|
لغة الترميز والإيحاء والتكثيف في الحدث السردي لدى الشاعر والقاص التونسي الكبير د-طاهر مشي (قصة زفرات..في هدأة الليل-نموذجا)
محمد المحسن
كاتب
الحوار المتمدن-العدد: 7222 - 2022 / 4 / 18 - 09:20
المحور:
الادب والفن
-كانت ليلة شديدة البرودة،زفير الرياح من تلك الثقب المتباعدة قريبة من السقف، ليلة هادئة جدًا. كيف سأنساها، فقد تشتتت فيها كل أحلامي وتبعثرت فيها كل آمالي وأوراقي ممزقة مشتاقة ذاتي لتلتقيها أمواج ضياعي على شواطئ الانتظار وبحوري الملطخة بدمائي المنسكبة،حيث ازدادت ندوبي وجروحي غائرة في الضياع فتساقطت فيها كل أوراق الشجر فلا مستقر لحزني وقد طُعنت من غدرٍ أباح عذابي ليخمد صوتي فلا يأتيكم منه أنين ولا آه تعين صبري على ندب غائر في متاهاتي. ( د-طاهر مشي)
مقدمة : ظهرت القصة القصيرة جدا منذ التسعينيات من القرن الماضي استجابة لمجموعة من الظروف الاجتماعية والاقتصادية والسياسية والثقافية المعقدة والمتشابكة التي أقلقت الإنسان وما تزال تقلقه وتزعجه ولا تتركه يحس بنعيم التروي والاستقرار والتأمل،ناهيك عن عامل السرعة الذي يستوجب قراءة النصوص القصيرة جدا والابتعاد عن كل ما يتخذ حجما كبيرا أو مسهبا في الطول كالقصة القصيرة والرواية والمقالة والدراسة والأبحاث الأكاديمية..كما لم تجعل المرحلة المعاصرة المعروفة بزمن العولمة والاستثمارات والتنافس الإنسان الحالي ولاسيما المثقف منه مستقرا في هدوئه وبطء وتيرة حياته،بل دفعته إلى السباق المادي والحضاري والفكري والإبداعي قصد إثبات وجوده والحصول على رزقه،مما أثر كل هذا على مستوى التلقي والتقبل والإقبال على طلب المعرفة،فانتشرت لذلك ظاهرة العزوف عن القراءة،وأصبح الكتاب يعاني من الكساد والركود لعدم إقبال الناس عليه، كما بدأت المكتبات الخاصة والعامة تشكو من الفراغ لغياب الراغبين في التعلم وطلبة القراءة والمحبين للعلم والثقافة. هذا،ولقد تبلور هذا الجنس الأدبي الجديد- على حد علمي- في دول الشام وبالضبط في سورية وفلسطين،ودول المغرب العربي وخاصة في المغرب وتونس على حد سواء. وهاهو الكاتب التونسي والشاعر القدير د-طاهر مشي -يجرنا-قسر الإرادة-لقراءة لوحته القصصية الرائعة (زفرات..في هدأة الليل) تاركا للقارئات الفضليات والقراء الأكارم حق التفاعل والتعليق.. يعد الشاعر والكاتب التونسي الكبير د-طاهر مشي -رائداُ من رواد كتاب القصة القصيرة في تونس،وتمثل شخصيته الأدبية شخصية مهمة ومتميزة في الحركة الأدبية،إذ تمكنت شخصيته بمهارة من أن تضع نفسها على خريطة الفن القصصي التونسي وكذا العربي من خلال ما كتبه من قصص ومجموعات شعرية متعددة،وما قدمة من نقد أدبي رصين،ومؤلفات ثقافية متنوعة انتصر فيها-بكل نكران للذات-للإبداع والمبدعين.. إن نظرة متأنية إلى هذه القصة(زفرات..في هدأة الليل) تشي بانعكاس الدلالات الرمزية في معظم قصص الكاتب والشاعر د-طاهر مشي،إن لم يكن فيها كلها،وبدرجات متفاوتة،ابتداءً من الإيماء إلى الرمز البسيط إلى المعادل الموضوعي،وفق رؤية فنية يستطيع المتلقي القبض عليها بسهولة،وبعيداً عن الإبهام والتعتيم. وإذا كان ذلك هو الرمز في الشعر،كما حدده أدونيس،فإن الرمز في القصة،كما يمكن لنا أن نقول،هو القصة الأخرى التي تبدأ بعد أن تنتهي القصة،وتبدأ مرحلة التأمل والاستغراق في قراءة الدلالات. وإذا كان على المبدع أن يحفر عميقاً في داخله بحثاً عن نص أدبي يشغله ويؤرقه،فإن القارئ المتمرس مطالب بأن يحفر عميقاً في داخل هذا النص المنجز،النص القائم على مرتكزين اثنين: الظاهر والباطن،إذا جاز التعبير.والظاهر في حالة فن السرد هو ما يقدمه القاص من حكاية تدور حول الدلالة المباشرة لحادثة ما أو شخصيات ما.وعلى العكس من ذلك،الباطن،الذي يفتح النص لما هو أعمق وأغنى في الدلالة غير المباشرة،وهو بمكوناته الأسلوبية يستحضر المعنى البعيد،المعنى الموازي والمتخيل.. وما من شك في أن.-الشاعر والقاص التونسي الكبير د-طاهر مشي -قد صنع لنفسه موقفاً خاصاً في مجال القصة التونسية القصيرة،بخاصة،سواء في اختيار موضوعاته الساخنة،أم في لغته القريبة من القلب،أم في تعامله الواعي والذكي مع الرموز. ويستطيع الدارس أن يلاحظ أن فكرة الترميز ابتدأت عند د-طاهر مشي-منذ بواكيره القصصية الأولى،وحرصه على إنتاج نص سردي يحتمل العديد من القراءات ويفتح أبوابه لاستقبال كل القراء على اختلاف إمكاناتهم الثقافية،لاسيما أولئك الذين يجدّون ويجاهدون في البحث عن تلك الأبعاد الرمزية بكل ما تثيره من محفزات فنية وفكرية.. في قصة هذه (زفرات..في هدأة الليل) تتجلى لنا بوضوح مقومات القصة القصيرة حيث إعتمد الكاتب التكثيف والترميز والذي هو الإقتصاد في الكلمات والإكتفاء بالقليل منها وخالية من الزوائد والحشو الوصفي والاستطرادات والإنثيالات الواعية وغير الواعية وايضا الإيحاء،وهو التكثيف الناجح الى لغة مشعة بالإيحاءآت والدلالات،وجعل القارىء يعرف ما تتحدث عنه القصة،يضاف الى ذلك المفارقة التي هي عبارة عن جريان حدث بصورة عفوية على حساب حدث آخر هو المقصود في النهاية،وكذلك الخاتمة التي تعد الغاية والهدف في القصة القصيرة لانها تختلف عن اساليب الخاتمة في الرواية مثلا كونها ليست وليدة السرد او من مفرزاته،بل انها نص متحفز الى الإدهاش والإستفزاز"لا مستقر لحزني وقد طُعنت من غدرٍ أباح عذابي ليخمد صوتي فلا يأتيكم منه أنين ولا آه تعين صبري على ندب غائر في متاهاتي." في هذه-القصة القصيرة-كان القاص القدير د-طاهر مشي.منتبهاً بصورة جيدة لمسألة في غاية الأهمية،أنه لم يترك القارىء منتظرا المزيد لانه ركز على خط قصصي مهم تمثّل في التقاط الكلمات التي توصل الى الموقف ورصده الماهر للأحداث والحالات المختلفة التي استطاع ببراعة تجسيدها في هذه اللوحة القصصية الفاخرة ذات البعد الفني والجمالي.. وقد لا يحيد القول عن جادة الصواب ثانية إذا قلت أنّ-أسلوب د-طاهر مشي-،يمتاز بالقدرة على النفاذ إلى داخل نفس المتلقي،لكونه يمتلك لغة جميلة وحبكة مؤثرة يستقبلها القارئ بترحاب وإعجاب ومحبة،فهو يكتب بلغة صافية بعيدة عن كل ضبابية أو ارتباك،فضلاً عن كونه قاصاً واقعياً في أكثر نصوصه،إذ أنه يتيح للمتلقي متعة الانسجام مع أحداث قصصه وحركة الشخصيات وعوالمها الظاهرة والخفية.. ختاما يمكن القول أنّ القراءة العميقة،القراءة الاستنباطية،هي التي تكشف المعنى الخفي بأبعاده الغائرة في النص ودلالاته الرمزية؛ فالإبداع الحقيقي في كل زمان ومكان هو التعبير الصادق عن الوجدان الجمعي لا الوجدان الفردي.والرمز هو الذي يضمن له تلك الإمكانية المتجددة،وهو ما يجعل القصة،كما القصيدة،صالحة لكل زمان ومكان. التعبير المباشر،مهما كان نصيبه من جمالية اللغة وطراوة الأسلوب،يظل محكوماً بوقته وراهنيته ثم يتلاشى.وعلى العكس من ذلك التعبير غير المباشر،التعبير الرامز،الذي يأخذ مداه الطويل في الزمن والتاريخ.وما من شك في أن-الشاعر والقاص التونسي البارع د-طاهر مشي -قد حقق قفزة نوعية في مجال الإبداع بمختلف تجلياته الخلاّقة.. ولنا عودة إلى قصته -زفرات..في هدأة الليل-عبر قراءة مستفيضة.. و تبقى في الختام "زفرات..في هدأة الليل" للقاص والشاعر التونسي الفذ د-طاهر مشي.ابداع متميزيستحق أكثر من وقفة نقدية،لأنها زاخرة بتنوع ملفت في الثيمات و الأساليب،و هي بالتالي تمنح المتتبع فرصة الاطلاع على قطعة أخرى من فسيفساء القصة القصيرة جدا في تونس،التي يبدو أنها تجاوزت تعثرات البداية،و طفقت ترسخ جذورها بعنفوان في تربة الأدب التونسي بخاصة والمغاربي بشكل عام.
#محمد_المحسن (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
قراءة فنية في قصيدة الشاعرة التونسية السامقة فائزة بنمسعود-ز
...
-
اقراءة نقدية في نص (عمالقة الهذيان) للكاتبة التونسية القديرة
...
-
حين تتحوّل الكلمات..إلى لوحة فنية بأنامل شاعر كبير بحجم هذا
...
-
قراءة فنية-متعجلة-في قصة قصيرة (العفة ) للمبدع السعودي د-خال
...
-
حين يستنفر الشاعر التونسي السامق د-طاهر مشي قلمه..تترنّح الح
...
-
لمسة وفاء إلى الشاعر التونسي الكبير د-طاهر مشي..ذاك الذي يعز
...
-
رؤية الفكر..نمذجة الفن : قراءة-متعجلة- في قصيدة-هنا كنا..- ل
...
-
نوافذ مفتوحة..على إشراقات صبح جميل..بقلم الشاعر والكاتب التو
...
-
رسالة شكر وإمتنان..من خلف شغاف القلب
-
قراءة نقدية-متعجلة- في قصة قصيرة -شياطين تتقاطر- للكاتب السع
...
-
هوذا الشاعر التونسي السامق-د-طاهر مشي كما عرفته..وعرفته السا
...
-
الأستاذ التونسي القدير علي فارس-دكتورا مرحلة ثالثة في القانو
...
-
قراءة متعجلة في نص(بين مفاصل الوجع..تكمن الشظايا ) قصة قصيرة
...
-
إشراقات الذات الشاعرة-قراءة في قصيدة -أنا الأنثى- للشاعرة ال
...
-
مأساة -يوسف المغربي- (ريان)..قصة إغريقية صاغها القدر..أربكت
...
-
-المخرج المسرحي التونسي الكبير: رشيد بن مصطفى :-المسرح هو ال
...
-
ما حكاية-هذا -السجين التونسي-؟!
-
بيان رسمي من كاتب صحفي دولي تونسي
-
شراقات نورانية..في دياجير اليَم بقلم الأستاذة القديرة فوزية
...
-
..ملامح الوجَع..في قصيدة الشاعر التونسي القدير جلال باباي (
...
المزيد.....
-
تركي آل الشيخ يشوق متابعيه بالمزيد من كواليس فيلم -Seven Dog
...
-
وفاة فنانة سورية شابة بعد تعرضها لأزمة صحية (صورة)
-
وفاة فنانة سورية.. أدركت موتها قبل أيام بمنشور على فيسبوك
-
هآرتس: مدينة -تل أبيب- التوراتية لم توجد قط
-
تمتلك أسرار ثروة ضخمة.. الممثلة السعودية ريم الحبيب بمسلسل -
...
-
طهران.. مهرجان فجر السينمائي منصة فنية مهمة في المنطقة
-
سقوط -شمس الأغنية- على المسرح وحملها علم الثورة السوري يثير
...
-
أزياء وفنون شعبية وثقافة في درب الساعي
-
رحيل أسامة منزلجي.. رحلة حياة في ترجمة الأدب العالمي
-
مصر.. مفاجأة في قضية طلاق الفنان الراحل محمود عبد العزيز وبو
...
المزيد.....
-
أدركها النسيان
/ سناء شعلان
-
مختارات من الشعر العربي المعاصر كتاب كامل
/ كاظم حسن سعيد
-
نظرات نقدية في تجربة السيد حافظ الإبداعية 111
/ مصطفى رمضاني
-
جحيم المعتقلات في العراق كتاب كامل
/ كاظم حسن سعيد
-
رضاب سام
/ سجاد حسن عواد
-
اللغة الشعرية في رواية كابتشينو ل السيد حافظ - 110
/ وردة عطابي - إشراق عماري
-
تجربة الميج 21 الأولي لفاطمة ياسين
/ محمد دوير
-
مذكرات -آل پاتشينو- عن -العرّاب-
/ جلال نعيم
-
التجريب والتأسيس في مسرح السيد حافظ
/ عبد الكريم برشيد
-
مداخل أوليّة إلى عوالم السيد حافظ السرديّة
/ د. أمل درويش
المزيد.....
|