|
وليم إيغلتن ؛ مؤرخ الجمهورية الكردية الأولى
دلور ميقري
الحوار المتمدن-العدد: 1674 - 2006 / 9 / 15 - 07:49
المحور:
دراسات وابحاث في التاريخ والتراث واللغات
1 على مدخل فندق " خانزاد " ، الباذخ ، كانت حافلتنا الصغيرة ( ميني باص ) ، تتأهب للمضيّ بركبها نحو مدينة " أربيل " ؛ عاصمة إقليم كردستان العراق ، التي تبعد عنه بنحو دزينة من الكيلومترات . وكعادتنا ، نحن أهل المشرق ، عموماً ، كان التأخر عن المواعيد صفة سيئة ، ليسَ بالسهل التبرأ منها . بين تمتمات سائق الحافلة ، المتذمرة ، وصيحات الزملاء ، المتهاتفة ، إحتارَ ذلك الصباحُ الألِقُ ، الصاحي على إشراقة شمس دافئة ، ربيعية . وما كنت ، من جهتي ، بأقل حيرة أو تذمراً ، في مجلسي بالصف الأمامي من تلك الحافلة . كانت نظراتي ، عبر النافذة المشرعة ، تتناهى صوب مدخل الفندق ترقباً لرفاق الرحلة ، المتأخرين ؛ وإذا بي أسمعُ ، على حين غرة ، أحدهم وهوَ ينطق إسماً أليفاً لسمعي : " وليم إيغلتن " . إنجذبتْ نظراتي ، من ثمّ ، نحو ثلة من الرجال الأجانب ، ذوي الملامح الأوروبية ، لتستقرّ تلقائياً على الأكبر فيهم سناً : بدا الرجلُ المنتصبُ هناك على مدخل النزل ، بكامل أناقته ؛ بالرغم من عمره المراوح على أعتاب العقد التاسع . كان غزير شعر الرأس ، أشيبه ؛ لم تهزم وسامة قسماته تجاعيدُ الزمن ، ولا إنحناءة الظهر التي بالكاد يميّزها المرء .
2
وليم إيغلتن الإبن ؛ هذا إسمه الكامل . إنه الديبلوماسي الأمريكي ، العريق ، ومؤلف كتاب " جمهورية مهاباد الكردية ". كان من غرائب الإتفاق ، قطعاً ، أن يشهدَ هذا العامُ بالذات لقائي بالرجل ؛ العام الذي نعى إلينا خبَرَ وفاة جرجيس فتح الله ، الكاتب العراقيّ ، اللامع ، مترجم ذلك الكتاب ، الموسوم ، إلى العربية ؛ وهو العام ، نفسه ، الشاهد على الذكرى الستين لتأسيس تلك الجمهورية الكردية ، الأولى . ولكي تكتمل تحفة المصادفة ، الموصوفة ، فقد كنا يومئذٍ في طريقنا إلى زيارة مبنى برلمان إقليم كردستان العراق ، الفيدرالي ؛ هذا المبنى ، المهيب ، المحروس بصورة " قاضي محمد " ، رئيس جمهوريتنا الأولى ، الوليدة ، التي وأدها آنذاك تضاربُ المصالح ( أم الأصح ، توافقها ؟ ) بين الدول العظمى . كنا ما نفتأ في موقفنا ، على مدخل فندق " خانزاد " ، الواقع في منتصف المسافة بين عاصمة الإقليم وأختها الصغيرة ؛ مدينة " مصيف صلاح الدين " . في هذه الأخيرة ، تتناهض تلة باسقة ، متشامخة على ما يحيطها من وديان وسهول ، ويمكن تمييزها بسهولة من موقفنا ذاك : إنها " سَرْرَش " ( أيْ : الرأس الأسود ) ، المحتبية مجمعاً سكنياً واسعاً ، فارهاً ، يخصّ " كاك مسعود " ؛ وهي التسمية المعتادة ، التي يطلقها ببساطة ويسر أهالي إقليم كردستان العراق ، على رئيسهم مسعود بارزاني . الزمنُ ، إذاً ، يعيدُ أحياناً دورته . إلا أنّ الأمور ، في مستهل هذه الألفية الجديدة ، تنحو لمطابقة أماني الكرد ، الإستقلالية ؛ الأماني المشروعة ، التي جعلتْ إسترجاع َ ذكرى تأسيس جمهورية " مهاباد " الكردية ، الأولى ، أكثرَ ألقاً ودفئاً ؛ حال ذاك اليوم ، الجميل ، المستحيل نسيانه ، الذي جمعنا بمؤرخها الفذ ، وليم إيغلتن الإبن .
3
هروعي على الفور لملاقاة ذلك الكاتب الأمريكي ، كان أولاً تحية ً لصديق شعبنا وتالياً عودة ً إلى سنوات الصِبا ، الفائتة ؛ السنوات التي شهدَ إحداها ، ( عام 1972 ) ، وقوع الطبعة العربية الأولى ، الطازجة ، من كتاب " جمهورية مهاباد الكردية " ، في يدي . ما زلت أذكرُ شكلَ هذا الكتاب ، المجلوب تهريباً من بيروت ؛ بغلافه الأنيق ، المرقش إطاره بألوان الكرد ، الحميمة ، والمركونة بأسفله علامة دار النشر اللبنانية ، اليسارية ، التي كنا وقتئذٍ نحبذها . قلنا أنّ اللقاء جمعنا بمؤلف الكتاب ، حيث تحلقنا حوله لنتجاذب أطراف الحديث معه ، تارة ً بمفرداتنا الإنكليزية ، القليلة حدّ الشح ، وتارة اخرى بوساطة مرافقه ، الكرديّ ، المجيد للغة السكسون تلك . كم كانت كبيرة بهجة الرجل بنا ، كما إمتنانه للشعب الذي صادقه وأحبه ، فيما يرى بعضَ أبنائه وهم يعرفون إسمه حق المعرفة ، فيهبون للقائه ويحرصون على أخذ الصور التذكارية معه ؛ حتى ليجوز القول ، أن حميتنا تلك قد أدهشته ومرافقيه من الأجانب ، أبناء موطنه . سرني بشكل خاص ، معرفة أنّ حضور وليم إيغلتن إلى الإقليم ما كان زيارة ودية ، حسب ، بل ومعرفية أيضاً ؛ دشن خلالها صدور كتابه الجديد ، " النسيج الكرديّ " ، المتبحّر بفنون صنعة السجاد والأبسطة في بلاد الله الجبلية ، هذه . كاتبنا ، إذاً ، ينتقلُ من هموم السياسة التي شغلت شبابه ورجولته ، إلى عالم الإثنولوجيا ، المتشاغل به في كهولته : كأنما هوَ في مواكبته تلك ، التاريخية ، للشعب الصديق الذي أحبه وألفه ؛ من مرحلة الحرب والشقاء والعناء إلى مرحلة السلم والبناء .
4
يفتتح مؤرخنا كتابه ، " جمهورية مهاباد الكردية " ، بملاحظة ثاقبة ، غاية في الأهمية ، ربما تلخص أساس سوء الفهم ، التاريخي ، الذي إبتليَ به هذا الشعب في مستهل القرن العشرين ؛ القرن المنصرم ، الشاهد على تقسيم كردستان وإلحاقها بأربعة من دول الإستبداد ، الشرقي . إن الكاتب ، في ملاحظته تلك ، الموصوفة ، يشير إلى إعتماد الدول الغربية مبكراً ، في معلوماتها عن بلاد الكرد وأحوال ساكنيها ، على تقارير غير موضوعية من لدن جهاتٍ لم تكن ، بدورها ، على شيء من الحيادية : " بمجيء القرن 19 ، كان " الكرد الهمج " قد دخلوا عالم الحكايات التي يقصها المبشرون والآثاريون وأولئك الرحالة القادمون من أوروبة ، ومعظمهم منتدب من حكوماتهم المهتمة بداخلية الامبراطورية العثمانية المتفسخة وبلاد إيران الغافية " ( الصفحة 15 / الطبعة العربية الأولى ) . في سياق حديثه عن دور أولئك الغربيين ، الموسومين ، يخصّ المبشرين منهم ببعض التفاصيل المتعلقة بتقاريرهم ، الملفقة ، عن سوء معاملة الزعماء الكرد لرعاياهم النصارى ، وحتى إرتكاب المجازر بحقهم . وإذ يدحض كاتبنا تلك المزاعم ، ومنها ما يتعلق بأمير ولاية " بوطان " ، بدرخان باشا ؛ فإنه يُذكر القاريء بشهادة ناصعة لصالح هذا الأمير الكرديّ الشهير ، عن حسن معاملته للأقليات الدينية ، وردت في وثائق أرمنية مدونة في كتاب " الأكراد " للمستشرق الروسي باسيل نيكيتين . للمفارقة ، فإنّ الدولتين اللدوتين ؛ أمريكة وروسية ، اللتين تقاسمتا المسؤولية في المصير المأساوي لجمهورية " مهاباد " خلال النصف الأول من القرن العشرين ، كانتا في أواخر القرن الذي سبقه على تنافس لكسب ودّ الزعماء الكرد . إننا نعلم مما ورد في كتاب وليم إيغلتن هذا ، أنّ المبشر الأمريكي ، الطبيب والقس " غوجران " ربطته صداقة وطيدة مع الزعيم الكرديّ ، القويّ ، شيخ عبيد الله نهري ؛ وأنه أوصل منه رسالة إلى القنصلية الأمريكية في عام 1878 ، يؤكد فيها : " أن الأمة الكردية شعبٌ قائم بذاته " ( ص 20 ) . بينما ذهبت روسيا إلى أبعد من ذلك ، وبعد مضي عقد كامل من تلك الرسالة ، سالفة الذكر ؛ حينما إستقبل قيصرها نيقولا الثاني ، بنفسه ، في " تيفليس " ، الجورجية ، وفداً من الزعماء الكرد ، مرحباً بهم كحلفاء ضد العدو المشترك ، العثمانيّ ، ومشيّعاً إياهم وهم محملين بالهدايا النفيسة .
5
كأنما المؤلف ، في عرضه الموجز لتاريخ الكرد القديم ، أراد إرسال أكثر من إشارة رمزية . فالموطن الأول لهذا الشعب العريق ، الذي إنساحوا منه غرباً وشمالاً نحو بلاد ما بين النهرين ، منذ الألف الأولى قبل الميلاد ؛ ما كان سوى جبال زاغروس ، في البلاد الإيرانية . كما أنّ الإمبراطورية الكبرى ، الأولى ، المؤسسة في أواخر القرن الخامس قبل الميلاد ، من لدن الميديين ، أسلاف الكرد ، كانت عاصمتها " آمدانا " ( همدان الحالية ، في شمال شرق إيران ) : فلا غروَ ، والحالة هكذا ، أن تكون الجمهورية الكردية ، الأولى ، المشكلة في كانون الثاني 1946 ، قد وجدت في مدينة " مهاباد " ( كردستان إيران ) ، عاصمة لها . في هذه المدينة ، إنعقدتْ الشهرة لقاض شرعيّ ؛ سيعرف إسمه ، تاريخياً ، " قاضي محمد " ، مذيلاً بمهنته تلك . لا ينسى مؤرخنا التنويه بصداقة هذا القاضي ، الدمث الأخلاق والجم التواضع ، للمبشرين الأمريكان ؛ هؤلاء الذين كانوا قد تعرضوا لمضايقات كبيرة من جانب " سمكو خان " ، الزعيم الكردي الجريء حدّ التهور ، والذي دوّخ السلطات الإيرانية طوال الثلث الأول من القرن العشرين . على أنّ قوة اخرى ، عظمى ، غير الأمريكية ، هيَ التي كان من المقدّر لها لعبَ الدور الأهم في حياة الكرد السياسية ، في أعقاب الحرب العالمية الثانية : إنها روسية السوفياتية ، التي بقيت قواتها في الأراضي الإيرانية حتى بعيد هزيمة ألمانية النازية . لقد إستغل الكرد ، إذاً ، الفراغ الناجم عن غياب السلطة المركزية ، فراحوا يديرون شؤون بلادهم بإرادتهم الذاتية وبمعونة محدودة من لدن قوات الإحتلال تلك . في هذه الأثناء ، كان ثمة قوتان رئيستان ، كرديتان ، ساهمتا بتعزيز إستقلال الإقليم الفيدرالي ، الناشيء : الحزب الديمقراطي الكردستاني ، الذي تأسست نواته الأولى ، بإسم " كومله " ( أيْ : الجمعية ) ، منذ عام 1942 ؛ علاوة على البارزانيين ، وهم العشيرة الكردية العراقية ، القوية ، التي إنتقل زعيمها آنذاك ، ملا مصطفى ، إلى كردستان إيران إثر فشل ثورته ضد الحكومة العراقية المسنودة من القوات الإنكليزية ، المحتلة . قاضي محمد ، زعيمُ ح د ك ، سيكون على موعدٍ مع إعلان الجمهورية ليصبح رئيسها ؛ فيما البارزاني سيكون القائد الفعليّ لجيشها ، وبصفة رتبته العسكرية الجديدة ، كجنرال أركان حرب . في كتاب وليم إيغلتن الإبن هذا ، ثمة صورة فوتوغرافية ، يبدو فيها كلا الزعيمان ، المذكوران ، وهما في ميدان " جارجرا " ( أيْ : المصابيح الأربعة ) ، في مدينة " مهاباد ، والذي شهد إعلان ولادة الجمهورية الكردية ؛ الميدان نفسه ، الذي سيكون شاهداً ، أيضاً ، على واحدة من أكثر المآسي اتي دهمتْ لكرد ، في تاريخهم الحديث ؛ وهيَ إعدام قاضي محمد ، بعد أقل من عام واحد على ذلك الإعلان ، المهيب .
#دلور_ميقري (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
الثالوث غيرَ المقدّس
-
الحادي عشر من سبتمبر : خمسة أعوام من المعاناة
-
الجريمة والعقاب : طريق نجيب محفوظ في بحث مقارن 3 / 3
-
الأعلام العراقية والإعلام العربي
-
علم الكرديّ وحلمه
-
الجريمة والعقاب : طريق نجيب محفوظ في بحث مقارن 2 / 3
-
محفوظ ؛ مؤرخ مصر وضميرها
-
الجريمة والعقاب : طريق نجيب محفوظ في بحث مقارن 1 / 3
-
كردستان ، موطن الأنفال
-
ثقافة المقاومة أم ثقافة الطائفة ؟
-
المقاومة والمعارضة 2 / 2
-
المقاومة والمعارضة
-
الكوميديا السورية
-
إنتصار الظلامية والإستبداد ؟
-
ثقافة المقاومة ، ثقافة الموت
-
لبنان في فم الأسد ، مجدداً ؟
-
صلاح الدين عصرنا
-
قصف إعلامي ، عشوائي
-
محمد أوزون ؛ كاتبٌ كرديّ على أبواب العالم
-
من البونابرت العربيّ إلى الطاغوت الطائفيّ
المزيد.....
-
جنرال أمريكي متقاعد يوضح لـCNN سبب استخدام روسيا لصاروخ -MIR
...
-
تحليل: خطاب بوتين ومعنى إطلاق روسيا صاروخ MIRV لأول مرة
-
جزيرة ميكونوس..ما سر جاذبية هذه الوجهة السياحية باليونان؟
-
أكثر الدول العربية ابتعاثا لطلابها لتلقي التعليم بأمريكا.. إ
...
-
-نيويورك بوست-: ألمانيا تستعد للحرب مع روسيا
-
-غينيس- تجمع أطول وأقصر امرأتين في العالم
-
لبنان- عشرات القتلى في قصف إسرائيلي على معاقل لحزب الله في ل
...
-
ضابط أمريكي: -أوريشنيك- جزء من التهديد النووي وبوتين يريد به
...
-
غيتس يشيد بجهود الإمارات في تحسين حياة الفئات الأكثر ضعفا حو
...
-
مصر.. حادث دهس مروع بسبب شيف شهير
المزيد.....
-
الانسان في فجر الحضارة
/ مالك ابوعليا
-
مسألة أصل ثقافات العصر الحجري في شمال القسم الأوروبي من الات
...
/ مالك ابوعليا
-
مسرح الطفل وفنتازيا التكوين المعرفي بين الخيال الاسترجاعي وا
...
/ أبو الحسن سلام
-
تاريخ البشرية القديم
/ مالك ابوعليا
-
تراث بحزاني النسخة الاخيرة
/ ممتاز حسين خلو
-
فى الأسطورة العرقية اليهودية
/ سعيد العليمى
-
غورباتشوف والانهيار السوفيتي
/ دلير زنكنة
-
الكيمياء الصوفيّة وصناعة الدُّعاة
/ نايف سلوم
-
الشعر البدوي في مصر قراءة تأويلية
/ زينب محمد عبد الرحيم
-
عبد الله العروي.. المفكر العربي المعاصر
/ أحمد رباص
المزيد.....
|