|
يغذى الدودة فى الحجر
شريف حتاتة
الحوار المتمدن-العدد: 7228 - 2022 / 4 / 24 - 06:10
المحور:
الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع
إنه يغذى الدودة فى الحجر --------------------------------------
ذلك اليوم توجهنا قرب الساعة التاسعة صباحا إلى مبنى السفارة الأمريكية , حتى نقوم بتقديم الأوراق اللازمة للحصول على فيزات السفر إلى الولايات المتحدة الأمريكية . فمنذ أحداث 11 سبتمبر تصر السلطات القنصلية على إجراء مقابلة مع الذين يستعدون للسفر إليها . هبطنا من سيارتنا " الاسكودا " , نوال وأنا , وسرنا مسافة قصيرة على أقدامنا لنصل إلى الأبواب الحديدية للاستقبال الخارجى الذى يقود إلى القسم القنصلى . كان الجو جميلاً ، والشوارع مغسولة فى هذا الحى الأجنبى من المدينة الذى وهبه الاحتلال الإنجليزى اسم " جاردن ستى " , وكانت أوراق الشجر ترقص فى ضوء الشمس فتلكأنا قليلاً نستمتع بالجو ، بدأ يصفو مع قدوم الشتاء ، وانقشاع " السحابة السوداء " التى ابتلى بها خريفنا فى السنين الأخيرة . كلما مررت بحى " جاردن ستيى " عادت إلى ذكريات قديمة . أيامى فى كلية طب قصر العينى ، الدراجة التى كنت أمتطيها سائراً على الطريق الممتد بين نادى الجزيرة ، وكوبرى " قصر النيل " لأستكمل مشوارى إلى مستشفى قصر العينى ، ماراً تحت الأشجار العالية مازالت ترفع قامتها منذ نصف قرن ، موحية بالأصالة ، والقدرة على مواجهة العواصف التى مررنا بها . اجتزنا الأبواب الحديدية ، والحديقة الصغيرة . قدمنا أوراقنا فى " الشباك " وأجبنا على الأسئلة الخاصة بزيارتنا ، ثم عدنا أدراجنا خارجين من المبنى المغلق إلى الصالة المفتوحة قرب البستان . ونحن نجتاز صفوف المقاعد التفت إلينا أحد الجالسين ، وألقى ناحيتنا بابتسامة . لمحت أسنانه البيض فى الوجه الأسمر ، مثل قبس من النور والتفاؤل ، وسط الوجوه الواجمة المتراصة تنتظر نداء الميكروفون . قالت " نوال " : " ألمحت الشاب الذى ابتسم إلينا ؟ ، هيا ننتقل إلى جواره لنتحدث معه ، إنه يبدو ظريفا ، أليس كذلك ؟ " . ودون أن تنتظر حتى أجيب اتجهت ناحيته وجلست على بعد قليل منه ، تاركة مقعداً خالياً بينهما ، ثم أشارت لى لكى أنتقل إلى جواره . تأملته وهو يجيب على أسئلتها . فى لحظات كانت تبدو عليه الجدية ، والتأمل العميق ، وفى لحظات أخرى تشرق ابتسامته وتشع من وجهه بسعادة الطفل البرىء . عيناه سوداوان فيهما بريق . يتكلم ويضحك ويحرك يديه ، وجسمه بحيوية . لم أشعر بأى تصنع فى كلامه . ابن يخاطب أمه وأباه فى هذه الجلسة الطارئة التى جمعته بنا ، وهو على وشك الرحيل ، تاركاً ما عاشه وراءه . رأى الدكتورة " نوال " على شاشة التليفزيون فى برنامج ( حوار صريح جدا ) ، فأعجب بالشجاعة التى أجابت بها . ضحك ثم أضاف ( وبشكلها وشعرها الأبيض ). سألناه فحكى . سنه ستة وعشرون عاما , وهو أصغر الأولاد لأم و أب أنجبا ثلاث عشرة من الأبناء ، والبنات . تخرج من معهد الخدمة الاجتماعية فى القاهرة ، وظل يبحث عن عمل . أخذ قرضاً من شقيقه الأكبر ، استثمره فى شراء شقة ليبيعها يثمن يربح منه أربعة أو خمسة آلاف من الجنيهات . لكن بعد أن اشتراها من صاحب العمارة اكتشف أنها أقيمت بطريقة غير قانونية ، وآخذ ينتقل من قضية إلى قضية إلى أن فقد كل شىء . يقول : " البلد كلها فساد " . بعد ذلك ظل يبحث عن عمل ، لكن دون جدوى . طرق جميع الأبواب ، وحاول أن يقتات بأى وسييلة لكنه فشل . " كنت انتقل بين بيوت أخواتى الكبار لاتناول الطعام ، فأشعر بالمهانة تأكل فى نفسى . تصورا شابا مثلى عنده قدرات لكنه بلا عمل ، بلا نفع لأحد ، ثم يحدثوننا عن الإنتماء للوطن . أين هو هذا الوطن الذى لا يستطيع أن يطعم أبناءه ، أن يجد لهم عملاً ؟!! . أصبت بإكتئاب شديد وأصبحت لا أخرج من بيتنا . أبقى النهار بطوله أمام التليفزيون فلا أحد يحتاجنى . أحسست أننى سأنفجر . عدت إلى التسكع فى الشوارع ، إلى الانتقال بين بيوت إخوتى كالمتسول . أحياناً التقط قوت يومى بوسائل شاذة لكنى قاومت حتى لا نزلق فى هذا الطريق بلا رجعة . فى يوم من الأيام كنت جالساً فى البيت مستغرقاً فى التفكير . تساءلت بينى وبين نفسى : " أين الله سبحانه وتعالى الذى أؤمن به ؟ كيف يتركنى هكذا ؟ لكنى لن أكفر به فبدونه لن أستطيع أن أعيش . بدونه سأنتحر " . فى تلك اللحظة اقتربت منى أمى ، ربتت على خدى وسألتنى : " مالك يا ابنى " . قلت : " ألا ترين الحالة التى أنا فيها . كيف أستطيع أن أستمر هكذا ؟ " . قالت : " ما عليك ، ربك لا ينسى عباده المؤمنين به ، اتركها له ، ولا تعذب نفسك ، إنه يغذى الدودة فى الحجر " . " ترسبت جملتها هذه فى أعماقى . قررت أن أترك كل شىء له . أصبحت أخرج مع أصدقائى . أقضى اليوم فى المقهى ألعب " الطاولة " و " الدومينو " ، نثرثر ونحكى النكات ونعاكس البنات اللاتى تمررن أمامنا . قررت أن أكف عن التفكير تماماً بعد أن أوصلنى إلى حافة الجنون . فأنا لست إنساناً خاملاً ، أنا ملىء بالنشاط وبالرغبة فى أن أنجز ما يملأ حياتى . بعد هذا الحديث مع أمى بأسبوعين كنت جالساً فى المقهى وحدى . اقترب منى أحد أصدقائى وجلس ثم همس فى أذنى : " أريد أن أعرض عليك صفقه . أحد أصدقائى قال لى أن هناك رجلاً معه ثلاثون ألفاً من الدولارات يريد أن يبيعها فى السوق السوداء . ما رأيك فى أن تبحث معى عن مشتر ؟ , إذا استطعت أن تتصرف فى هذا الموضوع سيكون لك عمولة " . فكرت فى العرض ثم وافقت عليه . كنت أعرف شخصاً يتاجر فى العملة ، وبعد أيام أتى إلى صديقى بالمبلغ ، وانتظر على المقهى حتى عدت بما حصلت عليه من جنيهات مصرية . اقتسمنا المكسب ، وأصبح عندى مالا . لم تستغرق هذه العملية دقائق ربحت فيها ما لم أربحه فى حياتى ". قلت : " لكنك غاضب على الفساد ، وتقول إنك مؤمن بالله سبحانه وتعالى . فكيف توفق بين ما فعلته وما تقول إنك مؤمن به ؟ " . قال دون تردد : " هذه الصفقة أرسلها الله عندما اوقفت عن التفكير ، وقررت أن أتوكل عليه . عندما أمنت به حقاً أنقذنى . ثبت أن المثل الذى رددته أمى صحيح " يغذى الدودة فى الحجر " . فأنا الدودة التى أطعمها الله وهى فى الحجر " . قلت : " عن طريق المتاجرة بالعملة ؟ ! " قال : " هذه إرادته ، فهو الذى أرسل الصديق بالدولارات . أنا لم أسع إلى شىء . لكنه الله بعث بالحل ، و الآن أستطيع أن أسافر ، أن أدفع مصاريف الفيزا والطائرة و ألحق بأخر الذى يعمل هناك " . قلت : " كيف " ؟ . قال : " أرسل لى خطابا من إحدى شركات الملابس سأعمل فيها : أعرف أن الحياة هناك ليست سهلة لكننى سأعمل . أخر يبيع مأكولات فى شوارع " نيويورك " . فى الشتاء عندما يكون البرد قارصاً تتجمد قدماه ، ويصبحان مثل كتلتين من الثلج لأنه يرفض أن يحتسى الخمر حتى تتدفق الدماء فى أطرافه مثلما يفعل زملاؤه . يذهب إلى البيت فى الصباح ويغرق قدميه فى الماء الساخن حتى لا يغضب ربه . لكن هناك توجد فرص . وأنا واثق من قدر قدراتى ولابد أن أنجح . صدر من الميكروفون صوت نسائى ينطق الأرقام بلكنة أمريكية فقال : " هذا رقمى ، أستأذنكما " ثم قام واتجه نحو الصالة الداخلية . عند المدخل استدار وألقى ناحيتنا بابتسامته المشرقة . رفع يده فى الهواء ولوح إلينا كالمسافر على ظهر سفينة أخذت تبتعد عن الشاطىء .. ثم استدار واختفى كمن يلقى وراءه بمرحلة من حياته . -------------------------------------------------------- من كتاب ( يوميات روائى رحال ) 2008
#شريف_حتاتة (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
مجاهدى خلق ورحلة الى لندن
-
خواطر مغترب
-
يوميات أستاذ زائر
-
فى الأصل كانت الذاكرة
-
دفاعا عن الحلم
-
على جسم السد
-
الحياة تبدأ بعد السبعين
-
طائر أسمر عند شاطئ البحر
-
كبش الفداء فى أوروبا
-
اكتشاف ما ضاع مِنى
-
رجل على - دراعه -
-
انتحار أستاذ جامعة
-
انجيلا ديفيس
-
مدينة العبادة والفساد .. من يوميات خبير سابق
-
حماية النيل من الحسد
-
قضية لا تموت
-
امرأة من ايران
-
خواطر فى سرادق العزاء
-
بلد فوق قمة العالم
-
الوجه الآخر من القمر
المزيد.....
-
منشور يشعل فوضى في منتجع تزلّج إيطالي.. ماذا كتب فيه؟
-
-أم صوفيا-.. سلمى أبو ضيف تنجب طفلتها الأولى
-
رداً على تصريحات ترامب بشأن -تهجير- أهل غزة، دعوات إلى التظا
...
-
اللجنة المحلية للحزب في الديوانية: ندين الاعتداء على المحتجي
...
-
حادث مطار ريغان يربط موسكو وواشنطن في مباحثات إنسانية
-
غزة.. انتشال 520 جثة من تحت الأنقاض منذ وقف إطلاق النار
-
الدفاع الروسية تعلن تحرير 6 بلدات في كورسك ودونيتسك وخاركوف
...
-
وقفة صامتة أمام السفارة الأمريكية في تل أبيب للمطالبة بالإفر
...
-
بيسكوف: التعليق على تكهنات حول -قوات كوريا الشمالية في كورسك
...
-
فنلندا.. منع طالب من زيارة محطة نووية بسبب جنسيته الروسية
المزيد.....
-
حوار مع صديقي الشات (ج ب ت)
/ أحمد التاوتي
-
قتل الأب عند دوستويفسكي
/ محمود الصباغ
-
العلاقة التاريخية والمفاهيمية لترابط وتعاضد عالم الفيزياء وا
...
/ محمد احمد الغريب عبدربه
-
تداولية المسؤولية الأخلاقية
/ زهير الخويلدي
-
كتاب رينيه ديكارت، خطاب حول المنهج
/ زهير الخويلدي
-
معالجة القضايا الاجتماعية بواسطة المقاربات العلمية
/ زهير الخويلدي
-
الثقافة تحجب المعنى أومعضلة الترجمة في البلاد العربية الإسلا
...
/ قاسم المحبشي
-
الفلسفة القديمة وفلسفة العصور الوسطى ( الاقطاعية )والفلسفة ا
...
/ غازي الصوراني
-
حقوق الإنسان من سقراط إلى ماركس
/ محمد الهلالي
-
حقوق الإنسان من منظور نقدي
/ محمد الهلالي وخديجة رياضي
المزيد.....
|