طلال الربيعي
الحوار المتمدن-العدد: 7270 - 2022 / 6 / 5 - 00:10
المحور:
الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع
الخطاب الهستيري
ذكرت في الحلقة السابقة ان هدف التحليل النغسي, ليس بكل مدارسه ولكن بالأخص لدى فرويد ولاكان الذي سعى بالعودة الى فرويد, هو تحرير الانسان من صور اللاوعي للسلطة المتجذرة أصلاً في الأسرة. التحليل النفسي نظرية وممارسة للحياة الشخصية يمكن رؤيتها في مفهومي سنوات تكوين الانسان وخصوصا في طفولته - اللاوعي والجنس. لم يكن أي من المفهومين جديدا، بالطبع، لكن فرويد أعطاهما معانيا مبتكرة جذرية. في حالة اللاوعي، صاغ فرويد التجربة الجديدة - التي جسدتها أيضًا شخصيات مثل بودلير، على سبيل المثال في شكل الفلانير flaneur: الشخص المتسكع او المتشرد الذي لم يعد تعريفه يتم بشكل شامل من قبل العلاقات الاجتماعية، مثل الأبوة أو الدين او الاثنية أو حتى الجنس, اي تكوين ما يمكن تسميته بالنفس العالمية.
Slavoj Žižek - The Courage of Hopelessness
https://www.youtube.com/watch?v=aNlW3HnNqlk
وهي نفسْ النَفس التي اعلن ناشطو انتفاضة تشرين في العراق انهم انتفضوا من اجلها.
https://www.facebook.com/EnlightenmentDialogue/videos/700602007847739/?flite=scwspnss
ولكنهم انكفأوا ليس بسبب قمع السلطة او غياب التنظيم الخ فحسب, ولكن بشكل جوهري لأن القمع كان داخليا-نفسيا اكثر منه خارجيا متأتيا من السلطة. ان الانتفاضة, التي نادت كما يعلن ناشطوها من اجل تشكيل النفس العالمية التي ترفض اختزال الانسان الى طائفته او اثنيته او خلافهما, لم يمكن لها بتاتا ان يكتب لها النجاح لانها كانت محكومة بنفس العقل الباطن الذي هو العقل رأسمالي-أبوي للسلطة.
The Capitalist Unconscious. Marx and Lacan
Samo Tomšič
https://www.researchgate.net/publication/343166506_The_Capitalist_Unconscious_Marx_and_Lacan
وبالتالي فالفشل هو داخلي الى حد بعيد. ولذا وافقت الانتفاضة على اتباع ما يسميه لاكان "الخطاب الهستيري" (انظر ادناه للمزيد!), أي ابدال سيد بأخر, ابدال عادل عبد المهدي (موقتا) برئيس مخابراته مصطفى الكاظمي, وكلاهما مسؤولان, بشكل مباشر او غير مباشر, عن مقتل وجرح عشرات الالوف من متظاهري تشرين. ومنتفضو تشرين "عقلنوا", ونستطيع هنا استدعاء, بشكل او بآخر, لينين بقوله "إن المثقفين هم أقدر الناس على الخيانة لأنهم أقدر الناس على تبريرها", تخليهم عن محاسبة القتلة ووافقوا على الانصياع الى الخطاب الهستيري بحجج مثل ان التغيير (?!) ينبغي ان يكون تدريجيا, او انهم سيغيرون النظام من داخله بدخولهم ما يسمى البرلمان. لكن كيف لهم أن يغيروا النظام وهم انفسهم تغيروا وهادنوا النظام؟ النظام هو الذي غيرهم وما عداه فهو كلمات من باب حفظ ماء الوجه!
بخصوص الهستيريا, يكتب Gérard Wajcman التالي:
"دعونا نتحدث عن الهستيريا، وهو مجال بحث يكاد يكون بلا حدود: عبر التاريخ هناك كّتاب يحدثنوننا عن الهستيريا، من الشفاء المعجزة في معبد أسكليبيوس إلى علاج فقدان الشهية في مستشفى حديث؛ من الساحرة وتعاملها مع الشيطان إلى سيدة المجتمع الراقي ونوبات إغماءها. بمرور الوقت، أصبح أي مفهوم للهستيريا عفا عليه الزمن بسبب الهستيريا نفسها. بالنسبة للبعض، تنتشر أنماطها المتعددة في كامل مجال علم الأمراض. في مواجهة كل من الصعوبة العملية في توفير العلاج لاضطراب منتشر في كل مكان والمشكلة النظرية لتجميعه تحت فئة واحدة، اختار آخرون، مثل شاركو (استاذ فرويد الذي اشرت اليه سابقا, ط.ا.)، تقليل المضاعفات وإعلان الهستيريا كيانًا واحدًا غير قابل للتجزئة.
لا يبدو أن هناك شيئًا لم يقله الطب عن الهستيريا: إنها متعددة، وهي واحدة، ولا شيء؛ إنها كيان، خلل، وهم؛ انها حقيقية ومضللة. عضوية أو ربما عقلية؛ إنها موجودة، غير موجود. قبل اقتراح نظرية زائفة أخرى حول هذا الموضوع ، يجب علينا في النظريات الحالية تحديد الطبيعة الغزيرة للهستيريا، وميلها للعب بكل مفتاح؛ يمكن القيام بذلك مع قليل من مخاطر الخطأ. إن التناقض ذاته في الاضطراب دفع الكثيرين إلى التفكير فيه على أنه من نسج الخيال. ومع ذلك، فإن وفرة الأدب المكرس لها تشمل النطاق الكامل للمعرفة الطبية.
كنا نعتزم الحديث عن الهستيريا والآن تجعلنا الهستيريا نتحدث. سعينا للحصول على مدخل طبي معين ووجدنا مكتبات للمعرفة الطبية. من بين جميع مواضيع الدراسة الطبية، فإن الهستيريا هي التي خصص لها أكبر عدد من الأوراق. إنه حتى موضوع أقدم نص طبي معروف .
ومع ذلك ظلت الهستيريا موضع تساؤل. حتى الكتابات الطبية اليوم، عند الإشارة إلى الهستيريا، تضفي عليها جوًا من الغموض. هذا ليس لمجرد أن الهستيريا ظلت مجهولة الأسباب. الأمراض الأخرى المجهولة الاسباب غير غامضة تمامًا. بدلاً من ذلك، يُظهر تاريخ البحث في الهستيريا أن كل مؤلف غامر في هذا المجال ورث من أسلافه اللغز بالكامل. لا يبدو أن أيًا من النظريات الموجودة مرتبطة أو مستوحاة من تلك التي سبقتها. وبالتالي، فإن مهمة تقارير الهستيريا تشبه عمل سيزيف. في الواقع، مع تقديم الهستيريا دائمًا نفس السؤال، سعى المؤلفون إلى تفسيرات بدلاً من الإجابة الصحيحة. يبدو أن كل منهم ساهم في حل معين مع ترك السؤال دون تغيير لمتابعه. نشأت النظريات واحدة تلو الأخرى، واحدة ضد الأخرى، مختلفة عن بعضها البعض، ومع ذلك يبدو أنه لا يوجد أي تقدم في الأفق.
ما يسمى بالهستيريا هو مجموعة من العبارات المتعارضة وحتى المتناقضة. هذه المجموعة سوف نسميها المعرفة. يمكن التعامل مع تسلسل هذه العبارات على أنه تاريخ: يمكن ترتيبها زمنيا ، ويمكن تحديد ثوابتها، وكشف أنماطها وثغراتها. ولكن، في أحسن الأحوال، سيظهر مثل هذا التاريخ فشل المعرفة في كشف النقاب عن الغموض، كما يمكن رؤيته من بعض التفسيرات التاريخية. ومع ذلك، يصف هذا التاريخ الظروف التي يؤدي فيها الغموض إلى إنتاج المعرفة. إنه ليس تاريخ الهستيريا بل تاريخ الطب أو الهستيريا كمجموعة من البيانات. تم إبطال بعض هذه العبارات في الوقت المناسبا بينما لم يتم إبطال البعض الآخر. ومع ذلك، يفشل كل فرد في ذكر الحقيقة كاملة، أي أنه لا يمكن لأحد أن يمسك بموضوعه ويتحكم فيه بالكامل.
سنعطي اسم هستيريا لهذا الشيء الذي لا يمكن للمعرفة أن تسيطر عليه، وبالتالي يبقى خارج التاريخ، حتى خارج نطاقه. يمكن التعبير عن هذا الانفصال (//) بالطريقة التالية: إذا كانت الهستيريا عبارة عن مجموعة من العبارات حول الهستيري، فإن الهستيري هو ما يفلت من هذه العبارات، ويهرب من هذه المعرفة.
علاوة على ذلك، إلى جانب المحاولة العلمية الصحيحة لإتقان شيء من خلال المعرفة وبالتالي اختزالها إلى مجموعة من البيانات، يشهد تاريخ الهستيريا على شيء أساسي في الحالة البشرية - التعرض للضغط للإجابة على سؤال. السؤال هو الهستيري. إن طرح سؤال هو علاقة لغوية بدائية للغاية بحيث يمكن إجراؤها بدون كلمات: عندما تقدم الهستيرية جسدها الممزق للطبيب، على الرغم من أنها صامتة، فإنها تطرح سؤالها.
يطرح موضوع الهستيرية أسئلة للطبيب حول الأعراض التي تلغي جسدها بشكل غير مبرر. تضغط عليه للحصول على إجابة، مما يدفعه إلى توليد المعرفة اللازمة لعلاجها. في حين أن المعرفة لا يمكن أن تعبر عن الهستيري، فإن الهستيريا تبشر بتعبير المعرفة."
The Hysteric s Discourse
https://www.lacan.com/hystericdisc.htm
وخطاب المنتفضين هو نفسه, عمليا او في المحصلة, خطاب النظام لأن احتلال العراق ابدل للعبيد اسيادهم, والعبودية بقيت هي هي. منتفضو تشرين يعلنون انهم سجلوا انتصارا بازاحة عادل عبد المهدي: هم بذلك يثبتون مرة اخرى انهم, في خطابهم, يمثلون وجه العملة الآخر للنظام, لخطاب المحتل واتباع المحتل! انه الخطاب الهستيري الذي يتساءل ولكنه يهرب من المعرفة, والذي, فوق هذا, لا يمكن للمعرفة أن تسيطر عليه.
ونفس الكلام يمكن قوله, بدون تحوير او فقط بالقليل منه, في أن يكون مصطفى الكاظمي, بالمواصفات اعلاه, هو اول من يتبرع (براتبه: الحجة معلومة-أين انت يا لينين فقد اسكتوك ليبرروا دخولهم عمليتهم السياسية-السادية لادامة نظام العبودية) لبناء مقر للحزب الشيوعي العراقي لكي يكون "معقلا للفكر والثقافة والتقدم وهلم جرا!": انها القيم مقلوبة رأسا على عقب. وهو قلب يقوم به المنتفضون هم الآخرون أيضا عندما يزعمون ان "تسخيم" المنتفضات لوجوههن هو تعبير عن خطاب قيم مناقض لخطاب السلطة (الفيديو اعلاه)! ونحن قد نفهم حتى الكلمات المتقاطعة ولكن سيستحيل علينا فهم هذا الكلام لكونه, كما ذكر اعلاه, يهرب من المعرفة, والذي, فوق هذا, لا يمكن للمعرفة أن تسيطر عليه.
ولكنه ايضا منطق القضيب-الفاليس الذي ينبغي ان يكون منتصبا دوما ليستحق رفعه الى مقام القضيب: "السيد" القضيب الذي ترفع له القبعات وتنحني له هامات البشر اجلالا لانتصابه دوما وابدا. انه ليس فقط منطق الافلام الاباحية ولكنه, اذا اتفقنا مع سارتر في ان وظيفة الجنس هي ملء الثقوب (وسكوت شهرزاد عن الكلام ال(لا)مباح), فان العالم الظاهراتي للمنتفضين هو الذي انتصر. وهدف ملأ الثقوب هو نفس هدف فاسدي السلطة كما اشرت اليه في حلقة سابقة.
ولكن هدف انتصاب القضيب هو ليس الحب بل تحقيق الهدف البايولوجي بانتاج الاطفال. والفيلسوف مارلو-بونتي هو الذي فرق بين الاثنين.
Put bluntly, the desire to
‘make love’ and the desire to ‘make babies’
is not the same, and while there may be a
biological imperative with regard to the
latter, it is questionable that such an imperative fuels the former.
The person who has highlighted this distinction most clearly is the French
phenomenologist, Maurice Merleau-Ponty.
Human sexuality
and existentialphenomenological
inquiry
Ernesto Spinelli
P. 19
http://bps-dcop-uk.s3.amazonaws.com/cpr/cpr_1997_12_4.pdf#page=18
وبطل كناب تأويل الاحلام لفرويد هو الانسان النائم. وهكذا، فإن موضوع هذا الكتاب هو فرد نائم، شخص نائم منفصل تمامًا عن العالم الاجتماعي الحقيقي (بالمعنى الشائع لأن الأحلام هي الاخرى واقع حقيقي من نوع آخر), مع وضع العالم الخارجي على مسافة. كل المنبهات تنشأ من الداخل. ليس هنالك فكرا يتأتي للفرد - سواء نشأ في الأصل في مرحلة الطفولة أو يأتي من "بقايا الحياة اليومية"، يكون مسجلا بشكل مباشر؛ بدلاً من ذلك، يتم "اذابته" أولاً وإعادة تكوينه داخليًا بطريقة تجعله فريدًا وبالمعنى المحتمل. وكانت النتيجة تصورًا جديدًا للعلاقات بين الفرد والمجتمع المحيط. كان المعالجون التقليديون فعالين لأنهم حشدوا الرموز التي كانت داخلية وجماعية في نفس الوقت. على النقيض من ذلك، في التحليل النفسي، لا توجد علاقة مباشرة - لا تماثل - بين المجتمع ودواخل النفس. في حين أن العالم المشترك يتكون من رموز جماعية، مثل الله أو الدولة-الجمهورية, الا ان الدلالات النفسية الداخلية تكون خاصة: سعال عصبي، عرة tic (حركة لا ارادية ولكن ليس بالكامل على عكس الشلل الارتجافي او الباركنسون
Tics
https://www.nhs.uk/conditions/tics/
او غسل اليدين المتكرر في الوسواس القهري.
Excessive hand washing is a sign of OCD
العديد من علماء الاجتماع المعاصرين، على سبيل المثال،
Beck and Beck-Gernsheim
[BOOK] Individualization: Institutionalized individualism and its social and political consequences
https://books.google.at/books?hl=en&lr=&id=9oSSIAHfU08C&oi=fnd&pg=PP2&ots=YGgfn0X_Rk&sig=j-hcbEiouAKed2O30WSgaUHlCuU&re-----dir-----_esc=y#v=onepage&q&f=false
و Giddens
[BOOK] Modernity and self-identity: Self and society in the late modern age
https://books.google.at/books?hl=en&lr=&id=Jujn_YrD6DsC&oi=fnd&pg=PP11&ots=p_WNx1xvN4&sig=dz2phkj2209rk6grx3JBNsmaXRs&re-----dir-----_esc=y#v=onepage&q&f=false
مع تأكيدات مختلفة قليلاً، ركزوا في تأريخهم للحداثة والذاتية في الغرب بشأن التجريد المتزايد من التقاليد المتعلقة بموضوعات ما بعد الحرب العالمية الثانية والدور الذي يلعبه الخبراء في دعم المطالبة بأن يخلق الأفراد أنفسهم في غياب التقاليد المتفق عليها اجتماعيًا والتي قد يعيشون بموجبها. فهم يصفون غرب ما بعد الحرب بأنه "الحداثة الثانية"، وهي حالة تتميز بشكل بارز بأنواع "المخاطر" التي لا يستطيع السكان تأمين أنفسهم ضدها. العديد من هذه المخاطر "شكوك مصطنعة" أنتجتها الحداثة الأولى (على سبيل المثال، تهديد الكارثة النووية، تدمير البيئة). وهم يستخدمون مصطلح "الفردانية المؤسساتية" لوصف الوضع التاريخي والسياسي والقانوني الذي يتم فيه تصور الهياكل المؤسساتية الخاصة بالحقوق والواجبات الفردية وليس مصالح الجماعات. دون اللجوء إلى التقاليد، وخضوعًا لمجموعة من آراء الخبراء المتناقضة والمتغيرة باستمرار (محللونا السياسيون بتاع كله كما سيقول اخواننا المصريون بلهجتهم المحببة)، حيث يزداد عدد الأشخاص الذين يجادلون بأنهم في وضع يضطرون يوميًا إلى التساؤل عن أفضل السبل لعيش حياتهم. وكلما كانت شريحة السكان أكثر حرية، زادت الخيارات المتاحة؛ ولكن بالنظر إلى التحول بعيدًا عن المسؤولية العامة عن رفاهية السكان الذي حدث في العديد من الدول الغربية او في منطقتنا في السنوات الاربعين الماضية (او ما يسمى عادة النيوليبرالية), فقد وجد كل شخص تقريبًا نفسه يبحث عن طريقه أو خلاصه بمفرده. تعني حالة الفردانية المؤسساتية في مجتمع الخطر، على المستوى الذاتي، أن المزيد والمزيد من الناس يمكنهم - ويجب عليهم - إنشاء ما يسميه هؤلاء المنظرون do-it-yourself biographies "سير ذاتية من صنعك" التي تتأرجح باستمرار على حافة أن تصبح سير ذاتية للانهيار العصبي وأشكال أخرى من الانهيار. وللأسف ان انتفاضة تشرين شهدت احد أشكال هذا الانهيار لأن المنتفضين لم يمتلكوا "الفردانية المؤسساتية" ولم يجرؤا على كتابة "سير ذاتية" من صنعهم!
ولربما المهاجرون الجدد او اللاجئون اكثر عرضة من السكان الاصليين لهذه الاشكال من الانهيار. ويبدو لي ان الاعتقاد السائد لدى بعض انواع اليسار الغربي في ان اللاجئين هم العنصر الثوري البديل للبروليتاريا هو محض وهم قاتل.
يقترح منظرو الفردانية المؤسساتية أنه في عالم خالٍ من المراسي التقليدية، فإن الشيء الوحيد الذي يمنحنا الكثير من الأمن والاستقرار هو علاقاتنا الحميمة: انظر ميرلو بونتي اعلاه! يتحدث جيدينز عن "العلاقة النقية"، التي يقصد بها العلاقة التي لا يجمع بين أفرادها أي تقليد أخلاقي أو ديني أو اجتماعي، وانما إذا كانت العلاقة تلبي الاحتياجات النفسية للمشاركين فيها أم لا. تعني الفرداينة، إذن، بالنسبة للأفراد المتميزين، القدرة والمطالبة باستمرار للتفكير فيما إذا كانت المهنة أو العلاقة تجعلهم سعداء أم لا, وتحقق الإشباع الشخصي، وإذا لم يكن الأمر كذلك، فيما إذا كان ينبغي عليهم البقاء فيها أم لا. يستشهد Beck-Gernsheim كمثال رئيسي على هذه الروح بشعار فريتز بيرلز الذي أصبح شائعًا للغاية في الستينيات:
"أنا أفعل ما أريد وأنت تفعل ما تريد. أنا لست في هذا العالم لأرقى إلى مستوى توقعاتك، ولست انت في هذا العالم لترقى إلى مستوى توقعاتي. أنت أنت وأنا أنا. إذا وجدنا بالصدفة بعضنا البعض، فهذا جميل. إذا لم يكن الأمر كذلك، فهو أمر لا يمكن تجنبه."
Gestalt prayer
https://gestalttheory.com/persons/fritzperls/gestaltprayer/
( فريتز بيرلز هو مبتكر العلاج النفسي الكلي Gestalt Therapy المشتق من المنطق اللاارسطي في ان الكل اكبر من اجزاءه, وهو شئ مشابه للفكر الظاهراتي. فالانسان, مثلا, اكبر من ان يكون حصيلة اعضاءه الجسدية من جلد ولحم وعظام واعصاب وغيره)
تقترح أدبيات الفردانية ومجتمع المخاطرة أسبابًا تاريخية لتفسير التحول في نظرية التحليل النفسي فيما يتعلق بما يكمن في قلب الدافع البشري. بدلاً من الافتراض، ان المحللين النفسيين كانوا قادرين في التعرف على ما يحتاجه البشر، من المحتمل أن تشير هذه النظريات إلى أن التحول في نظرية التحليل النفسي بعيدًا عن رؤية الجنس والعدوان كمحفزين أساسيين للرغبة البشرية. بدلاً من ذلك, تعتبر الاحتياجات للسلامة و الأمن كأولوية، هي وظيفة العيش في عالم يزداد انعدام الأمن فيه حيث لا يملك الأفراد الكثير للاعتماد عليه إلى جانب ثباتهم النفسي، وربما العلاقات الحميمة. تشير هذه الأدبيات إلى أن غرائز الأنا المركزية ربما أصبحت أكثر أهمية في فترة ما بعد الحرب لأنه، حتى في دولة الرفاهية، تطورت الفردية المؤسساتية بسرعة لأن الحداثة المتأخرة تتميز بأنظمة مجردة تتطلب من الأفراد قدرة قوية على الثقة الأساسية في أنفسهم. وبالتالي، إذا أراد الأفراد الازدهار في هذه الظروف، أي تجنب الانهيار، فإنهم بحاجة إلى الاعتماد على الموارد النفسية الداخلية أكثر من الاعتماد على المحيط الاجتماعي. لتنمية الثقة الأساسية، على سبيل المثال ، يجب الاهتمام باحتياجات التعلق والتبعية للآخرين. في عالم مليء بالمخاطر، والادعاءات المتناقضة ومعرفة الخبراء، فإن القدرة على الاعتماد على العلاقات الحميمة تحل محل القدرة على الاعتماد بشكل موثوق على بيئات الحيازة الاجتماعية. وبالتالي، فإن الظروف الاجتماعية في فترة ما بعد الحرب والتي تعزز الفردانية هي تقدمية في بعض النواحي وفي بعض النواحي لا. أحد الآثار المترتبة على ذلك هو أن الاهتمام باحتياجات التعلق والتبعية قد لا يكون شرطًا لا غنى عنه لسياسة تقدمية.
تتأثر ادبيات القدرة على الحكم Governmentality بعمل فوكو في أنساب المواقف genealogies الموضوعية وتقنيات الحكم والتطبيع . كما أوضح روزيه
[BOOK] Governing the soul: The shaping of the private self
https://psycnet.apa.org/record/1990-97578-000
فإن أحد الخطوط الواضحة في تاريخ المؤسسات الغربية من القرن التاسع عشر فصاعدًا هو الطلب المتزايد على المراقبة الذاتية وضبط النفس. على عكس منظري الفردانية، يجادل روزيه وآخرون بأن تقنيات التطبيع نشأت بالتزامن مع التصنيع والتحضر من أجل تعظيم الفرص للطبقة الوسطى وتقليل التهديد الذي تتعرض له من الفقراء وجماهير الطبقة العاملة المتجمعة في المدن. الفردانية، بحسب روزيه، لا تعني إنتاج الأفراد فحسب، بل إنتاج أفراد قادرين على المعرفة. ولكننا سنقول من جديد ان الهستيريا تتظاهر بالمعنى المزدوج, Demonstration بمعنى التحشد, وكذلك الادعاء pretence كما لو انها تبغي المعرفة, ولكنها, في واقع الحال, تتجنبها وتخافها كما يخاف الناس الطاعون بلغة الماضي او الكوفيد 19بلغة الحاضر.
في نموذج فوكو، "النظم تصنع الأفراد عن طريق بعض الإجراءات الفنية البسيطة إلى حد ما". محور هذا النموذج هو "أنظمة الرؤية": عندما يجتمع الناس بشكل جماعي، يمكن ملاحظتهم (على سبيل المثال، في المدرسة أو مكان العمل-هل البروليتاريا تسترعي الانتباه كثيرا الآن ام انها "الجندي المجهول" رغم امكان ملاحظتها في أماكن العمل حيث ان التجمع قد يعني توفير شروطا صارمة للأنضباط وكبح التمرد على النظام؟)، مع كون النموذج هو تصميم القرن الثامن عشر للمؤسسات العقابية، Panopticon الذي ابتكره جيريمي بينثام
The Panopticon
https://www.ucl.ac.uk/bentham-project/who-was-jeremy-bentham/panopticon
تسمح أنظمة الرؤية للمؤسسات بالعمل وفقًا لقواعد تفصيلية؛ تظهر شبكة من قابلية تشفير السمات الشخصية: إنها بمثابة قواعد، تمكن من رسم التعقيدات المتغيرة وغير المتوقعة للسلوك البشري والحكم عليها من حيث التوافق والانحراف، ليتم ترميزها ومقارنتها وتصنيفها وقياسها.
يصبح العالم الظاهراتي, كما ذكر اعلاه, أمرًا طبيعيًا، أي الفكر من حيث مصادفاته واختلافه عن القيم التي تعتبر طبيعية.
لذا يمكننا القول ان الانصياع الى السلطة في حصر التظاهرات في انتفاضة تشرين داخل ساحة التحرير في بغداد هو ايقاع المتظاهرين انفسهم في مصيدة الأنظمة العقابية بعرف جيريمي بينثام. فالساحة مُراقبة من كل الجهات بكاميرات او بدونها. اصبحت او امست ساحة التحرير بمثابة الزنزانة التي يسعى فيها السجين الحركة, ان امكنه الحركة (والحركة بركة بعرف النخلة والجيران لغائب طعمة فرمان!), في كل الاتجاهات والمطالبة بكل شئ ما دام يظل باقيا داخل زنزانته. ونحن لا نحتاج رونالد بارث او علم السيمياء هنا لنستنتج ان التسمية, ساحة التحرير, خدعت المتظاهرين فانصاعوا الى نظام القمع (بعرف فوكو) للسلطة الذي صور لهم البقاء في زنزانتهم بكونه فعلا تحرريا, وليس فعلا انتحاريا. السلطة كانت اذكى بكثير من المنتفضين, والذكاء هنا هو معنى القدرة على التحايل واستخدام الرموز والصور لكبح الانتفاضة بكل الوسائل, وانها حتى احالت القمع الخارجي الى ما هو اخطر بكثير, القمع الداخلي, و سخرت المنتفضين للانصياع الى (لا)منطقها, بدون وعي تشكيكي من قبل المتظاهرين في منطق السلطة. السلطة حكمت عليهم بالتظاهر في زنزانتهم وهم وافقوا في ان يكونوا سجناء النظام. والفشل اكبر ومأساوي بحدود لا تطاق عندما نفهم ان المتظاهرين دعوا الى تفعيل "شعار من اين لك هذا؟", ولكن نفس المتظاهرين سكتوا عن المطالبة بمحاسبة من سبب في قتل وجرح عشرات الالوف منهم. فشلت الانتفاضة لأسباب بضمنها:
1. خطابها مثّلَ الوجه الآخر لخطاب النظام: الخطاب الرأسمالي: (رأس) المال اثمن واهم بما لا يقاس من الانسان.
2. دخول افرادها البرلمان يشكل نقيضا لثقافة الفلانير.
3. ثانيا يعني الانصياع الى خطاب (السيد) القضيب كنفيض لخطاب الحب بعرف ميرلو بونتي.
4. ضعف او غياب ثقافة الفردانية المؤسساتية.
5. غلبة الخطاب الهستيري في ابدال السيد بآخر (وهو ما يميز عموم الخطاب السياسي أيضا), وتجنب المعرفة او الهروب منها, والمعرفة تعني هنا اساسا معرفة العقل الباطن, وليس الظاهر فقط.
6. ايقاع المتظاهرين انفسهم في مصيدة الأنظمة العقابية بعرف جيريمي بينثام.
يتبع
#طلال_الربيعي (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟