|
نموذج إنجليزي لتفادي المشاكل الاجتماعية السياسية
أكرم شلغين
الحوار المتمدن-العدد: 7216 - 2022 / 4 / 12 - 23:43
المحور:
الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع
كنت مدمن الاستماع لبرامج المحطة الثانية من هيئة الإذاعة البريطانية (BBC) لفترة طويلة. إحدى المرات كانت هناك حلقة تعرض لمشكلة التنمّر أو البلطجة (bullying) في المدارس حيث يحدث أن أحد طلاب المدارس نظرا لكونه الأكبر حجما في صفه والأقوى جسديا يسخّر ما لديه من قوة جسدية ليتسلط بها على الآخرين من أبناء صفه أو الصفوف الأدنى. وفي تلك الحلقة استضافوا خبير وخبيرة تربويين للإدلاء برأييها عن كيفية حل تلك المشكلة. وللغرابة الفائقة لي كمستمع وجدت أن الخبراء يعطون رأيًا لم أر فيه حلا جذريا للمشكلة، بل استبعادها من حلبتها الخاصة وترويج لحالة استعداد لمواجهة مشاكل أخرى وربما خلقها في سبيل استبعاد تلك المشكلة من المدرسة. الحل برأيهما هو أن يُستحضَر الطلاب البلطجية إلى الإدارة لزرع مفاهيم محددة برؤوسهم تتلخص بأنهم أقوياء وقوتهم يُشهد لها في المدرسة ولكن هناك في مدارس أخرى وأماكن أخرى من هم أكثر قوة وعلى هؤلاء المتسلطين توحيد صفوفهم وضم جهودهم لبعضهم البعض وإضافة جهود الضعفاء في المدرسة إليهم فهؤلاء الضعفاء هم أخوة لهم وهم من نفس المنشأ والثقافة وأبناء البلد ومستقبلا سيساهمون جميعهم في أن يكونوا أعضاء فاعلين في المجتمع...باختصار كان الرأي يشدد على ضرورة توحيد جهود القوي والضعيف تأهبا واستعدادا لحالة ممكن أن تبرز بمهاجمتهم من أولئك الأقوى في مدارس أخرى ومناطق أخرى! بالطبع هذا الشكل من تصور الحل يستوقفنا في جزئية ايجابية منه تتعلق بقياس الأمور بشكل نسبي فإن كان الطالب المتنمر قوي فهناك من هو أقوى ومن هو الأقوى وهذا الكلام السليم والذي لا غبار عليه... ولكن لم يكن ذلك كل شيء في الحل حين كان المطلوب ليس جعل القوة الممتلكة عقلانية وتسخيرها في أماكن تصبح فيها ضرورية ومهمة، بل جعل القوة ضرورية لمواجهة عدو محتمل، عدو غير منظور ولكنه موجود بمكان ما.. وهنا بيت القصيد: زرع مفهوم العدو القابع في مكان ما ويتربص ويتحين الفرصة المناسبة ليهاجم. السؤال الذي يطرح نفسه هو حول ألا يمكننا أن نكون أقوياء ونسخر تلك القوة لما فيه الخير للأضعف؟ ألا يمكن تصور وجود مكان للخير بالمطلق أم أن هذا التصور هو محض تفكير طوباوي موجود فقط في خيال بعض الفلاسفة؟
في مرحلة لاحقة من وجودي في بريطانيا اقتضت دراستي أن أبحث في أرشيف النقاشات البرلمانية في بريطانيا عن الفترة [القرن التاسع عشر] التي تم فيها تشكيل ما يسمى (Englishness) وهي ما يمكن ترجمته بالروح القومية الإنكليزية حيث أنه يشمل الثقافة والهوية القومية والفكر الاجتماعي. وتلك النقاشات البرلمانية تستحق الدراسة والتعمق نظرا لأهميتها ليس فقط في زمانها ومكانها بل في أمكنة وأزمنة أوسع بكثير من تلك التي خلقتها وروجت لها. حين عصفت الثورات في أكثر من دولة في القارة الأوربية وراحت أشكال الحكم تتغير في القارة بلدا بعد الآخر، شعرت بريطانيا أنها ليست محصنة من الانتفاضات والهبات التي قد تنسف كل شيء في البلد (فقد بدأت رياحها تهب على البلد وما حدث في مانشستر في 16 آب من عام 1819 وعرف باسم "مجزرة بيترلو" ـ حيث قُتل خمسة عشر شخصا ـ أحد تمظهرات ذلك...) ولهذا بدأ الساسة الإنكليز بالتفكير بهدف أساسي يتجلى في كيفية احتواء الصراع و"تجنب الثورات". فقد ارتأت طبقة ملاكي الأراضي ـ المطلقة السيطرة على البرلمان آنذاك ـ أن السبيل الناجع للحيلولة دون تفاقم الأزمات السياسية الداخلية هو التقدم ببعض الإجراءات الإصلاحية، فكانت النتيجة إعلانات "الإصلاح" المتتالية وعلى فترات متباعدة. في النقاشات البرلمانية التي أدت إلى إعلانات الإصلاح تلك، توصل البرلمانيون إلى قراءة الواقع بدقة: فمن جهة ليس بمقدور الطبقة الحاكمة وأعوانها الاستمرار في المواقع العليا للهرم السياسي والاقتصادي دون الحاجة لعمل وجهد واسترضاء نفس غالبية الناس الذين تتنكر لحقوقهم، ومن جهة أخرى لا يوجد ما يدعو إلى الاعتقاد أن الطبقات المحرومة لن تتحرك من جديد أو تثور على غرار ما كان يعصف بأماكن أخرى من القارة الأوروبية في ذلك العصر الذي كثرت به الثورات، كما ذكرت أعلاه. ولهذا قرر البرلمانيون إعطاء بعض الحقوق، وعلى دفعات، للطبقات المسلوبة القوة والقرار كخطوة ذات وظيفة تخديريه. تلك التنازلات الإصلاحية ـ كما لاحظ البرلمانيون في حينها ـ لا تُغير ولا تخل في موازين القوى في المجتمع (لا تضعف قوياً ولا تقوي ضعيفاً)، لكنها تمنح غالبية المواطنين شعوراً بأنها نالت مطالبها وها هي ثمرة المكاسب تتجلى أمامها فتقتنع بها وتهدأ قبل أن تفكر في الإطاحة بالجهاز الحاكم. في طرح إعلاناتها الإصلاحية، لجأت الطبقة الحاكمة إلى المثقفين لمساعدتها على المناورة لكسب ثقة غالبية أفراد المجتمع فابتدع المثقفون ـ ومعظمهم أبناء الشريحة العليا من الطبقة الوسطىـ الخطاب المناسب للعب بعواطف الطبقات المحرومة حيث تكرست جهودهم لغرس وتجسيد الانتماء القومي كعامل اجتماعي موحِّد، والتركيز على أنهم مشروع أمة قوية ستصبح الأقوى في أوربا والعالم. وهكذا نجحت الجرعات القومية المترافقة مع الإصلاحات الجزئية المعلنة بتسكين الغالبية العظمى من المجتمع وبتمييع الصراع الذي بات مؤكداً في تلك الأوقات بين الطبقة الحاكمة وبين من يعيش في ما وصفها فريدريك إنجلز (عام 1885) بأنها "بركة في اتساع متزايد لبؤس راكد". يفسر المحللون دور مثقفي تلك الفترة أنه نبع من اعتبارين الأول يتعلق بتقارب أيديولوجي قومي بين المثقفين و الطبقة الحاكمة، والثاني اقتناع المثقفين بالاستعداد الذي أبدته الطبقة الحاكمة ـ وإن كان محدوداًـ للانفتاح على الغالبية والإقرار بقوتها وتقديم التنازلات لها. في الحوارات البرلمانية جاء التركيز على وحدة أبناء البلد وخلق عامل موحد لهم يفتخرون به ويشعرون بالعظمة من انتمائهم للأمة الناشئة. من هنا جاء تركيز أبناء الشريحة العليا من الطبقة المتوسطة الابتعاد عما هو أوربي وخلق ما هو إنكليزي؛ عن الابتعاد عن المناهج باللاتينية والإغريقية والتدريس بالإنكليزية في كافة المراحل، فما الحاجة لهوميروس ودانتي وسوفوكليس، وإيسخيلوس وسقراط وغيرهم...!؟ لهذا يتوجب العمل على خلق الروح الإنكليزية الصرفة، وذلك يقتضي وجود النص الإنكليزي المقدس و المكونن (canonical) فقد جاء هذا الرأي من مثقفين وتربويين أمثال ماثيو آرنولد، وتوماس كارلايل وغيرهم...ــ وهنا جاء خلق اسم شكسبير "الشاعر" حينها [وفقط في مراحل لاحقة الكاتب المسرحي]. لقد قال ماثيو آرنولد (وهو موجه تربوي في المدارس بالأساس) سنعمل على جعل أدبنا أهم من الدين بالنسبة للناس، وفي حملاته راح يصرح ويكتتب أن الشعر أهم من بنود الإصلاح الديني (عددها 96)...يجب أن يعرف الجميع أن لدينا شكسبير ولدينا أدب ونحن أمة تفتخر بكل ما لديها...[جدير بالذكر أن الخطاب الذي استخدمه الإنكليز كعامل في بث روح قومية داخليا كان له أيضا استخدام عند توسع الإمبراطورية في أماكن متفرقة من العالم مثل إفريقيا وآسيا فقد كان هناك حضور لقول: "عندنا شكسبير...وأما أنتم فماذا لديكم!؟"] وهذا أحد الأوجه التي أرادوا لها أن تكون عاملا موحدا لبلد كان يخاف قادته من ثورة قد تطيح بكل شيء... وهكذا نجحت جهود المثقفين والساسة في تجنب الثورة داخليا وكذلك توحيد أبناء البلد على اختلاف منابتهم الطبقية وهذا النمط من التفكير نراه حاضرا في تفكير الغالبية العظمى من الإنكليز. حين نقرأ عن تجارب الشعوب وخلقها لعوامل قوة لبلدها ولأبنائه نفكر بحسرة عن واقعنا في كل بقعة من العالم العربي.
#أكرم_شلغين (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
الكاتب-ة لايسمح
بالتعليق على هذا
الموضوع
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
إذلال
-
مواجهة
-
يحيى ويحيى
-
حب أو حرمان
-
القافلة
-
الغرب لم يسرق أخلاقك
-
غياب
-
قد يكون الحب
-
أنت موجود وغيرك موجود
-
فرح وصدمة
-
غش عابر للامتحانات
-
-رخيصة-
-
زواج
-
عميل
-
هبلة
-
خيبات
-
حقيبة
-
كارل ولغز الورقة
-
غيرة آدم
-
ولكتبي الضائعة حكايات
المزيد.....
-
قراءة الإعلام المصري لصورة السيسي في -جيروزاليم بوست- الإسرا
...
-
قوات كييف تقصف جمهورية دونيتسك بـ 119 مقذوفا في غضون 24 ساعة
...
-
وزير الخارجية الأمريكي ونظيره السعودي يناقشان مستقبل غزة وال
...
-
فوتشيتش يصف الاحتجاجات في صربيا بأنها محاولة لتدمير البلاد م
...
-
أنباء أولية عن سقوط قتلى في تحطم طائرة في فيلادلفيا الأمريكي
...
-
إعلام أوكراني: سماع دوي انفجارات في كييف ومقاطعتها
-
المبعوث الأمريكي الخاص: إنهاء الصراع في أوكرانيا يصب في مصلح
...
-
تاكر كارلسون: زيلينسكي باع أوكرانيا وتحول إلى خادم للغرب
-
-إم 23- تواصل زحفها شرق الكونغو الديمقراطية
-
6 قتلى بسقوط طائرة صغيرة في فيلادليفيا
المزيد.....
-
حوار مع صديقي الشات (ج ب ت)
/ أحمد التاوتي
-
قتل الأب عند دوستويفسكي
/ محمود الصباغ
-
العلاقة التاريخية والمفاهيمية لترابط وتعاضد عالم الفيزياء وا
...
/ محمد احمد الغريب عبدربه
-
تداولية المسؤولية الأخلاقية
/ زهير الخويلدي
-
كتاب رينيه ديكارت، خطاب حول المنهج
/ زهير الخويلدي
-
معالجة القضايا الاجتماعية بواسطة المقاربات العلمية
/ زهير الخويلدي
-
الثقافة تحجب المعنى أومعضلة الترجمة في البلاد العربية الإسلا
...
/ قاسم المحبشي
-
الفلسفة القديمة وفلسفة العصور الوسطى ( الاقطاعية )والفلسفة ا
...
/ غازي الصوراني
-
حقوق الإنسان من سقراط إلى ماركس
/ محمد الهلالي
-
حقوق الإنسان من منظور نقدي
/ محمد الهلالي وخديجة رياضي
المزيد.....
|