غانم عمران المعموري
الحوار المتمدن-العدد: 7238 - 2022 / 5 / 4 - 03:23
المحور:
الادب والفن
تبقى الذكرى هائمة في فضاء الروح تهب مثل رياح حارة تحرق الفؤاد وتتصاعد من الأعماق مع كل شهيق وزفير ولا سيما أنها تركت أثراً لا يندمل في كل جزء من الجسد وذابت مع الدماء التي تجري في الشرايين .. طيب سأروي.. هذا ما استهلت به الروائية العراقية هدى محمد الطائي روايتها " قناديل باب الدروازة " التي هي من منشورات الاتحاد العام للأدباء والكتاب في العراق بطبعتها الأولى لعام 2022 ..
كشف لنا الاستهلال عن ضمير المتكلم وبروز الأنا ( أنا الراوي ) وهو المؤلف الضمني والمشارك في سلسلة الأحداث من خلال جمل استهلالية تعطي شحنات ايمائية وتكوّن أجزاء الخطاب السرّدي وأبعاده الفلسفية والاجتماعية وخفاياه الدالة على محتوى النص وأيديولوجياته التي جاءت من خلال خطاب الأنا الفردية المتشظّية إلى الأنا الجمعية .. لم تردْ الكاتبة من ضمير المتكلم وحديث ( الأنا ) الفردانية وإنما تقصد من ذلك تشظّي تلك الصورة إلى صور ما لا نهاية لها لتشّمل كل السجينات السياسيات اللاتي تعرضن إلى شتى أنواع التعذيب ..
" قناديل باب الدروازة " عنونة رمزيّة ايحائية تتعالق مع النّص الرّوائي دلالياً وتثير أحاسيس المتلقي وتدفعه دون شعور للتفكير ورسم خطوط أولية عن الرّواية وإن كانت العنونة رمزيّة ومُشَّفرة لا تهديه إلى طريق الإنارة للإمساك بخيوط الأحداث .. عنونة جاءت بجملةٍ اسميّةٍ غير كاشفة وهي أولى العتبات المتناسقة والمنسجمة مع لوحة الغلاف التي تشير إلى وجود قناديل مُعلقة في طريق فرعي ضيق قديم إلا أنها تستنهض وتثير شهيّة المتلقي..
يُجسّد الإهداء البُعد التواصلي بين الأنا والآخر الرَّحمي والعلاقة الحميّمة بين أفراد العائلة الواحدة ويشَّكل بؤرة مهمة في معرفة خوالج ودواعي العمل السرّدي وارتباطه فيه فإنه لم يأتي اعتباطاً وإنما يُمثّل نقطة انطلاقه وصرخة تتعالى من كيان الكاتبة لتتفجر كالبركان بخطابٍ سرّديٍّ يتخذ من الأنا والحوار المنولوج عنصراً أساسياً ..
يكشف لنا حوار المنولوج ( أنا الراوي ) عن خطابٍ سرّدي يدخل ضمن أدب السيّرة فيكون فيها الراوي ( الراوي الضمني ) هو البطل المشارك في المعترك والصراع الفكري والاجتماعي والسياسي التي تؤسس عليه فكرة الأحداث ( كنت أشعر بهاجس ينازعني في العودة, أفكار مشتتة تداعب مخيلتي وتطبق فم ذكرى الطفولة ... ) ص17 من الرواية ..
تدخل الكاتبة بأسلوب فلسفي إلى عمق الذات الإنسانية والتفاعلات البيولوجية والنفسية التي تتصاعد من أعماقها نتيجة التأزم الأيديولوجي والاجتماعي والسياسي الذي يحيط بها خلال مسيرة وتحرك الشخصية الرئيسة ( ثائرة ) من لحظة وصولها إلى المطار واقتيادها من قبل رجال أمن المطار وبدأ حفلة الاستفزاز والتحقير للنفس البشريّة التي نقلتها لنا البطلة بأدق التفاصيل ..
الأرخنة وعنصر الزمن
استطاعت الكاتبة بتقنية حداثوية بأسلوب فني ابداعي توظيف عنصر الزمن وأرخنة الأحداث وتداخلها بين الماضي والحاضر وبيان الصراعات السياسية والتأزم النفسي والاجتماعي من خلال صوت وايدلوجية الشخصية الرئيسة التي تُحرّك الأحداث واشتراك الشخصيات الفرعية فيها بما تحمّله كل شخصية من رأي وفكر واتجاه تؤمن به خلال المعترك والصراع والضغط النفسي والتعذيب الجسدي التي تتعرض له البطل ( الراوي, الشاهد ) مع بقية المعتقلات السياسيات .. وظفت الروائية الزَّمَن في كل موقف وكل مكان وأشارت إليه من خلال الألفاظ والعبارات والأمكنة وطبيعة التعامل مع السجين السياسي وأنواع العقوبات والشتائم والسب والقذف والتجريح الذي يرجع إلى حقبة الحكم الدكتاتوري وتعرض شريحة كبيرة من المجتمع العراقي إلى الاضطهاد والمتابعة والمراقبة والاعتقال والتعذيب بشتى أنواع العنف وانتهاك حقوق الانسان التي كانت مفقودة في ذلك الزمن فقد برعت الكاتبة في توصيف التعذيب بأسلوب سرّدي ووصف بليغ لتكشف لنا المسكوت عنه وتبين مدى قباحة واستهتار أزلام النظام السابق بعبارات تحيّل المتلقي وتدفعه دون شعور إلى دخول عالم المحسوسات وكأنه ينظر إلى فيلم تتحرك فيه الشخوص ويسمع أصوات التعذيب وتُهيّج مشاعره كما في ( تحسست خيوط الدم المتجمد عند زوايا شفتي وعنقي وكاحلي, لكني رغم ذلك شعرت بالحياة اللزجة تنبض في عروقي ...) ص23 من الرواية ..
تحمّل الشخصية الرئيسة في الرواية هموم وطن وقضية تناضل من أجلها خلال حقبة زمنية صعبة تعرض لها أفراد الحزب الشيوعي إلى المطاردة والاعتقال والقتل والتعذيب بأساليب وحشيّة بطريقة الثرّم أو اطعامهم للكلاب أو النمور التي أعدّت لهذا الغرض ..
استطاعت الكاتبة من خلال توظيف عنصر الزَّمَن وربطها مع وعي وأيدولوجية الشخصيات وسيّر الأحداث استنهاض شعور المتلقي ودفعه إلى التجاوب مع الخطاب السرّدي في اتجاهات عديدة حددت مسارها خلال فترات زمنية سواء أكان ذلك بأسلوب وتقنية ( افلاش باك ) واظهار أهم وأبرز الأحداث خلال تلك الفترة بحرفيّة وابداع في تعريّة الواقع المزيّف الاجتماعي والسياسي خلال تلك الحقبة التي عاشتها البطلة وخاضت غمار القلق والتوتر والصبر على تحمّل الألم والعذاب الجسدي والنفسي من أجل الوطن وقضيتها التي تناضل من أجلها وتمكنها من رسم معالم شخصياتها بما يتلاءم مع الوضع الزمني العام للرواية ووضعها في الإطار المناسب لها ..
تبين العديد من الأحداث زمن الرواية كما في ( حين تودعنا أمي لتبحث عن أبي الذي غاب في غياهب أقبية السلطة الداكنة في حركة 8 شباط الأسود 1963) ص17.. ( بعد فترة من إعلان الميثاق الوطني للجبهة ) ص 38.. ( .. من صباح الاربعاء 10/11/ 1979 حين أوقفوه ليضعوا القيد في يديه ويعصبوا عينيه ويكمموا فمه ثم زجوه في سيارة مضللة ..)ص39.. ( أتذكر في 1983 بعد خروجي من المعتقل الذي أمضيت فيه سنواتي الثلاث.. ) ص75 .. ( كنت حينذاك لم اتجاوز العشرين حينما دعيت للمشاركة في احتفالية الذكرى العاشرة لثورة اكتوبر في موسكو .. ) ص60..
تشير العبارات والجمل واللهجة العامية والصور الحسيّة في حركة السرّد إلى البُعْد الزمني للحدث كما في ( الحيطان لها آذان ) ص46.. ( نحن نعرف بأن الضحايا يوفدون يومياً في صناديق مغلقة إلى أهاليهم ملفوفين بالعلم العراقي .. ) ص76.. ( مصير الجنود العراقيين الذي ينطلق مع صوت المذياع حينما يهدر صوت العرب والبيبي سي ويلتم حوله الآباء, طقوس الرثاء الصامتة خوفاً من مساطر التحقيقات ) ص78..
استثمرت الكاتبة تقنية الاسترجاع في نسج البنية السرّدية من خلال استدعاء الزمن الماضي ونقل التجربة الذاتية للشخصية الرئيسة وما لحقها من أذى وطريقة تفكيرها وميولها وانتمائها ومعارضتها واصرارها على تحدي الصعاب والتعذيب وعدم البوح بأي سر من أسرار قضيتها التي تناضل من أجلها وهي تحمل في ذاتها وكيانها فكراً أيديولوجياً وفق خطاب سرّدي ناقلاً للأحداث وموثقاً تاريخيا من خلال البحث والتنقيب عن المخفي والمسكوت عنه بأسلوب تخييلي والموهبة الثقافية الخصبة وليس نقل واقعة تأريخيه معتمدة على مصادرة متواترة تناقلت من أفواه الرواة وهذا ما يسعى إليه المؤرخ وليس الروائي الذي يخلق عالمه الخاص بشخوصه وأحداثه بزمان ومكان يُرافق الشخصيات ومن خلال تلك الشخصيات يستنطق ويكشف ويعرّي المزيّف ليعطي الفرصة للمتلقي المشاركة الفعالة في قول رأيه واطلاعه على المسكوت عنه ما بين سطور التاريخ وما وراء الكلمة الظاهرة العديد من المعاني الباطنية الخفية محاولة قراءة التاريخ وفق منظورها الخاص وفهم الواقع بطريقة فنية تتناغم مع البنية السردّية ومدلولاتها ..
تمكنت الكاتبة بكل براعة وجدارة الدخول إلى جوف الأقبية المظلمة وصوّرت لنا بكل دقة الطرق الوحشية في تعذيب السجينات السياسيات وكأنها كانت معهن في نفس المكان.. وأنت تقرأ وتتأمل سلسلة الأحداث فإنها تأخذك إلى عالم الألم والمعاناة إلى عالم فيه نساء تصرخ وتبكي وتغتصب دون رحمة وهذا ما حصل للشخصية الثانوية ( سمية ) رفيقة البطلة الرئيسة في السجن عندما قامت بفعل ثقب صغير في الجدار الفاصل بينها وبين سجناء سياسيين وتوسلها لأحد السجناء أن يزيل بكارتها بواسطة إبرة صغيرة خوفا من تدنيسها على أيدي الجلاّدين ( أن تفقأ بكارتي ... توسلت إليه باكية وقلبها كسمكة فوق الرمال في انتظار الموت ... توجني ملكة بين صراخ الهالكين ) ص27.. ( أينك يا درة ؟ يا أمي ضجت بك براءة الدنيا ... تعاليلي يمه .. آه لو تعلمين كيف سيقتلعون أوردتي ليصنعوا منها سلما فوق حياتنا الهاربة ) ص30 .. ( بعد حفلة قلع الأظافر التي أسقطتني بهوة سحيقة بعد بداية القلع الرابع .. ) ص71 .. ( وهم يسخرون ويشتمون أرواحنا التي لا تموت وأجسادنا المشوية في نيران عبثهم الجنوني ) ص186 .. ( يهمهم فقط أن يروا مجارير الدهاليز ممتلئة بالموت واغتيال بطيء) ص195 ..
اتبعت الكاتبة في وصف التعذيب أسلوب الانزياح والتشبيه والمجاز مما أضفى على الخطاب السرّدي جمالية تحفيّز وتشويق للمتلقي وبث صور شعريّة ممتزجة بالمشاهد الدراميّة الحيّة تستنهض الماضي الذي لازال قابعاً في النفسية البشرية لدى العراقيين عامة والشيوعيين خاصة في رواية قناديل باب الدروازة باعتبار البطلة وأهلها هم من المناضلين من أجل تلك القضية ومن أجل وطن حر خالٍ من الاضطهاد والعنف ..
المسافة الجمالية
لجأت الكاتبة إلى العناوين الفرعية في بداية كل جزء ( طيب ... سأروي, العاصفة, شظايا الأفكار, تحت الأرض.. خارج العالم, المخاض العاقر, رقم وظيفي, الخيط والعصفور, رغبات فاغرة إلى نهاية العنوان الفرعي الأخير ومات الكلام ) ربما لكي تستعيد الروائية أنفاسها في جريان كلماتها والسرّد المتواصل والفترات الزمنية في التوقف والاستئناف في كتابة النص الروائي أو ممكن أن تكون غايتها من ذلك هو تنوير المتلقي وارشاده للإمساك بخيوط العمل الروائي والكشف عن جوهر المعاني والأهداف والدلالات والمقاصد حيث أن " القارئ يمارس عملية التلقي والكشف عن الدلالات والمعاني والأبنية التي يحتويها النص الإبداعي في إطار التشابك والتفاعل بين القارئ والنص إن النص لا يمكنه أن يقدم قراءة أحادية بل نراه يملك آفاقا مفتوحة في كل زمان ومكان داخل سياقات معرفية وحضارية"1.
لكني أرى بأن العناوين الفرعية في العمل الروائي إن كانت فاضحة وكاشفة لمحتوى النص لا تحقق غاية السرّد المبني على الإثارة و الدهشة والمفاجأة وكسر أفق التوقع لدى المتلقي فإن الكاتب عليه أن لا يقدم مادته بطبقٍ من ذهب وإنما يضعه في اختبار تجربته الثقافية ليكتشف بمفرده مواضع القبح والجمالية لأن النص الروائي ينفتح على تأويلات ورؤى عديدة فكلما اتسعت المسافة الجمالية بين أفق النص وأفق توقعات القارئ كلما تحققت القيمة الجمالية الفنية للعمل الروائي .. وكان الأجدر بالكاتبة أن تضع تقسيم رقمي في بداية كل جزء بدلاً من العنونة الفرعيّة التي تعطي انطباع أولي للقارئ عن مضمون النصّ وتضيع المتعة والتشويق التي طالما يبحث عنها لأن العنوان " أخطر البؤر النصية التي تحيط بالنص إذ يمثل في الحقيقة العتبة التي تشهد عادة مفاوضات القبول والرفض بين القارئ والنص ... "2.
رصدت لنا الكاتبة بكل دقة وابداع معاناة المعتقلات السياسيات ابتداءً من عيون المخبرين السريين والمطاردات والملاحقات المستمرة إلى إلقاء القبض بطرق وحشية والزجُّ في الزنازين والأقبية المظلمة داخل الأنفاق والتعذيب الجسدي والنفسي والاغتصاب الجماعي لمسلوبات الإرادة وفق خطاب سردّي قائم على كشف وبيان فكر وأيدولوجية الشخصية الرئيسة في الرواية وانتماءها الوطني وهي تعكس من خلال ضمير المتكلم عمق التأزم النفسي والاجتماعي والسياسي للذات المتشظّية لتشمل فئة كبيرة تتعدى الدولة الواحدة وانما هي قضية ( امرأة سجينة سياسية ) ..
اتبعت هدى الطائي تقنية كسر الأُطر الضيقة والتشظّي إلى فضاءاتٍ مفتوحةٍ تُمكنها من ابتداع بُنية سرّديةٍ خاصة بها عن طريقِ خلق الأسئلة وعلامات الاستفهام و استخدم الحوارات الداخلية المباشرة وغير المباشرة وبث الحياة في شخصياتها التي تركت لها حريّة الرأي والفكر و الحركة وطرح أيدولوجياتها المختلفة والنزول إلى أدقِ التفاصيل مما يبين كشف واضح للأحداث المشحونة بالصراعات الاجتماعية والسياسية وكأن القارئ يحس بأنه يرى فيلم سينمائي تتحرك فيه الأشخاص وتتحاور وتتصارع بكل مشاعرها الحقيقية وفق تراجيديا مرسومة بدقةِ كاتبةٍ عارفةٍ بأدواتها الفنية السرّدية و من خلال إثارة مشاهد واقعية تكرر باستمرار في السجون والمعتقلات يكون لها الأثر الكبير في تنشيط حركة الأحداث وتسارعها أو التوقف أو الابطاء في حركة السرّد من خلال حوار مونولوج وضع بدرايّة تكشف عمق المأساة التي ترافق الشخصية الرئيسة والشخصيات الثانوية ..
#غانم_عمران_المعموري (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟