|
الميتافيزيقا والعلوم: الرهانات الجديدة
الشريف زيتوني
الحوار المتمدن-العدد: 7241 - 2022 / 5 / 7 - 04:32
المحور:
مواضيع وابحاث سياسية
La métaphysique et les sciences : les nouveaux enjeux
بترجمة هذا النص للفيلوسفة الفرنسية كلودين تيارسلان، Claudine Tiercelin(1952-...).، الناشر: (collège de France 2014). أردنا أن نقدم تصورا جديدا حول إشكالية العلاقة بين الميتافيزيقا والعلوم، والتي كثيرا ما تناولها الفلاسفة والباحثون برؤى مختلفة تتراوح بين مؤيد لهذه العلاقة، ورافض لها، بل هناك حتى من ينفي وجود معرفة ميتافيزيقية أصلا. الفيلسوفة كلودين تيارسلان المهتمة بمجالات الفلسفة المعرفية، والميتافيزيقا التحليلية، تناولت هذه الإشكالية بالتحليل المنطقي، ولم تكن في ذلك، إلا مدافعة عن رهان جديد يتمثل في تصور جديد أسمته: "الميتافيزيقا العلمية". تريد من خلاله، أن تثبت بعد خلخلتها لكثير من المواقف الميتافيزيقة والعلمية، بأن هذا الموقف متأت من بواطن المعرفة العلمية. لذا، فقراءة هذا النص قد تفتح لكل مهتم بإشكالية الميتافيزيقا والعلوم نافذة جديدة للتأمل والتحليل النقدي لمسارات المعرفة الإنسانية وزيادة توسعها. 1 – يبدو أن كل المؤشرات تدل على أن أيام الميتافيزيقا بصفتها "ملكة العلوم" قد ولت. حتى ولو كان "الإنسان يمارس الميتافيزيقا كما يتنفس" ، فقد أصبح من الطبيعي تقريبًا ، لا سيما منذ التحول الكانطي ، اعتبار أنه من حق العلوم أن تخبرنا بما يتكون العالم، ومن ثم ننطلق (على الأقل مما نؤمن به) أي: مما هو كائن. أما الميتافيزيقيا فإنها لا تستطيع أن تخبرنا شيئا عن الواقع الموضوعي: وإذا كان لها أن تقدم لنا شيئا، فلا يكون أكثر من أنها تعلمنا ببعض الخصائص المتعلقة بموضوعها، كذلك التفكير في العلاقات بين الميتافيزيقا والعلم، يستدعي بالتأكيد استحضار علاقاتهما المتوترة، والممتدة عبر التاريخ، وهذا يشكل الأساس الجيد لكليهما، ويؤكد صوابية دعوات معينة للنظام، كما يفيد في اقتراح بعض القواعد البسيطة لتجنب السقوط في العلموية والقبلية. وأخيرا يمكن المراهنة -إذا أردنا على الأقل تجاوز المثالية التي تهدد العلماء والميتافيزيائيين على حد سواء – على الإمكانية المزدوجة للواقعية العلمية كما هي، ولميتافيزيقا علمية قادرة على أن تخبرنا – من دون احتقار للعلوم- عما هو الحقيقي، وبالتأكيد، عما نفكر فيه حول الواقع، ولكن أيضا، وقبل كل شيء الحقيقة في حد ذاتها . يبدو أن كل ذلك، يمثل التحديات الأساسية التي تواجه في يومنا هذا، ليس فقط الفيلسوف، ومؤرخ العلم، والميتافيزيقي (بالمعنى التقليدي الذي اعتدنا عليه في التعامل مع هذه المصطلحات في فرنسا)، بل للفيلسوف ذاته، فلا ينبغي إذا أن تظهر بعض المشكلات الحاسمة المتعلقة باللغة أو المعرفة أو حتى الأخلاق، على أساس أنها أجنبية تماما. 1. الميتافيزيقا والعلوم: تاريخ حافل بالأحداث 2 سأبدأ، إذن بمراجعة موجزة للتاريخ المفعم بالأحداث المرتبطة بالعلاقات بين الميتافيزيقا والعلوم، والذي لا يعود إلى الأمس القريب، ولا نعرف عنه – في الواقع – إلا القليل، ولا ينبغي أن نخلط بينهما، بدلا من التساؤل عن مكونات العالم ( الماء، الهواء، النار)، على عكس الفيزيائيين (Empédocle, thales ou anaximanène ) الذين اشتغلوا فقط بالأسباب المادية، في حين فضل أرسطو التساؤل عن معرفة تتجاوز الفيزيائي ، عن العلل الأولى، حول ما يمكن معرفته قبل أي علم آخر، منطلقا من الوجود كما هو موجود. هكذا جاء مصطلح الميتافيزيقا (... ) هذا المصطلح ليس أرسطو من نحته، بل هو نتيجة لمصادفة تاريخية، حيث كان بسبب تصنيف بعض نصوص ستاجيريت Stagirite فجاء مصطلح الميتافيزيقا بعد الفيزيقا . 3 – كثيرا ما يقال ، إن العلم في العصير الحديث، قد تجاوز هذا العلم الذي يهتم بالمبادئ لأولى، بالفلسفة الأولى؛ قد انطلق بفضل الاهتمام بالواقع، وتوزيع الأدوار. وعليه لم يبق للميتافيزيقي/ اللاهوتي البحث في: الأسباب، والماهيات، والصفات الغريبة الأخرى، والحقيقة التي لا يمكن الإحاطة بها، ولا يمكن الوصول إليها، وبالتالي فهي لامعقولة. لكن هذا لا يهم: فمن يريد أن يهتم ب"بما معنى الوجود"؟ قد يحصل ذلك بالنسبة للعالم، عن طريق الاكتشاف أو بالأحرى، عبر البناء المثير للواقع الموضوعي، وذلك من خلال عمليات مختلفة: اختزال الواقع المادي في معادلات رياضية، من الكيف إلى الكم، وإلى القياس؛ رفض النهائية لصالح الآلية، إدخال الحدوس المشتركة في شبكة محكمة من التصورات، والقوانين التجريبية، وأيضا التقنية. إذن البحث في الأسباب والعلل لم يعد مطروحا. إن المظهر الخارجي، صار مندرجا في قوانين ووظائف. أن نحسب، ونتوقع، وكذلك نتدبر، تلك هي الكلمات المفتاحية. لماذا هذا الجوهر يحترق، وينبعث منه، لهب أصفر؟ لأن كل الجواهر من هذا النوع (ملح الصوديوم Sele de sodium تفعل ذلك، وهو ما يفسره النموذج الاستنتاجي الاسمي لهمبل Humpel: يتدخل قانون الإحاطة بالتفسيرات، وفي ظل ظروف أو أخرى نستنتج التفسير من الشروح l’explanandum de l’explanans 4 – نتذكر الحل الوسط الذي اقترحه أوزياندر Osiander لكوبرنيكوس Copernic، والنصيحة التحذيرية التي قدمها بيلارمين Belrmain إلى غاليلي Galile : لا تمد معنى واقعيا لنظرياتك، فهي ليست صحيحة ولا خاطئة (وهكذا تبقى الحقيقة ملكا للكتاب المقدس، وليس لك أن تخاف من المحرقة le bucher). إنها أدوات فكرية اقتصادية (مستنتجة من بعض المبادئ الرياضية ) موجهة لقياس الوقائع الخبرية، وتمثيل القوانين التجريبية، بصورة بسيطة، وكاملة، ودقيقة بقدر الإمكان، لكن من دون تقديم تفسيرات عميقة للحقيقة. ( إنقاذ الظواهر)، تعني هذه العبارة أيضا: أن نفضل الأساطير أو البراهين "الرياضية" (أفلاطون)، أو قياسات المنطقيين، وتجارب الفيزيائيين، وتحليلات أخرى للطبعيين (أرسطو). بركلي، ماخ، ثم دوهيم، (واليوم فان فرانسان) Van Franaassen، سيقفون ضد الواقعية، في كل تمظهراتها: - الظواهرية، المواضعاتية، الوسائلية، النفعية (البراغماتية)، وأخيرا التجربانية البناءة - التي من البديهي أن تكون في الغالب موغلة في القدم، وأكثر انحرافا من الوضعية سواء أكانت وضعية كومت أو المنطقية. لكن ألا يمكن القول بأن هذا هو الثمن الذي يمكن دفعه لـ (استقلالية الفلسفة الطبيعة)، خارج حدود التخصص، هذه المناعة الدبلوماسية للفيزياء، فيما يتعلق بالميتافيزيقا ،كما أشار إلى ذلك فريديك ناف سنة 2009م في كتابه الموسوم: بحث في الأنطولوجبا ؟ من الآن فصاعدا، العلم، والفيزياء ( ربما هي الوحيدة)، التي ستكون منبع المعلومات الرئيس لتقصي الواقع. 5- كيف يمكن الطعن في النجاحات المحققة؟ كيف يمكن أن ننسى أو نستنكر أن الوضعيين -كما لا حظ جاك بوفراس Jacques Bouveresse – هم أبناء عصر التنوير ؟ العلم هو أولا الجمهور، القابل للنقل . يرى شليك، أن المعرفة والتحكم في الطبيعة، صارت ممكنة عن طريق وسائل القياس، والرموز المجردة التي تضمن التحديد، والتنسيق العقلاني بين القوانين والنظريات . الميتافيزيقا أيضا لها محتواها، لكن ليست نظرية، ولا تشير إلى حالة الأشياء، Darstellungen von Sachverhalten ، إلا أنه، من الخطأ أن نأخذ محتوى الفهم (kennen) على أنه هو المحتوى المحتمل للمعرفة Erkenntnis) . يجب إذن، التمييز الدقيق بين المجالين (( العلم والميتافيزيقا) في التحقق من الواقع. ومن الأفضل، لكي ننهي، أن نبعد الميتافيزيقا من مجال العلم وندرج قضاياها مع (أشباه- القضايا) في مجال الشعر، وأحاسيس الحياة (Lebensgefuhl) أو التجربة المباشرة المعاشة . 6 – إذن، ما يدرج في مجال العلم، وما يمكن اعتباره صادقا، هو تلك العبارات التجربية التي يمكن استنتاجها منطقيا، وتبريرها بصورة مباشرة، أو غير مباشرة بالملاحظة. يفرض المبدأ الوجودي المحايد لوحدة العلم شرطا مزدوجا، لكنه ابستيمولوجيا خالصا: لا يوجد سوى مجموعة واحدة من الظواهر (لأن القاعدة الملاحظية هي نفسها)؛ كل العبارات العلمية، قابلة لأن يعبر عنها من حيث المبدأ بلغة واحدة. وبالتالي، فإن عدم تجانس الظواهر والعلوم، ليس فقط ظاهريا أو عمليا ( براغماتيا)في افضل الأحوال. الأمر الذي يجعل السؤال الميتافيزيقي مشروعا، بدلا من تجاوزه، بهدف معرفة، إن كان الواقع يتضمن مستويات، أو درجات هرمية معقدة، أم لا. وفي ما يخص المنظومات الميتافيزيقية، فإنها تشكل على مستوى التفكير التأملي والمنهجي، البديل عن اللاهوت، والقصائد الشعرية التي "تسهم في اثراء الحياة، لكن ليس المعرفة" كما لاحظ كارناب، "فإن قيمتها تكمن في الأعمال الفنية، وليس الحقائق. بل إنها على عكس الفن، تشكل طريقة غير مناسبة لإعادة الشعور بالحياة" . يذهب ويتجنشتين Wittgenstein أبعد من ذلك: حينما قال: إن ما يتعلق بالمعرفة، يجب أن يكون قابلا لأن يقال؛ وأما الباقي فيمكن إظهاره لا غير. القضايا الميتافيزيقية ليست فقط ضد العلم، بل إنها تخلو من المعنى. من هم الميتافيزيقيون؟ إنهم علماء بسطاء فاشلون، موسيقيون بدون موهبة موسيقية ، دجالون، أسيروا عالم عدم اليقين، والفرضيات الأكثر عمويمة . يبدو، أن هانز ريشباخ Hans Reichenbach محق حينما كتب سنة 1957بأن ما تحتاجه الفلسفة العلمية، هو إعادة توجيه الرغبات الفلسيفة 2. ضلال رجل العلم 7 – بعد ذلك، يمكن، ومن دون بذل جهد كبير، أن نحدد ما يتميز به رجل العلم. إذ إنـه سيستخدم كل ما يمكن من الفاظ : "علم"، "علمي"، "علميا"؛ كما أنه سيستخدم كل المصطلحات التقنية، بغض النظر عن فائدتها الحقيقية؛ ويكون مهووسا بإمكانية التمييز (la démarcation)، و الرغبة الملحة في رسم الحدود بين العلم الحقيقي، الشيء الحقيقي، و المحتالون القائلون بـ (بالعلم الزائف)؛ سيعمدون إلى تحديد الأسلوب العلمي، الذي يفيد في شرح نجاح العلم، ومن ثم، البحث عن إجابات على أسئلة، ليست في شيء من اهتماماتهم، الأمر الذي يجعلهم يحتقرون أو ينفون شرعية أو قيمة البحث في أنواع أخرى من الأنشطة الإنسانية، مثل الشعر أو الفن . 8 – لكن، ينبغي أن نحذر، بأنه سيكون من الخطأ اختزال المذهب الوضعي إلى علموية محضة، لأن ذلك، سيجعل الرؤية العلموية حكرا على الوضعيين، مما يؤدي إلى تبرئة الميتافيزيقيين أنفسهم. ويبدو أن ذلك هو ما يؤكد عليه التاريخ الحديث للميتافيزيقا: بالنسبة لبعض الميتافيزيقيين، فإن كل شيء - من الآن فصاعدا - يمكن أن "يذهب جانبا". كل شيء يجب أن يزول " Every thing must go" استخداما لعنوان كتاب حديث . إن الداعي إلى الميتافيزيقا يكمن بشكل حصري في إمكانياتها على توحيد الفرضيات والنظريات، التي " تكون محل نظر جاد من العلم المعاصر" . الميتافيزيقا الوحيدة التي ينبغي أن نهتم بها بجدارة هي تلك التي "تحتضنها الفيزياء " كما اقترح، تيم مودلين Tim Maudlin، معلنا زوالها. 9 - حقيقة، أنه بسرعة، في الميتافيزيقا، يشتبه بأن نكون علمويين: وأيضا، يتهم العلماء، بانهم أنطلولوجيون، شكلانيون، وإختزاليون على خطى كوين Quine، الذين تم انتقادهم ليس بسبب احترامهم للعلم، الابستيمولوجيا، أو المنطق، ولكن، لصلتهم غير المحدودة بفلسفة العقل، وفلسفة اللغة العادية . ولا يزال الأمر كذلك، لدى الفلاسفة الذين تأثروا بوتجنشتين، Wittgenstein، وأوستن Austin، وحديثا ببتنام Putnam. وحتى أولئك الذين أرادوا أن يسيروا على خطى كانط في تطوير الميتافيزيقا، مثل: بيتر ستراوسن Peter Strawson، لم يستطيعوا أن يتملصوا من فلسفة اللغة . إن التطلع إلى ميتافيزيقا أخرى، غير الوصفية، تتدعي المراجعة والتفسير، هو مجرد إفراط في السذاجة والسخرية. 10 – هل من العبث أن نأمل – بعيدا عن هذه المواقف – في المزيد من الصواب أو حتى التفاؤل، وهذا على عكس مذهب الشك الذي ظهر مؤخرا، مع الارتيابي باري سترود Barry stroud ؟ 11- لنبدأ مرة أخرى من التاريخ: حينما ظهرت حوالي السبعينات ميتافيزيقيات تدعو إلى الاعتراف بالجواهر، والأنواع الطبيعية، والمحددات الصارمة، لم يكن هناك اعتراض على المدافعين ( دافيد لويس Davide lewis شاول كريبك Saul Kripke ) لرفض العلم باسم الميتافيزيقا. بل أنه بالأحرى، على الميتافيزيقا أن ترد على ما يمكن أن يدعى انحراف نسبي واجتماعي للعلم ذاته، نتيجة للمشاكل العويصة التي أثارها التفسير على استمرارية المعنى أو عدم استمراريته، كما طرحها كوين و بتنام. وهو الشأن ذاته الذي نجده في تاريخ العلوم في أعمال مؤلفين مثل: كوهين Kuhn وفيرباند Feyerabend. وبالمقابل، لا أحد يفكر في مناقشة المبدأ التفسيري السببي، والاسمي للفيزياء (التي تكون فيها القوانين كونية وأساسية)، التي ترجع لها العلوم الخاصة، وحتى الفيزياوية الوجودية، والابستيمولوجيا على أقل تقدير. إذا كنا نفهم من هذه الفكرة العادية (التي لا يعارضها إلا الذين يقولون بنظرية الخلق)، التي تكون وفقها كل الأشياء الموجودة في هذا العالم، سوى عناصر من المادة أو هي بنيات ناتجة عن مجاميعها، تتصرف وفقا لقوانين الفيزياء. وغالبا ما يعتقد - ( حتى ولو كان هذا يحدث بفارق بسيط ( كما هو الشأن عند بتنام) – أن النظريات العلمية الناجحة يمكن أن يكون لها وجودا مستقلا عن العقل (مع وجوب أن تبقي نسبية من الناحية المفاهيمية)، لكن النظريات الكبرى تبقى صادقة على الإطلاق، وليست فقط نافعة، أو مطابقة للوصف التجربي؛ بإيجاز، نحن نتبنى الواقعية العلمية. 12 – في الوقت ذاته، فإن وصف الأنطولوجيين بكونهم علماء، وهو حكم متسرع، ويؤدي إلى تجاوز هدف هؤلاء التلاميذ، وبعد ذلك منتقدي الوضعية المنطقية، سيكون من بينهم في السبعينات كوين، وبتنام: إذ إن، ما يعنيهم في هذه المرحلة هو الغاء الطابع الدرامي للعلاقة بين الميتافيزيقا والعلوم، ووضع الخيار الواقعي، برعاية مبدأ براغماتي لا يمكن التخلي عنه. وجعل الانطولوجيا مقبولة، بكتابتها بلغة كمية. ومن المناسب رفض الثنائيات ( التحليلية والتركيبية)، التي تملي علينا الضرورة البعدية، والشرطية القبلية؛ وهكذا، يمكن أن نعيد النظر في النموذج التفسيري ( نموذج: D-N)؛ ونتساءل عن ثنائية التفسير والفهم، علم الروح، وعلم الطبيعة. وإذا أكدنا بأن الفلسفة ليست سوى استمرار للعلم بحيل أخرى، وان الشكوك النظرية المتبقية، لا تخرج عن كونها شكوك علمية لاغير، العلمية كما لا حظ ذلك كوين، فإنه علينا – في الوقت ذاته – أن نتذكر حدود العلموية التي تتعارض تحديدا مع العقل، وفي الوقت ذاته مع واقع العلم، ومن ثم، مع الموقف العلمي بمفهومه الدقيق. 13- على اعتبار أن مفهوم العلم والمعرفة بحد ذاتهما قد مسهما التغيير، وتجاوزنا أيضا ذلك المفهوم المطلق ( الذي مايزال حاضرا عند كانط)؛ المفهوم الذي من خصائصه البداهة، والكونية والضرورة. فنحن بعيدون عن مطلقية بعض التصورات (المكان، الزمان، الكائن)، لقد صار التركيز – منذ زمن- على الطبيعة الإشكالية لقوانين المادة والسبيبة. المعرفة لم تعد تتلاءم مع اليقين أو التحقق، بل مع التقريبية، ومنهج المحاولة والخطأ، الفرضيات، معيار القابلية للتكذيب Faibillisme، الأمر الذي يجعل تهديد مبدأ الارتياب أمرا واقعا، له تأثيره على الأنطولوجيا، والنسبية. وفيما يتعلق بمفهوم العلم - ينبغي أن نتذكر دائما الفيلسوف البراغماتي الكبير الذي نحتفل بمئوية وفاته هذه السنة – الذي يراه أكثر من مجموعة من المعرفة، أو عقيدة، هو عمل كشفي وبحثي، استمرار في تحصيل المعرفة وليس معرفة، أو بكلمة واحدة، هو بحث، يفرض على الباحثين، بعض الفضائل الخاصة . يمكن أن نذكر أيضا، الروابط بين العلم والمعرفة والأخلاق. ما الذي سيمنع في الواقع من التركيز على تصور نموذج البحث، وليس على المعتقدات الصحيحة والمبررة، أو ابستيمولوجيا الفضائل، والمعرفة بشكل عام، يما فيها المعرفة الميتافيزيقية ؟ إذ إن، الهدف من البحث، لا يخرج عن كونه نموذجا سقراطيا، أسئلة وأجوبة، شكوك وتصديقات، وليس الوقوف عند حقيقة مطلقة ونهائية . 14- كذلك، لا نجد في الميتافيزيقا، عقائد وأنظمة، أمرا أكثر ملاءمة. من هو الميتافيزيقي المعاصر، الذي لا نجده مهوسا بالبحث عن الحقائق الأبدية، والكونية، والفوقية؟ إننا لا نسعى إلى اقتراح نظام، بقدر بحثنا – كما قال جون فريدريك هربرت Johann friedrich Herbart - عن الدلالات الأساسية التي تجعل الميتافيزيقا جديرة بهذه التسمية، فضلا عن فهم علاقتنا بالواقع، الأمر الذي يجعلنا ننطلق من المكان الذي نحن فيه، وليس من اللاشيء (توماس ناجل – هيلاري بتنام Thomas Nagel – Hilary Putnam). 15- هذا، ما يلزمنا بتحديد بعض الرهانات، مثل التطورات التي حدثت على مستوى المفاهيم الأكثر واقعية، والتي تقدم للعالم والميتافيزيقي على حد سواء التزامات جديدة: للميتافيزيقي بداية، حسن تحديد العلاقات بين المعرفة التي يمكن أن يستفيد منها، وتلك التي تميز المجالات المعرفية الأخرى. أي واحد يبحث عما يمكن أن يكون المعرفة الميتافيزيقية أو الميتافيزيقا العلمية (وهو ما أتمسك به من الآن فصاعدا كاسمين قابلين للتبديل. سأوضح ذلك لا حقا). فإنه مطالب بأن يتساءل مثلا: عن نوع المعتقدات، والحقائق، والمبررات التي من الضروري أن نتعامل معها في الميتافيزيقا. هل الأمر يتعلق بالمعتقدات التي تكون فيها الحقيقة مستمدة من الحس المشترك؟ الحقائق التي تشكلت علميا، هل تكون بالضرورة متناقضة مع (الصورة الواضحة) التي يقدمها لنا العالم؟ أو هي معتقدات متأتية من نظام آخر؟ في كل الحالات، ما هي الأسباب، المبررات التي تسمح لنا بأن أن نفضل تصورا دون آخر عن الحقيقة، أو الحكم على معرفة الأشياء التي تبدو لنا مفهومة، أو ممكنة، أو حتى ضرورية؟ . 16- في كل الأحوال، فإن رايشنباخ Reichenbach، تلميذ هيلاري بتنام، قد بين لنا بصورة متوالية بأن الحدود بين العلوم التجريبية، والعلوم غير التجريبية (المنطق والرياضيات)، تلزمنا أن نرفض التجزئة الوضعية بين المصطلحات القابلة للملاحظة، والمصطلحات النظرية؛ معبرا عن رفضه للتمييز بين الواقع والقيمة؛ وإعادة النظر بالخصوص في النموذج العلمي للعقل، الذي جاء نتيجة نشأة العلوم المعرفية (sciences cognitives) (نظريات الهوية الذهنية، والجسدية، إلى النماذج الوظيفية التي كان أحد المبشرين بها)، والتوقف عن اختزال العقلانية بشكل صارم في العلوم، وخاصة في الفيزياء. والعودة إلى الصورة التي كوناها عن العلم، إلى التمييز المفترض (علم/ لا علم)، وتفوق العلم عن باقي الصور الأخرى من المعرفة، والمطالبة بأشكال أخرى من المعرفة غير علمية ( مثلا، الفلسفية) . 17 – يبدو، أنه في الثمانينات من القرن العشرين حصل إجماع حقيقي ضد - ما عبر عنه نيد بلوك Ned block- النزعة الاختزالية التي لا نتخذها دائما كمقياس. الميتافيزقيون الفيزيائيون انفسهم (مثل فرانك جاكسون Frank Jakson ) هم الأوائل الذين أنتابهم القلق من المشاكل التي نجمت عن قابلية تعددية الإدراك ( إمكانية الخصائص الذهنية – الرغبات، معتقدات، الألم – حصول انجازات جسدية (عصبية) متعددة)، أو لحل معضلة الفيزيائي، الناتجة عن استحالة تحديد الدوافع المتعددة للسببية ( l’impossible surdétermination causale ): كيف نفكر في وقت واحد في السبب الضروري المغلق للفيزياء (وبالتالي، نفقد التفرد الكيفي لما هو ذهني)، وأيضا، الاستبعاد السببي الكلي للذهن ( وهذا يؤدي إلى فقدان قوة السببية) ؟. 3 – أصالة المرحلة القبلية إذن، الاتهامات التي وجهها البعض إلى الميتافيزيقيين، اتهامات مبالغ فيها، ووفقا لرأيهم فإن الميتافيزيقيين قد فقدوا العقل التجربي، وتوهموا، بأنه بإمكانهم، اعتمادا على الحدس أن يصفوا أو حتى يفسروا التصورات من قبيل: الجوهر، الكليات، الزمان، الهوية ، الخصائص، من دون أن يأبهوا بالاكتشافات العلمية , لا أحد ينكر قيمة العلم، فمن منا ليس مقتنعا به؟ لكن هل هذا يلزم عنه، بأن نستهدي به في كل شيء؟ ألا تملي علينا نظرية النسبية، ميتافيزيقا الزمن؟ الفيزياء الكوانتية فكرة الجوهر؟ الكيمياء أو البيولوجيا التطورية، الأنواع الطبيعية؟ 3.1 – العلماء يضعون مسلمات ميتافيزيقية بداية، لا ننسى، بأن العلماء باقتراحهم، واختبارهم لنظرياتهم، فإنهم، أرادوا أو لم يريدوا، يضعون مسلمات ميتافيزيقية، تذهب ابعد مما يسمح لهم به العلم. لذا، فهم كغيرهم، لا يستطيعون، أن يعفوا أن نفسهم من المرحلة النقدية والعلاجية التي تشكل أول مرحلة في المنظومة الميتافيزيقية جديرة بهذا الاسم. في هذا الشأن، مؤلفون مثل: بيرس، وفيتجنشتين، والوضعيون المناطقة، لا يفعلون سوى إتباع التحذيرات الأرسطية، التي أعادها فلاسفة العصر الوسيط، والكلاسيكيون (خاصة لوك، بركلي، ليبنتز). إذا لم يكن هناك جوهرا آخرا، مشكلا من الطبيعة، فإن الفيزياء، تكون علما أوليا، كما لاحظ أرسطو. وهذا على خلاف ابن رشد الذي اعتقد، بأنه يمكن رد الميتافيزيقا إلى الفيزياء وحدها. إن البحث الفيزيائي للعناصر ، يجب ألا يسقط من حسابنا بأن البحث عن الكائن هو أولا وقبل كل شيء البحث عن معاني الكائن . وهو الأمر الذي يملي علينا، بأن كل بحث ميتافيزيقي يفرض علينا الانطلاق من إطار شكلي قبلي في التحليل، الذي يرجع له وحده تحديد شروط الإمكانات بمصطلحات شروط الحقيقة والمعنى، بالتصورات ( وليس بالكلمات فقط) التي نستخدمها، وإجراء الفروق الحاسمة وفقا لمنطق الجهة الذي يؤكد ذاته، كما سبق وأن أكدت في مناسبات عديدة . 20 – إذا كان يجب أ ن تكون المعرفة الميتافيزيقية، فإنها لا بد أن تكون عامة، ومن ثم، يجب أن يعبر عنها باللغة ( أو بالأحرى ومن دون شك باللغة الشكلية، إذا كانت على الأقل تريد أن تعبر عن الأشياء والخصائص، وليس فقط عن المحمولات)، تمشيا مع البناء العقلاني، وتبقى مرتبطة بالعلوم التجريبية (كما سيقول كارناب، الذي سيبحث هو ذاته في كتابه Aufbau بفضل أدوات، ضرورية علوم الواقع، المتمثلة في العبارات المنطقية ، التركيب بين المذهب التجربي والمذهب العقلاني) 2.3 - الميتافيزيقا من حيث هي دراسة الممكن سيكون من النسيان مرة ثانية، بأن الذي ساعد على استقلالية الميتافيزيقا هو: دراسة ما ليس يوجد، بقدر ما هي دراسة ما كان يجب أن يكون، وبكلمة واحدة: الممكن. في هذا المجال، فإنه من المثير أن نلاحظ بأن بعض الميتافيزيقيين المعاصرين، يؤيدون الميتافيزيقا الطبيعية، ويقفون موقفا نقديا من الميتافيزيقيين مثل: ديفيد لويس David Lewis، الذين لهم اهتمام بالممكن، ويذهبون إلى حد القول بأن تاريخ المصطلح بحد ذاته، والأهمية التي أولاها الفلاسفة له، لا تتجاوز ديفيد لويس . 21 – نشكر الله، على أنه قبل ديفيد لويس، وجد في التاريخ بعض الميتافيزيقيين المتألقين، ممن بدأ يؤكد الاستقلالية، مثل الطبيب صاحب النظر الثاقب جون دونس سكوت، إذ إنه، رأى على وجه الدقة: بأنه، إذا كان بإمكان الميتافيزيقا أن تصير مستقلة عن باقي العلوم الأخرى (المنطق، الفيزياء، ولكن أيضا الإلهيات ) ، فلأنها، تمتلك موضوعا خاصا بها، الموجود المشترك، الكائن مأخوذ في كامل تحديداته، هو كائن لا يمكن رده إلى جوهر الشيء المحسوس (الذي يجب على الأقل أن يتصل به)، ولا إلى التنبؤ المنطقي ( praticabilité logique )، الذي هو الوحيد الذي يملك القدرة على إضفاء الكلية على الطبيعة المشتركة). تستطيع أيضا بعيدا عن الكائن والممكن، أن تتحقق من الواقع الممكن للحقيقة، وحتى من الوجود الممكن للأشياء التي توجد. ومن ثم، شرط إمكانية العلوم من حيث هي علوم . في الوقت ذاته، هل تفرض علينا الصرامة العلمية الانطلاق من الممكن، الذي تعود إليه في الوقت ذاته، تغطية مجالات الموجود العرضي، والضروري، أو الجوهر الميتافيزيقي ؟. لكن ذلك، لكي يحصل، هناك طريقة واحدة فقط: هي أن نستدل بالممكن، وهذا لا يعني على عكس ما سيتهم به غالبا من سيأتي بعد، استنتاج المبدأ الأول بالتحليل وفق مفهوم متقدم للماهيات، ولكن بمحاولة تحديد البنية الداخلية للممكن الواقعي (possible réel )، لأن هذا الأخير متجذر في الواقع المحسوس، إلى درجة إننا نستطيع أن نستقرى الأول من الثاني . بتركيزه على الكائن الماهوي، لم يكن دونس سكوت يفكر حقيقة في إضفاء البعد الماهوي للميتافيزيقا، لأن الماهية، في منظوره ليست هي البعد الوحيد لما هو موجود. الوجود ( كما هو الشأن عند كانط) يتجاوز بثرائه الممكن. ((أقول أن الممكن المنطقي هو نمط من التركيب أنتجه العقل، ولا يتضمن أي تناقض؛ وبالتالي فإن القضايا التالية: "الله موجود" (...) تكون ممكنة: ، لكن الواقع الممكن، هو ما ينتج عن قوة واقعية)) بمعنى آخر، إن الحقيقة الموجودة، هي جذر الإمكان، وليس العكس. كما اخبرنا الراحل جوناتان لوي (Jonathane Lowe): ((العلوم التجريبية تعبر أفضل عما هو كائن، وليس عما يجب أو يستطيع أن يكون " ولكن قد لا يكون" هو الكائن . وأما الميتافيزيقا، فإنها تعالج الممكنات. لكن هذا لا يكون إلا إذا استطعنا أن نحدد – فقط - نطاق الممكن، ومن ثم يمكننا أن نحدد ما هو واقعي تجربيا. وهذا ما يجعل العلوم التجريبية تابعة للميتافيزيقا، ولا يمكنها أن تنزع دور هذه الأخيرة . 23 – من المناسب مواجهة تحليل خصائص ما تعلمنا إياه علوم الطبيعة، وإذا كان الأمر كذلك، فلا يمكن أن يكون هناك تحليل ابستيمولوجي للعلم من دون تحليل ميتافيزيقي، للمسائل التي يتضمنها. ذلك، ليس لكون البحث الميتافيزيقي، يسلك مسلكا بعديا وتجربيا مهما، مما يوجب عليها أن تتحول إلى "فلسفة صامتة" (كما قال سابقا جان ديسانتي توسان Jean- Toussaint Desanti )، أين يجب أن تمحى المسائل الميتافيزيقية المحضة، بعد الأسئلة العلمية وتاريخها. فإذا كان على الفيزياء مثلا، أن تنبذ الأسباب، كما يقال أحيانا، هذا لا يعني، أنها بالضرورة، توضح طبيعة تصورات القانون، والإمكانات، الشيء الفيزيائي، والجوهر، والخصائص، الملكية، الحدث، والمكان والزمان، أو زيادة على ذلك، الأسباب الذهنية، كالانبثاق، والحدوث، أو القصدية. 24- مثلا، التغير، خاصية أساسية لصيقة بالواقع،إذ إنه، دائم الحضور، ولا يمكن تفاديه، وإذا أردنا أن نفسره. نفسر تحديدا، لماذا بعض التغيرات هي تغيرات مرحلية، في حين أن التغيرات الأخرى، هي تغيرات جوهرية، باستطاعتنا أن نغامر، ونقول، في أي حالة من حالات التغير المعطى، ما هو الشيء الذي يتغير، وفي أي مجال. لكن أن نقول ذلك، هذا يفرض علينا أن نأخذ موقفا من أصناف الأشياء ، ومن شروط هويتها. باختصار، ليست البنية الماكروسكوبية للأشياء، ولا تصنيفات أنواعها الطبيعية، تسمح لنا،مثلا: أن نقول لماذا الماء يتحول إلى جليد، أو شرغوف يتحول إلى ضفدع، هو تحول مرحلي، بينما، لو احترقت قطعة ورق، وتحولت إلى رماد، أو أن خنزير أكلته أفعى، هو تحول جوهري. إن رفض خطاب البنية التصنيفية، وشروط الهوية على اعتبار أنها محض كلام ميتافيزيقي مضحك، هو الامتناع عن استخدام الأدوات المفاهيمية، التي يمكن أن يوصف بها التغير ذاته بكيفية منسجمة. بهذا المعنى يكون للميتافيزيقا دور حاسم في تجسيد إمكانية المعرفة التجربية « connaissance empirique ». 25- حقيقة العلم بدوره، منظومة تصنيف. لكن لا الظواهر الملاحظة على المستوى الماكروسكوبي، ولا المعلومة العلمية الخاصة بالتكوينة الداخلية للأشياء، بإمكانها، أن تدفع بصورة جيدة هذا لتصنيف من دون تحديد ميتافيزيقي خالص للأشياء، من دون أن تقول لنا، مثلا: فيما إذا كانت العلاقات أو الأحكام بدلا من الجواهر هي التي تشكل أساس أنطولوجيتنا. 26 – لأجل ذلك، لا ينبغي أن نتوقف (على عكس، التيار الذي ظهر من جديد، لصالح كل من يقولون ب "أركيولوجية المعرفة ") عند موقف كالذي نادى به مثلا: كلونجوود Collingwood في مقالته عن الميتافيزيقا سنة 1940، حينما رأى بأن تعريف هدف الميتافيزيقا، يكمن في التكفل بمجموع الافتراضات المطلقة للتفكير العلمي في مرحلة معينة، لا شيء أكثر من ذلك، ولا أقل. ولا شك في أن تعريف مثل هذا، يكتسي (كما لا حظ باتريك سوبسPatrik Suppes في بداية كتابه: الميتافيزيقا الاحتمالية) أهمية ذلك في تحديد العلاقات الضيقة التي ينبغي على الميتافيزيقا أن تقيمها مع العلم في أي وقت، وفي الوقت ذاته، التأكيد على البعد التاريخي للميتافيزيقا، وفي الغالب حقيقة تغير الافتراضات الميتافيزيقية مع ما يحصل من تغيرات في العلم. وفقا لهذه النظرة، فإن ميتافيزيقا ملائمة، لا يمكن أن تتطور بصورة نهائية، على قاعدة تحليل التجربة العادية، وحديثنا المعتاد على التجربة. زيادة على ذلك، فإن هذا التعريف يتضمن طابعا منهجيا، ينبغي أن يتخذه مثل هذا البحث. 27- غير أن ذلك، يتضمن جملة من الأخطاء، منها أولا:اعتبار الميتافيزيقا علم الافتراضات المطلقة، التي لا يمكن اعتبارها صحيحة أو خاطئة. إذا كان هذا يعني، أنه من العبث محاولة تبرير أسسها، فلا يمكننا إذن، إلا مسايرتها، ولكن إذا كان هذا يعني، بأن مهمتها الوحيدة تصبح من تلك اللحظة هي الشروع في البحث التاريخي، ووصف هذا الافتراضات، أو تلك، خلال هذه المرحلة أو تلك ، فلا ريب إذن من أن نشك في خصوبة المنهج، كما تشهد على ذلك التحليلات التصورية القصيرة، التي أجراها كولينجوود حول الزمن والسببية . 28 - لنعيد ذلك: بالتحليل التصوري ( وليس التحليل النحوي فقط)، - وهذا رهان جديد لا رجعة فيه - يمكن أن نحدد ما نتكلم عنه، ونعرف الأشياء المعبر عنها في مفردات معينةـ والتي بدورها تجعل التفسيرات المقدمة في مفردات أخرى صحيحة. وذلك، ليس شيئا، إذ من المهم في الميتافيزيقا، أن يكون لديك أفكارا واضحة، ولا نأخذ من الاختلاف في الخطأ اختلافا بسيطا في كلماتنا أو في أفكارنا بسبب الاختلاف في الأشياء؛ به مرة أخرى، نوسع الوظيفة المعتادة لتصوراتنا، بفضل نماذج إمكاناتنا الملائمة لمنطق الجهة، بفضل ذلك، نستطيع أن نصل إلى نتائج قبلية . 29 – كما، أن المعرفة الموجهة تعلمنا مثلا، بان توسيع مصطلح، ليس هو ذاته في العالم الفعلي، وفي العالم المضاد للواقع، وبعد ذلك، ومن أجل معرفة توسيع العالم المضاد للواقع أو المصطلح "c"، لابد أن نعرف شيئا ما عن العالم الفعلي،أو "A" وتوسيع المصطلح "c" المغاير لبعض العوالم، إذن يوجد اختلاف أساسي في حالتهما المعرفية. وحتى ولو فهمنا –مثلا- مصطلح "الماء" قبل سنة 1750م (وكيمياء دالتون Dalton)، لم نكن نعرف توسيع عالم "C" لعالم ما، غير العالم الفعلي، والذي لا نعني به أننا بالضرورة نتجاهل ماهيته، ولكن، لكي نعين "الماء" في عالم مضاد للواقع، لا بد لنا من معرفة شيء ما حول العلاقات بين العالم المضاد للواقع والعالم الفعلي، وهذا لم يكن ممكنا إلا بعدما اكتشفنا بأن H2O هو الماء السائل في العالم الفعلي. ومن ناحية أخرى، كنا نعرف امتدادات A لـ(الماء) لأي عالم، لأن ذلك لا يمت بأي صلة لطبيعة العالم الفعلي. إذن، جهلنا بالعالم الفعلي، لا ينصب على امتدادات A الخاصة بالألفاظ؛ لأننا كنا نجهل امتدادات A لـ (الماء) في العالم الفعلي قبل 1750م. ومع ذلك كنا على الأقل نملك الاستطاعة على تحديد امتدادات A لـ(الماء) في هذا العالم، وفي واقع الحال في كل العوالم، غير أن ما يمكن معرفته في استقلال عما يمكن أن نعرفه في عالم آخر، يمكن أن يقال قبليا. كذلك، فإن الإجابات على الأسئلة المنسوبة لامتداد " C" تتبع في الغالب لطبيعة العالم الفعلي، وهي بعدية؛ لكن الجزء من العمل الذي يلح على التساؤل حول ما هي أشياء "K" في العالم، على أفترا ض أن هذا العالم، هو العالم الفعلي، يمكن عده جزءا قبليا من التحليل التصوري. لا يمت بأي صلة للتساؤل حول معرفة أي عالم، هو في الواقع العالم الفعلي ( مثل التساؤل على معرفة ماذا يمكن أن نفعل، إذا كان الجو جميلا، ليس له علاقة بالتساؤل عما إذا كان الجو جميلا أم لا.) ووفقا لمنطق الممكن، لا حظ دون سكوت، إذن، بأنه ليس من الاحتياط المنهجي الخالص: كل عدم فهم، كل استحالة منطقية تخالف في أغلب الأحوال، وبغض النظر إن كان ذلك يرضي ديكارت أم لا، الاستحالة الواقعية. المحاولة القبلية la tentation aprioriste 30 – بالتأكيد، نأخذ في حسابنا المحاولة القبلية. لكن مع ذلك، لا يمكن أن نخلط بين الإمكان المنطقي والإمكان الواقعي. كيف يمكن أن نتجاهل الاتهام الذي وجه إلى الدكتور سوبتل Docteur Subtil بسبب اقتراحه لميتافيزيقا، أين يكون عدم التناقض كافيا، لتحديد خصائص الكائن، وأوصل، بذلك إلى هذه الطريق الماهوية (الذي يمتد من سواريز Suarez إلى وولفWolff) مدعيا أنه بإمكانه أن يستنتج تحليليا واقع الماهيات، باعتبارها ممكنة، أين لا تستطيع اللغة العادية (أو المنطق الموجه) أن يقدم أي ضمانة، مثلا : حقيقة الطبقات الطبيعية، أو تبرير الإجراءات المنطقية، تحت مسمى الماهوية بصورة أو بأخرى مقبولة (أو كما يقول البعض) لا تعوض؟ حتى حينما تكون موجودة في الفعل، فإن الأشياء تبقى ممكنة؛ وبما أنها موجودة في الفعل، إذن فإنها تبقى بالضرورة ممكنة؛ ولا يمكن أبدا أن تضيع هذه الخاصية الأساسية. وبذات الوقت تبقى الطبيعة ممكنة. بمعنى آخر، مؤهلة لأن توجد، وحقيقية، لأنها ليست منتوجا عقليا، على طريقة الإمكانية المنطقية . 31 – إن المبالغة في الاعتقاد في غياب الرابط بين المظهر القبلي للتحليل، ومظهره البعدي، سيكون بالطبع مدمرا. ولا يحدث ذلك، يسبب تدخل ثقل خطر الميتافيزيقا، ولكن، لأن المنطق والدلالات، بحد ذاتها، تكون مرتبطة بطريقة أو بأخرى بعقلنا التجربي، وبالتالي باكتشافاتنا العلمية. 32 – بخصوص الصعوبات التي تحيط تحديدا بالتصورات مثل: الماهية أو الماهوية، كيف لا يمكننا مثلا: أن نعتقد بأن الطريقة التي يفكر وفقها بعض فلاسفة الكيمياء أو البيولوجيا على وجه الخصوص، تفرض علينا التفكير من جديد في الطريقة التي تمكننا أو توجب علينا مراجعة تصور أرسطو، أو حتى لوك في الماهية (توسيع تصور الماهية، إلى الماهية العلائقية مثلا) ولكن في الوقت ذاته، علينا أن نتساءل إذا كنا نستطيع( وبسوهلة كما كان الحال في السبعينيات، على أساس بعض التحليلات المنطقية – الدلالية لكريبك، وبتنام ) فقط علينا أن نتساءل عماذا يحصل للشروط الضرورية والكافية، حينما نحول هوية الماهية إلى تحليل منطقي-دلالي؟. 33- إذا كان يجب أن نتجنب التفاضل القديم تجاه العلم، يجب أيضا، أن نحذر من الشك المبالغ فيه، أو السخرية الجديدة حوله . لأنه ( إذا كان العلم –بعد كل ذلك- هو أحسن من يعلمنا بطبيعة الخصائص، والكميات، والعلاقات الأساسية) . فإننا نريد مزيدا من المعرفة عمن نكون، وعن الطريقة التي نتكيف بها مع هذا العالم الذي نحي فيه، فضلا عن فهم نوع المكان الذي ننتمي إليه، ونعثر على موقعنا فيه. ولكي ندرك كل ذلك، فبالعلم الذي نلجأ إليه عفويا؟ لا يوجد سوى هو (العلم) الذي يعرفنا بأصل الحياة في هذه الأرض، وبأسباب وعلاج السرطان، أو على تدمير طبقة الأزون . ورشديونا (( nos averroïstes المعاصرون، لا يترددون في تكرار: أن العلوم هي الأفضل مكانة، والأكثر مشروعية، في قول ما هي حقيقة الأشياء. 34- يستطيع الميتافيزيقي، ألا يقبل، إذا رأى ذلك مناسبا، بأنه على الكوسمولوجيا، والفيزياء الكوانتية، وليس الميتافيزيقا التأملية، أن تجيب على الأسئلة الأساسية حول الوجود، وطبيعة المكان والزمان. ولكن ماذا سيكون في الأساس، إذا لم يرد أن يعرف بأي معنى، وفيما إذا كانت مقولات الفكر واللغة،ليست مجرد "وظائف الحكم" البسيطة " كما هي في فكر كانط، ولكنها، في واقع الأمر، مرآة مقولات الواقع؟ إذن البحث الميتافيزيقي يفترض تحقيقا تجربيا، ومواجهة مع العلوم التجربية . 35 – إذن، كيف يمكن تجنب ضلال العالم، والإغراء القبلي؟ كيف يمكن أن نوقف الخوف الذي ينتابنا من جراء الأخذ في اعتبارنا التجربة والأسباب التجربية، كما يبدو بوضوح في العلوم، والذي سيختزل أو يقضي تماما وببساطة على كل طموح مييتافيويقي؟ لكن وبالمثل كيف يمكن تجنب وقوعنا في ذات الموقف الذي يأسف له ويلفريد سيلارز Wilfrid Sellarsحينما قال: (( الآن، وبعد أن اكتسبت فلسفة العلوم وجودا اسميا وواقعيا، فإن المحاولة كبيرة لإسنادها إلى متخصصين، والخلط بين الفكرة الصحيحة القائلة بأن الفلسفة ليست علما، والفكرة الخاطئة بأن الفلسفة مستقلة عن العلم)) ، ذلك هو، ومن دون شك الرهان المحدد بدقة، الذي يوجد أمامنا، والذي سنقدم في شأنه بعض الاقتراحات السريعة. من الميتافيزيقا إلى العلوم، ومن ثمة العودة 36- ضد المحاولة القبلية، يوجد العديد من المعالجات التي نقلل من فعالياتها، في مقدمتها مستوى التحليل التصوري. 37- بداية، وخلافا للفكرة السائدة، فإن المنطق الموجه والإبسيتملوجيا ليسا مجردين تماما. بل بالأحرى، يمكن أن نعول عليهما لرفع الأوهام الشرطية التي نحن ضحاياها، والتي تجعلنا نستنتج من دون حيطة الواقعي من الممكن، أو الممكن من القابل للتصور؛ ينبغي أيضا أن نرتكز على النماذج، أو التجارب الفكرية الناتجة عنهما، من خلال تطبيق حدوسنا لا الفكرية، ولكن المشتركة بين الحالات الممكنة. زيادة على ذلك، فإن هذه الخطوة لا يمكن التخلي عنها، بل يجب أن تكون مصاحبة أيضا بمنهج اختبارات أو محك تجربي فعال، نخضع له حدوسنا التي تكون في الغالب غير متطابقة، وبعد ذلك، نختبرها، قصد تحديد أيها من الأحسن الاحتفاظ بها أو رفضها. في هذا المجال، فإن الميتافيزيقي ليس له أن يتنكر لعالم النفس التطوري، أو الاقتصادي، أو البيولوجي. ومع الاحترام الذي نكنه للميتافيزيقين العلميين، وبشرط تحرير الحدس من بعض الأوهام القطعية، يمكن أن تكون له قيمة معرفية، تتجسد من الوهلة الأولى كتبرير أو تجويز معرفي، يسمح بعد ذلك بالتعديلات المعقولة، والمراجعات الضرورية . من قال أن الميتافيزيقا لا ينبغي أن تقبل مبدأ القابلية للتكذيب كما هو الحال في العلوم، أو أن التحليل الفلسفي الذي أستؤنف اليوم في مجال المعرفة القبلية، لا يستفيد من فلسفة العقل، ومن علم النفس التطوري، أو من علوم المعرفة؟ أليس كانط ، هو من دعا إلى نوع من الانسجام بين الملكات المعرفية للإنسان والواقع، بين الطبيعي فينا والمعياري، وبذلك يكون قد وضع طريقا ثالثا لاستنباط المقولات، هذا النظام الذي يساعد على التشكيل المسبق للعقل المجرد. 38- أن نقاوم المحاولة القبلية، يعني ألا نترك المجال بسرعة إلى " الإجماع اللا اختزالي". لأنه، إذا كان التفسير يبقى على الأقل هدفا، فإنه يستهدف محتوى قابل للنقل، لكن ذلك يعني أيضا الاختزل، إذن لماذا الخوف من الاختزالية؟ نحن نعرف – اليوم – أن الاختزال لا يعني فقط قوانين لتحديد الهوية، واقل من ذلك الاستبعاد ، نعرف أيضا الانطلاق بين أنواع كثير من الاختزال: استقلال موضوعات وخصائص نظرية ما، هوية النظرية المتجاوزة، المراجعة التصورية، والاستبعاد. المهم هو تحديد المستوى الجيد للتفسير والتركيز على البحث عن إجراءات جديدة للاختزال قادرة على تسليط الضوء على آليات بين المستويات بدلا من المستوى الداخلي ( أو ببساطة وظيفية) بين العلوم المختلفة . وبالتأكيد اعتبار تصوراتنا، وتفسيراتنا هي بالأساس ارشادية ومؤقتة . يجب علينا أيضا تحديد الإطار وحدود التحليل القبلي: لا حظ على سبيل المثال، أن تصور العلاقات العلية التنازلية، ليست غير متسقة مفاهيميا، إنه لا يتعارض مع أي مبدأ ميتافيزيقي، ممأسس على التفسير العلمي في شموليته (مثل مبادئ الاكتمال والاستبعاد). على العكس مما يتمسك به بعض الفيزيائيين، نستطيع أن نعتبر بأن احتمال مجال الحوادث الفيزيائية، ليس دائما مغلقا. أو أن حتى في غياب تفسير فيزيائي لحادث مادي معطى، فإن مبدأ الاستبعاد التفسيري لا يكون قابلا للتطبيق بالضرورة. يمكن على المستوى المعرفي أو المنهجي حل (معضلة الفيزيائي)، وذلك بالتفكير في (تقسيم العمل) بين العالم والميتافيزيائي، ونلجأ ربما أكثر مما يعتبره بعض المتخصصين نافعا للتجارب الفكرية، والحدوس النموذجية التي يميل إليها الميتافيزيقيون. يمكن أيضا (أو ينبغي) ونحن نبحث عن تحديد أفضل لإطار محاولات تطبيع الميتافزيقا والابستيمولوجيا، أن نحذر من الذين يرون الطبيعة والمعايير في كل مكان، وأن نسعى إلى البحث بشكل أحسن عن تحديد مثلا: على مستوى الطبيعة بحد ذاتها، الأشكال الماقبل المعرفية، أو الميتا معرفية للمعيارية. 39 – ضد دوخة العالم. توجد أيضا وسائل مساعدة، إذا كان من الملائم رسم خط فاصل وصارم بين العبارات العلمية والعبارات الميتافيزيقية، فإنه من المستحسن وضع قواعد تحكم ذلك منها : التوقف عن القول بان الميتافيزيقا تبدأ، حيث ينتهي العلم؛ وقبول بأن العلم ليس هو المنبع الوحيد الممكن للعقل؛ وينبغي أيضا الاعتراف بأن هناك طرق أخرى صحيحة،غير تلك المتبعة في العلوم ( مثل التحليل المفاهيمي، والإبعاد، والتبريرات الأولية) وأن العبارات الميتافزيقية ، يمكن أن تكون ذات معنى، حتى ولو كانت لا تقبل التأكيد، والنفي التجريبي؛ يجب على العكس من ذلك التوقف عن القول بأن الميتافيزيقا، بالضرورة هي في صراع مع المجالات التجربية، وبذات الوقت القبول، بأنه إذا لم يكن هناك مبررات لا علمية أو على الأقل علمية (حسب تعبير بتنام) للاعتقاد، بأن ذلك لا يؤدي بالضرورة إلى القول، بأن تلك المبررات تتجاوز تلك التي يقدمها لنا العلم. 40- بقبول هذا الحد الأدنى من المقدمات، يتم من الآن فصاعدا كيفية تصور العلاقات المثمرة بين العلوم والميتافيزيقا، أو كيفية بناء ميتافيزيقا علمية ؟ ولكي ننهي ذلك، هذه بعض الاقتراحات السريعة التي ينبغي - من وجهة نظري- أن تسمح بتحديد الرهانات التي يجب أن تستجيب ليس فقط إلى "ميتافيزيقا العلوم" ( وهي التسمية التي ما تزال في نظري غامضة، وبالتالي مضللة، لأنها كثيرا ما تحمل تناقضا، يتجلى في " الموضوعي/ الذاتي المرتبط بها" ، لكن التسمية التي أفضلها بدوري هي (ميتافيزيقا علمية" حيث ستكون مفهومة جيدا. 6. شروط الميتافيزيقا العلمية: من خيار الواقعية العلمية إلى الالتزام الميتافيزيقي للواقعية 41- من دون شك، نستطيع أن ننطلق من مبدأ، إذا ما قدرنا ما يحصل في العلوم (وهو ما لم يحدث أبدا، فإننا نشك في الميتافيزيقيات الكبرى)، فتكون بذلك حظوظ تقدم الميتافيزيقا قليلة، أو بالأحرى لا توقع بسرعة شهادة وفاتها. لنعترف إذن مع سيلارز Sillars بأن ما يتعلق بوصف العالم وتفسيره، يكون العلم هو مقياس كل شيء، بما هو ما موجود، وما هو ليس موجودا. وبعد ذلك، وفي الوضع السلبي، يمكن أن نتخلص منه على أساس معايير معقولة لتفسير النظريات العلمية، فيكون لدينا المبدأ ألأول. 6-1 المبدأ الأول. الميتافيزيقا يجب ألا تكون في صراع مع العلم 42- في الوضع الحالي لمعرفتنا، ليس من السهل تصور كيف نستطيع أن نواصل مساندة المواقف الميتافيزيقية التي تتعارض مع راهن الفيزياء ، كما أكد على ذلك بدقة اسفيلد مايكل Machal Esfeld 6ـ1ـ - 1إن العلم ليس مرشدا غير قابل للخطأ حتى في هذه الحالة، فإن الميتافيزيقي كما أكدت كاترين هولي Katherine Hawly لا يفتقر دائما إلى المحاججة.كيف يمكن أن يتصرف؛ مثلا، إذا واجه، كما في الحاضر اكتشافا علميا، يشكك في الأطروحة الميتافيزيقية؟ يستطيع أن يتصرف: أولا: أن يتساءل إذا كانت النظرية العلمية موضع البحث، قد نالت نجاحا تجربيا ( كما يبين في الغالب دعاة الواقعية العلمية)، مع العلم أننا نعرف، بأن ذلك قل ما يكون). لكن عمليا فإن معظم الفلاسفة ليس لديهم الخبرة الكافية لتفنيد ما توصل إليه العلماء. ثانيا: لكن الميتافيزيقي، يمكنه بعد ذلك أن يتحجج باختلاف العلماء حول وضعية النظرية، أو على أساس مبررات التفكير بأن النظرية، سيتم في النهاية رفضها. وهنا، يمكنه أن يستخدم الصعوبة الموجودة في دمج النظرية الكوانتية مع نظرية النسبية لكي يكون تصورا مريبا فيما يتعلق بالعواقب الميتافيزيقية للنظريتين. ثالثا: حتى لو قبل هذه الوضعية، يستطيع أيضا أن يبني نظاما من المعتقدات المتضمنة في لميتافيزيقا الخاصة به، لكنها تكون مكافئة تجربيا للنظام العلمي، وما يمكن انجازه بسهولة، حتى ولو كان ذلك مفتعلا، هو أن ندمج العناصر التجربية للتصور العلمي مع الميتافيزيقا التقليدية، أو نضيف ملحقات أو أدوات تضمن بأن تباعد الميتافيزيقيا التقليدية عن الميتافيزيقا العلمية، لا يترتب عنه نتائج تجربية. رابعا- يستطيع أيضا أن يقدم "عملا تقويضيا"، إذ إن، إظهار ما هو جديد متافيزيقيا في الاكتشاف العلمي، لا يتدخل بهذا الشكل في التوقعات الجديدة، لأجل ذلك، فإن ظهوره في نظرية جديدة، لا يعطي الاعتقاد بصحة النظرية العلمية. يقترح ستثيث بسيلوز Stathis Psilos في هذا المستوى: معيارا يتجلى فيما يلي: 1 - إن الأطروحة تكون مؤكدة حينما تكون ناجحة تجربيا، و 2 – إذا لم تكن هناك نظرية منافسة قابلة للتفسير، وفاعلة باستقلالية ولا مخصصة قادرة على تحقيق النجاح ذاته. أن مجرد ترقيع نظرية مخصصة، التي تفعل الميتافيزيقا التقليدية لا تكفي لتحقيق هذا المعيار. لكن، البحث في تاريخ العلوم يعد وسيلة فعالة تساعد على اكتشاف نظرية منافسة تدعم الميتافيزيقا العلمية ( وهكذا، فإن الذين يعترضون على ميتافيزيقا نظرية النسبية لأنشتاين، يلجئون إلى نظرية الأثير المنافسة لورانتز Lorenz ). كون العلم لا يستطيع التحكيم، فإنه سيكون قادرا على تقديم مبررات للاعتقاد بأن الميتافيزيقا التقليدية تتوافق مع الفرضيات المساعدة، ولكن في الوقت ذاته فإنها تتفوق على ما يقترحه الاكتشاف العلمي. 5 – يمكن للميتافيزيقي أخيرا ، أن يمتلك استراتيجية مضادة للحجج، ومن ثم، يؤكد على أن الميتافيزيقا العلمية مؤيدة بشكل جيد بالدور الذي تقوم به في تحقيق النجاح التجربي، وبالتالي يمكننا أن نعتمد على الأسباب المستقلة التي تجعلنا نعتقد في الميتافيزيقا التقليدية . 44 – هذا يعني، حتى في هذه المقاربة، ينبغي أن تكون لدينا الاستطاعة على مواصلة تبيين كيف تكون الميتافيزيقا التقليدية ملائمة تجربيا، على اعتبار أننا وافقنا على الملاءمة التجربية للعلم موضع التساؤل. وبكلمة واحدة، على العلماء أن يبينوا أن الميتافيزيقا العلمية لها شأن في تحقيق النجاح التجربي للنظرية العلمية ( إذا كان عليهم وجوب القول، بأنها مدعمة من العلم)، أو وفقا لمن يرجع له عبء الدليل، وعليه وجب على الميتافيزيقيين التقليديين أن يثبتوا بأن الأمر ليس كذلك. 45 - لنطبق هذا كما تقترح كاثرين هولي Katherine Hawley في مجال الفيزياء على قضية الصراع بين نزعة القول بالحاضر « Présetisme »، ونظرية النسبية الخاصة. وفقا لهذه الأخيرة، فإن حادثين يكونا أو لا يكونا متزامنين، ليست قضية مطلقة، ويمكن معالجتها بصورة مخالفة بالارتكاز على الإطار المرجعي الذي نفضله ( بصورة أخرى أكثر دقة، هناك أزواج من الأحداث اللامتزامنة لجميع المرجعيات، ولكن، لا توجد أحداث متزامنة، وفقا لكل ألأطر المرجعية). وبجملة واحدة، فإن نظرية النسبية الخاصة، لا تؤمن بوجود مرجعية واحدة تكون أكثر أهمية من مرجعية أخرى، إذ إن قضية معرفة ما إذا كان حدثا ما على مسافة، متزامنا مع واقع إنني أتحدث الآن، يستقبل إجابة مختلفة بالنظر إلى المرجعية المعتمدة. في هده الحالة، يبدو أننا أمام ثلاث خيرات ممكنة: 1 – القبول بتبعية الحاضر للإطار المرجعي، يعني القبول بأن الوجود، لا يمكن أن يكون تابعا للإطار المرجعي، ينتج عن ذلك، رفض الزمن الحاضر . 2 – القبول بتبعية الحاضر للإطار المرجعي، يعني الإلحاح على أن الحاضر هو وحده الموجود، من ذلك نستنتج أن الموجود يكون تابعا للإطار المرجعي . (لكن هناك من سيحكم على هذه القضية الثانية بأنها نسبية جد ا) 3– القبول بعدم إمكانية تبعية الوجود للإطار المرجعي ، والإلحاح على حقيقة الحاضر، ومن ثم، نستنتج وجود إطار مرجعي مفضل، لكنه، يفلت من نظرية النسبية الخاصة. التزامن في هذا الإطار المرجعي المفضل هو التزامن المفضل، والأحداث المتزامنة بصورة مطلقة مع واقع إنني أتحدث في هذه اللحظة هي بالتأكيد حاضرة. إن التسليم بإطار مرجعي مفضل لا يحتم الإقرار بالحاضر، لأنه بإمكاننا أن نعضد بصورة مؤكدة بأن ما هو في الماضي والمستقبل هو أيضا واقعي. لكن الخيار الثالث، يجعل من الممكن أن تقول بالحاضر من دون الاعتراف بتبعية الموجود للإطار المرجعي . بالاعتماد على رأي سيمون سوندارز Simon saunders، فإن الخيار الثالث، يواصل تناقضه مع نظرية النسبية الخاصة ( الزمن الحاضر يناقض نظرية النسبية على نحو أن هذه الأخيرة، ناقصة من حيث هي نظرية أساسية للكون )، لكن دعاة القول بالحاضر بإمكانهم تأييد أن ( افتراض وجود إطار مرجعي مفضل، هو ببساطة تجاوز للنظرية النسبية. وأن الاعتقاد في الزمان الحاضر يضيف شيئا إلى نظرية النسبية بدون محاولة للاستبدال ). بقليل من الاختصار، (فإن نظرية النسبية الخاصة، تعمل بنجاح تجربي كبير، من دون التسليم بوجود إطار مرجعي مطلق. وهذا لا يعني بأنه لا يوجد أطار مرجعي مطلق؛ لكن ، هل هذا يؤدي إلى القول بأنه من غير المعقول افتراض وجود واحد ؟) إذن، من المناسب على القائل بالحاضر، بأن يحاول أن يبين كيف يمكن أن يكون الإطار المرجعي المطلق، جزءا من نظرية ملائمة تجربيا، وذلك، بإتباع مايلي: - نسلم أولا (بأن الإطار المرجعي المطلق، غير قابل للكشف، وكذلك حتى، إذا كانت نظرية النسبية ملائمة تجربيا، فإن هناك، حقيقة أخرى في الكون، تعجز عن فهمها.) بعد ذلك، نسلك طريقا تقويضيا، أو للحجة المضادة). التقويض أي، أن نعود إلى محاولة تبيين بأن الميتافيزيقا العلمية - (في هذه الحالة، فإن الأطروحة القائلة بعدم وجود إطار مرجعي مطلق، تؤدي إلى عدم وجود تزامنا مطلقا، وبالتالي لا وجود لحاضر مطلق) - لا تفيد في إنتاج النجاح التجربي لنظرية النسبية الخاصة. بإتباعنا لمعيار بسيلوز Psillos، نحن ملزمون بدعم البديل الحاضر لنظرية النسبية الخاصة، التي لها دوافع مستقلة غير متخصصة، وتفسيرية. هذه المحاولة، تأتي أحيانا حينما نريد إعادة إحياء نظرية الأثير للورنتز، التي وفقا لها نقر بوجود إطار مرجعي مفضل ( ثابت في الأثير)، لكن هناك ظواهر تعويضية تمنعنا من كشف هذا الإطار المرجعي. إن هذه الخطوة مهمة؛ لأنها إذا كان تحمل خصيصة التطبيق، فإن ذلك، يعني أن نظرية لورانتز تحمل تماسكا نظريا تفسيريا، غائبا عن الترابط المخصص لنظرية النسبية الخاصة مع الأطروحة االتي تفيد بوجود إطار مرجعي متميز غير قابل للكشف تجربيا .) مثل (الميتافيزيقا العلمية التي يبدو أن لها هنا أطروحة سلبية- لا يوجد إطار مرجعي مفضل-، وبالتالي يمكن اعتبار إزالة نظرية النسبية الخاصة، بمعنى ما، هو اعتبار لنظرية أخرى أكثر توسعا. لكن هذا لا يكفي؛ ينبغي أيضا على القائلين بالزمن الحاضر، (أن يبينوا، كيف يمكن انطلاقا من هذا المجال العلمي، بأن أنطولوجيتهم أفضل من الذين يقولون بوجود الحاضر والمستقبل.) وينبغي أن يحققوا ذلك (انطلاقا من المسلمة التي وضعوها للدفاع عن نظرية لورانتز ( أو كل البدائل الأخرى)، أي أنهم بحاجة إلى تفسير فوائد القول بالزمن الحاضر في عالم أين لا نملك القدرة على كشف أي الحوادث بعيدة مكانيا، تكون حاضرة ). في كل الأحوال، فإن القول بالزمن الحاضر، ينبغي أن يظهر ( فوائده الفلسفية ومكانته العلمية)، ومن اللازم أن تكون أكثر قوة، لتكون كحجة مضادة، ومن ثم، تكون في المستوى الذي تبين فيه، بأنها تمتلك (فوائد أخرى مستقلة أكثر وزنا من الدعم العلمي الذي يستفيد منه المناوءون للقائلين بالحاضر . 47 – في كل الحالات، إذا أراد الميتافيزيقيون (أن تكون معتقداتهم ملائمة تجربيا، يجب عليهم أن يضعوا تحليلات كثيرة خاصة لذلك، تمكنهم من إنتاج علم آخر مستقل، أو بالأحرى، تبيين الاستحقاق الفلسفي االحاسم لموقفهم. لا نستطيع أن نرفض ببساطة ميتافيزيقا العلم بناء على أحكام العالم المسبقة، بل يتحتم علينا، أن نجد تبريرا لذلك الرفض. لكن هذا، لا يعني إطلاقا، بأن هذا العمل، محوكم عليه دائما بالفشل.) بمعنى آخر، كما رأت كاثرين هولي Katherine Hawley على حق بالتأكيد (أن العلم –ربما – يكون مرشدا للميتافيزيقا)؛ لكن ألا يمكن أن أضيف، بأن الميتافيزيقا أيضا، ومن دون شك، وبطريقتها الخاصة، تكون مرشدة للعلم : في هذه الحالة أو تلك، فإن ما يجب أن نتذكره، في الواقع، هو أنهما ليسا مرشدين معصومين من الخطأ. 6.1.2 – يبقى العلم في حاجة إلى ميتافيزيقا تفسر نظرياته. 48- ينبغي أن نضع في أذهاننا أمرا مهما، يتمثل في استمرار القول بأن وحدة العلوم تبقى مثالا، وأن الاكتمال العللي للفيزياء لم ينجز بعد، ولم يغلق من حيث المبدأ. وبمعنى آخر، وعلى العكس من إدعاءات الكثير من مشاهير الميتافزيقيين العلميين، يمكن أن تكون مفيدة ك (معيار منهجي)، لكنها لا يمكن أن تكون ك (مبدأ تحليلي) بالإضافة إلى ذلك، فإن النتائج العلمية، لا تمثل لا أحكاما، أو تفنيدات لأطروحاتنا الميتافيزيقية) . على أساس أن النظرية العلمية، لا تمد إلا ما كانت تتضمنه من ميتافيزيقا منذ البداية. ذلك ما، لاحظه لورانس سكلار Laurence Sklar بخصوص الطريقة التي تقرأ بها نظرية النسبية الخاصة، التي تكون في نظره ليس لها من نتائج ميتافيزيقية، إلا إذا فهمنا بأنها تحتوي إمكانية التحقق الأنشتايني، أين لا نكون مجبرين على اعتبار التحقق جزءا من النظرية . 49 – يمكن أن نقبل، تماما، أن المظاهر المحض علمية، او التجربية للنظريات العلمية، تكون متوافقة مع القضايا الميتافيزيقية المتنوعة، بدون تعيين واحدة دون الأخرى، قد يكون –كما قلنا –من السذاجة افتراض أن العلماء يقومون بأبحاثهم حول العالم، بدون أحكامهم الميتافيزيقية المسبقة. وأن اكتشافاتهم يمكن أن تكون كأحكام لا متحيزة بين التصورات الميتافيزيقية المتنافسة (كما كان بيرس يذكر باستمرار). 6.1.3. الحاجة إلى وجهة نظر مجسامية (stéréoscopique) 51 - لا زلنا دائما، نتساءل، حول ما إذا كان العلم، يخبرنا عن التأثيث المدهش، المشكل من بنيات، وعلاقات بدلا من الأشياء، وهل ذلك، يتلف أم لا، كل ما يتعلق بالأشياء من مظاهر وجودية، تلك الأشياء التي اعتدنا عليها (الطاولات والكراسي). وهل بقي محافظا على بعض من الانسجام بين بعض من مظاهر العالم، التي نحن في انسجام معها عمليا، لكي نستطيع تصنيفها كما ينبغي، إذا أردنا، أن نملك الاستطاعة على المحافظة على حياتنا اليومية؟ لا يجب أن نقلل من فائدة، وضرورة، وجهة نظر (مجسامية، منظوران مختلفان لمنظر واحد، نشكل على أساسهما تجربة واحدة متسقة)، ما داما صحيحا، بأنه مهما كانت المكونات النهائية للفكر التصوري، فإن العملية التي بفضلها يفكر العقل، يجب بصورة أو بأخرى أن تعكس البنية المعقولة للعالم) . 6.2 – المبدأ الثاني. قبول الانسجام الذي تفرضه الميتافيزيقا على العلم تبعا لذلك، فإننا – في هذه المرة - تمكنا من اكتساب مبدأ ثانيا إيجابيا، يتمثل في أن التجربة وحدها، لا تملك القوة المنطقية لتحديد النظرية العلمية الجيدة، أو تفسيرها، إذ إن، تقييم النتائج الأنطولوجية للمواقف الحاضرة، يجب أن تساعد بدءا من الوضعية التجربية على تفضيل نتائج ميتافيزيقية عن أخرى. 53 – حتى ولو كان للميتافيزيقي فائدة في تفضيل نظرية (مقبولة فيزيائيا)، وتكون أقل قيمة من الناحية الأنطولوجية، وإذا كان في هذا السياق ( للعلم تأثير على الميتافيزيقا)، يوجد أيضا (إكراه تمارسه الميتافيزيقا على أنطولوجيا العلم)، تتمثل في أن تكون ثرية بما فيه الكفاية، لتضمن نظرة منسجمة وكاملة للعالم)، على حد تعبير سيلارز . وقد تكون هذه حجة أخرى، إن لم تكن ضد الاختزالية، فإنها تكون على الأقل لفائدة الاختزالية (المحافظة). تأسيسا على الالتزامات الأنطولوجية التي تفرضها الفيزياء الأساسية، والتي من غير الممكن أن ننفي موقفها المفضل، من الممكن تماما – كما رأى اسفيلد Esfeld- بألا نستطيع أن نخلص إلى هذه الرؤية المنسجمة والكاملة. وعلى الضد من ذلك، فإننا لا ننجح في ذلك، إلا إذا فتحنا المجال لالتزام معين ينبثق من العلوم الخاصة، وجعلها تمارس تأثيرا حتى على ميتافيزيقا الفيزياء الخاصة، أو بمعنى آخر، بشرط واحد يتمثل في (تطبيق معيار التناسق الذي يأخذ في الحسبان كل معارفنا العلمية ). 6.2.1 – النتيجة الأولى: اعتماد، وأسباب تبني الواقعية العلمية 54- يبدو أن الانخراط في هذا الشكل من الواقعية العلمية، ينتهي إل نتيجة مكلفة، لكن هل هذه الكلفة زائدة عن اللزوم؟ هذا صحيح، حينما نعتقد أن الاداتية أو التجربية البنائية ترفض كل الحجج الواقعية: إننا نخطأ حينما نؤكد على وجود كيانات، تفترضها النظريات العلمية ( الذرات، الجزيئات، الإلكترونات)، لا يوجد عالم يتجاوز نظرياتنا. إن هذه النظريات ليست صحيحة، إلا لأننا نقبلها، وأن لدينا لذلك، معايير تجربية تؤكد صحتها. لدينا في تاريخ العلم حجج تثبت حقيقة هامة، تتمثل في أن ما كان صحيحا من النظريات في حقبة ما، صار خاطئا بعد ذلك، الأمر الذي قد يؤدي إلى الابتعاد عن الواقعية والوقوع في النسبية أو الارتياب . بالإضافة إلى ذلك، فإننا يمكن أن نقول، بأنه كلما تقدم العلم، كلما ابتعد عن وصف الحس المشترك للعالم، عن (صورته الظاهرة)، فضلا عن أنه يفرض علينا رفض الواقعية الساذجة. إذن كيف يمكن أن نجد نوعا من المصالحة بين الموقف الواقعي الطبيعي، والواقعية المتطورة، والمعقدة التي ينحو إليها التقدم العلمي؟ ألا يوجد بين الموقفين (هوة تفسييرية) غير قابلة للسبر؟ 55- لا شك في أن المؤمن بالواقعية يملك إجابة على السؤال السابق: بداية، العلم يتضمن ميلا نحو توحيد نظرياته، ويملك طابعا تفسيريا. لذا، ففي الأول، كيف يتسنى للنظرية أن تفسر بالفعل الظواهر، إذا كان ما تفترضه من معطيات غير موجود؟ وكيف يمكن معارضة بعض التوقعات الجديدة التي ستكون من الاستحالة بمكان، إذا لم تكن النظريات صحيحة؟ في النهاية، وخلافا، لهذا التفسير، فإن النجاح الذي أنجز في العلوم، هو معجزة لا غير. وسيكون من ألأحسن الابتعاد عن الخوارق. 56- بديهي، أن الأداتي، يملك القدرة على الإجابة بصورة عامة، ويذهب إلى اعتبار أن وحدة العلوم تكون مدفوعة بالبحث عن أداة متفردة، أو أنه، لا توجد هده الوحدة من هذا النوع، فيكون العلم، ليس سوى تحصيلات،أو تقنيات، تشتغل بدون نظريات عامة؛ وأن الهدف من العلم ليس التفسير فحسب، بل التوقعات؛ والتطبيقات العلمية لهذه الأخيرة، لا يولد توقعات حقيقية أكثر من تخمينات متأتية من المصادفة، أو بطريقة أقل جذرية، فإن بنية التوقعات الجديدة الناتجة عن العلم، لا تثبت بأن هذه البنيات تستجيب لأسباب متخفية. في الأخير، أنه لا حاجة لتفسير النجاحات العلمية، ويكفي اعتبار النظريات الناجحة على أساس صيغة منظمة، وملائمة للمهام الموجهة لها: التوقعات، وإعادة التوقعات . ويمكنها، بجدية أكثر أن تستدعى حجة نظرية نقص تحديد النظريات بالمعطيات التجربية. أو الطابع اللامقايسي (Incommensurable) للمصطلحات والنظريات العلمية، التي ستتنوع مرجعيتها، وفقا للسياقات والنماذج التي تنتمي إليها (فييرابند، وكون)، ومن ثم، تؤول إلى النسبية التي لا تقبل الاختزال للأنطواوجيا. 57- لنراهن إذن، على أن الواقعية العلمية هي أفضل استراتيجية، يمكن إتباعها، على اعتبار أنه في نهاية التحليل، يمكن أن نعتبر (النظريات العلمية التي نعتقد أنها صحيحة، هي أحسن الفرضيات التي نقترحها اليوم، فيما يتعلق ببنية الطبيعة). إن هذا الأمر لا يلغي طبعا، أنه في حالة تغيير النظريات العلمية، لا بد من تكييف الميتافيزيقا العلمية وفقا لذلك ). فكيف نستطيع تعزيز حججنا لصالحها؟ 58- بداية، أن نظهر بأن لا شيء يتطابق مع التجربية ؛ ثم نقدم ما يشكل مضومنا على االمستوى الدلالي، والمعرفي، والميتافيزيقي، للأطلاوحة التي يمكن لنظرياتنا العلمية وفقا لها أن تصف طبيعة العالم المستقل (بالرغم من ارتباطه) عن العقل. كذلك، بعيدا عن أن نخطط (في الأسوأ بناء اجتماعيا) تركيبة العالم، فإن النظريات العلمية تكشف عن خرائط لعالم منظم مسبقا، وليس فيه شيئا مشكل بمعرفتنا، بقيمنا المعرفية، بما يمكن أن نعتقده، أو نكتشفه . الواقع، هو بالفعل موضوع المعرفة، ولذلك، فإن نتيجة الرأي النهائي هي التي يصل إليها المجتمع العلمي؛ لكنه، يكون مستقلا عما نستطيع أن نفكر فيه. وإذا أدت الطريقة العلمية المفترضة إلى التقارب، فلأنها، مقيدة بالواقع (بيرس Peirce). ثانيا، إن القول بأن نظرياتنا قابلة لأن تكون صحيحة أو خاطئة، وأن حقيقتها متأتية من حالة العالم، هذا يؤدي إلى فصل الحقيقة من جهة، وشروط الحقيقة، وتبريراتها وفقا للمعطيات التجربية من جهة أخرى ( مما يعني فقدان قوة مبدأ التحقق الخاص بالتجربانية المنطقية). 59- هذا يؤدي إلى القول، بعد ذلك، بأنه، إذا كانت نظرية ما صحيحة، فإن مصطلحاتها، تملك مرجعية محتملة، وقد ينسحب ذلك أيضا على المصطلحات القابلة للملاحظة، والتي ليست كذلك. إذن، نستطيع أن نسلم بشرعية بأشياء وخصائص، لا نتمكن بشكل صارم من ملاحظتها، (مثل الأحكام، ونقول بإمكانية وجودها، مما يجعل النظرية صادقة. وعليه، فإن المصطلحات النظرية، ليست مشروعة فحسب، بل هي لازمة، إذا أردنا أن يكون باستطاعتنا تشكيل نظام فعال وقوي من الأحكام والقوانين. من ذلك يمكن أن نخلص، بأنه، لا شيء يمنعنا من أن نسلم بأن العالم مأهول حقيقة، بحشد من الكائنات والمسارات غير القابلة للملاحظة. 60- أخيرا، على الضد من المشاكسين، فإن الواقعي بإمكانه أن يستدعي جملة من التبريرات التي تجعله يقاوم النزعة التشاؤمية، ويطور بالأحرى تفاؤلا ابستيميا ، مبينا فيما يتعلق باللامقايسة، بأنه من الممكن فهم النظرية القديمة كحدود للنظرية الجديدة، حتى ولو كانت المفاهيم المعنية بالنظريتين متباعدة؛ فإنه يوجد أكثر مما يمكن أن نفكر فيه من المصطلحات التي تتجاوز النظرية، وأن التغيرات التي قد تلحق بالنظرية، ليست جذرية، فضلا عن أنه، يوجد نوع من الثبات الخاص بالمبادئ النظرية، والفرضيات التفسيرية التي تشكل صورتنا العلمية للعالم – الثبات الذي من اللزوم أن تفترضه، إذا كان ذلك، يمثل واحدا من المثل التنظيمية، ما عدا ما يمكن استثناءه كجزء محوري في المنظور العلمي- الجزء الذي يعلم المنهجية العلمية بطرق عديدة ( كما عبر عن ذلك بتنام). 61- أيضا، فإنه من المشروع، أن نقول، إن النظريات وفقا للقاعدة العامة، جيدة التأكيد و(بالتقريب) صادقة، وهي في مستوى منحنا مفتاح الدخول إلى بنية الطبيعة، لأننا نمتلك مناهج التقييم العقلاني القابلة للتطبيق على نظريات منافسة – أو تفسيرات منافسة للنظرية العلمية بحد ذاتها – أو على تفسيرات منافسة لذات النظرية العلمية- قادرة على الأقل، بصورة افتراضية، أن تبين أي من النظريات أو التفسيرات هي الأفضل معرفيا. هذا يعني بلا شك، بأننا نعطي أهمية صارمة ل (الحجة فوق الطبيعة)، غير أننا يمكن أن نقر بمشروعية طرق أخرى غير الإستنتاجية – الإسمانية، وفي مقدمتها الاستقراء، ولكن، أيضا، وربما قد يكون أكثر من ذلك (القياس الاحتمالي) L’abduction، على الأقل إذا قسنا إلى أي حد يكون ( أصغر عنصر من النظرية العلمية اليوم فعال بشكل صارم ،كان ذلك، نتيجة القياس الاحتمالي) بيرس " Peirce"، على أن لا نعطي له قوة منطقية، أكثر من الاستدلال (قابل دائما للمراجعة) ليس للحصول على ما هو أفضل، ولكن، لما هو جيد من الشرح. هنا، أن تكون واقعيا علميا، هو أن تكون منتبها، لنشاط البحث المرتبط بالمسار العلمي ذاته، وإلى أن عملية اختيار نظرية ما، لا تحدث من فراغ، أو من انعدام الوزن المعرفي، لكن على أساس شبكة من الخلفيات المعرفية. إن الافتراضات، لا تنشأ أبدا بالمصادفة، لكن في الغالب في سياق القطيعة مع الانتظار، أو بمفاجئة تحدث اضطرابا في حالة الذهن (الهادئ معرفيا)، وتثير ضرورة التفسير ( اضطراب الشك، محرك البحث الناتج عن صدمة التجربة المقاومة). 62- نرى أيضا، بان رهان الواقعي العلمي، لا يمنح –فقط- تفسيرا أكثر معقولية للنجاحات التجربية للعلم، لكنه، يأخذ في الحسبان بشكل أفضل الممارسة العلمية بحد ذاتها. ففي هذه الحالة، ما هي المخاطرة التي ننتظرها، في سعينا لمحاولة الفهم؟ لأن ذلك، يعد في اعتقادي، رهانا حاسما. 63- وعليه، لنتفق على الالتزام لصالح الواقعية العلمية. ومع ذلك، لنا أن نتساءل فيما إذا كان ذلك يخول لنا، أو يفرض علينا ضمنيا الاعتقاد في وجود إشارة إلى عناصر ميتافيزيقية معينة، أكثر من كونها معرفية محضة. 6ـ2ـ2 ـ النتيجة الثانية: الخطوة الإضافية التي تجعل من المناسب الالتزام المحض بالمتافيزيقي، والأسباب التي تفرض ذلك. 64 – بالفعل، حينما يصف الواقعيون العلميون مواقفهم، فإنهم يرتكزن بقوة على حقائق، كالسببية، والقوانين التي تحكم الطبيعة أو بنية العالم، بمصطلحات الأنواع الطبيعية. لكن، إذا كانت هذه المكونات الوجودية تأخذا حيزا مهما في المناقشات الخاصة بالواقعية على ما يمكن أن تتوقف عليه طبيعتها، في الغالب الأعم تبقى من الأمور المسكوت عنها،، وأيضا، حتى مسألة معرفة فيما إذا كانت الواقعية العلمية، تفرض مباشرة الالتزام بما هو ميتافيزيقي( إذا كان ذلك ممكنا، فإلى أي درجة بالضبط، ومع أي درجة من الأمان). وليس فقط معرفيا. لكن، أن يكون كاملا شيء، وأن يكون أساسيا شيء آخر. ومبدأ الإغلاق السببي Principe de clôture causale، بالرغم من حدوسنا الفيزيائية الوجودية التي لا تقبل الجدل، يبقى محايدا وجوديا، كما رأينا فيما يتعلق بما يوجد، أو لا يوجد أساسيا في الأشياء. بعبارة أخرى، ما يحدد بصورة أساسية الفيزيائي، وحول مسألة المعرفة، وبصورة خاصة، فيما إذا كانت مستويات الاختزال التي نتفق عليها منهجيا، تكون ، أو لا تكون على المستوى الأنطولوجي: مما يتشكل العالم؟ من عدة طبقات، من مستويات عديدة من الواقع، من واقع واحد؟ من مستويات عديدة من الخصائص ( مقولات و أحكام، والثانية يمكن ردها إلى الأولى) أو فقط لواحد أو لآخر من هذه الأنواع؟ يبقى بأنه، لا التحليل المفاهيمي وحده، ولا العلم، يسمحان بالإجابة على هذه الأسئلة. 65- في النهاية، يمكن مباشرة مناقشة حول الكيفية التي تتوسع وفقها البراهين لصالح هاته أو تلك الأطروحة الميتافيزيقية حول الحقيقة، وتحل الصراعات الكامنة بين هذه النظرية العلمية الحالية أو تلك، وهذا التفسير الميتافيزيقي للنظرية أو ذك. المناقشة، يمكن مباشرتها؛ لكن هنا ايضا، هل هي واجبة؟ 66 – هل الواقعي العلمي ملزم بأن يقطع على نفسه التزاما، ليس علميا وابستيمولوجيا فحسب، بل ميتافيزيقيا بالفعل؟ مما لا شك فيه، يبدو أن هناك خط يفصل بين تيارين: دعاة الواقعية العلمية، إذا كان يجب عليهم ألا يهملوا المكونات الميتافيزيقية للسؤال، عليهم بالأساس أن يستفيدوا منها، انطلاقا من نظرية الحقيقة أو المرجعية : ومن بين المدافعين على هذا الخط نجد Stathis Psillos، الذي ظل وفيا للموقف الكارنابي، الموقف الذي تنحصر وفقه مهمة المنطق العلمي في أنه يمكن أن (نباشر البحث المنطقي حول تركيبات مفاهيمية)، لكن يجب على ( منطق البحث العلمي ألا يذهب إلى ما راء ذلك ). وأما التيار الثاني، فيتمثل في الذين يساندون الموقف الذي يرى بأن الواقعي يستطيع، بل يجب عليه أن ألا يهتم بما هي الحقائق فحسب، بل بما يمكن أن تكون عليه جوهريا . 67 – تتحدد (مسألة الواقعية) في منظور كيت فاين Kit Fineالذي أتفق معه، بهاتين المسألتين اللتين لا يمكن التراجع عنهما ، وما دام الأمر كذلك، فإن الواقعي العلمي، يجب عليه بالتأكيد أن يتساءل في هذا الوقت أو في آخر، على الخصائص الجوهرية ( إن وجدت) للطبيعة، وعلى الحالة العارضة أو بالأحرى الضرورية، التي تترابط فيما بينها لتتكون الأشياء، الهيئات، وحتى نظام العالم. يجب عليه، باستثناء التقليل من مخاطر المثالية دائمة الحضور، وكذلك، العلماء، وأيضا الميتافيزيقيون الذين يزرعون الشك حول الحقيقة التي تحيط بنا، سواء بخصوص وجودها، أو طبيعتها الأكثر تجريدية، ورياضياتية،أكثر من ذلك، اجتماعية وتاريخية. 68- إذن، يجب عليه أن يراهن على ميتافيزيقا علمية، ويحلل بمناهجه ووسائله – على ألا تكون ناقصة- تركيبة الحقيقة والطبيعة، ناهيك، عن ماهية خواصها الأكثر جوهرية، والطرق التي يتم بها تكون العالم والأنواع، وكيف تنقسم بصورة جيدة أم لا، وفقا لمفاصل الطبيعة. (تعريف الفلسفة كخادمة العلم Ancilla Scientiae، كما كتب مارسيال جيرلوت Maritial Gueroul ( إن تعريف الفلسفة على أنها خادمة العلم، هو تعريف محفوف بالمخاطر، كما هو الشأن في تعريفها على أنها، خادمة الدين، نرافع عن القديس توما، ونرافع عن أنشتاين، ولكن من برافع عن الفلسلفة)، غير أنه، إذا كانت خادمة العلم، يجب الدفاع عنها، عن طريق العقل العلمي، وخادمة الدين عن طريق العقل اللاهوتي (فإن الفلسفة يجب الدفاع عنها فلسفيا، وميتافيزيقيا يجب الدفاع عن الميتافيزقا) . 69- بهذه الملاحظات حول الطريقة التي تطرح بها، يبدو لي اليوم، أن الرهانات التي يجب أن يواجهها أي كان، يفكر في العلاقة التي تربط الميتافيزيقا بالعلوم، فإنني ببساطة أجد نفسي مضطرة لإتباعه.
#الشريف_زيتوني (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
إشكالية تجاوز القول الميتافيزيقي
-
وقفة مع ابستيمولوجيا كارل بوبر
-
ماذا يمكن أن يوقظ فينا وباء الكورونا؟ (خواطر وآمال)
-
مجتمعنا الإنساني إلى أين؟
المزيد.....
-
هل يعارض ماسك الدستور بسبب حملة ميزانية الحكومة التي يقودها
...
-
-بينها قاعدة تبعد 150 كلم وأخرى تستهدف للمرة الأولى-..-حزب
...
-
حافلة تسقط من ارتفاع 12 مترا في حادث مروع ومميت في فلاديفو
...
-
بوتين يتوعد.. سنضرب داعمي أوكرانيا بالسلاح
-
الكشف عن التاكسي الطائر الكهربائي في معرض أبوظبي للطيران
-
مسيرات روسية اختبارية تدمر مركبات مدرعة أوكرانية في اتجاه كو
...
-
مات غيتز يتخلى عن ترشحه لمنصب وزير العدل في إدارة ترامب المق
...
-
أوكامبو: على العرب الضغط على واشنطن لعدم تعطيل عمل الجنائية
...
-
حاكم تكساس يوجه وكالات الولاية لسحب الاستثمارات من الصين
-
تونس.. عبير موسي تواجه تهما تصل عقوبتها للإعدام
المزيد.....
-
المجلد الثامن عشر - دراسات ومقالات - منشورة عام 2021
/ غازي الصوراني
-
المجلد السابع عشر - دراسات ومقالات- منشورة عام 2020
/ غازي الصوراني
-
المجلد السادس عشر " دراسات ومقالات" منشورة بين عامي 2015 و
...
/ غازي الصوراني
-
دراسات ومقالات في الفكر والسياسة والاقتصاد والمجتمع - المجلد
...
/ غازي الصوراني
-
تداخل الاجناس الأدبية في رواية قهوة سادة للكاتب السيد حافظ
/ غنية ولهي- - - سمية حملاوي
-
دراسة تحليلية نقدية لأزمة منظمة التحرير الفلسطينية
/ سعيد الوجاني
-
، كتاب مذكرات السيد حافظ بين عبقرية الإبداع وتهميش الواقع ال
...
/ ياسر جابر الجمَّال
-
الجماعة السياسية- في بناء أو تأسيس جماعة سياسية
/ خالد فارس
-
دفاعاً عن النظرية الماركسية - الجزء الثاني
/ فلاح أمين الرهيمي
-
.سياسة الأزمة : حوارات وتأملات في سياسات تونسية .
/ فريد العليبي .
المزيد.....
|