|
اللذة والمثل العليا
علي الرديني
الحوار المتمدن-العدد: 7265 - 2022 / 5 / 31 - 18:41
المحور:
الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع
كان اميرا يعيش حياة مترفه في قصر على حدود التبت شمال شرق الهند وقد جرب كثير من ملذات الحياة ولما خرج ليكتشف العالم من حوله وجده مليئا بالالم والمعاناة من بؤس وقسوة وحرمان وفقر ومرض والهرم فقرر ان يترك تلك الحياة الناعمة الى حياة التقشف والزهد والعزلة معتقدا ان تلك هي الوسيلة لحل مشاكل الحياة لكنه اكتشف بعد ذلك الزهد ليس وسيلة مناسبة للقضاء على متاعب الناس وآلمهم واخذ يتأمل حتى توصل الى نتيجة مفادها ان سبب الالم هو الرغبة في التمتع بالحسيات والتشبذ بالحياة والخوف من الموت ولا يكون التخلص من الالم الا بالتحرر من الرغبات والشهوات بفصل الجسم والذهن عن مؤثرات العالم الخارجي ( نيرفانا) لتحقيق السعادة ، وصاحب هذه الفلسفة هو جوتاما سداراتا (بوذا) القرن السابع أو السادس ق.م . وبالفعل نحن أسارى لرغباتنا الشعورية وحاجاتنا الجسدية التي تتجد دون انقطاع وعند عجزنا او فشلنا في إشباعهما تتولدت عندنا الآلام ، والتفريج عن الالم والتخلص منه هو الاحساس بللذة واذا تم تجاوز الإشباع الكافي يرجع الالم من جديد. لذا اعتقد اصحاب مذهب اللذة ان الغاية القصوى من الرغبات والهدف الأسمى في الحياة هو تحقيق اكبر قدر من المتع واللذات والالم هو الشر في ذاته وان المعيار الاخلاقي في تحديد فعل الخير او الشر يتوقف على نتيجة ذلك الفعل الباعث على اللذة ( خير ) او الالم (شر). رأى أرستيبوس (435-355 ق.م)صاحب مدرسة القورينائية والتي عرفت بمدرسة اللذة إن *اللذة الحسية* هي الخير الأوحد بعكس المدرسة الكلبية التي تعد السعادة هي الغاية لأفعال الانسان وان الفضيلة لا المتعة المؤقتة هي التي تمثل السعادة الحقيقة .اما أبيقور (341-270 ق.م) فقد اعتبر اللذة هي المنفعة وفيها تكون السعادة ويجب تجنب اللذات التي تفضي الى الآلام والعكس كذلك. وهناك من رأى ان اللذة هي المنفعة الشخصية كتوماس هوبز (1679-1588) ومنهم قال ان وصول للسعادة يكون عن طريق تحقيق اكبر قدر من اللذات للناس او المجتمع وهم اصحاب مذهب المنفعة . لكن هناك اختلاف بين اللذة والمنفعة والسعادة ، فليس كل ماهو لذيذ هو نافع ولا كل مؤلم هو ضار فقد ناكل أكلا لا نستلذ به للفائدة الغذائية التي فيه او نتجرع دواء مرا لنشفى كما ان لذة تعاطي المخدرات تجعلك تدمن شيئا فشيئا حتى تدمر صحتك. كما انه ليس كل إشباع للذة هو ازالة للألم ولا كل ازالة الم يؤدي الى لذة ،فالسادي يحصل على اللذة عن طريق ايقاء الالم بالآخرين ، وعكسه المازوخي الذي يتلذذ بإذلال نفسه للآخرين وتعذيبهم له وقد يصاحب ذلك شهوة جنسية. واللذة ليس هي السعادة فهنالك لذات تجلب لنا الحزن والندم كمن يمارس الجنس وعند الانتهاء وانطفأء الشهوة يحس بالندم ومن يزني يحس بالحزن لمخالفة التعاليم الدينية والعكس صحيح مثل من يعرض نفسه للأذى في سبيل من يحب (الغيرية) او من اجل مبدأ سياسي او قيم اخلاقية او عقيدة دينية قد تحمله آلام كثيرة لكنها تشعره بالرضا والسعادة . لا يمكن انكار لعنصري اللذة والالم من تاثير كبير في سلوكانا فقد فسر عالم النفس الشهير سيغموند فرويد (1856-1939)عمل الغرائز طبقا *لمبدأ اللذة* في حالة دعم إشباعها ينتج توتر > عدم اللذة > الاشباع >ارتياح > لذة > حتى يظهر توتر جديد وهكذا دواليك . الا انه تراجع عن ذلك بعد حين عندما ادرك ان نظريته في الغرائز لا تفسر بعض الظواهر النفسية مثل المرضى الواقعون تحت تاثير دافع قوي يجبرهم على تكرار بعض خبراتهم المؤلمة السابقة دون الشعور باللذة التي يفترض لإشباعها يزول الالم ، إسمى فرويد هذه الحالة (اجبار التكرار ) واعتبرها اكثر بدائية من مبدأ اللذة. وللانسان رغبات عديدة منها مرتبطة بحاجات الجسد تتمثل في الأكل والشرب والنوم والجنس وممارسة الرياضة والهويات . ومنها ما هو مرتبط بالحاجات النفسية كالحب وتخفيف الخوف والقلق والحزن والاكتئاب والغضب المكبوت. وهناك رغبات خارجية في السعي للسلطة او الثروة او الخضوع او الحسد وحب الانتماء واثبات الذات والاستمتاع برفقة الأهل والأصدقاء وتحقيق النجاح في الدراسة والعمل او الحصول على مكانة ومنزلة وهذا يكون خلال المجتمع الذي ننصهر فيه. اضف الى ذلك الرغبات الفكرية او العقلية في طلب العلم ومعرفة حقائق الاشياء وغاية الوجود والرغبات الروحية المتعلقة بالدين . وحسب ميول الناس وظروفهم منهم من يرى لذة السعادة في التذوق الفني او كنز المال او تحقيق النجاح او طلب العلم او الشهرة او سعيا وراء السلطة ولو على حساب حاجته الغريزية ومنهم من يسعى وراء اللذات الشهوانية ولو ادى الى إفلاسهم وتعاستهم وآخرين يضحون بمستقبلهم من اجل حبيب او جشع او بغض او عدوان . ويمكن ان نستعين بتحليل ما ذكر اعلاه بنظرية فرويد في نموذجه في البنيوية النفسية التي قسمها الى ثلاثة اجزاء : 1 ألهو (Id) : هو الجزء الذي يحتوي على الغرائز الموروثة والعمليات النفسية المكبوتة وهو الذي يطيع مبدأ اللذة ولا يعرف المنطق والاخلاق والواقع . 2 الأنا الأعلى (Supper Ego) : هو الضمير الذي يمثل دور الواعظ والمحاسب طبقا للقيم الاخلاقية والأعراف المجتمعية والتعاليم الدينية التي تنمو بتدريج من مرحلة الطفولة عن طريق سلطة الأبوين مرورا بالمدرسة والمجتمع ودور العبادة بحيث تنتقل هذه السلطة الخارجية الى النفس متمثلة بالأنا الأعلى . 3 ألانا (Ego) : هو الجزء الذي يشرف على مهام حفظ الذات والإرادة ويعمل على التوازن بين رغبات ألهو وصرامة الأنا الأعلى بإشباع رغبات الاول بصورة لا تخالف ظوابط المجتمع وأعرافه التي يحملها الثاني . فمن تربى تربية صارمة او تمسك بمعتقد او فكرة حتى النخاع سيكون عنده ألانا الأعلى قويا له القدرة على قمع غرائز الهو وعندها سيلجا ألانا للحيل الدفاعية لإشباع رغبات ألهو وان لم يقدر سيكتبها وسيسبب ذلك أمراض نفسية وأحيانا تكون النتيجة الانتحار بسبب محاصرة ألانا بقوة من قبل ألهو والانا الأعلى . ومن كان عنده ألانا الأعلى ضعيفا ستتمكن ألهو من تمشية رغباتها بسهولة ويبقى ألانا الذي يعمل طبقا لمبدأ الواقع فأن رأى بعدم امكان عمل المحرمات علنا فسيخطط لتنفيذها سرا بعيدا عن أنظار الناس حتى لا يتعرض للنبذ والاستهجان او في مجتمع اخر يسمح بهذه المحرمات . اما ألانا المعتدلة هي من توازن بين إشباع الغرائز ضمن حدود الاخلاقية والواقع الذي لا يضره . نقول قبل ختم الموضوع ان اللذة ليست هي الهدف الأقصى في الحياة فهناك ما يعلو عليها قد يكون مبدأ او فكرة او عقيدة وان السعادة هي وجدان يرافق شعور تحقيق الذات الانسانية بنموها وإنجازاتها وتفاعلها مع الحياة ومع الآخرين هذا يعني ان السعادة ليست هي الهدف الأسمى ايضا بل هناك ما هو فوقها وهو السعي نحو التكامل باتجاه الواجب المطلق .
#علي_الرديني (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
منطقة الراحة (Comfort Zone)
-
سلطة الأموات على الأحياء
-
الإيمان الأعمى
-
الاروقة الداخلية ( الاشراق النفسي)
-
الاروقة الداخلية ( التعامل مع الجفاء النفسي)
-
معضلة الإرادة حرة (تجربة ليبيت و تجربة هينز)
-
معضلة الإرادة حرة (التوافقية واللاتوافقية )
-
معضلة الإرادة حرة (الحتمية Determinism)
-
معضلة الإرادة حرة (تعريفها وأنواعها)
-
التنويم الايحائي الذاتي
-
الاحلام حقيقة عالم آخر
المزيد.....
-
-مشهد مخيف هناك-: مراسل CNN يصف ما سببه تحطم الطائرة بمركز ت
...
-
حافلات تقل 50 جريحا ومريضا فلسطينيا تصل معبر رفح في طريقها إ
...
-
بينهم 18محكوما بالمؤبد.. دفعة جديدة من السجناء الفلسطينيين ا
...
-
تساؤلات.. صحة ومهظر مقاتلي حماس والرهائن الإسرائيليين بعد عا
...
-
شاهد لحظة إطلاق حماس سراح المواطن الإسرائيلي الأمريكي كيث سي
...
-
تسليم الأسير عوفر كالدرون إلى الصليب الأحمر في خان يونس
-
يعود إلى إسرائيل دون زوجته وطفليه.. الإفراج عن ياردين بيباس
...
-
ماذا نعرف عن تحطم الطائرات في الولايات المتحدة؟
-
مأساة في سماء فيلادلفيا: انفجار طائرة إسعاف طبية بعد إقلاعها
...
-
لحظة إفراج -القسام- عن الأسير الإسرائيلي الأمريكي كيث سيغال
...
المزيد.....
-
حوار مع صديقي الشات (ج ب ت)
/ أحمد التاوتي
-
قتل الأب عند دوستويفسكي
/ محمود الصباغ
-
العلاقة التاريخية والمفاهيمية لترابط وتعاضد عالم الفيزياء وا
...
/ محمد احمد الغريب عبدربه
-
تداولية المسؤولية الأخلاقية
/ زهير الخويلدي
-
كتاب رينيه ديكارت، خطاب حول المنهج
/ زهير الخويلدي
-
معالجة القضايا الاجتماعية بواسطة المقاربات العلمية
/ زهير الخويلدي
-
الثقافة تحجب المعنى أومعضلة الترجمة في البلاد العربية الإسلا
...
/ قاسم المحبشي
-
الفلسفة القديمة وفلسفة العصور الوسطى ( الاقطاعية )والفلسفة ا
...
/ غازي الصوراني
-
حقوق الإنسان من سقراط إلى ماركس
/ محمد الهلالي
-
حقوق الإنسان من منظور نقدي
/ محمد الهلالي وخديجة رياضي
المزيد.....
|