|
الحقائب لا تستوعب لعب الأطفال
حامد سعيد
الحوار المتمدن-العدد: 1669 - 2006 / 9 / 10 - 04:54
المحور:
الادب والفن
يومان قبل السفر كانت تذوب بين ذراعي كما لو كانت قطعة من الزبدة الدسمة، قطرات العرق تنزلق من جبينها وانا اشربها علي ارتوي من تلك الانثى المجنونة التي تلبط تحتي، صرخت باعلى صوتها، قبلتها كي اكتم احتراقها.. الحب محرم في بلدتي سيدتي، احذري ان تسمعك لجان التفتيش وفرق الامر بالمعروف والنهي عن المنكر التي اتت بمنكر لا مثيل له في التاريخ. انتيهنا على قلق ثم انقلبت على الفراش اتطلع الى سقف الغرفة الرطبة التي جمعتنا كي نبوح باسرارنا الاخيرة قبل السفر، كان لهاثنا يتصاعد، وشيئا ما يخرج من اعماقي، خدر دبق ورعشة متواصلة، كنت كورقة شجرة تعبث بها ريح خفيفة.. نظرت اليها، انقلبت علي مرة اخرى: -اريد اكثر. -لا استطيع استدرت وأعطيتها ظهري، شعرت بشفتاها تنزلقان على ظهري.. ما رأيت مثلها امرأة شبقية، وقحة، متمردة، قاسية العواطف، منذ ان تعرفت عليها قبل تسع سنوات عندما كانت صحفية صغيرة تسير بين اغصان غابة الاعلام المسيس وعيون المدراء العامين تتفحص جسدها العاجي، انا من فزت بها رغم اني كنت وقتها في بداية الطريق، أي بأحلام ممتلئة وجيوب فارغة. ستسافر اذن؟ سالت بقلق. قلت لها: اجل كفرت: -خرب الله، كلكم ترحلون، كلكم اولاد كلب هكذا هي عادتها، كلما شعرت بالخسارة تسب الله، ورغم انها لا تعترف به الا انها كما تقول تتذكره عند المصائب، لانه ببساطة اله المصائب. عانقتها، عصرتني بقوة وكأنها تريد ان تتلاشى بجسدي، أخذت تبكي كقطة معاقبة. -ابقى هنا؟ -لماذا؟ -من اجلي... -سيقتلونني.. -من هم؟ - لاادري -لماذا يقتلوك؟ -لديهم ما يكفي من الاسباب.. انا شيعي، هذا يكفي.. كنت موظفا في وزارة الإعلام.. هذا يكفي، انا من الجنوب المعذب، هذا يكفي، انا اشرب العرق المخشوش كل يوم ولا ادري اين ارمي الزجاجات الفارغة بعد الانتهاء منها، محاكم التفتيش تفتش حتى أكياس القمامة.. هذا يكفي لقتلي، أمارس معك الجنس المحرم في ألاماكن الخبيئة... الا يكفي هذا؟ -وتترك البلد لهم؟ ياله من سؤال بائس سيدتي، متى كان البلد لي؟ ليأخذوه بكل ما به من مجد، لا أريد الا ان اهرب الى مكان افعل به ما أشاء دون أي سؤال.. هذا هو الوطن، الوطن ان تعيش كما تشتهي، هل فهمت.. بصقت بوجهي وقامت غاضبة، لبست ثيابها على عجل وهي تدردم بكلام لم افهم منه سوى اللعنات التي اخذت تصبها على كل شيء، عليّ وعلي الحرب وعلى السياسة وعلى الدين ورجال الدين و.... قمت وصفعتها بقوة حتى انها سقطت على الارض، نظرت الي بعينين دامعتين، بكت.. قلت لها متوسلا: أرجوك.. كفى.. سحبتْ حقيببتها من على الطاولة وخرجتْ بسرعة دون كلمة كلام.. بقيت وحدي اراقب اطلال امبراطوريتي التي سقطت للتو، لكن لا، سأرحل لن ابقى في بلد هويتك فيه جريمة لا تغتفر..
يوم قبل السفر كانت تجمع أغراضنا في ثلاث حقائب كبيرة وثلاثة اخرى صغيرة، دست في الحقائب كل شيء نستطيع حمله ونعتقده كافيا لنا لامتصاص نقمة الغربة منا، سألت بصبر: نأخذ ملابس الأطفال الشتائية ايضا؟ هززت لها راسي موافقا، غدا سنرحل بالطائرة الى السليمانية ومن هناك سنستقل سيارات رباعية الدفع توصلنا الى سوريا، الطريق سيكون طويلا وموحشا تفاديا لغارات لصوص الطريق ولصوص المذاهب الأخرى.. سقطت دمعة من عينها، قالت هامسة: لا أريد ان اترك البيت.. سكتُ، لقد مللتُ من نقاشها، زوجة تحلم ببيت آمن، قد اكون فشلت بتحقيق حلمها هذا، لكن، ما ذنبي اذا كان الوطنيون القتلة في بلدي أكثر منا نحن الذين يسمونا الأغلبية الصامتة، الخرساء، الجبانة. قالت: ابنتك تريد ان تأخذ كل العابها معها، الحقائب لا تستوعب ألعاب الأطفال، انها عنيدة وستجعلني اضربها بالحذاء، فهي لا تكف عن البكاء. قلت لها: بهدوء، لا نريد مشاكل.. سكتتْ. أكملتُ: قولي لها سنأخذ الألعاب معنا. تأملت عبارتها العفوية "الحقائب لا تستوعب ألعاب الأطفال".. من اين اتت بهذه العبارة المرعبة؟! حقا، لماذا لا تكفي الحقائب لألعاب الأطفال؟ لماذا تستوعب كل تاريخنا وكل مخاوفنا وكل اغترابنا ولا تستوعب ألعاب الأطفال؟ سأشتري لهم من هناك كل ما يحتاجون اليه من ألعاب، قلت لها كي أوقف دوامة الأفكار التي أخذت تتراقص في راسي، لعل عبارتها تلك حركت هذه الدوامة. سألت: وكتبتك؟ قلت لها الليلة سأرزمها في صناديق كارتونية. ابتسمت ساخرة: ستأكلها الصراصير. قلت لها: الى جهنم... رن الهاتف، كانت هي، لا بد إنها الآن في قمة جنونها وشبقها، أتخيلها عارية على سريرها وأصابعها تداعب أنوثتها النهمة، أخذت الهاتف الى الحديقة وهناك همست لها: -الو -ها ابن القحبة.. -(ضحكت) حقيرة -غدا السفر ها؟ -نعم غدا، لقد أكملت زوجتي رزم الحقائب. -هل ستمارس الجنس معها الليلة، على الأقل للمرة الأخيرة في هذا الوطن الخراب؟ -.......... -لماذا سكتت؟ -انت مجنونة.. احبك -ابن القحبة.. احبك.. ماذا ستترك لي، اريد ذكرى منك.. -وكيف ستستلمينها؟ غدا سفري صباحا -اتركها في الكافتريا -ماذا تريدين؟ -ما يكفي كي أشم رائحة جسدك فيها -مثل ماذا؟ -اترك لي قميصك الأزرق، برائحة جسدك، لا تغسله ابدا.. -سأفعل.. هي اذهبي الان، زوجتي قادمة الي.. -جبان -في ما بعد.. في ما بعد.. قطعت الاتصال بينما زوجتي تقترب مني وعلى وجهها نظرات شك.. سألتني: انها هي أليس كذلك؟ قلت لها: انها هي، سنسافر وترتاحين منها.. قالت متألمة: يبدو اني لن انتهي منها بسهولة.. هربت من نظرت زوجتي وتوجهت الى غرفة النوم باحثا عن القميص الأزرق، وجدته أخيرا في سلة الملابس المعدة للغسل، سحبته من السلة ووضعته داخل كيس اصفر صغير وخرجت بسرعة متلقفا سيارة أجرة قبل بدأ حضر التجوال المسائي، توجهت الى شارع فلسطين، الى الكافتريا التي اعتدنا انا وهي الاختباء فيها ساعات الظهيرة القائظة، أعطيت القميص الى النادل وأوصيته تسليمه لها.. الساعة تقترب من الثامنة مساء وسيبدأ حضر التجوال، قال لي النادل محاولا حثي على العودة الى البيت. في نهاية هذا اليوم مارست الجنس مع زوجتي بنهم وجنون، كنت هائجا كثور بري ثمل، سهرت حتى الصباح بانتظار الهجرة الى المجهول
يوم السفر ها قد ابتلعنا الطريق الطويل الى المنفى، لا منفذ لنا سوى هذا البلد الغريب الفقير في كل شيء، تذكرت أشياء كثيرة تركتها خلفي، لم اذهب الى المقبرة لوداع والدتي، قطاع الطرق سيقطعون راسي لو مررت بهم، انهم وطنيون للغاية.. سأكتفي بقراءة سورة الفاتحة لها، هل أؤمن بما سأقرأ؟ لا ادري، ربما سأشعر بالارتياح، ماذا عنها، تلك التي ستعيش مع قميصي الأزرق لحظات شبقها، هل سأتصل بها مرة أخرى ام اعتبرها خسارة اخرى من خساراتنا الألف؟ ماذا عن كتبي التي قضيت عمرا طويلا بجمعها وقراءتها؟ هل ستصبح حقا وجبات دسمة للصراصير والفئران؟ ماذا عن صحبي وصاحباتي؟ ماذا عن أعدائي؟ اعدائي الذين بدأت احن اليهم كأصدقاء طيبين وانا لازلت بعد داخل أراضي وطني.. ماذا عن الوطن؟ آه، هذا الصداع الطويل.. هل سأنساه بسهولة؟ التفتُ الى جانب الطريق وشغلت نفسي بالتطلع الى الصحراء الطويلة التي تحيط بنا، الصحراء.. الصحراء هو كل ما امامي... كما كانت دائما ورائي.. الصحراء، الصحراء.. غرقت في التأمل الحزين حتى سالت ابنتي الصغيرة امها ببراءة هادئة: -ماما، هل العابي في الحقيبة؟ سكتت زوجتي، كذلك انا، كذلك السائق، كذلك الكون كله غرق في صمت رهيب..
يوم ما بعد السفر ؟!
#حامد_سعيد (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
قصة حب بغدادية
-
بعد صدام.. الفكر التكفيري في العراق
-
عندما تأكل الديموقراطية أبناءها
-
القومية العربية:... البداية... النهاية
-
مقابر جماعية
-
الابواب
-
اعتقال
-
هنا يرقد وطن
-
ثلاث قصائد
-
ست مقاطع لعدنان الصائغ
-
راعي العصافير الثلجية
-
من يقول لعطوان الكحلي: اسكت
-
امجد حميد... لماذا استعجلت الموت
-
من قتل اطوار بهجت؟
المزيد.....
-
-المتبقي- من أهم وأبرز الأفلام السينمائية التي تناولت القضية
...
-
أموريم -الشاعر- وقدرته على التواصل مع لاعبي مانشستر يونايتد
...
-
الكتب عنوان معركة جديدة بين شركات الذكاء الاصطناعي والناشرين
...
-
-لي يدان لأكتب-.. باكورة مشروع -غزة تكتب- بأقلام غزية
-
انطلاق النسخة السابعة من معرض الكتاب الفني
-
مهرجان الأفلام الوثائقية لـRT -زمن أبطالنا- ينطلق في صربيا ب
...
-
فوز الشاعر اللبناني شربل داغر بجائزة أبو القاسم الشابي في تو
...
-
الموصل تحتضن مهرجان بابلون للأفلام الوثائقية للمرة الثانية
-
متى وكيف يبدأ تعليم أطفالك فنون الطهي؟
-
فنان أمريكي شهير يكشف عن مثليته الجنسية
المزيد.....
-
التجريب والتأسيس في مسرح السيد حافظ
/ عبد الكريم برشيد
-
مداخل أوليّة إلى عوالم السيد حافظ السرديّة
/ د. أمل درويش
-
التلاحم الدلالي والبلاغي في معلقة امريء القيس والأرض اليباب
...
/ حسين علوان حسين
-
التجريب في الرواية والمسرح عند السيد حافظ في عيون كتاب ونقا
...
/ نواف يونس وآخرون
-
دلالة المفارقات الموضوعاتية في أعمال السيد حافظ الروائية - و
...
/ نادية سعدوني
-
المرأة بين التسلط والقهر في مسرح الطفل للسيد حافظ وآخرين
/ د. راندا حلمى السعيد
-
سراب مختلف ألوانه
/ خالد علي سليفاني
-
جماليات الكتابة المسرحية الموجهة للطفل في مسرحية سندس للسيد
...
/ أمال قندوز - فاطنة بوكركب
-
السيد حافظ أيقونة دراما الطفل
/ د. أحمد محمود أحمد سعيد
-
اللغة الشعرية فى مسرح الطفل عند السيد حافظ
/ صبرينة نصري نجود نصري
المزيد.....
|