|
مصر و عصور إضمحلالها (13 )
محمد حسين يونس
الحوار المتمدن-العدد: 7281 - 2022 / 6 / 16 - 08:38
المحور:
دراسات وابحاث في التاريخ والتراث واللغات
الجزء السادس من المقال الثالث .((.دينا و دينهم ...هزيمة الإنكشارية.. و بونابرتة في مصر )) إسلامنا كمصريين ( قبل الهجمة الوهابية الحديثة ) دين هاديء آمن متسامح مع الأديان الأخرى وقور لا فضل لعربي فيه علي أعجمي الا بالتقوى ...الناس سواسية كأسنان المشط .. يشد بعضهم بعضا كالبنيان المرصوص ..يتمتعون بتعاطف وتساند صوفي فيما بينهم. أسس العقيدة عند المصرى إطاعة اللة و رسولة و أولي الأمر.. ولا إكراه في الدين ..والوفاء بالعهود والمواثيق و إحترام الأكبر في السن و المقام من رجال العلم والقضاة . الإسلام كما فًهم في مصر هو حسن ( المعاملة بين الناس) و حب لاخيك ما تحب لنفسك ..و توقير الأم .. و الصدقة المخفية للفقراء و المساكين..والتعامل الفاضل مع النساء و الأطفال .. و كان المصرى المسلم يكره البغي و العدوان و العنف و الخيانة و الإغتياب ويصبرعلي المكاره وجار السوء ، ويضحي من أجل إستقرار الأسرة و القرية و المجتمع بكل غالي بما في ذلك صحته و حياته . إسلوب قراءة القرآن بالقراءات السبع ، و رفع الأذان بالنغم و التسبيح..و تكبيرات العيد و زيارة القبور في الخمسان و الأربعين والإلتجاء إلي الأولية في العسر و اليسر ..و إحتفالات الطرق الصوفية بالموالد و رؤية الهلال .. وسهرات ليالي رمضان و الإعتكاف ..وإنشاد المداحين للسيرة النبوية ..كلها لها بصمة خاصة تختلف فيها مصر عن باقي بلاد المسلمين. بكلمات أخرى الدين الاسلامي في مصر يحمل ملامح أضفاها عليه شعب عميق الإيمان .. يقبل بالقانون و يحترم ( ماعت ) ..ويخاف الله سبحانه و تعالي ويوم الحساب ..ويأمل أن تحسن خاتمته بأعمال صالحة في دنياه.فيعيش ناعما مخلدا في الجنة سلوكيات توارثها عن القدماء ..فإمتزجت و تداخلت .. مع تعاليم الإسلام لتعطية مذاقا خاصا وسطيا . جاء تعبيرا عن قراءة الزارع المحب المسالم لدين يحض علي مكارم الأخلاق .و يسعي إليها .
وهو بذلك يخالف قراءة أبناء الصحراء الذين يقوم الدين لديهم علي العنف و الحرب و القتال والسبي والحصول علي الغنائم و التعصب ضد القبائل الأخرى..و كل ما رأينا طالبان و داعش و القاعدة تنفذة علي مواطنين في القرن الحادى و العشرين بما في ذلك حرق طيار أردني حيا .. أو إستعباد جنسي للسبايا ..أو تدمير أثارالكفار في سوريا و العراق .
ما السبب في تباين القراءات الدين نشاط بشرى يصنف كجزء من البناء الفوقي الذى يحكم المجتمعات .. مثله مثل الفلسفة و العلوم و الفن و الأخلاق و القوانين و أنماط السلوك كالعادات و التقاليد وكل ما يتصل بالثقافة الإنسانية الحقوقية و السياسية و الإجتماعية . التي تأتي كلها كإنعكاس للبناء التحتي ((مجمل علاقات الإنتاج التي تشكل الهيكل الاقتصادي للمجتمع)). أو ما يزاوله الناس من عمل مثل الرعي والزراعة و الصناعة .. والتجارة .. و غيرها من الأنشطة اليومية . بمعني أن ما يقوم بإنتاجة المجتمع (بناء تحتي ) .. ينعكس علي (البناء الفوقي.).الفكر و الوعي و الهؤية الدينية.. و ليس العكس .. فالدين لا يغير مهن الناس و يطورها .. بقدر ما يتغير بسبب تأثير هذه المهن ترتيبا علي هذا نستطيع القول أن المسلمين لم يكونوا متشابهين ولم يوجد ما يجمعهم أو يوحدهم ..بنفس القدر الذى نجده يجمع أبناء الصناعات المختلفة . ( الفلاحون .. التجار .. و الجنود.. والصناع وعمال البناء و الحرفيون) و أن الإسلام في مصر.. أخذ بمرور الأيام شكلا .. و طقوسا ..تتفق مع التقاليد القديمة لمجتمعها الزراعي .. رغم أنه قادم من مجتمع بدوى رعوى تناحرى تجارى . و لذلك كان المصريون في تدينهم أقرب لطبيعة سكان البلاد الخضراءالمستقرين ( بين النهرين و سوريا الكبرى و الهند) .. عن سكان البلاد الصفراء الرحل .. فحدثت فجوة إستمرت بينهم و بين الغزاة من الرعاه لازالت قائمة لم تفلح وحدة الدين من تذليلها ولا دولارات السلفيين الوهابيين من عبورها علي ضوء هذا التناقض ( بين قراءة الزراع للدين و قراءة البدو لنفس الدين ) إزداد الطين بللا فبعد أن كان المصريون يعانون من البدو العرب والمماليك ( غير الزراع ) ومن قهرهم و جنونهم و عبثهم و تعصبهم ..جاءت من بلاد إبن عثمان جيوش ( بدوية أخرى ) غازية لمصر .. تنافس في التنبلة من يستهلكون بدون عمل.. ما ينتجه المصريون قصة حكم الاتراك لمصر .. ليست شيقة أو ذات أحداث مهمة .. فهم كبدو لم يكن لديهم ما يقدمونه ( مثلهم في ذلك مثل الهكسوس و العرب) لشعب أكثر تحضرا إلا المزيد من الحرب والإرهاب و العنف والإزدراء و الجشع في تحصيل الثروة . و كانوا يتعالون علي المصريين بحيث أصبحوا كالماء و الزيت في وعاء واحد يتجاوران .. و لايختلطان حتي في الطبقات العليا . ثلاثة قرون مضت علي نفس الوتيرة .. كلها صراع علي ناتج عمل الفلاح بين من يحملون السلاح ويقدرون علي القتال من الأتراك و المماليك و بدوالعرب ..و كل الاطراف تنهك و تستغل المصرى المستأنس في سلوكيات و تقاليد وفكر و دين الزارع السلطان سليم الأول لم يكن يعنى بخصوصية مصر فهي في نظره قطر مثل باقي الأقطار المحتلة التي لا يعمل علي تقدمها بقدر اهتمامه بربطها بعجلة الإمبراطورية العثمانية واستنزاف مواردها وابتزاز أموال أهلها . وينقل عن ابن إياس أن سليم الأول أمر بجمع ألفين من المصريين من رجال الحرف والصناعات وكبار التجار والقضاة والأعيان والأمراء، وأرسل بهم للقسطنطينية ليصنعوا له هناك دولة .. (( كما عمد العثمانيون مع بداية ولايتهم لنزع ما فى بيوت مصر والقاهرة وأثمن ما فيها من منقول وثابت، حتى الأخشاب والبلاط والرخام والأسقف المنقوشة ومجموعة المصاحف والمخطوطات والمشاكى والكراسى النحاسية والمشربيات والشمعدانات والمنابر)) وهكذا هناك ما يشبه الإجماع بين المؤرخين على أن مصر دخلت بالغزو العثمانى طور الكمون والسبات العميق لمدة ثلاثة قرون... كان القانون فيها فرق تسد و حيازة الكتب ( المخطوطات ) أحد الكبائر و الموبقات .. و تحصيل الضرائب في تزايد .. و تراجع في مجمل الإنتاج القومي بما في ذلك التناسل فقد كان عدد المصريين خلال القرن الثامن عشر من (2 – 5 مليون) فرد و ظلوا علي هذا الحال تحصدهم الأوبئة و الحروب و سوء المعيشة قرنين حتي 1950 عندما أصبحوا 20 مليون . قصرالعثمانيون الوظائف الإدارية على الأتراك و الجركس فانحط بالتالي المستوى الاجتماعى لمن دونهما إلا من تحول ليصبح رجل دين او قاض . وشاع الاعتقاد فى السحر والخرافات، وراجت أسواق المشعوذين والدجالين، وقلّ ظهور العلماء وتوارت اللغة العربية نتيجة استخدام اللغة التركية كلغة رسمية للبلاد.. وانعكس التراجع السياسى والاقتصادى على الجوانب الثقافية أيضًا، فعندما خرج سليم الأول من مصر سرق المخطوطات من المدارس والمساجد، و تركها خالية من مصادر العلم لتبقي علي تخلفها و يسهل قيادتها . و رغم أنه قامت إنتفاضات شعبية ضد الأتراك اخرها التي جاءت بمحمد علي للحكم 1805 م إلا أن الحال لم بتحسن وتأت بمصرى مثل ( عمر مكرم ) ليصبح حاكما . و هكذا بعد القرن السابع(600 م ) حكم البدو مصر لثلاثة قرون ونصف .. والفاطميون لقرنين .. و العبيد المماليك لثلاثة قرون .. والانكشارية العثمانية ثلاثة قرون اخرى كانت الأظلم و الاكثر إنحطاطا . بمعني الف سنة ضياع تضاف لالف سابقة في زمن الجريكو رومان لتطول فترة الفقد و تتباعد الصلات مع زمن النهوض و السبق لالفين سنة ختمت بها القرن الثامن عشر.. ليبدأ إلاحتلال الاوروبي بالحملة الفرنسية فيجدنا غفل بعيدون عن العصر بصورة مؤسفة .
كانت البداية كوميديا سوداء ..لقد إدعي سليم الاول (مثل كل الغزاة ) بعد أن هزم أخر ملوك المماليك (قنصوة الغورى) في (مرج دابق) .. أن الشعب المصرى يتوق لكرابيج الانكشارية بعد أن مل النبابيت المملوكية المتحكمة في الشارع... وأن عرب غزالة وهوارة و بني عدى وغيرهم أستنجدوا به لانقاذهم من جور المماليك. ثم أنه عندما عرض علي (طومان باى) الخضوع ودفع الجزية أبي هذا ،ولكن بعد فترة وبسبب الخيانة ومساعده بعض شيوخ القبائل إستطاع (سليم الاول) 1517 م أسر(طومان باى ) و تعليقه علي باب زويلة فإحتل مصر ثم نهب المتوفر من ثروات المماليك وفرغ البلد من كريمة الصناع والحرفيين المهرة وسلمها خرابا لجاسوسة الخائن خاير بك قائلا ((أعطيتك هذه المملكة اقطاعا لك الي ان تموت )) عندما نتأمل ما حدث بين العثمانين و المماليك .. نجدة قتالا بين عصابات غريبة عنا كمصريين.. أتراك و جراكسة ( ذئبان يتصارعان ) من نفس الفصيلة ..و لا نجد لنا دور.. إلا كضحايا للمنتصر منهم .. يصورون وهم يقرأون الفاتحة ثلاث مرات أمام جثة طومان باى المعلقة علي باب زويلة كوصيته . أو يهللون وهم يشاهدون عاركة بين أنصار مملوك شق عصا الطاعة علي خاير بك و رجال البك يؤدبونه أو يلتفون حول عمر مكرم و مشايخهم في مواجهة علي بك الكبير مؤيدين تنصيب محمد علي 1805 م أو وهم يسوقهم مقاولو الأنفار لصناديق الإقتراع في 2019 م فيقولوا نعم - لقاء بضع جنيهات - مؤيدين إستمرار حكم الرئيس طول حياته . دور هامشي مستمر حتي اليوم يشغل فيه المصريون مكان الكومبارس السياسي الصامت .. قانعا بالفتات ..كما لو كان قدرا علية أن يتحمل طول تاريخة هذا التجاهل و الإبعاد (( بعد استيلاء العثمانيون على مصر بدأ السلطان سليم الأول فى وضع نظام جديد للحكم وهو النظام الذى طبق لنحو ثلاثة قرون متعاقبة تلخص فى وجود سلطتين تتنازعان وتراقب كلا منهما الأخرى الأولي سلطة نائب السلطان أو الوالي العثماني ويلقب بالباشا ومقره القلعة وكانت مدة ولايته سنة تنتهي ما لم يصدر فرمان بتجديدها لسنة أخرى والسلطة الثانية سلطة رؤساء الجند وهم قواد الفرق التي تركها سليم الأول بمصر بعد مغادرته وكانت تتألف من نحو اثني عشرألفا جندى منتظمين فى ست فرق تسمي كل فرقة ( وجاق )أشهرهم وجاق (الإنكشارية ) كما تم وضع نواة لسلطة ثالثة وهى سلطة البكوات المماليك والذين تم تعيينهم لإدارة أقاليم مصر . إلا أن النظام الذى وضعه السلطان لم يستمرطويلا فقد بدأ التنازع والحروب بين الأطراف الثلاثة وانتهز المماليك هذه الفرصة وعملوا على الانفراد بالحكومة بمرور الوقت انتهي الأمر إلى تغلب سلطة المماليك البكوات فى النصف الثاني من القرن السابع عشر وساعدهم فى ذلك ما صارت إليه السلطنة العثمانية من الضعف بسبب حروبها المتواصلة واختلال الشئون الداخلية وفساد الحكم كما زاد من نفوذ البكوات المماليك كثرة تغيير الولاة العثمانيين وعزلهم فضعف شأنهم وتراجع نفوذهم فى حين أن المماليك احتفظوا بعصبيتهم بشرائهم العديد من الجند والاتباع واستمالوا أفراد الوجاقات الذين استوطنوا مصر واستقروا بها . فلنقرا ماذا كتب الدكتور احمد عبد الرحيم في مقدمة كتابه عن الجبرتي (( ثم طرأت عدة عوامل كان لها أثرها في غروب شمس الحضارة عن المنطقة ليس فقط في مصر بل في قواعدها الاخرى بالمشرق و المغرب فلقد إستهلكت الحضارة العربية حيويتها ثم تأثرت تأثرا بالغا بتحول طرق التجارة من مصر والمشرق العربي الي رأس الرجاء الصالح و في النهاية وقعت الكتلة العربية في المنطقة في أيدى الاتراك العثمانيين الذين أثروا لاسباب عسكرية و دينية أن يعزلوا ملكهم عن العالم الخارجي ... حدث كل ذلك في الوقت الذى عرفت فيه اوروبا النهضة و الاصلاح الديني وظهور الملكيات الحديثة التي خصخصت الاقطاع و تحالفت مع الطبقة الوسطي لتدعم الدولة الحديثة مصطنعة أساليب مستجدة تقوم علي وسائل الكشف و الاختراع ))
((كانت مصر حتي الحملة الفرنسية لا تزال غارقة في سبات العصور الوسطي إلي أن أذنت الحملة برجوعها الي المشاركة في الفكر العالمي و الفارق كبير بين العقلية الاوروبية التي مثلتها الحملة وبين العقلية الشرقية التي واجهتها في مصر المملوكة للعثمانيين بمقدار الفارق الزمني الذى قطعناه في تأخر وقطعته اوروبا في تقدم ))
الشعب المصرى المقهور المضطهد لم يعد قبطيا ( مسيحيا ) فالبعض منه في رأى الحكام كانوا أقباطا (مسلمين ) زاد عليهم من بقي من أحفاد الرومان و اليونان و اليهود الذين إستوطنوا البلاد كسادة فأصبح أحفادهم من الرعاع و السوقة و الدهماء مثلنا.. هؤلاء إختلطوا فيما بينهم و كونوا بداية النسيج المجتمعي المعاصر الذى إستمر بعد ذلك ... بمعني كان الشعب المصرى خليطا من أجناس مختلفة أما أبناء القبائل العربية التي أزاحها المماليك فقد زاد تحوصلهم و بعدهم في نطاقات أمنية خارج المدن بجوار الصحراء .. و كان بينهم و بين المماليك ( ثم الفرنسيين وأبناء محمد علي ) حروبا حتي يندر أن نجد حاكما لمصر لم يخرج التجاريد لتأديبهم.. إلا أنهم رغم القسوة التي عوملوا بها لم يلينوا و لم يستسلموا و ظلوا محافظين علي علاقاتهم القبلية حتي اليوم .. يرأسهم مشايخ يدينون لهم بالطاعة و يزاولون أعمال تقليدية من رعي و حراسة و سطو و نهب وقطع طرق خاصة علي قوافل الحجاج .. و زاد عليهم حاليا التجارة في الممنوعات و المخدرات .
تنتهي فترة الإضمحلال الرابعة بالغزو الفرنسي لمصر (يوليو 1798 – 2 سبتمبر 1801).. و حكمها حتي بزوغ القرن التاسع عشر ..لمدة (3 سنوات، و2 شهور، و1 يوم).. وعودة الأتراك و المماليك لأربع سنوات أخرى ..ثم تولي أسرة (محمد علي) الحكم في 1805 م
علقت مصر في مخاضة التخلف العثماني المملوكي .. إبتعدت و أهلها عن التطور السريع الذى يحدث في العالم حولها .. و التقدم الفلسفي و الأخلاقي و التكنولوجي الدائر في أوروبا .. حتي أنهم يدعون أن الفرنسيين بإحتلالهم مصر اعادوا إكتشاف العجلة .. المصريون (أو العقلاء منهم ) أصابهم الذهول من الفارق بين الحكمين (العثماني ) و (الفرنسي) . ترجم الجبرتي هذا الذهول في (( عجائب الاثار في تراجم الاخبار )) فهو عندما يكتب عن قوات إبراهيم و مراد بك التي حاربت الفرنسيين يقول : ((الاجناد متنافرة قلوبهم ،منحلة عزائمهم ،خائرة ،مختلفة أراؤهم ،حريصون علي حياتهم وتنعيمهم و رفاهيتهم ،مختالون في ريشهم ،معتزون بجمعهم، محتقرون شأن عدوهم ،مرتبكون في رؤيتهم ،مغمورون في غفلتهم وهذا كله من أسباب ما وقع من خذلانهم وهزيمتهم )). . وعندما كتب عن الفرنسيين قال ((حتي أسافلهم من العساكر إذا حضر إليهم بعض المسلمين ممن يريدون الفرجة لا يمنعون الدخول إلي أعز أماكنهم و يتلقونه بالبشيشة والضحك وإظهار السرور بمجيئه اليهم خصوصا إذا رأوا فيه قابلية اومعرفة او تطلعا للنظر في المعارف بذلوا له كل مودتهم ومحبتهم ويحضرون له أنواع الكتب المطبوع بها أنواع التصاوير وكرات البلاد و الاقاليم و الحيوانات و الطيور والنباتات وتواريخ القدماء وسير الامم وقصص الانبياء )) الجبرتي هنا يتكلم عن المجمع العلمي الذى وصف بالتفصيل أسلوب إنشائه و عملة و فائدته .. و الذى جرى حرقه ونهب محتوياته بعد ذلك أثناء أحداث 25 يناير 2011. فلنستكمل حديث الجبرتي ..لا.. فلنؤجله قليلا حتي نعرف كيف رأى بونابرت و جنوده القاهرة و الناس بعد ثلاثة قرون من كابوس تحكم الانكشارية كتب نابليون الي حكومة الادارة يوم وصل مدينة القاهرة الاسطورية ((إن القاهرة التي يسكنها ثلاثمائة الف نسمة تضم أقبح ما تضم مدينة من غوغاء علي أنهم إن لم يكونوا الاقبح فعلي الاقل أكثر الناس تعددا في الوان البشرة إنهم يتفاوتون بين النوبي الاسود الي الجركسي ناصع البياض و كان المصرى العادى ( اى كان لونه ) يعلو بمقدار قامة علي الفرنسي العادى ويرتدى ثيابا أزهي من ثيابه وله سحنة تنذر بقطع الرقاب سواء عبست او إبتسمت مع أنها تخفي نفسا في غاية الرقة و اللطف )).. هذا عن البشر اما المدينة (( فهي غير جديرة بسمعتها الطيبة ،قذرة ،رديئة المباني ،تملؤها الكلاب البشعة .. ماذا تجد عند دخولك القاهرة .. شوارع ضيقة قذرة غير مرصوفة وبيوتا مظلمة متداعية وأبنية عامة تبدو كما لو كانت سجونا وحوانيت أشبه بمرابط الخيل و جوا عبقا بالتراب و القمامة وعميان وعور ورجال ملتحين وأشخاص يرتدون اسمالا محشورين في الشوارع او قاعدين يدخنون قصباتهم كالقردة امام مدخل كهفهم ونساء قليلات منكرات الصورة مقززات يخفين وجوها عجفاء وراء خرق نتنه ويبدين صدورا متهدلة من اردية ممزقة وأطفال صفر الوجوه رقاق الاجساد ينتشر الصديدعلي جلدهم و ينهشهم الذباب ، ورائحة كريهه منبعثة من الاوساخ داخل البيوت و من التراب والهواء الاسن من قلي الطعام بزيت ردىءفي الاسواق عديمة التهوية فإذا ما فرغت من التفرج علي معالم المدينة عدت الي منزلك فوجدته خاويا من كل اسباب الراحة ووجدت الذباب و البعوض وضروبا لا تحصي من الحشرات لتتسلط عليك أثناء الليل فتنفق ساعات الراحة و انت تسبح في عرقك )) ماذا عن الأسكندرية .. كتب أحد الجنود عن مشاهداته بها. (( اطلال المدن لا يحتفظ بها سليمه مثل البتراء و بمومبي إلا عندما يتغلب الموت علي سكانها .. أما الاسكندرية فلم يغلبها الموت رغم مرورها باوقات عصيبة ... الشوارع قذرة غير مرصوفة مقفرة الاشجار و لكن بها مساجد واسواق وناسا .. عدا الاغنياء الذين يختبئون في دورهم خائفين من الفرنسيين )). كتب جوبير لاخيه (( إنك ترى في الاسواق الخراف و الحمام و التبغ ثم عدد من الحلاقين يضعون رءوس زبائنهم بين ركبهم كانهم يستعدون لقطعها لا حلقها و لكنهم في غاية الخفة و المهارة و كانت النساء قليلات في الشوارع إلا نساء الطبقة الدنيا اللائي أثار منظرهن نفور الفرنسيين و كن يرتدين جلبابا واحد أزرق في العادة قذرا دائما و يسرن حافيات الاقدام عاريات السيقان و يلطخن حواجبهن بالكحل و أظافرهن بالحناء و يكشفن في مرح أى عضو من أعضائهن إلا وجوههن ..أما الاطفال فعراه )) لقد كانت دهشة للفرنسيين أن يجدوا أسكندرية غير هلينستية الشكل و السكان .. بعد إحتلال بدوى طويل. في المقابل الجبرتي كتب واصفا الفرنسيين ((كانوا يعطون الرجال زيادة عن أجرتهم المعتادة ويعفونهم بعد الظهر من العمل ويستعينون في الاشغال بالالات القريبة المأخذ السهلة التناول المساعدة في العمل و مقلله في التكاليف )) ما إندهش له الجبرتي انهم ((قتلوا ثلاثة أنفار من الفرنسيس بندقوا عليهم بالرصاص في الميدان تحت القلعة قيل انهم من متسلقي الدور)) اى اللصوص .. وان ((نابليون إقتص من عسكره الذين اساءوا بمنزل الشيخ محمد الجوهرى وقتل منهم إتنين بقراميدان وأنزل منهم من مقامهم العالي الي أدني مقام ..لان الخيانة ليست من عادة الفرنسيس خصوصا مع النساء و الارامل فان ذلك قبيح عندهم لا يفعله الا كل خسيس )). عظيم .. ثم حكي عن ما فعله الفرنسيون في قاتل كليبر ( سليمان الحلبي) ((ألفوا في شأن ذلك أوراقا ذكروا فيها صورة الواقعة وكيفيتها وطبعوا منها نسخا كثيرة باللغات الثلاث الفرنساوية والتركية والعربية... لتضمينها خبر الواقعة وكيفية الحكومة (إصدار الحكم)، ولما فيها من الاعتبار وضبط الأحكام من هؤلاء الطائفة (الفرنسيين) الذين يحكمّون العقل ولا يتدينون بدين، وكيف وقد تجارى على كبيرهم ويعسوبهم رجل آفاقي أهوج وغدره وقبضوا عليه وقرروه (جعلوه يعترف)، ولم يعجلوا بقتله وقتل من أخبر عنهم بمجرد الإقرار بعد أن عثروا عليه)).
الفرنسيون رغم ما بدى من تحضرهم إلا أنهم دخلوا الأزهر بخيلهم .. و ضربوا أهل القاهرة بمدافعهم وعذبوا و قتلوا سليمان الحلبي بإسلوب لا يقل بشاعة عنما يفعله المماليك و العثمانيون و إعتمدوا في معيشتهم بمصر علي ما حصلوه من ضرائب. وغنائم كمستعمرين نختم الحديث بما جاء بكتاب بونابرتة في مصر... (كريستوفر هيرولد ) .. عن منشورين كتبهما نابليون .. احدهما لجنوده .. و الأخر للمصريين (( أيها الجنود.. إنكم موشكون علي فتح له آثار بعيدة المدى في حضارة العالم و تجارته و ستطعنون إنجلترا طعنة تؤذيها لا محال في أضعف مواطنها إنتظارا لليوم الذى سوف تسددون فيه إليها الطعنة القاتلة .. إن القوم الذين سنعيش معهم مسلمون و عقيدتهم هي (لا إله إلا اللة محمد رسول الله ) فلا تعارضوهم و إسلكوا معهم كما سلكتم مع اليهود في الماضي والايطاليين و إحترموا شيوخهم و ائمتهم كما إحترمتم شيوخ اليهود و أساقفة المسيحيين ... وأظهروا من التسامح نحو الشعائر التي يقضي بها القرآن و نحو المساجد مثلما أظهرتم نحو الاديرة و مجامع اليهود و نحو ديانة موسي و المسيح . ستجدون هنا عادات تختلف تمام الاختلاف عن العادات الاوروبية فلابد أن تروضوا أنفسكم عليها .,..إن أهل البلد التي سندخلها يعاملون نساءهم معاملة مختلفة و لكن الرجل الذى يهتك عرض إمرأة يعتبر في جميع البلاد وحشا . أما السلب و النهب فلا يثرى منه إلا الاقلون وهو يجللنا بالعار و يقضي علي مواردنا و يثير علينا عداء الشعب الذى ننشد صداقته . إن أول مدينة سنشهدها بناها الاسكندر و سنجد في كل خطوة أثار أعمال جديرة بأن ينسج الفرنسيون علي منوالها )).
و لك أن تتخيل منشورا مماثلا كتبه المأمون و هو يعيد غزو مصر و ينهبها أو صلاح الدين و هو يرجعها عن الشيعية الفاطمية لتصبح سنية أو سليم الأول و هو يسرق أثارها و مخطوطاتها .. لنعرف الفارق بين الشرق و الغرب حتي في الإستعمار .
منشور كتبه نابليون يخاطب المصريين (( بسم الله الرحمن الرحيم لا إله إلا الله لا ولد له و لا شريك في ملكه ..من طرف الفرنساوية المبني علي أساس الحرية و المساوة.. السر عسكر الكبير أمير الجيوش الفرنساوية بونابرته يُعرف أهالي مصر جميعهم أن من زمان مديد يتسلط الصناجق في البلاد المصرية ..يتعاملون بالذل و الاحتقار في حق الملة الفرنساوية و يظلمون تجارها بكل أنواع الايذاء و التعدى..فحضرت الان ساعة عقوبتهم .بعد أن اخرناها من عصور طويلة هذه الزمرة من المماليك المجلوبين من بلاد الابازة والجراكسة يفسدون في الاقليم الحسن ..الاحسن الذى لا يوجد في كرة الارض كلها (مثله ) (لذلك ) فرب العالمين القادر علي كل شيء قد حكم علي إنقضاء دولتهم .يا أيها المصريون.. قد قيل لكم أنني ما نزلت بهذا الطرف إلا بقصد إزالة دينكم ، فذلك كذب صريح فلا تصدقوه وقولوا للمفترين أنني ما قدمت إليكم إلا لاخلص حقكم من يد الظالمين و إنني أكثر من المماليك عبادة لله سبحانه و إحتراما لنبيه و القرآن العظيم . و قولوا أيضا لهم أن جميع الناس متساوون عند الله و أن الشيء الذى يفرقهم عن بعضهم هو العقل و الفضائل و العلوم . بين المماليك والعقل و الفضائل تضارب( تضاد ) فماذا يميزهم عن غيرهم حتي يتوجب لهم أن يتملكوا مصر وحدهم . ويختصوا بكل شيء حسن فيها من جوارى حسان و خيل عتاق ومساكن مفرحة.. فإذا كانت الارض المصرية التزاما للماليك فليرونا الحجة التي كتبها الله لهم . رب العالمين رؤوف و عادل و حليم و بعونه تعالي من الان فصاعدا لا ييأس أحد من أهالي مصرعن الدخول إلي المناصب السامية و عن إكتساب المراتب العالية فالعلماء و الفضلاء و العقلاء بينهم سيدبرون الامور وبذلك يصلح حال الامة كلها. لقد كان بمصر من قبل المدن العظيمة و الخلجان الواسعة و المتجر المتكاثر و ما أزال ذلك كله إلا الظلم و الطمع من المماليك . أيها المشايخ و القضاة و الائمة و الجرابجية (الاعيان ) قولوا لامتكم أن الفرنساوية هم أيضا مسلمون مخلصون و إثبات ذلك أنهم قد نزلوا في روما الكبرى و خربوا فيها كرسي البابا الذى كان دائما يحث النصارى علي محاربة الاسلام . ثم قصدوا جزيرة مالطا وطردوا منها الذين كانوا يزعمون أن الله تعالي يطلب منهم مقاتلة المسلمين .. و مع ذلك فالفرانساوية في كل وقت من الاوقات كانوا محبين مخلصين (لحضرة ) السلطان العثماني و أعداء لاعدائه (أدام الله ملكه ) و لان المماليك إمتنعوا عن طاعة السلطات غير ممتثلين لامره فما أطاعوا أصلا إلا لطمع انفسهم . طوبي ثم طوبي لاهل مصر الذين يتفقون معنا بلا تأخير فيصلح حالهم و تعلي مراتبهم. طوبي للذين يقعدون في مساكنهم غير مائلين لاحد من الفريقين المتحاربين فإذا عرفونا أكثر تسارعوا إلينا بكل قلب . الويل كل الويل للذين يعتمدون علي المماليك في محاربتنا فلا يجدون بعد ذلك طريقا للخلاص و لا يبق منهم أثر . تحريرا بمعسكر الاسكندرية في 13 شهر سيدور سنة1213 من إقامة الجمهور الفرنساوى شهر محرم سنة هجرية))
كتب المندوب البحرى جوبير إلي وزير البحرية (( لعلكم أيها الباريسيون تضحكون و لكنه لم يعبأ بكل سخريتنا من المنشور و لا شك أنه محدث أثرا كبيرا )) وبعد إصدار المنشور بيومين كتب الجنرال ديزيه من قريةعلي حافة الصحراء يطلب مزيدا من النسخ قائلا أنه يحدث تأثيرا كبيرا لقد تلاعب نابليون .. كما فعل الإسكندر و قمبيز .. بالمشاعر الدينية للمصريين ليبرر لهم الغزو . ما حدث اثناء تواجد الفرنسيون بمصر موجود في الكتب و المراجع ..كذلك ثورتي القاهرة و إغتيال كليبرو عقاب قاتله ..و زواج مينو بمصرية من رشيد .. و ضرب الإسطول الفرنسي في أبوقير .. و حبس القوات في مصر .. و لكن ما يهمني أن الغزاة عندما قدموا كان معهم العلماء و الفنانين .. الذين درسوا و رسموا كل شبر في مصر في نهاية القرن 18.. و حفظوه لنا في كتاب (( وصف مصر )) . ثم أنهم بذلوا جهودا لم يكن يبذلها غيرهم لفك طلاسم الهيروغليفية و الديموطيقة .. فانطقوا الحجارة و أوراق البردى و جعلوا تاريخ مصر يقرأ كما دونته في الأحاديث السابقة .. بعيدا عن تخاريف مخطوطات العرب عن الملكة دلوكة و برابيها و سحرها . . الغزو القرنسي رغم قصر مدته إلا أنه كتاب لابد من قراءته جيدا .. فهو اللحظة التي بدأت تشرق الأضواء الأولي للفجر علي شعب مصر.. (نكمل حديثنا في الجزء السابع من المقال الثالث )
#محمد_حسين_يونس (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
مصر و عصور إضمحلالها (12 )
-
مصر و عصور إضمحلالها(11)
-
مصر و عصور إضمحلالها(10)
-
مصر و عصور إضمحلالها(9)
-
مصر و عصور إضمحلالها(8 )
-
مصر و عصور إضمحلالها(7)
-
مصر و عصور إضمحلالها(6 )
-
مصر و عصور إضمحلالها( 5)
-
مصر و عصور إضمحلالها(4).
-
مصر و عصور إضمحلالها(3)
-
مصر و عصور إضمحلالها.(2)
-
مصر و عصور إضمحلالها. (1)
-
كائنات بدون ذاكرة ..خيبات مايو
-
أحزان ما بعد الماتش .
-
عقل جامح و فكر غير معتاد
-
الموازنة .. عجز وقروض وضرائب.
-
الحوار -غير- المتمدن في مصر .
-
أمركة المجتمع بعد فشل الهبة
-
لمن أتكلم ..الخطيئة لا حد لها .
-
الوقوع في مصيدة التفاهه
المزيد.....
-
الأنشطة الموازية للخطة التعليمية.. أي مهارات يكتسبها التلامي
...
-
-من سيناديني ماما الآن؟-.. أم فلسطينية تودّع أطفالها الثلاثة
...
-
اختبار سمع عن بُعد للمقيمين في الأراضي الفلسطينية
-
تجدد الغارات على الضاحية الجنوبية لبيروت، ومقتل إسرائيلي بعد
...
-
صواريخ بعيدة المدى.. تصعيد جديد في الحرب الروسية الأوكرانية
...
-
الدفاع المدني بغزة: 412 من عناصرنا بين قتيل ومصاب ومعتقل وتد
...
-
هجوم إسرائيلي على مصر بسبب الحوثيين
-
الدفاع الصينية: على واشنطن الإسراع في تصحيح أخطائها
-
إدارة بايدن -تشطب- ديونا مستحقة على كييف.. وترسل لها ألغاما
...
-
كيف تعرف ما إذا كنت مراقبًا من خلال كاميرا هاتفك؟
المزيد.....
-
الانسان في فجر الحضارة
/ مالك ابوعليا
-
مسألة أصل ثقافات العصر الحجري في شمال القسم الأوروبي من الات
...
/ مالك ابوعليا
-
مسرح الطفل وفنتازيا التكوين المعرفي بين الخيال الاسترجاعي وا
...
/ أبو الحسن سلام
-
تاريخ البشرية القديم
/ مالك ابوعليا
-
تراث بحزاني النسخة الاخيرة
/ ممتاز حسين خلو
-
فى الأسطورة العرقية اليهودية
/ سعيد العليمى
-
غورباتشوف والانهيار السوفيتي
/ دلير زنكنة
-
الكيمياء الصوفيّة وصناعة الدُّعاة
/ نايف سلوم
-
الشعر البدوي في مصر قراءة تأويلية
/ زينب محمد عبد الرحيم
-
عبد الله العروي.. المفكر العربي المعاصر
/ أحمد رباص
المزيد.....
|