|
تل الأجز .. مدافن من حلي ومجوهرات..القصة الكاملة
يوسف المحسن
كاتب، روائي
(Yousif Almouhsin)
الحوار المتمدن-العدد: 7224 - 2022 / 4 / 20 - 06:06
المحور:
دراسات وابحاث في التاريخ والتراث واللغات
مجموعة مدافن تعود للعصرين السلوقي والفرثي، بُنيت في طبقات لتشكل واحدة من اثمن واكبر المقابر التاريخيّة المكتشفة، اللافت فيها انّها تعود لأسر حاكمة كانت تضع مع جثامين موتاها الحلي والادوات الثمينة، انّها تل الأجز الذي يحمل رؤية العراقيين القدماء لعالم ما بعد الموت.
موقعُ تل الأجز الأثري واحدٌ من الف موقعٍ اثاري في محافظة المثنى يعود تاريخه الى اكثر من حقبة زمنيّة، وسمّي بـ (الأجز) لكثرة القطع الزجاجيّة والفخاريّة المصهورة والمتروكة على سطحه والتي تُعرف شعبياً بالجزيز، مدافن على شكل طبقات وكل واحدة تتكوّن من حجرات عدّة، استُخدمت كقبورٍ متراصّة للموتى المنحدرين من الشرائح الغنيّة ذات النفوذ والذين لم يكونوا ليدفنوا في مقابر العامّة من الناس، وعن موقعها يقول الاستاذ الدكتور نعيم عوده إنَّ تل الأجز يقع الى الشمال من مدينة السماوة 35كم والى الشرق من مدينة الرميثة بمسافة 19كم، وضمن الحدود الادارية لقضاء الوركاء، إذ يرتبط بمدينة اوروك التاريخيّة، وهو يقع على نهر النيل القديم الذي يُعتقد بأنه فرع من نهر الاوترنكال المتشعب من نهر الفرات. ويضيف الدكتور عوده وهو تدريسي في جامعة المثنى عُرِفَ بمساهمات علميّة واسعة "وردت الاشارة الى كلمة المدفن في النصوص السومريّة بصيغة (KI- MAH) او ( KI-KI-MAH) على انها الارض المرتفعة في المدينة التي اتُخذت مكاناً لدفن الموتى، كما ورد المصطلح (KI –MAH ) للدلالة على المدفن في لائحة اصلاحات الملك اورو- انمكينا 2355ق.م إذ ذكر فيها (ADDKI - MAH¯E Tvm) وتعني من اجل دفن جثة في المقبرة، كما جاءت كلمة (Kimahhu) الاكديّة في النصوص بمعنى القبر او الضريح، فضلاً عن المصطلحين الاكديين(hurru- ®uttu)وكلاهما يعني حفرة وقد استخدمتا للدلالة على معنى القبر والمدفن ايضا".
عمليّات نهب وهدم وتعرّضت الآثار العراقية طوال عقود إلى حملة سرقة واسعة يُعتقد أنّها أسفرت عن تهريب الآلاف من القطع التاريخيّة التي تحكي قصة الإنسانيّة وانطلاقتها من وادي الرافدين، وسبق لفريق(شبكة الاعلام العراقي) وان زار الموقع قبل اعوام واستمع لشهادات من السكّان المحليّين عن عمليات نبش عشوائيّة وغالبيتها كانت تحصل في ساعات الليل من قبل سُرّاق الاثار والباحثين عن المقتنيات والحُلي المدفونة. خمسة ُ وتسعون بالمئة من اللقى الأثرية في التل الاثري ربّما تكون تعرّضت لأضرار وعمليات منظّمة قام بها متاجرون بالآثار وبما تسبب في خسائر فادحة، وهذه النسبة قد تكون اكبر لانَّ الموقع الذي نُهب لم تتوافر بيانات سابقة عنه لكنَّ الواضح ان الاضرار تفوق الوصف، وتقول مفتش آثار المثنى ايثار قاسم مشكور إن عمليات النهب توقّفت بعد سلسلة إجراءات اتخذتها الجهات المعنيّة، قاسم اشارت الى انّ الموقع هو صرح نفيس وفي غاية الأهميّة، ذلك لانّ التلول الأثريّة بشكل عام تنحدر من حقب تاريخيّة متباينة ومهمّة مثل السومريّة والفرثيّة والإسلاميّة والساسانيّة، واضافت "في العام 2008 شرعت فرق تنقيبيّة تابعة لوزارة الثقافة وبقيادة الخبير الاثاري علي عبيد شلغم بأعمال التنقيب في تل الأجز والنتائج واللقى التي وصلت لها الفرق كانت على درجة كبيرة من الاهميّة، والتل اليوم من بين المواقع الاثاريّة البارزة في العراق ويعكس حضارة بلاد ما بين النهرين. وبحسب الدكتور نعيم عوده فإن العمل التنقيبي استمر لثلاث مواسم، والاسباب الموجبة للتنقيب هي اعمال النبش والتخريب من قبل سُرّاق الاثار قبل سقوط النظام في العام 2003 وبعده، وكان العام 1935 شهد الاعلان عن اثريّة هذا الموقع في جريدة الوقائع العراقية بتسلسل 1465، مشيرا إلى ان مساحة الموقع بلغت 28 دونماً وبامتدادات واسعة كشفت عن مقبرة كبيرة عُدّت أول واكبر مقبرة في العراق ترجع بتاريخها للعصرين السلوقي والفرثي.
مدافن لأقوام ذوي شأن
هذه المدافن هي لأقوام أصحاب شأن، بهذه العبارة يلخص الدكتور نعيم عوده تصوراته عن هذه المدافن (القبور) فمن خلال البناء والهدايا المدفنيّة التي عُثر عليها مع الاموات يمكن تلمس مدى الاهتمام بالمعتقدات الدينيّة المتمثلة بالحياة ما بعد الموت، وثمّة اختلاف واضح في الهدايا الجنائزيّة وبحسب اهمية الشخص ومنزلته الاجتماعيّة بين طبقات المجتمع الرافديني، وتحيط بهذه المدافن الجماعيّة مدافنُ فرديّة لعامّة الناس، ولعل اهم ما عثر عليه داخلها هو الهدايا الجنائزيّة وكانت عبارة عن فخاريّات بأنواع واحجام مختلفة ودمى وتماثيل فخاريّة وغيرها من المواد المهمّة. وارتبط تخطيط المدافن في العراق القديم ومنذ البدء بعاملين اساسيين كان لهما اعظم الاثر في تصميم مخطّطات المدافن اولهما المعتقدات الدينيّة وثانيهما الامكانات البيئيّة، وتل الأجز لا يختلف كثيراً فهو عبارة عن مقابر مشيّدة بالآجر والجص وفي سراديب داخل الارض يكون النزول اليها عن طريق سلالم حجريّة. وتلتقي رسّامة الفخار ايثار قاسم مع ما يقوله الدكتور نعيم عن الأهمية التاريخيّة للموقع من خلال ما عُثر عليه داخل المدافن والتي تمثل عصرين مهمّين في تاريخ بلاد الرافدين.
نفائس لا مثيل لها
واللقى التاريخيّة التي عثرت عليها الفرق التنقيبيّة في تل الأجز شملت ادوات ومستلزمات فخاريّة وحلي ومجوهرات تجمع بين الفرادة والاتقان الحرفي وتعكس المكانة الاجتماعيّة الرفيعة للموتى، حيث حُشرت معهم في المدافن، ويقول معاون مفتش آثار المثنّى كرار علي الخفاجي إنّ غالبيّة اللقى ارسِلت الى المتحف العراقي حيث اجريت هناك عمليّات ترقيمها وفهرستها واضافتها الى الارث التاريخي الوطني، الخفاجي اضاف ان تماثيل صغيرة ومجسمات وحلي وخواتم واختام وصحون فخاريّة بكتابات مسماريّة ونقوش كانت من بين ما تم العثور عليه. وعلى الرغم من كون اللقى تعود الى حقب زمنيّة قديمة لكنّها متأخرة عن مدافن مشابهة في اماكن اخرى من بلاد الرافدين ووادي النيل سبقتها وفقا للامتداد الزمني لكنّ دقّة الصنع والمهارة في عمليّات طرق المعادن والتعدين تشير الى عمق زمني يسبق تاريخ بناء المدافن، والاعمال الحرفيّة والتلوين لا تتكامل بين ليلة وضحاها، وعن ذلك يعلّق الخبير نعيم عوده "كان للإنسان معتقدات دينيّة وتصوّرات وافكار عن الموت وما بعد الموت وهذا بيّنٌ من اساليب الدفن وما وِجِدَ مدفوناً مع الموتى من اوانٍ وآلات وادوات، وليس غريباً ان نجد تبايناً في الآراء حول البدايات الاولى لمعتقدات عالم ما بعد الموت، وهذا التباين ناجم عن التفسيرات المختلفة المقدَمة من الباحثين في اطار الاستنتاج والتخمين".
نص مسماري وفلسفة دفن الحُلي
ومن الواضح ان مدافن تل الأجز كانت تعود لأسر او لشرائح مجتمعية معينة، ويمكن القول ان العراقيين القدماء والفراعنة يشتركون الى جانب اقوام اخرى جاءت بعدهم بحياة ما بعد الموت وانّهم يعدّون القبور شكلاً من اشكال المنازل الابديّة، وهم لأجل ذلك يزودونها بما يحتاجه الميّت في حياة اخرى انتقل لها، وغالباً ما يضعون الاشياء التي كان يحبها او يفضلها، فالروح عند الانسان القديم كانت تعود الى جسدها لتبدأ رحلة جديدة، ويشير الدكتور عوده إلى ذلك مؤكداً حرص العراقيين القدماء على دفن ملوكهم في مقابر تليق بمكانتهم شأنهم في ذلك شأن قدماء المصريين، وان كانت المدافن الملكيّة العراقيّة لا ترقى في الاتقان المعماري الى مدافن الفراعنة، إلّا انّها مجهّزة بكل ما يحتاجه الملك في العالم الاخر، ويضيف "نقرأ في نص مسماري يعود تأريخه الى العصر الاشوري الحديث وصفاً دقيقاً لعملية الدفن التي جرت لاحد الملوك الأشوريين، (في القبر المكان المظلم، على الارض الملكيّة، جعلته يرتاح جيداً، التابوت الحجري، الحفرة من اجل تغطيته، ختمت فتحته(باب القبر) ببرونز قوي، ووضعت تعويذته، ووضعت تجهيزات من الذهب والفضة مناسبة للقبر، وشارة السلطة التي احبها ـ والدي ـ عرضتها لضوء الشمس ووضعت كل ذلك في القبر مع ابي الذي انجبني". من خلال النص المسماري نستقرأ المكانة الاجتماعية التي كان عليها الملك لذا وضعت معه التجهيزات التي يحتاج لها في العالم السفلي او حياة عالم ما بعد الموت، ومن بين هذه التجهيزات الحلي من الذهب والفضة التي كانوا يؤمنون وفقاً للمعتقد الديني الرافديني بأن الميّت يحتاجها، وعليه ـ والكلام لعوده ـ نستطيع القول بأن كل شخص تكون ادوات الدفن المرفقة معه بحسب مكانته الشخصيّة ومركزه الاجتماعي.
مواقع التراث موارد اقتصاديّة وثقافيّة
ومن بين الف موقع اثري في محافظة المثنى رصدتها وزارة الثقافة والسياحة والاثار واعلنت عنها مديرة الآثار ايثار قاسم مشكور تمتد ادارة مفتشيّة الاثار على ثلاثمئة منها فيما البقيّة مازالت بانتظار اكمال الاجراءات لإعلانها محميّات تاريخيّة وثقافيّة، مواقع تعود الى حقب زمنيّة مختلفة وحضارات تعاقبت على هذه الارض التي شهدت الاختراعات والاكتشافات الاولى للكتابة ونظم الري والعجلة والتشريعات، وفي وقت يلعب الاستثمار السياحي دوراً ستراتيجيّاً ويشكل مصدراً لتنمية القطاع السياحي لما يحققه من منافع اقتصاديّة واجتماعيّة وثقافيّة للدولة السياحيّة، لذلك ينحاز الدكتور نعيم عوده الى ادراج الاستثمار السياحي كأحد المستجدات الجوهريّة والمجالات الخصبة ضمن اطر واساليب السعي للنهوض والارتقاء بقطاعها السياحي، حيث يقول "يمكن الاستثمار في الموارد الثقافية (مواقع التراث والتاريخ)، من خلال تشجيع وتنظيم المهرجانات الثقافية والمحافظة على الاثار وفتح المناطق الاثريّة امام القطاع العام والخاص للاستثمار فيها". وتل الأجز وهو يحتوي اكبر مقبرة ، يصلح لمثل هذه الفعاليّات.
#يوسف_المحسن (هاشتاغ)
Yousif_Almouhsin#
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
قلعة الكصير الأثريّة ..القصّة الكاملة
-
قصف الجسور الخشبية العراقية جريمة ابادة
-
التعليم الاهلي بين الحاجة وفضاء التسليع
-
نقرة السلمان.. حكاية سجن وقصة منفى
-
كتب امريكيّة لفهم الواقع العراقي
-
انف الحكومات
-
الحكومة اخفقت ْ .. الدولة فشلتْ !
-
التاآت ، أسلحة المحرر الثلاثة
-
جاذبية
-
اصدقاء
-
6صباحا 9 مساء أمريكيا
-
إنهم فيدراليون
-
عودة
-
تعمد ايقاع الاذى الصحفي
-
رغوة اصوات
-
يقرون بأخطائهم والعصي في الهواء
-
أيقونه
-
م
-
مطر
-
فزاعة
المزيد.....
-
الأنشطة الموازية للخطة التعليمية.. أي مهارات يكتسبها التلامي
...
-
-من سيناديني ماما الآن؟-.. أم فلسطينية تودّع أطفالها الثلاثة
...
-
اختبار سمع عن بُعد للمقيمين في الأراضي الفلسطينية
-
تجدد الغارات على الضاحية الجنوبية لبيروت، ومقتل إسرائيلي بعد
...
-
صواريخ بعيدة المدى.. تصعيد جديد في الحرب الروسية الأوكرانية
...
-
الدفاع المدني بغزة: 412 من عناصرنا بين قتيل ومصاب ومعتقل وتد
...
-
هجوم إسرائيلي على مصر بسبب الحوثيين
-
الدفاع الصينية: على واشنطن الإسراع في تصحيح أخطائها
-
إدارة بايدن -تشطب- ديونا مستحقة على كييف.. وترسل لها ألغاما
...
-
كيف تعرف ما إذا كنت مراقبًا من خلال كاميرا هاتفك؟
المزيد.....
-
الانسان في فجر الحضارة
/ مالك ابوعليا
-
مسألة أصل ثقافات العصر الحجري في شمال القسم الأوروبي من الات
...
/ مالك ابوعليا
-
مسرح الطفل وفنتازيا التكوين المعرفي بين الخيال الاسترجاعي وا
...
/ أبو الحسن سلام
-
تاريخ البشرية القديم
/ مالك ابوعليا
-
تراث بحزاني النسخة الاخيرة
/ ممتاز حسين خلو
-
فى الأسطورة العرقية اليهودية
/ سعيد العليمى
-
غورباتشوف والانهيار السوفيتي
/ دلير زنكنة
-
الكيمياء الصوفيّة وصناعة الدُّعاة
/ نايف سلوم
-
الشعر البدوي في مصر قراءة تأويلية
/ زينب محمد عبد الرحيم
-
عبد الله العروي.. المفكر العربي المعاصر
/ أحمد رباص
المزيد.....
|