فتحى سيد فرج
الحوار المتمدن-العدد: 1669 - 2006 / 9 / 10 - 10:14
المحور:
دراسات وابحاث في التاريخ والتراث واللغات
فى بداية الثمانينات من القرن الماضى نشر د . محمود إسماعيل دراساته المطولة حول " سوسيولوجيا الفكر الإسلامى ـ طور التكوين ـ طور الازدهار " فى الدار البيضاء بالمغرب ، واستقبلت استقبالا حسنا وجرت حولها مناقشات ما بين مؤيد ومعارض . وعندما أعيد نشر هذه الدراسات فى القاهرة عام 1988 أصدر الأزهر قرارا بمصادرتها ، وأخطر الجهات الأمنية بمنع تداولها دون إبداء الأسباب ، ولم يكن أمام المؤلف من سبيل إلا إحالة الأمر للقضاء ، ووقف جمهرة من المختصين والمفكرين التقدميين معه دفاعا عن حرية الفكر وحق التعبير واستنكروا إهدار أوليات الديمقراطية فى ظل نظام يتشدق بها صباح مساء . فما هو منهج ومضمون هذه الدراسات التى وقـفت المؤسسات الدينية والأمنية ضدها ومنعتها من التداول فى مصر .
فى بداية المقدمة يحدد د .محمود إسماعيل منهجه فى تناول هذا الموضوع : بالقول آن سوسيولوجيا الفكر ليس بدعة ، وليس قاصرا على المادية التاريخية ، وأن كانت الرؤية المادية للمعرفة أكثر الرؤى الاجتماعية علمية وقدرة على استيعاب الفكر الإنسانى وتنظيره ، وقدر لها أن تكون كذلك بفضل تاريخانيتها وجدليتها وشمولها وطواعيتها للبحث الاجتماعى ، ولقد أثبت البحث قصور كافة الرؤى السوسيولوجية الأخرى ، تلك الرؤى التى تذرعت شكلا بالمنهج الاجتماعى لا لإثرائه بالتفسير والتنظير ، وإنما لمحاولة دحض المادية التاريخية وإيجاد صيغ تنفى قوانينها . وهكذا كان منهج التناول صادما ومستفزا للقوى التى تعودت على استظهار المتون والتعليق على الهوامش وتكرار ما أنتجه السلف بعد البسملة والحمد دون إضافة جديد ، فكل جديد بدعة ، والبدعة ضلالة ، والضلالة فى النار .
وسوسيوجيا الفكر كما تقدمها المادية التاريخية تنطلق من مقولة " المادة سابقة على الفكرة " وهذا لا يعنى وجود علاقة ميكانيكية بين الواقع والفكر ، بل هى علاقة جدل " ديالكتيك " دائم بين الأبنية الفوقية والتحتية للمجتمع ، والجدل الماركسى لا يجيب عن طبيعة الفكر بل يجيب عن طبيعة الأشياء ، ولما كانت طبيعة الأشياء تتحدد وفقا لنمط الإنتاج الذى يكون محصلة ونتيجة طبيعية للصراع الطبقى ، فالطبقة المسيطرة على وسائل الإنتاج المادى تسيطر أيضا على وسائل الإنتاج العقلى ، ومن ثم تصبح الأيديولوجية انعكاسا لمصلحة الطبقة المسيطرة ، وعلى ذلك فإن الوقوف على الأوضاع الطبقية يستلزم معرفة الأساس الاقتصادى ، وبمعرفته يمكن بسهولة إدراك حقيقة الفكر ، ولما كان الصراع الطبقى عملية دينامية مستمرة ، فالفكر كذلك طبيعته دينامية ، وهناك علاقة تأثير وتأثر دائم بين الفكر والواقع .
وينطلق محمود إسماعيل من معارضة بعض المنطلقات الفكرية " للنمط الأسيوى للإنتاج " فمنذ أوضح ماركس " أن المناخ والشروط الجغرافية فى مناطق الشرق ذات الطبيعة الصحراوية جعلت من الرى الصناعى فى أحواض الأنهار الكبرى أساس المزارعة التشاركية ، وقامت حكومات مركزية كقوة تشرف على تنظيم هذا الرى ، وأصبحت المالك الأساسى للأرض الزراعية وتستحوذ على الفائض عن طريق الريع الخراجى ، وساهم غياب الملكية الخاصة فى عدم تبلور طبقات ، ومن ثم ترتب على ذلك تجميد الصراع والتطور الاجتماعى .
ورغم أن عديد من الباحثين والمفكرين قد نسجوا على هذه الأفكار ، مؤكدين سكونية وجمود المجتمعات الشرقية ، وأنها كانت تاريخيا بدون بورجوازية وبطيئة التطور الاقتصادى والاجتماعى والدليل على ذلك أنه لم تقع الثورة البورجوازية الشاملة حتى الآن فى العالم الإسلامى . إلا إن د . محمود إسماعيل اعتمادا على مراجعة ماركس لبعض أفكاره ــ حيث أشار إلى أن كل نمط إنتاج قابل للتطور فى اتجاهات متباينة تبعا للظروف التاريخية ــ فأنه يصل إلى إن البحث التاريخى اثبت ــ وبامتياز ــ تحقيق مقولة الصراع فى كيان حركة المجتمع الإسلامى من المبدأ وإلى الآن ، بين قوتين أساسيتين : البورجوازية والإقطاع ، حيث مر بجولات تبادل فيها الطرفان النصر والهزيمة , إذ ساد النمط الإقطاعي أحيانا ونمط الإنتاج البورجوازى أحيانا أخرى ، وفى كل الأوقات تواجدا ، أحدهما كنمط سائد والآخر ثانوى ، واستمر الحال على هذا المنوال قرابة قرون خمسة انتهت بالحسم لصالح الإقطاعية التى سادت نهائيا ، مع تواجد القوى البورجوازية تواجدا هامشيا .
ومن أجل توضيح افكاره فأنه يناقش بعض النصوص الماركسية التى تشير إلى ضعف البورجوازية فى العالم العربى الإسلامى ، وذلك بسبب طبيعة نشأتها فى مجتمعات زراعية بشكل أساسى ، وما يفرزه ذلك من معوقات داخلية وخارجية . فعلى الصعيد الداخلى ، فأن الدولة بحكم تحكمها فى نظام الرى وحيازتها للأرض الزراعية فأنها تساند الإقطاع مما يجعل أعباء البورجوازية فادحة إذ عليها أن تصارع السلطة والطبقات الإقطاعية التى تدخل فى حمايتها ، وأمام إخفاقاتها المتكررة تضطر البورجوازية إلى أن ترضخ وتكرس نشاطها لخدمة الدولة ، فتلتقى مصالحها مع مصالح الإقطاع ، وفضلا عن ذلك ولكون الزراعة هى الحرفة الرئيسية ، والسواد الأعظم من السكان فلاحين فأنهم يشكلون القوام الغالب لهذه البورجوازية ، لذلك تكون هذه البورجوازية هزيلة وغير قادرة على أن تلعب دورها التاريخى فى القضاء على الإقطاع . وهذا يفسر فشل معظم الحركات الثورية التى قادتها البورجوازية فى معظم عصور التاريخ الإسلامى .
وإذا كانت النصوص الماركسية تبرز ارتباط تبلور الطبقات بشكل الملكية ، فلقد اثبت البحث أن ميوعة أشكال الملكية فى العالم الإسلامى – ما بين إقطاع انتفاع ، أو إقطاع رقبة ، وما بين ملكية خاصة أحيانا ، وانتفائها أحيان أخرى ، وما بين أرض موقوفة على بيت المال أو حبوس أو مشاعات أو نظام للزراعة بالمشاركة 000الخ – كل ذلك أدى إلى ميوعة تبلور الطبقات ، ومن ثم إلى ميوعة الصراع الطبقى .
لكن جزم النصوص بعدم وجود ملكية خاصة يمثل خطأ فادح يسفر عن افتقار ماركس وانجلز – فى تلك الفترة – إلى معلومات صحيحة عن النظام الاقتصادى الإسلامى ، ويرتبط بهذا الخطأ خطأ مترتب عليه ، ألا وهو الجزم بسريان الضريبة الخراجية العينية ، وانتفاء وجود الضرائب النقدية . ولكن محمود إسماعيل يشير إلى أن كتب الخراج والاحكام السلطانية والحوليات التاريخية تنفى بشكل قاطع هذه المقولة ، وتوضح تراوح النظام المالى فى الإسلام ما بين الأخذ بالشكلين معا ، بل فى كثير من العصور جرى الاقتصار على جباية الدولة للخراج نقدا .
كما يشير محمود إسماعيل إلى صدق النصوص الماركسية فى أيلولة فائض القيمة فى الغالب إلى الدولة عن طريق ضريبة الأرض ، وأن ذلك يساهم أيضا فى تمييع الصراع الطبقى ، ويعيق فى النهاية مسيرة البورجوازية .
كذلك تبرز النصوص دور العوامل الخارجية فى هذا الصدد ممثلة فى القوى الصحراوية وطبيعتها البدوية ، وانسيابها داخل العالم الإسلامى لتدعيم النمط الإقطاعى . ويخلص محمود إسماعيل إلى الاتفاق مع الطيب تيزينى فى : أن دراسة الواقع الاقتصادى والاجتماعى للعالم الإسلامى فى تطوره أمر صعب وعملية معقدة وشاقة ، لأن المجتمع الإسلامى لم يكتب تاريخه بعد ، وانطلاقا من هذه الحقيقة يتصدى محمود إسماعيل للقيام بمحاولة أولى لوضع معالم أساسية على طريق لا يزال وعرا غامضا رغم كثرة سالكيه ، ويتخذ منهجا قائم على أساس البدء بدراسة الوضع الاقتصادى والبناء الاجتماعى فى تطوره التاريخى ، وعلى صعيد الرقعة الإسلامية برمتها ، فى محاولة وضع معالم جديدة وفقا لمعطيات المسح العام ، وما تبرزه من منحنيات ومنعطفات فى مسيرة تطوره .
وقد تناولت الدراسة مراحل ثلاث أساسية : فالجزء الأول يعرض للصراع بين البورجوازية والإقطاع منذ ما قبل الإسلام وحتى انتكاسة الصحوة البورجوازية فى منتصف القرن الثالث الهجرى ، والجزء الثانى يبدأ بعودة الإقطاع ثم انحساره أمام صحوة بورجوازية استمرت حتى منتصف القرن الخامس الهجرى ، وأخيرا يتضمن الجزء الثالث الانتكاسة النهائية للبورجوازية وسسيادة الإقطاع العسكرى طوال القرون التالية .
كما تنقسم الدراسة إلى مباحث ثلاثة ، يعرض المبحث الأول لدراسة تطور الواقع الاقتصادى بنمطه السائد وأنماطه الهامشية ، ثم محاولة رصد القوى الاجتماعية ، تأسيسا على نتائج المسح الاقتصادى ، والمبحث الثانى خصص لرصد كافة الظواهر الثقافية من علوم وآداب وفنون وعقائد باعتبارها كلا ابستمولوجيا ، وربط هذه الخيوط بمعطيات الواقع الاقتصادى الاجتماعى ، أما المبحث الثالث فقد كان دراسة مجهرية لنشاة الفكر التاريخى التى ارتبطت بمرحلة الصحوة ، ويشير محمود إسماعيل إلى أن نتائج الدراسة أكدت صدق قوانين المادية التاريخية من حيث وحدة التطور وعضويته ، فضلا عن نجاح استخدامها كأداة بحث فى التحقق والتحليل والتفسير والتنظير .
هذه باختصار رؤية د . محمود إسماعيل التى يؤكد فيها أن العالم العربى الإسلامى قد شهد صراعا بين البورجوازية والإقطاع ، وهى رؤية لنا عليا مآخذ كثيرة سوف نناقشها بعد عرض اطروحات أخرى تتفق معها أو تعارضها .
#فتحى_سيد_فرج (هاشتاغ)
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟