|
ما تيسر من سفر الطيبة البصرية “جبار صبري العطية”
فاضل خليل
الحوار المتمدن-العدد: 7219 - 2022 / 4 / 15 - 13:10
المحور:
الادب والفن
المطر متواضع .. والدخان مغرور[*]
أن ثقافة وفنون العراق، تنهض من جروحها، وان المحن والعذابات هي التي أسست له أهم تجاربه الإبداعية، بدءا من أول احتلالاته، وما مر به من ويلات، مرورا بثورة العشرين وما أفرزته من إبداعات في الشعر والرواية والسينما والمسرح وسواها، وليس انتهاء بالاحتلال الأخير الذي أذاقنا الأمرين. وما مسرح السبعينات بل وحتى الأمس القريب بنسبيته إلا ما يتمتع به المسرح العراقي من تجارب عظيمة حصدت جوائز أهم المهرجانات. والمسرح قدم ويقدم المنجزات في ظل ظروف معذبة قاسية ودموية غالبا. ولم يكن جبار صبري العطية إلا واحدا من فرسانه الكبار. هو رائد مسرحي عراقي نسبه البصرة، وهو اسم يقف بجدارة مع أهم الأسماء الرائدة في المسرح العراقي والعربي. هو واحد من رواد الواقعية في المسرح العراقي. سكن المسرح وسكنه أكثر من 40 عاما، ومات مسكونا به حتى بلغ به هذا العشق حد الوصية، فها هو في المشهد الحادي عشر من مونودراماه الشهيرة (تحت المطر) يتمنى على القائمين على تشيعه أن يصنعوا من مكوناته المسرح معدات لموته، من خشب وستارة، وان لا يتورعوا من وضع قلم وقرطاسا معه عند دفنه لموضوعات ادخرها كي يكتب عنها بعد الموت لا يمكن لغيره كتابتها. سأنطلق من مسرحيته المونودراما (تحت المطر) أغنية ألتم التي أطلقها العطية من المستشفى التعليمي بالبصرة وصية له. من هنا تبدأ محنة الوحدانية عنده في المونودراما التي خص لها من المسرحيات: (تحت المطر)(1)، (ليلة الانتظار)، (جياع ولكن). صراع الذات في المونودراما. وهو ذات الصراع بين العطية وصعوبة الإنتاج في المسرح الذي يشكو منه مسرحيو العراق. بعض من المشتغلين بالمسرح ومنهم ( بيتر بروك ) اعتبروا ( المونودراما ) هروب من صعوبة الإنتاج، ونوع من الحلول السهلة في قيام عرض مسرحي بعناء أقل، وهو الدليل على أزمة المسرح الذي لم يعد قائما إلا في المهرجانات، وهو رأي أتفق معه كثيرا. كما أن (المونودراما) متهمة بالتساهل مع النص، فلا مانع أن يكون النص فيها (مونولوج monolog) من فصل واحد، أو نص أدبي يتعكز على قصة قصيرة، أو قصيدة شعرية، أو خبر في صحيفة... الخ. لكن المؤكد أن مسرحيات (المونودراما) عنده ليست بطرا برجوازيا، ولا ترفا فكريا حين يترك الكاتب وحيدا إلا من أدواته، حاملا مفردات العرض لسرد مشاكل النص وما يتولد عنه من الأحداث على خشبة المسرح، مثلما سيترك المخرج قبالة ممثل واحد، والممثل بوحدانيته الكبيرة أمام هول المسرح وجمهوره الذي لا يرحم. هكذا كان العطية في وحدانيته التي تنتظر منا إنصافا يستحقه كي يظل خالدا بيننا في إنتاجه الغزير الذي تركه. مثلما له في الاوبريت كتابة وإخراجا، (نيران السلف)، ثالث الثلاثية البصرية (بيادر خير) و(المطرقة)، هذه الثلاثية التي عرفت العراق بالفن البصري مسرحا وفنانين. ولمسرح (الأطفال) الحصة الأكبر، من نتاجاته وهمه، انطلاقا من المقولة الأثيرة: (خذوهم صغارا). في قمة فرحه كنت أراه مهموما بالمسرح، ما أن ينفرج هم منها حتى تولد هموم أخرى أكثر إيلاما، ولم أفاجأ وانأ اقرأ بعضا من مذكراته التي نشرت بعد رحيله يقول فيها "أنا حزين، لأني لم تتح لي فرصة الحياة مرة واحدة كما أريد، ولم أكن في المكان المناسب لي"(2). ورغم خجله وانزواءه في أحايين كثيرة لكنه شكل أثرا كبيرا في مسيرة المسرح العراقي. كان مؤسسة مسرحية، كاتبا ومخرجا وناقدا، حمل هموم المسرح البصري عربيا بعراقيته. وتعمد الاقتراب من الآخرين عله يجد الحلول لديهم دون جدوى. وفاءا مني لدين قطعته للعطية يوما، تاه بين زحمة الحروب في وطني، وها هو الوعد يكتمل اليوم، لكن في ظل غيابه الحاضر، وتلك هي العلة يا نفسي!!؟ مأساة بحجم مآسي الحروب أحقق التزامي له. سأوفي ديني وسيكون وجهه الجنوبي بطيبته حاضرا معي وأنا أكتب عنه ومن خلاله عن تجربة المسرح في البصرة، بل ستكون معرفتي به منهلي الأهم في الكتابة، سيحضرني دوما بل سيكون شاخصا بين سطوري وأنا أدون من سماحة وجهه المتعب الجميل، اللاهث خلف هدف نبيل، كما الأهداف الارسطاطاليسه في موت الأبطال وهم يدخلون مآسيهم دون ذنب جنوه. لقد كان المسرح البصري ـ نسبة إلى البصرة ـ همه الأكبر ولم يكن سعيه الحثيث إلا ليكون ذلك المسرح حاضرا كما بقية المسارح في العالم، تماهى مع الموت من اجل تحقيق هذا الهدف. فكان مجاهدا مع بقية المجاهدين في حركة المسرح في البصرة من أمثال: توفيق البصري، عبد اللطيف الرديني، عزيز الكعبي، بنيان صالح، قاسم حول، حميد مجيد مال الله، ياسين النصير، قصي البصري ـ حسب مداخلة أسبق لبنيان صالح ـ وسواهم. مارس العمل في المسرح كاتبا، ومخرجا، وباحثا، وناقدا، وممثلا كانت البداية في تجربة جمعته بالمبدع القاص محمود عبد الوهاب يوم كان طالبا في ثانوية العشار، بمسرحية (أهل الكهف) لتوفيق الحكيم، ممثلا طاولت قامته زميله في الدراسة، طعمه التميمي ـ سأعرف تفاصيل أكثر عن هذه التجربة لاحقا من صديقي الرائد الكبير محمود عبد الوهاب ـ. غادر التميمي بعدها البصرة ليحتل موقعا يليق به في بغداد، لكن العطية آثر البقاء في بصرته التي لم يرتضي عنها بديلا لا في بغداد ـ رغم جاذبيتها وأضواءها ـ ولا في سواها.
الهوامش: *) مريد البرغوثي: منطق الكائنات [شعر]، إصدارات دار المدى، عمان – الأردن 1996، ص 76 1) جبار صبري العطية، (تحت المطر) إصدارات : دائرة الشؤون الثقافية العامة، وزارة الثقافة – بغداد. 2) هلال نافع العطية، حوار بعد الرحيل.
#فاضل_خليل (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
عندما كنا نحيا بالمسرح
-
النقد المسرحي .. اشكالية عربية غالبا
-
في البدء كانت ( ثيسبس Thespis )(*)
-
موت المسرح في العراق
-
هاملت شكسبير بين التعددية والتأويل
-
في ( المونودراما ) و ما تيسر من تاريخها
-
التجريب .. هو التلقي ( المثير ) في المسرح
-
الساكن والمتحرك... في فكر المسرح
-
التكامل الفني في العروض الناقصة
-
المسرح الشعبي العربي .. حكاية واحتفال
-
السينوغرافيا وأسس تكنلوجيا التلقي في الخطاب المسرحي العربي
-
سعد الله ونوس .. الملك هو الملك - أنموذجا
-
التأليف...المهنة الأسهل في المسرح
-
صلاح القصب يؤول الصورة الى التحطيم الغاضب علي التقليد
-
جاهزية التلقي والنقد المسرحي
-
تكنولوجيا الخشبة توصل خطاب المخرج بلا ثغرات (فاختانكوف يسحر
...
-
هل يكتمل الصراع حين يغيب الآخر في المونودراما ؟
-
المؤثر القلق في ثبات الأنظمة التربوية والتعليمية في العراق
-
تطور عمل المخرج في المسرح العربي المعاصر
-
في ( المونودراما ) و ما تيسر من تاريخها ...
المزيد.....
-
-البحث عن منفذ لخروج السيد رامبو- في دور السينما مطلع 2025
-
مهرجان مراكش يكرم المخرج الكندي ديفيد كروننبرغ
-
أفلام تتناول المثلية الجنسية تطغى على النقاش في مهرجان مراكش
...
-
الروائي إبراهيم فرغلي: الذكاء الاصطناعي وسيلة محدودي الموهبة
...
-
المخرج الصربي أمير كوستوريتسا: أشعر أنني روسي
-
بوتين يعلق على فيلم -شعب المسيح في عصرنا-
-
من المسرح إلى -أم كلثوم-.. رحلة منى زكي بين المغامرة والتجدي
...
-
مهرجان العراق الدولي للأطفال.. رسالة أمل واستثمار في المستقب
...
-
بوراك أوزجيفيت في موسكو لتصوير مسلسل روسي
-
تبادل معارض للفن في فترة حكم السلالات الإمبراطورية بين روسيا
...
المزيد.....
-
تجربة الميج 21 الأولي لفاطمة ياسين
/ محمد دوير
-
مذكرات -آل پاتشينو- عن -العرّاب-
/ جلال نعيم
-
التجريب والتأسيس في مسرح السيد حافظ
/ عبد الكريم برشيد
-
مداخل أوليّة إلى عوالم السيد حافظ السرديّة
/ د. أمل درويش
-
التلاحم الدلالي والبلاغي في معلقة امريء القيس والأرض اليباب
...
/ حسين علوان حسين
-
التجريب في الرواية والمسرح عند السيد حافظ في عيون كتاب ونقا
...
/ نواف يونس وآخرون
-
دلالة المفارقات الموضوعاتية في أعمال السيد حافظ الروائية - و
...
/ نادية سعدوني
-
المرأة بين التسلط والقهر في مسرح الطفل للسيد حافظ وآخرين
/ د. راندا حلمى السعيد
-
سراب مختلف ألوانه
/ خالد علي سليفاني
-
جماليات الكتابة المسرحية الموجهة للطفل في مسرحية سندس للسيد
...
/ أمال قندوز - فاطنة بوكركب
المزيد.....
|