كمال سيد قادر
الحوار المتمدن-العدد: 1673 - 2006 / 9 / 14 - 11:03
المحور:
دراسات وابحاث في التاريخ والتراث واللغات
الوثائق تتكلم!
الفترة الزمنية ما بين 1960-1962 تعتبر ذروة الحرب الباردة بين الشرق و الغرب و كانت الاجهزة المخابراتية لكلا المعسكرين تلعب الدور الرئيسى فى هذه الحرب لانها كانت القوة الوحيدة القابلة للاستخدام نظرا للتوازن الاستراتيجى النووى بين المعسكرين. و لم تقتصر مهمات اجهزة المخابرات للمعسكرين المنافسين على الاعمال التجسسية فقط بل كانت تشن حربا خفية شاملة على كل المستويات و من ضمن هذه الحرب الخفية، الحرب بالنيابة، خاصة فى دول العالم الثالث خلال تسليح و تمويل جماعات سياسية معينة بطريقة غير مباشرة و تحريكها للقيام بحركات مسلحة ضد الدول المستهدفة.
المخابرات السوفيتية كي جي بى، كما يتضح الآن من الوثائق المنشورة لهذا الجهاز، كانت تستخدم اسلوب الحرب بالنيابة بكثافة فى امريكا اللاتينية و افريقيا و آسيا.
و الشعب الكردى بسبب الاضطهاد الذى كان يعانية منذ قرون، كان قد اصبح فريسة سهلة لكل من ينوى استخدامه نيابة عنه. فهذه الفرصة استغلتها المخابرات السوفيتية لضرب المصالح الغربية فى الشرق الاوسط، و ما سهل الامر كان وجود علاقة قديمة بين ملا مصطفى البارزانى، رئيس العشيرة ذو نفوذ واسع فى كردستان، و بين المخابرات السوفيتية.
و لذا كان من البديهى ان يختار الكى جي بي ملا مصطفى البارزانى القيام بمهمة شن حرب بالنيابية فى الشرق الاوسط.
فى مذكرة ارسلها الكساندر شيليبين، رئيس جهاز الكى جي بى فى ستينات القرن الماضى الى الزعيم السوفيتى نيكيتا خروشوف فى تموز عام 1961، حدد فيها اهداف المهمة التى سيتولاها مصطفى البارزانى.
و هنا نص وثيقة الكى جى بى المترجمة اولا من اللغة الروسية الى اللغة الانكليزية من قبل البروفيسور A.Zubok، من جامعة تيمبل الامريكية: " لغرض نشر الزعزعة و عدم الاستقرار داخل صفوف حكومات الولايات المتحدة الامريكية، انكلترا، تركيا و ايران ، و خلق شعور بعدم ثبات مواقع هذه الحكومات فى الشرق الاوسط، نقترح الاستفادة من العلاقات القديمة بين ملا مصطفى البارزانى، رئيس الحزب الديمقراطى الكردستانى، و الكى جى بى، لاثارة حركة كردية فى العراق و ايران و تركيا بهدف تاسيس كردستان مستقلة تضم اقاليم للدول المذكورة اعلاه. و سيتم تزويد البارزانى بالسلاح و المال اللازم كما يجب الاعلان عن تضامن الشعب السوفيتى مع الحركة الكردية. فان حركة كردستان الاستقلالية سوف تؤدى الى خلق توترات جدية لدى القوى الغربية و على راسها انكلترا بسبب طرق امداداتها النفطية من العراق و ايران، و لدى الولايات المتحدة الامريكية بسبب قواعدها العسكرية فى تركيا. و كل هذا سوف يؤدى ايضا الى خلق مصاعب لعبد الكريم قاسم الذى بدأ فى اللآونة الاخيرة باتباع سياسة موالية للغرب. و كما يجب اعلام جمال عبد الناصر من خلال القنوات الغير الرسمية بان فى حالة نجاح مشروع الاستقلال الكردى، فان موسكو ستدعم دمج الاقليم الغير الكردى للعراق بالجمهورية العربية المتحدة" ( المصدر: وثيقة كى جى بى من ارشيف اللجنة المركزية للحزب الشيوعى السوفيتى، رقم الوثيقة ( Shelepin to Khrushchev, 29 July 1961, in St.-191/75gc, 1 August 1961, TsKhSD, fond 4, opis 13, delo 81, ll. 131-32).
و بعد موافقة خروشوف على مقترحات شيليبين و قيام ملا مصطفى البارزانى فعلا بتنفيذ المهمة و اشعال حركة كردية مسلحة فى كردستان العراق فى الحادى عشر من ايلول 1961، تجاوب الكى جى بى بسرعة مع التطورات الجديدة و قدم مقترحات جديدة لاستغلال الوضع بصورة افضل.
ففى مذكرة قدمها نائب رئيس جهاز الكى جى بى آنذاك، بيتر ايفاتوشين الى اللجنة المركزية للحزب الشيوعى السوفيتى فى 27 ايلول 1961، جاء ما يلى: " استنادا الى قرار اللجنة المركزية للحزب الشيوعى السوفيتى الصادر فى الاول من شهر آب 1961، بخصوص اتخاذ الاجراءات اللازمة لصرف نظر قوات الولايات المتحدة الامريكية و حلفاءها عن برلين الغربية، و بعدما بدأت الحركة المسلحة للعشائر الكردية فى شمال العراق، نقترح ما يلى:
1. استخدام امكانيات الكى جى بى للقيام بمظاهرات موالية للاكراد و معادية لعبد الكريم قاسم فى الهند و اندنوسيا و افغانستان و غينيا و دول اخرى،
2. تشكيل لقاء مع البارزانى و مطالبته بالاحتفاظ بقيادة الحركة الكردية فى يده و توجيهها على درب الديمقراطية، و كذلك اعلام البارزانى بالتصرف بطريقه حذرة فى نشاطاته لكى لا يتهم الغرب الاتحاد السوفيتى بالتدخل فى شؤون العراق الداخلية،
3. تخويل الكى جى بى لتجنيد و تدريب قوة مسلحة خاصة متكونة من 500-700 رجل من الاكراد االمقيمين فى الاتحاد السوفيتى و ذلك لغرض تزويد البارزانى باختصاصات عسكرية مختلفة (رجال المدفعية، الاتصالات اللاسلكية، فرق النسف و الخ) لدعم الحركة الكردية فى حالة الضرورة" (المصدر: وثيقة الكى جى بى من ارشيف اللجنة المركزية للحزب الشيوعى السوفيتى السابق من ترجمة و نشر البروفسور Zubok، رقم الوثيقة فى ارشيف اللجنة المركزية فى موسكو (P.Ivashutin to CC CPSU, 27 September 1961, St.-199/10c, 3 October 1961, TsKhSD, fond 4, opis 13, delo 85, ll. 1-4).
و لكن الذى ما كان لكى جى بى العلم به، هو بان الغرب كان على علم مسبق بالعلاقات الخاصة بين البارزانى و الاتحاد السوفيتى. فى برقية ارسلها السفير الامريكى فى العراق آنذاك الى وزارة الخارجية الامريكية فى اكتوبر 1958، اى بعد ثلاثة اشهر فقط من ثورة تموز جاء ما يلى: " للشيوعين ايضا قدرة مهاجمة عبد الكريم قاسم، مثلا من خلال الزعيم الكردى الملا مصطفى البارزانى الذى عاد مؤخرا من الاتحاد السوفيتى الى العراق. لقد قضى البارزانى احد عشر سنة فى الاتحاد السوفيتى و له قاعدة عريضة داخل الشعب الكردى و قدراته لاثارة البلبلة و عدم الاستقرار تبدوا لا متناهية. لهذا نعتقد بان التهديد الاكبر لنظام قاسم ياتى اليوم من الشيوعيين" ( المصدر: وثيقة وزارة الخارجية الامريكية كما نشرها البروفسور Zubok، رقم الوثيقة: (." See Gallman to Department of State, 14 October 1958, in U.S. Department of State, Foreign Relations of the United States, 1958-1960, Vol. XII (Washington, DC: Government Printing Office, 1993), 344-46 (see Zubok, 21).
هكذا كانت الحركة الكردية فى العراق اصبحت منذ بداية ستينات القرن الماضى ورقة بيد موسكو لاستفزاز الحكومات العراقية المتعاقبة و هى كانت ورقة ناجحة فى بعض الاحيان.
جاء فى ارشيف ميتروخين بان الكى جى بى ارسل يفكينى بريماكوف فى منتصف ستينات القرن الماضى الى العراق تحت غطاء صحفى و لكنه كان فى الحقيقة احد العاملين فى جهاز الكى جى بى و اسمه السرى كان (MAX). كان ليفكينى بريماكوف علاقات مباشرة مع مصطفى البارزانى و كذلك لعب الدور الرئيسى فى ابرام اتفاقية الحادى عشر من آذار 1970 بين الحكومة العراقية و البارزانى. و لم تكن وساطة بريماكوف بدون مقابل، اذ ان الحكومة العراقية كانت آنذاك قد اصابها الارهاق من جراء حربها مع الاكراد و كانت ترغب فى انهاء هذه الحرب. ثم عرضت موسكو وساطتها على الحكومة العراقية بشرط رفع الحذر عن نشاطات الحزب الشيوعى فى العراق و تطوير العلاقات مع موسكو فى كافة المجالات، وهذا ما حدث بالفعل بعد ابرام اتفاقية آذار، اذ رفع الحذر عن نشاطات الحزب الشيوعى العراقى و شكل هذا الحزب ما تسمى بالجبهة التقدمية مع الحزب البعث الحاكم و ابرم العراق معاهدة الصداقة مع الاتحاد السوفيتى.
و لكن بعدما استعاد النظام البعثى قوته بمساعدة موسكو، بدأت بوضع عراقيل امام تنفيذ اتفاقية الحادى عشر من آذار و بدعم من موسكو الى ان تم القضاء على الحركة الكردية المسلحة خلال اتفاقية الحدود التى ابرمها العراق مع ايران عام 1975 و بذلك اقترب العراق من المعسكر الغربى، و الغرب بدوره دار ظهره للبارزانى الذى كان قد انشا علاقات سرية مع المخابرات الامريكية و الاسرائيلية و الايرانية. بعد انهيار الحركة الكردية لجأ البارزانى الى الولايات المتحدة الامريكية من خلال مقر المخابرات الامريكية فى طهران و فى امريكا بقى البارزانى تحت مراقبة و اشراف المخابرات الامريكية التى كانت تتحمل ايضا مصاريف اقامته و علاجه فى امريكا لمدة خمس سنوات (للمزيد عن سنوات البارزانى فى امريكا انقر على الربط الآتى: http://www.meforum.org/article/220 ) .
بعد تقارب بغداد من الغرب تعرض الحزب الشيوعى العراقى من جديد الى الملاحقة و الاضطهاد و تدهورت العلاقات الاقتصادية و العسكرية بين موسكو و بغداد ولذا عادت موسكو الى ورقتها القديمة، اى استخدام الاكراد و الشيوعيين ضد بغداد.
و منذ ذلك الوقت تكرر السيناريو عدة مرات و عائلة البارزانى انتقل من معسكر الى آخر بين الكى جى بى و الموساد والسى آى آى و الخ. و للمسرحية المخابراتية حلقات قادمة.
#كمال_سيد_قادر (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟