|
الحَامِضُ مِنْ رَغْوَةِ الغَمَامْ - الأخيرة
كمال الجزولي
الحوار المتمدن-العدد: 1668 - 2006 / 9 / 9 - 10:49
المحور:
اليسار , الديمقراطية والعلمانية في مصر والسودان
"الخير فيما اختار الله .. إلاَّ نصرة ما فى"! (ابراهيم الخليل فى مجلس الخليفة لقادة التشكيلات عشية كررى) (12/هـ) لم تعد الدعوة القديمة قادرة ، كما كان الأمر فى السابق ، على لجم احتمالات الصراع والتدافع حول قضيتى (السلطة) و(الثروة) خلال الفترة التى سبقت كررى مباشرة ، برغم كل الجهود التى بذلها الخليفة ، مستخدماً أقصى ما أوتى من عبقريَّة فى القيادة والإدارة ، كيما تترجح كفة الاستمرار فى حمل التركة المثقلة التى ورثها إلى غاياتها النهائيَّة: تحرير العالم الإسلامى من نير الحكم الأجنبى ، وتبليغ (الرسالة) إلى العالم بأسره. أما الشأن الداخلى فلم يكن له ، كما سبق وأوضحنا ، ثقل يذكر فى ميزان تلك الغايات إلاَّ بقدر ما يكون ضرورياً لتدعيم آلة الدولة فى خدمة المشروع الخارجى. كان معنى ذلك ، منطقياً ، أن تهون مصاعب الداخل كلها ، وتتراجع مطالبه الملحَّة ، بل وتقمع بالقوَّة الماديَّة إذا لزم الأمر ، حتى لا تعلو على مقتضيات المشروع الرسالى العالمى .. فما (لوسخ الدنيا) قامت الثورة! ربما لهذا السبب بالذات صحَّ عندنا النقد الذى ساقه عبد الله على ابراهيم لاستنتاجات محمد ابراهيم أبو سليم بشأن تعاليم وتشريعات المهديَّة ، وكانت لما تزل ، بعدُ ، فى مرحلة (الثورة) بكردفان ، عن (الأرض) فى المنشور المار ذكره ، على سبيل المثال ، والذى يمنع الكبابيش وآخرين من ادِّعاء وراثة الأرض ، أو التشاجر عليها ، أو تحصيل الخراج من ساكنيها. فقد ثمَّن أبو سليم ذلك المنشور باعتباره ".. انتقالاً من مثاليَّة الصالحين إلى واقعيَّة الحاكمين" (الأرض فى المهدية ، الخرطوم 1970م ، ص 62 ـ 63 ، ضمن: عبد الله ؛ ص 83) ، حيث تناوله كبرنامج مفترض للتغيير الاجتماعى ، وبالتالى ".. لمس فيه نوعاً من مبدأ الأرض لمن يفلحها الذى قد يبرره اتساع الأراضى فى المناطق المطريَّة فى كردفان .. (فرأى) أن المهدى مال فى أول أمره إلى إلغاء الملكيَّة .. ثم انتهى إلى اشتراط الشروط التى تحدُّها عندما انتقلت إدارته إلى الأراضى النيليَّة الضيقة المشحونة بالنزاعات" (عبد الله ؛ ص 82 ، 83). لكن عبد الله رأى فى تلك التشريعات "سياسة عمليَّة محضة" تهدف لتحجيم سطوة أرستقراطيَّة الكبابيش القائمة بالأساس على نمط معين من ملكيَّة الأرض هو (تبريد الدار) ، أى صيرورتها خالصة لصاحبها ، ومايترتب على ذلك من علاقات (كالتبع) و(القيمان) ، مثلما رأى فيها ".. دعوة لتحرير قبائل التبع مثل جهينة والكواهلة وبنى جرار" التى ناصرت المهديَّة ، وتأليبها على (النوراب) ذوى المصلحة الأكيدة فى النظام القديم (المصدر نفسه ، ص 81 ـ 83).
(13) ما كان لذلك الجانب الإشكالى فى مشروع الدولة المهديَّة أن يغيب ، من زاوية النظر الاستراتيجيَّة ، عن الحسابات الاستخباريَّة لبريطانيا الخارجة بحصة الأسد من مؤتمر برلين. فقد ظلت ترصد (مصاعب الداخل) المتمثلة فى غياب برامج التغيير ، والتركيز على عسكرة الحياة الاجتماعيَّة بأسرها لصالح المشروع الرسالى الإقليمى والعالمى ، ورهن النشاط الاقتصادى كله ، من ثمَّ ، لصالح المجهود الحربى ، مِمَّا كان له أبلغ الأثر فى خلق الضوائق والمجاعة من جهة ، واستبداد القوى الأوتوقراطيَّة الداعمة للنظام من الجهة الأخرى ، واستشراء المظالم الاجتماعيَّة والانقسامات القبليَّة والجهويَّة من الجهة الثالثة ، وتكريس سياسة القمع ، من الجهة الرابعة ، ضد أنشطة المعارضة التى لم تقتصر على حراكات الأشراف و(أولاد البلد) وحـدهم ، بل اتسعت وتنوعت وتدرجت من المواقف السلبيَّة إلى الصدام المسلح ، من معارضة الرأى التى انخرط فيها العلماء ورجال الطرق الصوفيَّة إلى معارضة القبائل التى شملت الكبابيش والشكريَّة والعبابدة وغيرهم ، بما فى ذلك القبائل التى سبق أن ناصرت المهديَّة فى أطوارها الأولى ثم ما لبثت أن انقلبت عليها ، كقبائل الجزيرة والبقارة والفور والنوبا ، فضلاً عن المعارضة من داخل الحركة المهديَّة نفسها ، كمعارضة المنا اسماعيل وحركة أبى جميزة ، على سبيل المثال ، مِمَّا يمكن التماس تفاصيل أوفى عنه لدى (محمد محجوب مالك ؛ المقاومة الداخلية لحركة المهديَّة ، دار الجيل ، ط 1 ، بيروت 1987م). وعندما تمخضت (مصاعب الداخل) تلك عن انفجار الصراع الدموى المحتوم والمؤجل بين القوَّتين الأساسيَّتين فى إطار الدولة (أولاد العرب وأولاد البلد) ، لم يكن انتصار أىٍّ منهما ليعنى فى منظور النشاط الاستخبارى الأجنبى المحموم أكثر من إضعافهما معاً ، تمهيداً لتفكيك الجبهة الداخليَّة كمقدِّمة لازمة لكسر شوكة الدولة الوطنيَّة نفسها. لقد رمى ذلك النشاط ، فى بعض وجوهه ، إلى تصوير ".. المهديَّة بأنها دولة متسلطة يحكمها حفنة من الرعاة .. وأن الأوضاع فيها وصلت دركاً سحيقاً من الفوضى والعنف الوحشى ، وأن خلاص أهل السودان هو عبء الرجل الأبيض" (القدال ، ص 215). وبالفعل ظلت حُمَّى ذلك النشاط الاستخبارى الأجنبى تزداد ارتفاعاً كلما ازدادت بنادق (السلطة) ارتفاعاً إلى صدور (الرعيَّة)! فليس من قبيل الصدفة المحضة مثلاً أنه ، وتحت الإشراف المباشر للمخابرات المصريَّة ، صدر كتاب ونجت باشا (المهدويَّة والسودان الانجليزى ـ المصرى) عام 1891م ، فى نفس التاريخ تقريباً الذى شهد المواجهة الدمويَّة العاصفة التى زلزلت أركان الدولة بين الأشراف والتعايشة. وصدر كتاب القس النمساوى جوزيف أوفلدر (عشر سنوات فى أسر المهدى) الذى قام بتحقيقه والإشراف على ترجمته ونشره ونجت باشا نفسه عام 1895م ، فى ذات الوقت الذى كان فيه الخليفة شريف يعذب ويذل ، معتقلاً مكبلاً بالحديد ، فى كوخ من القش. كما صدر كتاب النمساوى رودلف سلاطين (السيف والنار فى السودان) الذى حققه ونشره ونجت باشا أيضاً عام 1896م ، فى عقابيل التصفيات الواسعة التى طالت (أولاد البلد) ، وأيلولة أمر الدولة نهائياً (لأولاد العرب) ، قبيل الغزو الكبير فى كررى عام 1898م. وما يلبث أن يتكشف مغزى ذلك كله حين نذكر أن ونجت باشا هذا لم يكن أديباً ، ولا مؤرِّخاً ، ولا ناشراً محترفاً ، بل كان ، ببساطة ، رئيساً لجهاز المخابرات المكلف بخدمة الاستراتيجيَّة البريطانيَّة فى أفريقيا ، والسودان فى موقع القلب منها ، خلال الفترة التى أعقبت اعتماد مؤتمر برلين (لقسمة الذئاب) فى القارة!
(14) ومن المؤكد أنه ، وفى ظروف المستوى المتاح من الوعى الاجتماعى ، موضوعياً ، والعزلة الخانقة التى ضربها الخليفة على نفسه وعلى البلاد ، بالإضافة إلى ضعف استخباراته ، لم تتوفر له الدراية الوافية بطبيعة صراع المصالح المتناقضة ، وموازنات القوى الاستراتيجيَّة فى المنطقة وفى العالم. مع ذلك ، بل وربما لذلك ، اندفعت سياسته الخارجـية ، بأقصى عزمها ، وبكل شروخ جبهتها الداخليَّة المفككة ، على خط عدوانى مستقيم تجاه جيرانها وتجاه العالم ، ففاقمت من واقع ضعفها وعزلتها ، فأهدت العدو مبرراً إضافياً لكسرها عسكرياً ، حيث أن تلك السياسة: أ/ أقحمت الدولة الوليدة فى ملابسات صراع الأمراء فى بقاع نَجْـد وحايل والحجاز ، من جهة ، وفيما بينهم وبين الحكم التركى القائم هناك من الجهة الأخرى (القدال ، ص 193). ب/ واصلت ضغطها المعنوى على سلطنات غرب وشمال أفريقيا ، كما فى رسائل الخليفة المتلاحقة ، مثلاً ، إلى سلطنة ودَّاى ، حياتو بن سعيد ورابح الزبير ، ملحَّاً فى طلب الاستجابة الفوريَّة لداعى المهديَّة ، إضافة إلى تذكيره المستمر لمحمد السنوسى بضرورة القيام لنصرتها (المصدر نفسه). ج/ تمثلت أيضاً فى اتجاه الخليفة بمراسلاته نحو سكان مصر (أهالى الريف والجهات البحريَّة كافة) يدعوهم إلى الانخراط فى سلك المهديَّة ، ويحذرهم من المخالفة أو توهُّم انقطاع المدد الإلهى بوفاة المهدى ، وتأكيده لهم عزمه على استكمال رسالة المهدى فى فتح مكة والقسطنطينيَّة واليمن والشام أسوة بسيرة المصطفى (صلعم) وأصحابه (ن. شقير ، ص 678). وقد بعث برسالة ، فى هذا المعنى ، إلى الخديوى توفيق عام 1887م يطلب فيها منه التسليم ، وينذره بأن الهمم قد نهضت لتوجيه الجيوش نحو وجهته (المصدر نفسه ، ص 682). كما بعث فى نفس السنة بإنذارين آخرين: الأول إلى السلطان عبد الحميد ".. واعلم أننا قد فرغنا من فتوحات السودان منذ أزمان ، وسمت بنا همتنا إلى فتح الجهات البحريَّة والممالك المصريَّة " (المصدر نفسه ، ص 689). والأخرى إلى الملكة فكتوريا يدعوها لاعتناق الإسلام ، ويتوعَّدها بمصير هكس وغردون وستيوارت الأول والثانى إذا لم تسلم للمهديَّة (المصدر نفسه ، ص 684 ، 685) ، بل ويَعِدُها ، حسبما راج ، بتزويجها إلى يونس الدكيم فى ما لو أسلمت وحسُن إسلامها! (15) ضمن هذا السياق جاءت الوقائع المأساويَّة لحملة ود النجومى فى الشمال. فعلى حين كان ذلك القائد المتمرِّس يتأنى فى حساب خطواته بشأن أى عمل عسكرى تجاه مصر ، كان الخليفة يستعجل الغزو (القدال ، ص 194 ، 195). ولما لم يكن الأخير ليحتمل أدنى اعتراض من أىٍّ من قادته العسكريين ، دَعْ أن يكون هذا القائد بالذات هو عبد الرحمن النجومى ، أحد أبرز أقطاب (أولاد البلد) الذين كان صراعه معهم ما يزال محتدماً ، فقد اختلط حنقه المرير عليه ، فى تلك اللحظة ، برغبته الجامحة فى تحقيق نصر عسكرى بأىِّ ثمن. وكان من نتاج تلك العوامل الشخصيَّة السالبة أن عَمَدَ لإهانة ذلك القائد العظيم وإذلاله علناً بقوله له: ـ "إنت يا ولد النجومى هِوَيِّن ، أخوانك الذين معك كلهم استشهدوا ، فأنت إلى متى تحيا خائفاَ من الموت؟!" (بابكر بدرى ، ص 55). وقد حقَّ لبعض المحللين أن يروا فى تلك الإهانة المُحرِّك الأساسى لاندفاع ود النجومى على طريق الغزو بلا رويَّة أو تدبُّر ، امتثالاً ، فحسب ، لأمر الخليفة الذى كان يراه خطأ ، وتنازلاً يائساً عمَّا كان يرى صواباً حتى تلك اللحظة (القدال ، ص 195). هكذا انتهى الأمر بذلك الجيش إلى التخبط فى الصحراء يعانى من شح الأقوات ، ويتبلغ جنوده التمر الأخضر المُر ونواه ، حسبما وصف ود النجومى الحالة فى إحدى رسائله إلى الخليفة (مكى شبيكة ، تاريخ شعوب .. ، ص 723). ولمَّا لم يُجدِ استنجادهم ببيت المال فتيلاً اضطروا للسرقة وأعمال النهب المسلح (القدال ، ص 195) ، ولخوض معارك ضارية لأيام طوال ، وهم عطشى ، كى يتسنى لهم فتح الطريق إلى النيل ، على غرار ما وقع فى أرقين ، مِمَّا أفقدهم ما يقرب من الألف مجاهد (مكى شبيكة ، تاريخ شعوب .. ، ص 722). فاقم من مشكلات تلك الحملة أيضاً الصراع الذى انفجر بين قادتها: ود النجومى ومساعد قيدوم من جهة ، وود النجومى ويونس الدكيم من الجهة الأخرى. وهو الصراع الخاص الذى استرفد مرارات الصراع العام فى الدولة بأسرها بين (أولاد العرب) و(أولاد البلد). ضف إلى ذلك ضعف استخبارات الجيش ، ضغثاً على إبالة! فقد كان جنوده يزحفون ، كالعميان فى الظلام ، باتجاه عدو لا يعلمون عنه شيئاً (القدال ، ص 195) ، بينما كان هو يعلم عنهم كلَّ شىء .. كلَّ شئ ، إذ ما كاد ذلك الجيش يتحرك حتى ".. نشطت جاسوسيَّة وُد هاوس باشا ، قائد حامية الحدود فى حلفا ، متقصية أحواله وقوَّته" (مكى شبيكة ، تاريخ شعوب .. ، ص 721). أخيراً وقع الالتحام فى توشكى ، فى معركة افتقرت إلى أدنى مقوِّمات التكافؤ. وكان جرانفيل باشا ، سردار الجيش المصرى ، قد خاطب ود النجومى ، قبلها ، طالباً منه التسليم واتقاء الموت أو الأسر. لكن الأمير العظيم الذى آثر أن يموت واقفاً ردَّ عليه بالصلف كله بأنه قاصد فى طريقه يجاهد فى سبيل الله حتى ينصره أو يفوز بالشهادة (المصدر نفسه ، ص 724). واختتم المشهد المأساوى بهزيمة الحملة واستشهاد ود النجومى. وكان ذلك منطقياً تماماً ، فما كان لأولئك الأشاوس أن يصيبوا سؤدداً وشعور الغبن الفادح يعصف بدواخلهم ، أو أن يحوزوا نصراً وهم بالحالة التى وصفها أميرهم من جوع وتعب ونقص فى الذخيرة. لقد شكلت تلك المعركة ، فى الواقع ، بداية النهاية (للمهديَّة/الدولة) ، إذ بدأ الجيش الغازى بعدها فى اتخاذ خطة الهجوم لا الدفاع ، ثم ما لبثت أن تحركت حملة كتشنر فى 1896م (المصدر نفسه).
(16) أما على الحدود مع الحبشة فقد تقلقلت ، فجأة ، الأوضاع التى ظلت هادئة لما يربو على عامين كان الخليفة خلالهما متردِّداً بإزاء الحديث الشريف: "أتركوا الحبش ما تركوكم" ، حتى تصدى للأمر اسماعيل بن عبد القادر الكردفانى ، أحد أبرز مفكرى المهديَّة ، قائلاً إن ترك قتال الحبش زمن الرسول جائز لانشغاله (صلعم) بما هو أهم ، ولكنهم فى عهد المهديَّة تعدُّوا على دولتها وقتلوا المسلمين وهاجموا القبائل وألزموها بدفع الجزية .. الخ ، فقتالهم واجب. وما أن وجد الخليفة تبرير الكردفانى مقبولاً ، حتى اشتعلت الجبهة الشرقية بضراوة بين الجانبين طوال الفترة من 1887م إلى 1890م ، حيث دفعت المهديَّة إلى ساحة القتال بصفوة قواتها: الجهاديَّة ، وخيرة قادتها: حمدان أب عنجة ، ويونس الدكيم ، والزاكى طمل (القدال ، ص 197 ، 199). وقد وقعت خلال تلك الفترة حادثة نجدها على قدر كبير من الأهميَّة ، كونها انطوت على دلالات الممكن المتاح لتعايش الدولة المهديَّة مع جيرانها ومع العالم ، فى ما لو كان ذلك وارداً فى أجندة مشروعها ، وفى إدراكها لمعطيات واقعها الجيوبوليتيكى ، وفى حسابها الدقيق لميزان القوة الدولى والاقليمى بإزاء مخاطر التغلغل الاستعمارى فى القارة ، والذى كان يتهدَّدها هى نفسها بالدرجة الأولى. فقد رأى الحبش ، فى غمرة تلك الحرب ، أن الطليان ، بعد أن ثبتوا أقدامهم فى مُصَوَّع ، أصبحوا يشكلون الخطر الحقيقى عليهم بأكثر مما تفعل المهديَّة. ورأى يوحنا ، تبعاً لذلك ، أن يسعى لإيقاف حربه الثانويَّة مع حمدان اب عنجة حتى يتفرغ لعدوِّه الرئيس: الأفرنج. فبعث لحمدان ، فى ديسمبر 1888م ، برسالة بسيطة التعبير ، عميقة المعنى ، ناضجة الإدراك لاستراتيجيات الصراع ، أوان ذاك ، فى المنطقة ، بمحدِّداتها الخفيَّة والظاهرة ، وأولوياتها التى لا يمكن لأيَّة سياسة أن تغفلها دون أن تكون خاطئة ، والخطوط الدقيقة الفاصلة بين تناقضاتها الرئيسة والثانوية فى خواتيم القرن التاسع عشر ، وذلك بقوله له: ـ ".. والآن ، فإذا حضرت أنا إلى بلادكم وأهلكت المساكين ، ثم جئتم أنتم وأهلكتم المساكين ، فما الفائدة .. والواقع أن الأفرنج أعداء لنا ولكم ، فإذا غلبونا وهزمونا لم يتركوكم بل خربوا دياركم ، وإذا ضربوكم وكسروكم فعلوا بنا ذلك. فالرأى الأصوب أن نتفق عليهم ونحاربهم ونغلبهم" (مكى شبيكة ، تاريخ شعوب .. ، ص 719). وتنفذ الرسالة المهمَّة ، من ثمَّ ، إلى مطلبها الأساسى ، مقترحة تصورها لآفاق التقارب المنشود بين البلدين ، وتطبيع علاقاتهما وتعاونهما المشترك ، بمستوى ينمُّ عمَّا يمكن اعتباره شكلاً باكراً من أشكال الوعى بقضية التضامن والوحدة الأفريقيَّة فى مواجهة المطامع الإمبرياليَّة ، حيث: ـ ".. يتردَّد التجار من أهل بلادنا على المتاجر فى بلادكم ، وكذلك تجار بلادكم تتردَّد على غوندر لأجل المعايش والمكاسب لأهلكم ولأهلنا. فإذا صار كذلك فهو غاية المنفعة لنا ولكم ، لأنكم أنتم ونحن فى الأصول السابقة أولاد جدٍّ واحد ، فإذا قاتلنا بعضنا بعضاً فماذا نستفيد؟! فالأفضل والأصوب لنا ولكم أن نكون ثابتين فى المحبة جسداً واحداً ، وشخصاً واحداً ، متفقين بعضنا مع بعض ، ومتشاورين بالشورى الواحدة ضد أولئك الذين يحضرون من بلاد الأفرنج والترك وغيرهم ، الذين يريدون أن يحكموا بلادكم وبلادنا ، مزعجين لكم ولنا ، أولئك أعداؤكم وأعداؤنا ، نحاربهم ، ونهينهم ، ونحرس حدود بلادنا وممالكنا منهم" (المصدر نفسه). تلك كانت رسالة يوحنا إلى حمدان. ولو أن الأمر بيدى لأضفتها إلى ديباجة ميثاق منظمة الوحدة الأفريقية (الاتحاد الأفريقى فى ما بعد) ، ولنقشتها على الجدران الرخاميَّة للقاعة الكبرى فى مقرِّ المنظمة بأديس أبابا ، ولجعلتها درساً مقرراً فى التربية الوطنيَّة لأبناء الهوتو والتوتسى ، والأمهرا والتقراى ، والعرب والأمازيق ، والمسيريَّة والدينكا ، وكلِّ سلالات العقل الرعوى الذى لم يرتق بعد ، منذ حام وسام ويافث ، لإدراك عشر معشار هذا المعنى كثيف البساطة ، عميق النفاذ ، برغم كرِّ السنين ، وتعاقب المحن ، وتراكم الهزائم. الشاهد أن عرض يوحنا قوبل ، للأسف الشديد ، برفض حمدان القاطع ، كون الحبش "مازالوا على نصرانيتهم" ، أو كما قال: ـ ".. وأما طلبك الصلح منا وأنت باق على كفرك فبعيد بعد المشرقين ، ودليل على ضعف عقلك ، وفراغ ذهنك ، فيا لك من سفيه ، ويا لك من جاهل!" (ن. شقير ، ص 744). توفى حمدان ، وخلفه الزاكى طمل ، فسار على ذات النهج المحكوم بقطعيات المشروع الإقليمى والعالمى (للمهديَّة/الدولة) ، وبنصوصيَّته الجامدة ، حتى استنفد كلَّ طاقاته العسكريَّة بعد معركة القلابات فى مارس 1889م ، فسحب جيشه إلى الصعيد ، ثم إلى أعالى النيل ، ثم عاد به مرة أخرى فى مطلع عام 1893م إلى القلابات ، ومنها إلى القضارف التى تمركز فيها حتى منتصف العام (القدال ، ص 200) ، حيث جرى استدعاؤه إلى أم درمان ، بغتة ، نتيجة وشاية من بعض خصومه ، على الوجه المار ذكره ، فألقى القبض عليه ليموت سجيناً. لم يتهيَّأ للعلاقة بين المهديَّة والحبشة أن تنتقل إلى حقل الدبلوماسيَّة الهادئة ، بعد كلِّ ما جرى ، إلاَّ فى أكتوبر عام 1896م ، قبل عامين فقط من كررى ، حين بعث الخليفة بأول بعثة دبلوماسيَّة برئاسة محمد عثمان حاج خالد تحمل رسالة منه إلى منليك دعاه فيها أن يمنع جميع الأوروبيين من دخول بلاده كشرط لعقد الصلح بينهما (المصدر نفسه). ولم يكن منليك حينها فى موقف الضعف ، فقد نجح فى توحيد أثيوبيا ، وتوَّج نفسه امبراطوراً عليها ، وتمكن من هزيمة الطليان فى معركة (عدوة) ، فضلاً عن أنه كان هو من بادر باستئناف جهود السلام السابقة ، وكان أحد قواده هو من نبَّه الخليفة إلى بروز الخطر الإنجليزى عليه قائلاً: ـ ".. وأرجو أن ألفت نظرك لتكون على حـذر من الإنجـليز الذين دخلوا دنقلا فى الشتاء ، وأن عدوَّك عدوُّنا ، وعدوَّنا عدوُّك ، ونحن يدٌ واحدة فى اتحاد متين" (المصدر نفسه). وكان الخليفة ، فى ما يبدو ، قد شرع فعلاً ، فى ذلك الوقت المتأخر ، فى استشعار خطر التغوُّل الاستعمارى ، فأخذ يعيد حساباته ، وجاء وفده ورسالته إلى منليك ضمن هذا السياق. ولذلك كاد منليك يطير فرحاً بالرسالة والزيارة ، فسارع للردِّ بقوله إن الخلافات الدينيَّة لا تهمُّ كثيراً ، وبرَّر دخول الأجانب بلاده بمقتضيات التجارة والمنافع العاديَّة المتبادلة ، واقترح إنشاء مواصلات منتظمة بين البلدين. وهكذا عاد وفد الخليفة تصحبه بعثة سلام أثيوبيَّة كبيرة استقبلت فى أم درمان بالحفاوة والترحيب (المصدر نفسه). وعلى الرغم من أن تلك العلاقة الدبلوماسيَّة المتأخرة لم تثمر معاهدة صلح رسميَّة ، كون السرعة التى تلاحقت بها الأحداث جعلت من هذه المعاهدة أمراً شكلياً ضئيل الأهميَّة ، فإن منليك ، لم يتردَّد فى إرسال رسالتين إلى الخليفة يحذره فيهما من خطر زحف كتشنر الذى كان قد بدأ بالفعل ، فضلاً عن إرساله العلم الفرنسى إليه مقترحاً على الخليفة رفعه ليحمى دولته من الانجليز. ولكن الخليفة رفض تلك الفكرة! وعلى العموم فقد انشغل كلا الرجلين بهمومه ، وما هى إلا أشهر قلائل حتى زلزلت الأرض زلزالها فى كررى صباح الثانى من سبتمبر عام 1898م.
(17/أ) (لو) تفتح ، عند المؤمنين ، عمل الشيطان. وهى ، من قبل ومن بعد ، باب (للحكمة المؤجلة) شديد الكساد والبوار. فالصحيح هو قراءة المهديَّة (ثورة ودولة) فى إطار شرطها الزمانى ، وإمكاناتها الذاتيَّة ، ومعطيات بيئتها المحليَّة الموضوعيَّة ، وظرفها الإقليمى والعالمى ، وما أتيح لها من مستوى للوعى الاجتماعى السائد بالعصر وبالذات ، دون أن نغفل ، فى الوقت نفسه ، أهميَّة (الربوة) التى يوفرها الابتعاد عن الوقائع فى الزمان من أجل إطلالة أفضل على (غابة الأحداث) كلها ، لا بعض (أشجارها) فحسب ، حتى لا تتحوَّل هذه القراءة ، كما سبق ونبهنا ، إلى محاكمة لا تاريخيَّة ، بل لتحقق غرضها الأساسى ، الأخطر والأجل: إستخلاص ما ترتبه من دروس جوهريَّة ، واستصحاب ما توفره من عِبَر باقية. ولئن كان استناد الحكم إلى خطة القهر القائمة فى محض العصبيَّة الضيِّقة ، سياسيَّة كانت أم إجتماعيَّة أم قبليَّة أم جهويَّة ، وإسقاط الشأن الداخلى من أجندة الدولة لاستلحاقه بمشروع إقليمى أو عالمى ما ، على النحو المار ذكره ، هما أفدح ما أفضى ، فى نهاية المطاف ، إلى تجريف الجبهة الداخليَّة الساحق ، ومن ثمَّ تعريض الوطن بأسره لخطر الاجتياح الأجنبى الماحق ، فثمة واقعتان ، على الأقل ، تثبتان أنه ، لولا (الشموليَّة) فى احتمالها الأوتوقراطى المطلق ، لما كانت تلك الخطة هى الخيار اليتيم المطروح فى أفق الدولة المهديَّة وقدرات قيادتها: الواقعة الأولى: أن الخليفة تراجع فعلياً ليقبل مبدأ التعايش الجيوبوليتيكى مع الحبشة ، متخلياً عن شرطه الصارم القديم ، والقائم فى (أسلمتها) كمقدمة لازمة لتطبيع العلاقات معها ، فبدا ، هذه المرة ، أكثر واقعيَّة من الزاوية السياسيَّة ، وإن جاء ذلك متأخراً. الواقعة الأخرى: أن الإفادات الدقيقة التى أدلى بها ، لاحقاً ، إلى المخابرات المصريَّة التاجر مصطفى الأمين الجعلى كشفت أن الاصلاحات التى شرع الخليفة فى إدخالها مؤخراً جداً ، كتخفيف العبء الضريبى ، والتحولات فى النظام الإدارى ، والتخلص من بعض الأساليب القمعيَّة ، جعلت الحكم يبدو أكثر قبولاً من ذى قبل (القدال ، ص 211) ، رغم أن تلك الاصلاحات كانت لا تزال أقل من أن تفى بالمطلوب. ومع أن تلك المراجعات كانت تنطوى ، عموماً ، على دلالة الاستشعار لجدوى النظر فى البدائل المتاحة ، آنذاك ، إلا أنها كانت تجرى ببطء قاتل ، وفى الساعة الخامسة والعشرين ، أى ، بالضبط ، فى الوقت غير المواتى. فقد كان السردار ، فى ذات اللحظة التاريخيَّة ، يهمُّ ، وهو فى أتمِّ خيله وخيلائه ، باقتلاع بوَّابة أم درمان الشماليَّة ، وبين ذراعيه سلاحه الجديد آنذاك: المكسيم ، بينما استغاثة شاعر الشعب (الحردلو) المفزعة تتردد أصداؤها فوق هامات النخيل والحراز ، تسيل بها الوديان ، وتسير بذكرها الركبان: ولاد ناساً عُزاز متل الكلاب سوونا يا يابا النقس ، يا الانجـليز ألفونا!
(17/ب) والآن ، ها هى مسبحة الأيام قد كرَّت ، وها هو الزمان قد استدار كهيئته الأولى ، وها نحن ، بعد قرن بأكمله ، نجابه السردار الجديد ، فى الظرف الجديد ، وبسلاحه الجديد: الكروز. وأهل الدولة هم .. هم ، كما (البوربون) ، لم ينسوا شيئاً ، ولم يتعلموا شيئاً! فمن ذا الذى يجادل فى حقيقة أن الغزاة ، يوم كررى ، كانوا مدعومين بقوى حيَّة من كرام قبائلنا ، وأن جيشهم كان يضم فى صفوفه كتائب بأكملها من أهل السودان؟! ومن ذا الذى يكابر فيزعم أنه فى ليلة قصف (مصنع الشفاء) لم تملأ صماخ أذنيه استغاثة (الحردلو) تتمايح بها أبواق السيارات الجزلى عبر شوارع المدن الثلاث؟! ومن ذا الذى يتطاول فيصِمُ شاعر الأمة (بالخيانة العظمى) ، أو يصِمُ الأمة ذاتها (بالعمالة) و(الارتزاق)؟! بل من ذا الماجد الذى يستطيع أن يدلنا على ما استوعبنا من دروس ، طوال قرن بأكمله ، وما أدركنا من عِبَر؟! نقول ، ولا نملُّ التكرار: إن (الوطن) ، أولاً وأخيراً ، ليس محض ركام من صخور ، أو مسطحات من طين ورمل ، أو مجارى لمياه تحفها الخضرة ، أو لا تحفها ، هنا أو هناك! (الوطن) ، فى مبتدئه وخبره ، (علاقات) ، إن صحَّت صحَّ ، وإن فسدت فسد. فحتام ، ترانا ، لا نصيب من الخريف تلو الخريف سوى الحامض من رغوة الغمام .. حتام؟! أغسطس 1998م
#كمال_الجزولي (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
الحَامِضُ مِنْ رَغْوَةِ الغَمَامْ (6) (مَبحَثٌ فى قِيمَةِ ال
...
-
الحَامِضُ مِنْ رَغْوَةِ الغَمَامْ (5) (مَبحَثٌ فى قِيمَةِ ال
...
-
الحَامِضُ مِنْ رَغْوَةِ الغَمَامْ - 4
-
الحَامِضُ مِنْ رَغْوَةِ الغَمَامْ (مَبحَثٌ فى قِيمَةِ الاعتِ
...
-
الحَامِضُ مِنْ رَغْوَةِ الغَمَامْ -3
-
الحَامِضُ مِنْ رَغْوَةِ الغَمَامْ ..بَينَ خَريفٍ وخريفْ: مائ
...
-
طَرَفٌ مِن حَديثِ تَحَدِّياتِ البِنَاءِ الوَطَنى (الأخيرة) -
...
-
طَرَفٌ مِن حَديثِ تَحَدِّياتِ البِنَاءِ الوَطَنى(2) الدِّيمُ
...
-
طَرَفٌ مِن حَديثِ تَحَدِّياتِ البِنَاءِ الوَطَنى - 1
-
دَارْفُورْ: شَيْلُوكُ يَطلُبُ رَطْلَ اللَّحْمِ يَا أَنْطونْي
...
-
عَضُّ الأصَابع فِى أبُوجَا!
-
بَا .. بَارْيَا!
-
إسْتِثناءٌ مِصْرىٌّ وَضِئٌ مِن قاعِدةٍ عَرَبيَّة مُعْتِمَة!
-
خُوْصُ النَّخْلِ لا يُوقِدُ نَاراً!
-
التُّرَابِى: حَرْبُ الفَتَاوَى!
-
سِيْدِى بِى سِيْدُوْ!
-
ومَا أدْرَاكَ ما الآىْ سِىْ سِىْ (الحلقة الأخيرة) مَا العَمَ
...
-
ومَا أدْرَاكَ ما الآىْ سِىْ سِىْ! (13) الوَطَنُ لَيسَ (حَظَّ
...
-
ومَا أدْرَاكَ ما الآىْ سِىْ سِىْ! (12) وَطَنيَّةُ مَنْ؟!
-
ومَا أدْرَاكَ ما الآىْ سِىْ سِىْ! إِشَارَاتُ -أُوْكامْبُو- و
...
المزيد.....
-
رجل وزوجته يهاجمان شرطية داخل مدرسة ويطرحانها أرضًا أمام ابن
...
-
وزير الخارجية المصري يؤكد لنظيره الإيراني أهمية دعم اللبناني
...
-
الكويت.. سحب الجنسية من أكثر من 1600 شخص
-
وزير خارجية هنغاريا: راضون عن إمدادات الطاقة الروسية ولن نتخ
...
-
-بينها قاعدة تبعد 150 كلم وتستهدف للمرة الأولى-..-حزب الله-
...
-
كتاب طبول الحرب: -المغرب جار مزعج والجزائر تهدد إسبانيا والغ
...
-
فيروز: -جارة القمر- تحتفل بذكرى ميلادها التسعين
-
نظرة خلف الجدران ـ أدوات منزلية لا يتخلى عنها الألمان
-
طائرة مساعدات روسية رابعة إلى بيروت
-
أطفال غزة.. موت وتشرد وحرمان من الحقوق
المزيد.....
-
كراسات التحالف الشعبي الاشتراكي (11) التعليم بين مطرقة التسل
...
/ حزب التحالف الشعبي الاشتراكي
-
ثورات منسية.. الصورة الأخرى لتاريخ السودان
/ سيد صديق
-
تساؤلات حول فلسفة العلم و دوره في ثورة الوعي - السودان أنموذ
...
/ عبد الله ميرغني محمد أحمد
-
المثقف العضوي و الثورة
/ عبد الله ميرغني محمد أحمد
-
الناصرية فى الثورة المضادة
/ عادل العمري
-
العوامل المباشرة لهزيمة مصر في 1967
/ عادل العمري
-
المراكز التجارية، الثقافة الاستهلاكية وإعادة صياغة الفضاء ال
...
/ منى أباظة
-
لماذا لم تسقط بعد؟ مراجعة لدروس الثورة السودانية
/ مزن النّيل
-
عن أصول الوضع الراهن وآفاق الحراك الثوري في مصر
/ مجموعة النداء بالتغيير
-
قرار رفع أسعار الكهرباء في مصر ( 2 ) ابحث عن الديون وشروط ال
...
/ إلهامي الميرغني
المزيد.....
|