عباس علي العلي
باحث في علم الأديان ومفكر يساري علماني
(Abbas Ali Al Ali)
الحوار المتمدن-العدد: 7211 - 2022 / 4 / 6 - 10:20
المحور:
دراسات وابحاث في التاريخ والتراث واللغات
تباينت الأسطورة القديمة في رسم الصورة التي كونتها عن قضية الخلق حسب الموقع الجغرافي الذي نشأت فيه ,وحسب الديانات التي سادت هناك, فبالرغم من أن جميع الأساطير تشترك في موضوعية الإيجاد السماوي وأن الآلهة هي المسئولة عن حدوث ذلك إلا أننا نجد تفاوت في الكيفية تبعا لما قلنا, الموقع الجغرافي وطبيعة تكون ونشأة الديانة في ذاك المجتمع.
ففي الاسطورة الصينية ما يثبت انعكاس الإيمان الديني الخاص بالمجتمع الصيني على تكون الصورة الخاصة في الخليقة بناء على ما يربط الإنسان الصيني بالسماء من معتقد فهو لا يرى الخليقة إلا فعل إله تحدى وجوده ففلق بهذا التحدي وجود الظلام ليكشف عن النور ,هذه الثنيوية لازالت مسيطرة على الفكر الثقافي الصيني وعلى روح الديانة الصينية وهنا نقتبس جزء من قصة الخلق عند الصينين لنبين أن العامل الجغرافي والطبيعة التي تتحكم بوضع العلاقة بين الانسان والسماء هي من معطيات تكون الصورة الاجمالية للفكر,
تقول الاسطورة الصينية((انه في العهود الموغلة في القدم كانت السماء والارض صنوين لا ينفصلان، وكان الفضاء يشبه بيضة كبيرة، في داخلها ظلام دامس، لا يمكن من خلاله تمييز الاتجاهات .ونشأ في هذه البيضة الكبيرة بطل عظيم واسمه "بان قو" يفصل الارض عن السماء .واستيقظ بان قو بعد 18 الف سنة من النوم ولم ير الا ظلاما حالكا، وشعر بحرارة شديدة حتى كاد يختنق، وكان يريد النهوض، لكن قشرة البيضة كانت تلف جسده بشدة، ولم يتمكن من مد يديه ورجليه، فغضب "بان قو" واخذ يلوح بفأس كانت معه ،وبعد ذلك سمع صوتا مدويا وانشقت البيضة فجأة، وتطايرت المواد الخفيفة والصافية الى الاعلى لتشكل السماء وسقطت المواد الثقيلة والعكرة الى الاسفل لتكون الارض))* .
هنا الأسطورة تعتمد على الفعل الفردي للإله وقدرته على أحدات التغير الذي جعل من السماء والأرض عالمين مختلفين ليهيئ لقضية الخلق الإنساني بالصورة التي تجعل من مبدأ القبول بالفكرة اللاحقة أمر مسلم به ,فتواصل الاسطورة الصينية في سرد القضية لتبين سبب خلق الإنسان((ان الالهة "نيوى وا" التي تتميز بجسد انسان وذيل تنين كانت تتجول بين السماء والارض بعد انفصالهما بسبب "بان قو"، ورغم وجود الجبال والانهار والنباتات والحيوانات على سطح الارض في ذلك الوقت ،لكن الدنيا كانت راكدة وهامدة بسبب عدم وجود بشر، وفي يوم من الايام ،شعرت "نيوى وا" بالوحدة وهى تتجول على الارض الساكنة، لذلك، قررت اضافة اشياء مفعمة بالروح والحيوية الى الدنيا))*.
لقد كان عامل الرتابة وعدم قدرة الكون المختلق بالصورة الأسطورية من إشباع رغبة الأله هو السبب الرئيسي الذي تشترك فيه معظم الأساطير القديمة في تعليل قضية خلق الإنسان ولكنها أيضا تجمعه معا في قضية خلق هذا الإنسان من الطين الذي كان لوحده غير كافيا في تثبيت الوجود بل لا بد له شيء من ذاتيات الأله ,لذا نرى أن مفهوم الدم والنفخ كان العامل الأكثر شراكة في تصور الأسطورة لقضية الخلق ,هنا مثلا بعد أن إنهار جسم الأله "با قو" تحول دمه إلى أنهار وبحيرات لذا ربطت هذه الفكرة بين خلق الإنسان الأول وبين الماء عندما صنعت الأله "نيوى وا" دمى على شاكلتها وبنفس صورتها التي رأتها منعكسة على الماء ,من طين بأعداد كثيرة وبسرعه إلا أنها أستبدلت ذيل التنين الذي كانت هي عليه بأرجل وأخيرا نفخت عليها لتتحول تلك الدمى إلى بشر يتميز بالحيوية والتفكير.
لم تنتهي الأسطورة الصينية هنا فقط بل عدت فعل الأله ذاتها عندما جعلت لبعض هذه المخلوقات التي صنعتها من طين ونفخت فيها القوة الذكورية اولا وبعد ذلك أعطت القسم الباقي القوة الأنثوية وهنا أثبتت لهذه المخلوقات القدرة على الاستمرارية والدوام لذا كان الرقص حول الأله هذه عرفان من الرجال والنساء على هذه الهبة.
في هذه الأسطورة نجد تقاربا مع الكثير من المفاهيم الدينية التي وصلتنا عن طريق الرسالات السماوية أو لنقل أن هذه الأسطورة تجد لها عوامل مشتركة مع التصور الديني مما يشير إلى أرتباط أو خيوط مشتركة تؤكد لنا أن أصل الأسطورة هذه لا بد أن يكون دينيا قبل أن يكون تصور فطري إنساني خالص, وهذا ما نجده أيضا في الأسطورة الإغريقية والمصرية والعراقية القديمة.
هذا التصور الصيني لقضية الخلق تتشابه مع وتتقارب كل الأساطير الأسيوية والشرقية في الإطار العام ولكن تختلف في بعض الجزئيات الدقيقة وبعض أسباب التحولات فمثلا في الأسطورة اليابانية نجد المقدمة كما هي والبيضة هي الأساس في وجود السماء والأرض لكن العلة التي سببت انفلاق البيضة لم يكن شخصا محددا بل عوامل فيزيائية تتعلق بحركة الذرات التي تكونت داخل البيضة ,وهناك أيضا أختلاف في طريقة النشأة وتوزيع الأدوار الخلقية إلا أنها تشترك مع معظم الأساطير في المكون الأول للخلق وهو الأرض والماء والنور والظلمة.
وحتى الأسطورة الهندية القديمة تشترك في تصورها للبيضة كأساس تنطلق منه في بنيان الأسطورة((خـلال عـام كامل عاش براهـمان ،الـذي لا يعـتبر إلـهـا ولكنه قـوة مقـدسـة، في بيضـة جيلاتينية في البحر الابدي(ليس مقصودا بحار الارض ولا زمن الارض)براهما نفسه هـو الـذي صنع البحـر الابـدي والبيضة الجيـلاتينيـة التي في النتيجـة خـرج مـنـها الى جـانب القـوى المقـدسـة الأخرى نـاريـانـا (Narayana) الـروح الاولى ،بوروشا (Purusha) الانسان الاول، واخيرا براهما الذي يعتبر إله يعكس خصائص براهمان لتتلاءم مع الانسان ,براهمان في نفس الوقت خالق ومخلوق. بعد سنة في البيضة خلق الكون بأسره والحياة فقط من خلال تفكيره ومن خلال إرادته))*.
وحدها الأسطورة العراقية القديمة كانت الأكثر تنوعا واقترابا وجدية من تصور الخلق ,وهذا راجع بتقديري لكون العراق هو المهد الطبيعي للديانات السماوية ولذلك نجد الأثر الديني السماوي له حضور أوسع واكثر في رسم الصورة عند العراقي القديم, فبعد صراع طويل بين الآلهة القدامى والجدد والذي هم من نسل متوالي ولأسباب مذكورة في الأسطورة جاء مردوخ الأله الشاب الذي أنتزع سلطات استثنائية من مجمع الأله لمواجهة الحرب المصيرية القادمة, هذه السلطات هي الرداء الذي في سر الوجود.
لقد أستعان مردوخ بهذا الرداء والذي كان فيه سر نجده حاضرا ومؤثرا بل وأساس المكون الفكري في القصة الدينية ذاتها أنه (قول كن فيكون) لذا نجد أن ما ورد بالأسطورة هنا قريب في تبرير الخلق وميكانيكيته من الصورة الدينية((أعطى الآلهة، مردوخ، قوة تقرير المصائر، بدلاً من انشار وأعطوه قوة الكلمة الخالقة ولكي يمتحنوا قوة كلمته الخالقة، أتوا بثوب وضعوه في وسطهم وطلبوا من مردوخ أن يأمر بفناء الثوب ،فزال الثوب بكلمة آمرة من مردوخ ثم عاد إلى الوجود بكلمة أخرى ,هنا تأكد الآلهة من أن مردوخ إذا أراد شيئاً قال له كن فيكون. فأقاموا له عرشاً يليق بألوهيته ،وأعلوه سيداً عليهم جميعاً))*،
في الأسطورة البابلية نجد ذات الصراع قائما بين قطبين كما في باقي الأساطير كلها لينتهي بأنتصار الأله الواحد الذي هو في معظم الأحيان الذكر القوي الذي يمتلك سلطة التقدير ويتغلب على منافسيه جميعا بما يملك من قوة هائلة, لكن هذا النصر لم يكن دوما نهائيا فبعض عناصر الطرف الثاني تبقى قائمة لتثير الحركة والصراع وتسير به نحو الاستمرارية ,لأن واضع الرواية الأسطورية أراد أن يمنح الرؤية حركة لا تتوقف من خلال أستمرارية الصراع بين الطرفين ,لأن تبريره الأول قام على مفهوم كسر الرتابة والملل الذي ساد الكون نتيجة الأحادية المسيطرة التي تقتل روح الحركة.
((بعد هذا الانتصار المؤزر على قوة السكون والسلب والفوضى ،التفت مردوخ إلى بناء الكون وتنظيمه وإخراجه من حالة الهيولي الأولى ،إلى حالة النظام والترتيب، حالة الحركة والفعالية و الحضارة ,عاد مردوخ إلى جثة تعامة يتأملها ،ثم أمسك بها وشقها شقين ،رفع النصف الأول فصار سماء وسوى النصف الثاني فصار أرضاً ,ثم التفت بعد ذلك إلى باقي عمليات الخلق, فخلق النجوم محطات راحة للآلهة ,وصنع الشمس والقمر وحدد لهما مسارين, ثم خلق الإنسان من دماء الإله السجين كنغو، كما خلق الحيوانات والنبات ,ونظم الآلهة في فريقين ،جعل الفريق الأول في السماء وهو الانوناكي ،والثاني جعله في الأرض وما تحتها وهم الأيجيجي))*.
لم تنكر الأسطورة البابلية قضية القدرة الوحدانية على الخلق ففي أصل الأسطورة هنا أن الخالق واحد, وأن القدرة لديه تتجلى بكن فيكون, وأن أصل الخلق هو الطين الممزوج بدم الآلهة, هذه المفردات التي نجدها تتجلى في كل الأساطير بمستويات تكاد تكون متقاربة بالرغم من البعد الزماني والمكاني إنما تشير إلى البعد الديني والأثر الرسالي فيها, في حين أننا نجد في أساطير أخرى غياب هذا العامل المشترك لسبب بسيط أن هذه الأساطير أما أنها بنيت على فهم لا ديني لعدم وصول التبليغ بالرسالات لها أو لانتشار ظاهرة الألحاد الأصلي في الفكر الجمعي في تلك المجتمعات.
المهم في الأسطورة البابلية والتي جعلت منها أنموذج للمقاربة مع النص الديني ليس في نهايتها التي تشترك فيها مع كل الأساطير عندما تجتمع الآلهة في السماء لتعظم الأله القادر بل لما تضمنته من فرادة في بناء مدية للإله في الأرض وهي بابل(باب الأله) وهو مفهوم مقارب تماما للنص الديني عندم أمر الله تعالى أحد أنبياءه ببناء بيت له على الأرض ليكون محلا للنسك الذي يقرب الإنسان من الخالق{وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ }البقرة127.
#عباس_علي_العلي (هاشتاغ)
Abbas_Ali_Al_Ali#
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟