|
قصة قصيرة بعنوان -صاروخ الحظ-
سمير الأسعد
الحوار المتمدن-العدد: 7190 - 2022 / 3 / 14 - 12:03
المحور:
الادب والفن
صاروخ الحظّ بطّارية القبّة الحديدية احتضنت صاروخاً أشعلها ولوى هيكلها وحوّلها لكومة خردة غير متناسقة. صفّاراتُ الإنذار تعوي وتشقّ بضجيجها عنانَ السماء وأديم الأرض.. ارتعشت ركبتاي وأنا أختبىء خلف حاويةٍ للقمامة، قلبي يتسارع بشدّة ويقذف بالدّم الحارّ كحممٍ بركانيةٍ يشعل جسدي المرتجف. هدوءٌ يسبق توقّع الموت كلّ لحظة والذي قد يأتي بسرعةٍ تفوق سرعة إدراكي بمقدمه، وتنتهي مسيرة حياتي في هذا المكان التّعس، بعد أن سقطت خرافة الشهد والعسل أمام حضرة الموت القادم من الأرض الملعونة. أزلتُ القناع عن وجهي وجهّزت نفسي للانطلاق اتجاه الملجأ القريب في تلك البناية أمامي والتي تبعد عني حوالي المائتا متر فقط. وفجأة انطلقت دفعة من الصواريخ منطلقة من القطاع، فانكمشتُ في موقعي في الوقت الذي بدأت مضادّاتنا الأرضية المنتشرة في المكان تطلق صواريخها من القبّة الحديدية، ورأيت إحداها يصيب صاروخاً مهاجماً ويفجّره في الجو. وفي نفس الوقت تقريباً انطلقت طائراتنا على ارتفاعات عالية وهي تشنّ الغارة تلو الأخرى لتصنع انفجارات وأعمدة دخان حوّلت النّهار إلى ليل، وتدمّر ما تستطيع تدميره دون تفريق. توقّف إطلاق الصواريخ التي اختفت وكأنه لم يكن لها وجود. حرب المدن كما أسميها ضحاياها المدنيّون من الجانبين، لكنّ خسائرنا باهظة على كافّة المستويات، فدولة مستقلّة كدولتنا تضطر إلى إدخال ملايين من سكّانها إلى الملاجئ ووقف حركة القطارات بين مدن وسط وجنوب البلاد، وتعليق هبوط وإقلاع الرحلات الجويّة لفترات بمطار بن غوريون الدولي وغيرها من الخسائر. عندما وصلت من بولندا قبل عشر سنوات، اقتادوني إلى مركز استقبال وأجلسوني داخل قاعة فسيحة مع عشراتٍ من المهاجرين الآخرين من دولٍ مختلفة. بادَرَنا شخص يقف متأنّقاً قائلاً بكبرياء مصطنعة: - مرحباً بكم في جنّة إسرائيل الكبرى. أنتم اليوم في دولة الأمان والديموقراطية، في الأرض المقدسة. وقد تحقّقت بوصولكم نبوءات من آلاف السنين بعد أن دفع أجدادنا ثمناً باهظاً من دمائهم وعرقهم على مدى أجيالٍ طويلة. هنا ثمرة الكفاح والفداء والتّضحية. كنت أتوق لإكمال تعليمي العالي في علم الفيزياء، لكنّ انهيار الإتحاد أجبرنا على الرّحيل إلى بلاد الأمان والطمأنينة المكتظّة بالخيرات الحسان هرباً من الفتن وخطر البطش بالأقليات. وشجّعني عادتي في اتخاذ قراراتي بوجها عملة معدنية أحملها في جيبي باستمرار والتي جاءت متوافقة مع القرار بالرّحيل. واليوم يأتي من يطلعنا على الحقيقة الزّائفة. حقيقة جيش الورق والشّعب الذي يختفي خلف جدار الجيتو الكبير. صدّقنا كل ما قيل لنا إلى أن تبيّن لنا أنّ هذا البلد لا يختلف كثيراً عن غيره، واضطررت للعمل والكدّ كي أحصل على لقمة العيش المرة. مع أنهار بديلة من العنصريّة ضدّ كلّ شيء. حروبٌ متواصلة أنجبت فأر الخوف وعدم الاستقرار، وأركبتنا متن قارب الرّعب الذي يهرول بلا توقف داخل سرداب معتم. ولكن فيما أن عادت الشمس إلى الإشراق، قد أعمل على مراجعة الاحتمالات ووجهي قطعة العملة. إمّا الموت القريب أو الحياة البعيدة. ولكنّ كفة الرّحيل قد تميل إن بقي من العمر فسحة. انقطع سيل أفكاري حين ظهر ذلك الشّاب من خلف شجرة على الرّصيف المقابل وقد شجّعه توقّف القصف على الرّكض اتّجاهي وهو يرتجف خوفاً وهلعاً، فارتمى إلى جانبي وقد انخرطَ في البكاء، وبعد تشنّجات وتقطيعات استطاع بعدها الحديث بصوتٍ متهدّجٍ قائلاً:
- أنا خائفٌ جداً وأريد أمي ! أجبته وأنا أتفقّد السماء بتوتّر: - هل تظن أنّ أمّك تهتمّ بك بهذه الأجواء؟ - لا أظنّ ذلك. تفاجأت من إجابته فسألته: - ولماذا أنتَ واثق لهذه الدرجة؟ - لأن أمي في القبر. رمقتُهُ بغضب وفي داخلي بركان يغلي، هل هذا هو وقت المزاح أم أنّ الشاب أصابته لوثة؟ - إلى أين أنت ذاهب، وما الذي أخرجك من منزلك رغم التحذيرات ورغم فرض منع التجول؟ - أنا متوجه إلى البيت بعد أن أنهيت خدمتي في الوحدة العسكرية في سلاح المدفعيّة. يا للهول.. ارتج عليّ ولم أعد قادراً على التفكير بعد سماعي إجابته. ولكنّي أدركت أنه يكذب فمهما كانت الظروف لن يُسمح له بالخروج، لقد استطاع بطريقةٍ ما الهروبَ من القاعدة التي يعمل بها. تجاهلتُ ذلك وقلت له بتردّد: - جفِّف دموعك وحاول أن تلقي رعبك خلف ظهرك. عسى ان نجد مخرجاً لعلّ... وقبل أن أكمل حديثي عادت صفّارات الإنذار تنشر أغنيتها الخاصّة، وعادت الصواريخ تهرول اتجاهنا. أفلت إحداها وتجاوز حاجز القبة الحديدية، وأصاب بنايةً على يميننا تعلوها إحدى بطاريات القبّة الحديدية وتبعد عنا شارعين فقط إصابة مباشرة. وتطايرت أشلاء الإسمنت والزجاج والحديد ووصل بعضها إلى أماكن بعيدة. ومرّت من فوق رؤوسنا كتلةٌ اسمنتيةٌ ضخمة وأصابت إحدى الشّاحنات الرّابضة أمام أحد البنوك خلفنا والتي انفجرت بقوّة ورجت الأرض واهتزت لها أجسادنا وقلوبنا. وسمعنا أصوات صفّارات إنذار البنك والتي ضخمت ضجيج صفارات الإنذار بصوتها الذي يحاكي ترانيم الموتى لدى القدماء. لا أكاد أستوعب أن منظومة دفاعنا فاشلة وتلبس قفازات لتخفي بصماتها كيلا توثق جريمتها في كشف ظهورنا العارية. الغبار والأتربة انتشرت في المكان، وانطلق دخانٌ أسودُ كثيف أطلق نفير عتمة مؤقّتة. وفي هذه الأثناء، قام الشّاب من مكانه بجانبي وانطلق راكضاً إلى الأمام وهو يصرخ بهستيريا وقبل أن يقطع منتصف الطريق اتجاه الملجأ هزّ انفجار آخر المكان ولمع ضوء في السماء مع تفريغ هواء يصمّ الآذان كالرّعد. وبدون وعي تقدمتُ اتجاه الشابِّ الذي طار جسدُه وصدم واجهة سور البناية المجاورة له. ومن خلفي وجدت حاوية القمامة في غير محلّها وهي ملقاة على جانبها في وسط الشّارع وقد تناثر ما فيها ليغمر مساحةً واسعةً من الشّارع. هنا بلغ مني اليأس مبلغه، وضاقت مساحة الحياة وأصبحت كخرم إبرة. ليتني لم أخرج على القانون وأتسلل من بيتي مستغلاً عامل الخوف وتجمع النّاس في الملاجئ كي اقتحم أسرار بيوتهم وأنتهك خصوصياتها وأملاكها. لم أعد أعرف إن كان عليّ الإنتظار أم التحرك بسرعة اتّجاه الملجأ. وقبل أن أتّخذ قراراً بدأت المضادات الأرضية إطلاق صواريخها مرةً أخرى بكثافة، فتطلعتُ إلى الأعلى لأرى ولأوّل مرّة رشقة مؤلَّفة من عشرات الصواريخ بل المئات في مشهدٍ خياليّ لم أتوقّع رؤيته يوماً ما. وتجاوزتنا عشرات منها ودخلت إلى عمق الغلاف واتّجاه العاصمة والميناء. بدت صواريخنا المضادة كطفل صغير يصارع أمواج البحر الهائجة. ولفرط دهشتي الشّديدة شاهدتُ من أعلى أحد الصواريخ المهاجمة كأنّه فقد قدرته على الوصول لمدىً أبعد وقد أحنى رأسه إلى الأسفل واتّجه إلى المنطقة السكنيّة حيثما أقف، رغم أنّه لم يصدف أن دكّتها الصّواريخ والقذائف قبل ذلك. أغمضت عينيّ للحظة ثم فتحتهما على اتساعهما عسى أن تكونا مشوّشتين، أو أنّني فقدت قدرتي على الرؤية. إلّا أن الصّاروخ كان فعلاً مسرعاً باتجاهي . لم يعد عقلي قادراً على الإرتجال بعد أن اقتربت المسافة. رميتُ عملتي المعدنيّة دون اهتمام ثمّ اعتدلت وجلستُ دون تفكيرٍ أو قدرةٍ على الحركة وأنا أنتظر .. معجزة .. قد يعترضه أحدُ صواريخِنا قبل أن يصل؟
#سمير_الأسعد (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
بشعار -العالم في كتاب-.. انطلاق معرض الكويت الدولي للكتاب في
...
-
-الشتاء الأبدي- الروسي يعرض في القاهرة (فيديو)
-
حفل إطلاق كتاب -رَحِم العالم.. أمومة عابرة للحدود- للناقدة ش
...
-
انطلاق فعاليات معرض الكويت الدولي للكتاب 2024
-
-سرقة قلادة أم كلثوم الذهبية في مصر-.. حفيدة كوكب الشرق تكشف
...
-
-مأساة خلف الكواليس- .. الكشف عن سبب وفاة -طرزان-
-
-موجز تاريخ الحرب- كما يسطره المؤرخ العسكري غوين داير
-
شاهد ما حدث للمثل الكوميدي جاي لينو بعد سقوطه من أعلى تلة
-
حرب الانتقام.. مسلسل قيامة عثمان الحلقة 171 مترجمة على موقع
...
-
تركيا.. اكتشاف تميمة تشير إلى قصة محظورة عن النبي سليمان وهو
...
المزيد.....
-
مداخل أوليّة إلى عوالم السيد حافظ السرديّة
/ د. أمل درويش
-
التلاحم الدلالي والبلاغي في معلقة امريء القيس والأرض اليباب
...
/ حسين علوان حسين
-
التجريب في الرواية والمسرح عند السيد حافظ في عيون كتاب ونقا
...
/ نواف يونس وآخرون
-
دلالة المفارقات الموضوعاتية في أعمال السيد حافظ الروائية - و
...
/ نادية سعدوني
-
المرأة بين التسلط والقهر في مسرح الطفل للسيد حافظ وآخرين
/ د. راندا حلمى السعيد
-
سراب مختلف ألوانه
/ خالد علي سليفاني
-
جماليات الكتابة المسرحية الموجهة للطفل في مسرحية سندس للسيد
...
/ أمال قندوز - فاطنة بوكركب
-
السيد حافظ أيقونة دراما الطفل
/ د. أحمد محمود أحمد سعيد
-
اللغة الشعرية فى مسرح الطفل عند السيد حافظ
/ صبرينة نصري نجود نصري
-
ببليوغرافيا الكاتب السيد الحافظ وأهم أعماله في المسرح والرو
...
/ السيد حافظ
المزيد.....
|