأميال يُفاجئ عمال متجر في هاواي.. شاهد ما
...
-
الصحة اللبنانية تكشف عدد قتلى الغارات الإسرائيلية على وسط بي
...
-
غارة إسرائيلية -ضخمة- وسط بيروت، ووسائل إعلام تشير إلى أن ال
...
-
مصادر لبنانية: غارات إسرائيلية جديدة استهدفت وسط وجنوب بيروت
...
-
بالفيديو.. الغارة الإسرائيلية على البسطة الفوقا خلفت حفرة بع
...
-
مشاهد جديدة توثق الدمار الهائل الذي لحق بمنطقة البسطة الفوقا
...
-
كندا.. مظاهرات حاشدة تزامنا مع انعقاد الدروة الـ70 للجمعية ا
...
-
مراسلتنا: اشتباكات عنيفة بين -حزب الله- والجيش الإسرائيلي في
...
-
مصر.. ضبط شبكة دولية للاختراق الإلكتروني والاحتيال
المزيد.....
-
كتاب رينيه ديكارت، خطاب حول المنهج
/ زهير الخويلدي
-
معالجة القضايا الاجتماعية بواسطة المقاربات العلمية
/ زهير الخويلدي
-
الثقافة تحجب المعنى أومعضلة الترجمة في البلاد العربية الإسلا
...
/ قاسم المحبشي
-
الفلسفة القديمة وفلسفة العصور الوسطى ( الاقطاعية )والفلسفة ا
...
/ غازي الصوراني
-
حقوق الإنسان من سقراط إلى ماركس
/ محمد الهلالي
-
حقوق الإنسان من منظور نقدي
/ محمد الهلالي وخديجة رياضي
-
فلسفات تسائل حياتنا
/ محمد الهلالي
-
المُعاناة، المَعنى، العِناية/ مقالة ضد تبرير الشر
/ ياسين الحاج صالح
-
الحلم جنين الواقع -الجزء التاسع
/ كريمة سلام
-
سيغموند فرويد ، يهودية الأنوار : وفاء - مبهم - و - جوهري -
/ الحسن علاج
المزيد.....
|