|
خصامٌ مع الذاكرة
نجيب علي العطّار
طالب جامعي
(Najib Ali Al Attar)
الحوار المتمدن-العدد: 7262 - 2022 / 5 / 28 - 09:35
المحور:
الادب والفن
تُقاتلُنا ذاكرتُنا في هذه البقعة البائسة من الأرض.. ذاكرتُنا المرهقة من قصائدَ كانت تُحْدِثُ في رؤوسِنا الصغيرة بعض التصدّعات لأنّها كانت لبنانيّة منذ أكثر من ثلاثين سنة.. وكنّا من فَرْطِ براءتنا العلميّة نتساءل؛ كيف يُمكن لسعيد عقل، مثلًا، أن يُعلّقَ الصخرةَ بالنجم ويسكنُها؟ وكنّا نخفي أسئلةً كهذه ونحرمُها حقّها في أن تُسأل لسببٍ كان وجيهًا جدًا؛ كنّا نخشى أن يكون الجوابُ قيمةً مضافةً على الكلمات الواجبِ حفظُها.. فلو سألنا وأُجِبنا لتعذّرَ علينا الايمانُ بما أدركناه تجريبيًّا؛ القصيدة تُنسى بعد الامتحان.. والى الأبد.. كأنّنا كنّا نُسلّم ذاكرتَنا مع ورقة الإجابة.. وهكذا كنتُ أخرجُ من الامتحان وعقلي يُشبهُ الصورة التي دخلَ فيها الى المدرسة أوّل مرّة.. "صفحة بيضاء" كما قالت لنا معلّمة الفلسفة بعد سنوات...
كنتُ، كغيري من الطلّاب، أكرهُ يومَ الاثنين بقدر ما أحبُّ يومَ الجمعة وذلك لأسبابٍ خاصّة جدًا تتعلّق بعطلة نهاية الأسبوع.. ولكنّي، من فَرْطِ براءتي الوطنيّة، كنتُ أكره صباح يوم الاثنين كرهًا خاصًّا.. ولأكون أكثر دقّة كنتُ أكرهُ الدقائق الخمس بعد اصطفافنا تمهيدًا لدخولنا كلٌ الى زنزانته.. ولمزيدٍ من الدقّة كنتُ أكرهُ ما يجري في تلك الدقائق؛ مديرةُ المدرسة تقف على برج المراقبة وتحدّقُ في شفاه الطلّاب وكأنّها في سبقٍ صحفي لتكشف عن هويّة ذاك الأرعن المعتوه الذي لا يردّد النشيد الوطني مع رفاق القلم.. ورغم أنّي كنتُ أقف في آخر الصف بسبب طول قامتي الذي لم ينفعني سوى بأن جعلني أكثرَ بعدًا عن رادارات المديرة مما يبقيني خارج مجال الرؤية الواضحة.. رغم هذا الأمان كنتُ أحرّكُ شفتاي بكلمات النشيد التي لم أكن أفهمها كلّها.. وأحيانًا كنتُ أتمتمُ بكلماتِ أغنيةٍ سمعتُها في طريقي الى المدرسة.. وحين نسيرُ، وأيدينا خلف ظهورنا، الى الصفوف كنتُ أسال نفسي سؤالين جوهريّين؛ لماذا نضعُ أيدينا خلفَ ظهورنا؟ ولماذا لا تشرح لنا معلّمة اللغة العربيّة النشيدَ الوطنيّ؟
كنتُ، لسببٍ لا أعرفُه، أنسى هذه الأسئلة في جملة ما أنساه.. لكن سؤالًا واحدًا لم أنسه بعد؛ لماذا كانت مدّة امتحان اللغة العربيّة أطولَ من غيرها؟ كان هذا السؤال الوحيد الذي أعطيتُه حقَّه في أن يُسأل.. لستُ أذكرُ من أجابني عنه لكنّني أعرفُ أنّ جوابهُ أثارَ في عقلي اشمئزازًا كبيرًا بحجم وطن.. قال أن الوقتَ أطول لأجل أن نُعبّر عن آرائنا حين نكتبُ موضوع التعبير في آخر الامتحان.. حسنًا أيُّها المعتوه؛ من أخبركَ أنّنا كنّا نعبّر عن آرائنا؟ نحنُ لم نكن نعبّر الّا عن رغبتنا في المزيد من العلامات.. لهذا وحده كنتُ أقتبس قول شاعرٍ أخبرتنا المعلّمة أنّه "شاعرٌ لبنانيٌّ عظيم"...
كبرتُ الآن قليلًا.. أصبحت أغاني أم كلثوم وعبد الحليم تروقني جدًا.. كنتُ أرى في أغنية لأم كلثوم وطنًا أكبر وأجمل من هذا الكيان الذي يُسمى لبنان.. وكغيري من الناس بدأت رحلتي الدراميّة في هذا الوجود حين بدأ منسوب الوعي بالارتفاع على مهل.. ارتفاعٌ يُقابلُه انخفاضٌ مطلوبٌ في منسوب البراءة.. وكغيري من العرب أصبحَ الوعي لعنةً عليّ.. لعنةٌ عربيّة معاصرة.. لأنّه يقول لي؛ "أتذكر تلك الصخرة التي علّقها سعيد عقل بالنجم وسمّتها الكتبُ لبنان؟ كذلك كان لبنان حين كان لبنانيًّا"...
"كان لبنان لبنانيًّا".. أحاول إعراب هذه الجملة لأفهمها.. كان؛ حرفُ بكاءٍ على الأطلال.. لبنان؛ كيانٌ مسلوبةٌ عنه ذاتُه لا محل له بين الاوطان.. لبنانيًا؛ حالةٌ مسلوبةٌ يقع عليها فعل أدوات الحرب والفساد...
في هذه اللحظة أتمنى أن يعود بي الزمن، كما أنا، الى امتحان اللغة العربيّة لأعبّر للمرّة الأولى عن رأيي.. سأكتبُ الى معلّمتي الرائعة تعبيري أنا.. ليس رغبةً في المزيد من العلامات.. سأكتبُ حينها حتى لا يُزوَّرُ تاريخُ أحفادنا وتكون الضحيّة شاهدة زورٍ على براءة جلّادها؛
" معلّمتي الرائعة.. جديرٌ بالشعراء والأدباء، الذين صدّعوا أدمغتنا بصور لبنان السرياليّة، أن يُشكروا نيابةً عنّا وعن لبنان.. فهم وحدَهم الذين يؤكّدون أن لبنان يمكنه أن يكون كما صوّروه؛ ليس جنّة سقطت من عند الله سهوًا.. بل وطنٌ يضحكُ الله له لأنّه بُني بدم أبنائه وعرقهم.. لكنّي أرغب أيضًا في أن تكفّوا عن تعليم هذه القصائد بصورة يضيع معها التلامذة بين ما كان وما هو قائمٌ الآن.. أخبروا الطلّاب أن الجحيم الذي يعيشونه اليوم لم يكن وطنًا وحسب.. بل رسالة.. ويمكنها أن تعود كذلك.. لا تعلّموهم الشعر وانّما علّموهم كيف يصيرون شعراء ثم أوكلوا اليهم مهمّة كتابة تاريخ لبنان الحديث.. لأنّ لغة التاريخ المهترئة ستكتبُ صفحة أو اثنتين عن آلامنا تحت عنوان؛ "أزمة عام 2020".. وحدهم الشعراء سيكتبون التاريخ الحق؛ كان أملُنا في قيامتنا كبيرٌ جدًا.. كبيرٌ بحجم هذه الأرض.. كنّا نقارعُ كلّ مبرّرات الرحيل لنبقى.. لنحوّل هذه المزبلة التي تُسمى وطنًا الى وطنٍ يُسمى لبنان.. ورغم أملنا وصراعنا وانتصار أحلامنا المحتوم.. ورغمًا عن لبنانيّتنا.. نحن لم نكن بخير أبدًا"...
#نجيب_علي_العطّار (هاشتاغ)
Najib_Ali_Al_Attar#
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
الأزمةُ البيضاء
-
التَّسميمُ بالأسماء
-
كارثيّة الإختزال
-
الهولوكوست الأسديّ
-
تسقط دولة فلسطين
-
الهولوكوست اللبناني
المزيد.....
-
بشعار -العالم في كتاب-.. انطلاق معرض الكويت الدولي للكتاب في
...
-
-الشتاء الأبدي- الروسي يعرض في القاهرة (فيديو)
-
حفل إطلاق كتاب -رَحِم العالم.. أمومة عابرة للحدود- للناقدة ش
...
-
انطلاق فعاليات معرض الكويت الدولي للكتاب 2024
-
-سرقة قلادة أم كلثوم الذهبية في مصر-.. حفيدة كوكب الشرق تكشف
...
-
-مأساة خلف الكواليس- .. الكشف عن سبب وفاة -طرزان-
-
-موجز تاريخ الحرب- كما يسطره المؤرخ العسكري غوين داير
-
شاهد ما حدث للمثل الكوميدي جاي لينو بعد سقوطه من أعلى تلة
-
حرب الانتقام.. مسلسل قيامة عثمان الحلقة 171 مترجمة على موقع
...
-
تركيا.. اكتشاف تميمة تشير إلى قصة محظورة عن النبي سليمان وهو
...
المزيد.....
-
مداخل أوليّة إلى عوالم السيد حافظ السرديّة
/ د. أمل درويش
-
التلاحم الدلالي والبلاغي في معلقة امريء القيس والأرض اليباب
...
/ حسين علوان حسين
-
التجريب في الرواية والمسرح عند السيد حافظ في عيون كتاب ونقا
...
/ نواف يونس وآخرون
-
دلالة المفارقات الموضوعاتية في أعمال السيد حافظ الروائية - و
...
/ نادية سعدوني
-
المرأة بين التسلط والقهر في مسرح الطفل للسيد حافظ وآخرين
/ د. راندا حلمى السعيد
-
سراب مختلف ألوانه
/ خالد علي سليفاني
-
جماليات الكتابة المسرحية الموجهة للطفل في مسرحية سندس للسيد
...
/ أمال قندوز - فاطنة بوكركب
-
السيد حافظ أيقونة دراما الطفل
/ د. أحمد محمود أحمد سعيد
-
اللغة الشعرية فى مسرح الطفل عند السيد حافظ
/ صبرينة نصري نجود نصري
-
ببليوغرافيا الكاتب السيد الحافظ وأهم أعماله في المسرح والرو
...
/ السيد حافظ
المزيد.....
|