|
الهولوكوست الأسديّ
نجيب علي العطّار
طالب جامعي
(Najib Ali Al Attar)
الحوار المتمدن-العدد: 7186 - 2022 / 3 / 10 - 02:28
المحور:
الثورات والانتفاضات الجماهيرية
هنا درعا.. مجموعة من الأطفال يُؤخذون في رحلة استكشافيّة تجريبيّة الى مختبرات الأسد العلميّة التي تُسمى، تآمرًا، سجونًا ومراكز أمنيّة.. لكنّها في حقيقتها مختبرات تعجّ بعلماء النجوم الذين يُسمّون، تآمرًا، مخابرات.. انظر الى أحد علماء الكهرباء مثلًا، سترى على كتفه نجمة أو نجمتين.. سيتولّى هذا الملازم الأسديّ الإشراف على عملية شرح تجريبيّة وحسيّة لأطفال درعا يُبيّن لهم فيها تأثير الكهرباء على الجسم البشري.. وهي رحلة شبه مجّانيّة.. فتكاليفها لم تكن سوى حياتهم.. وبضعة شعارات تُكتب على الحيطان.. شعارات من فئة "إجاك الدور يا دكتور" مثلًا...
هنا دمشق.. الشعبُ واحدٌ للمرّة الأولى في تاريخ سوريا.. الأرواح كلُّها حلّت في جسدٍ واحد اسمه الشعب.. جسدٌ يرتّل أعظم التراتيل أبدا.. "الشعب يريد إسقاط النظام"...
هنا بانياس.. الزمن عاطل عن عمله.. الساعات تُحتَضَرُ في أسرَّتِها المعلقة على الحيطان.. تُحتضرُ وحيدة.. كعروسٍ تنظر الى الدم الذي غسّل فستانها الابيض ولا تسمع الا صوتين.. صوت عقلِها يقول؛ لقد قُتلَ عريسُكِ يا أنا.. وصوت قلبها الذي يحاول أن لا يُصدّق...
هنا حماه.. الأحرار يلعنون الديكتاتور والأرض من تحت أرجلِهم ترقصُ طربًا.. الأحرار يكفرون بعبادة الطاغيّة والسماء من فوقِهم تضجُّ بملائكة الحريّة المهلّلين.. وكلُّ الأرواح ترفعُ باسم الأرض والسماء سلامًا الى كل الشُهداء...
هنا حمص.. لا صوت يعلو صوت الرصاص.. ومشهد الاشتباك من طرفٍ واحد يُعاد تمثيلُه باللحم الحي.. ولم يزل أولئك القَتلة الأغبياء يظنّون أن الهتاف يُقتل بالرصاص...
هنا الغوطة.. الناس مخذولة من الجميع.. متروكةٌ لشياطين القتل الأسديّة تقتلُها كيف تشاء.. وأنّى تشاء.. لقد جعلوا كل شيئٍ في الغوطة قاتلًا.. حتى الهواء صار قاتلًا.. أبدلوا ذرّات الحياة فيه بـ "الكيماوي" الأسديّ...
هنا سوريا.. المشاهد كلُّها تُعيدُ خلقَ أعظم ملاحم التاريخ.. فتحُ مكّة.. الأحرار يُسقطون الأصنام على ايقاع "الله أكبر".. أصنامُ الديكتاتور التي أُسجدَ الناس عند أقدامِها تتحطّم اليوم تحت أقدامِهم...
هنا سوريا.. الوقتُ لا يُعد بالدقائق التي ترميها عقارب الساعة في بئر الماضي.. انما يُعد بعدد اللحظات الخالية من القصف.. اللحظات التي لا يُسمع فيها صوت الموت تشظيًا بالبراميل الأسديّة.. فالزمن إذًا يمضي بطيئًا.. بطيئًا جدًا.. فقليلة هي تلك اللحظات الخالية من الموت.. وأمّا من كان يعدُّ الساعات بعدد الأشخاص العائدين من السجون الأسديّة، التي ليست الا هولوكوستًا باردًا، فإن الزمن هنا يتوقّف.. لأنّ الداخل الى تلك المحرقة لا يخرجُ منها أبدًا.. وإن صار أن خرج، فإنّه لن يخرج كما دخل.. وفي كلتا الحالتين الزمن يتوقّف.. إنّه الخلود بلغة غير فيزيائيّة.. وإذا أخذنا أسديّةَ السجون بعين الاعتبار، فإن هذا الخلود هو "جهنّم التي قالت عنها الأديان".. هكذا يقول الضابط الأسدي الحائز على جائزة الأسد للاجرام تقديرًأ لانجازاته الباهرة في طي العمود الفقري للانسان.. ولأبحاثه العظيمة في الحركة الميكانيكيّة للمفاصل البشريّة حيث أثبت بالتجربة الحسيّة أنّه بالإمكان، وبحركة روتينيّة يكتسبها "الشبّيح" بالممارسة، جعلُ ظاهر كف اليد مكان باطنها وباطنَها مكان ظاهرها.. لقد أثبتَ ذلك في مختبرات تدمر وصيدنايا ومختبر المزّة العسكري.. أعتقد أنّه في المستقبل القريب قد يبدأ هذا الضابط ببحثٍ تجريبي في محاولة لاثبات أن الرأس البشري بامكانه الاستدارة بزاوية 180 درجة.. ويُثبت بالتالي وجودَ جدٍّ مشترك بين الإنسان وطائر البوم...
هنا سوريا.. الشعب السوري يريد اسقاط النظام.. مطلبٌ لم يولد اليوم.. وانما ولد مذ ولد النظام.. أجل.. لقد كان مطلب اسقاط النظام توأمًا للنظام نفسه.. غير أنّه تأخّر عن النطق أربعين سنة بسبب خللٍ في المرحلة الجنينيّة لهذين التوأمين.. خللٌ أدى الى التصاق يد النظام بفم مطلب اسقاط النظام.. استغرقت عملية نزع يد النظام عن توأمه اربعين سنة حُكمتْ فيها سوريا بـ "قانون الطوارئ الأسديّ".. وكيف لا تكون البلاد في حالة طوارئ وحاكمُها ليس إلّا استنساخًا، أكثرَ دمويةً، لكل طغاة التاريخ؟
هنا سوريا...
القمر يستحي من العاشقين على مرّ التاريخ.. فالدروب التي كان يُنيرُها لم تعد دروب حب.. لقد أصبحت دروب موت.. أولها موت.. وعلى جنباتِها موت.. وآخرها موت...
الشمس تخاف أن تُشرقَ على الجرحى الغارقين بدمائهم فيراهم أسديٌ مجرم فيُجهز عليهم.. حتى الشمس في سوريا لا تعني الأمل.. فهي ستشرق على جثّة شهيدٍ وتقتلُ الأمل الذي أحياهُ ظلامُ الليل في نفس أمّ هذا الشهيد...
الدم لم تُعجبه الشرايين الجديدة التي يجري فيها.. لا يريد أن يجري على الأرض.. يريد أن يجري في شرايينه الطبيعيّة.. في أجسادٍ تستحق الحياة بقدر ما حُرمتْ منها...
الأبجديّة تعبت من كتابة أسماء المقتولين عبثًا واجرامًا.. تعبت من تدوين صيحات المعذّبين تحت الأرض وفوقَها.. والأقلام لا تستسيغ الدم حبرًا لها.. تريد أن تعود الى حبرها الأزرق...
أمّا الناس.. فقد ملّوا انقسامهم بين نازح هنا ولاجئ هناك.. وكلّهم قد شربوا من كأس الألم المُسكر جدًا.. المُسكر حتى الموت قهرًا.. لقد تعبوا من السؤال عن ذنبهم الذي يُعاقبون عليه بعقوباتٍ أضحى الموت أمامَها مرحلة متقدّمة في الرحمة.. بل أضحى الموت أمامَ حالهم حياةً.. وأضحتِ الحياةُ موتًا ذا طُرقٍ متعدّدة بعدد الضحايا.. وآلامٍ مختلفة باختلاف قصص الضحايا.. تبدأ بفقدِ البيت وتنتهي بفقد الوطن...
إنّهم يسمعون الشرق يُنادي بمصالحه.. والغرب يُنادي بمصالحه.. ولسانُ حالهم يقول؛ تبًا للشرق والغرب بعدد مصالحهم.. أريد بيتي.. أريد أن أتناول الفطور مع أمّي.. أريد ان اكون انسانًا فقط...
لم تكن الثورة السوريّة عزفًا منفردًا لشعبٍ معتقل في سجنٍ كبير بحجم وطن.. سجنٌ اسمه "سوريا الأسد".. إنّما كانت مقطعًا من سيمفونيّة عربيّة استحالت نشازًا دمويّة.. كانتْ نسيمًا من نسائم ربيعٍ عربيٍّ انقلبَ خريفًا باردًا جدًا.. خريفًا قاتلًا.. وكان لسوريا النصيب الأكبر من الدم والخذلان.. لقد خذل العالم سوريا.. كلُّ العالم خذل كلَّ سوريا...
أمّا سوريا فتقول؛
" هنا سوريا.. الزمن سيمضي من جديد.. وشياطين القتلِ مولّون الى جحيم التاريخ.. هناك حيثُ يُساقون مكبّلين بأصفاد الصيرورة وسلاسل السنن التاريخيّة.. هناك حيث يذوقون اجرامهم ألمًا.. حيث يشربون بطشهم.. ويمزّقون أجسادَهم بأنيابهم.. تلك الأنياب التي لم تشبعْ من لحم سوريا ودمها.. هناك سيلعنون طاغيتَهم الذي عبدوه.. هناك حيث سيدركون جيدًا مصيرَ الكافرين بالزمن.. وسيؤمنون مرغمين أن الزمن لا يُقهر.. وأنّه كان أقوى من جبروتهم.. وأكثر استبدادًا من استبدادِهم.. سيعلمون أنّهم لا يستطيعون إيقاف الزمن طويلًا.. سيلتقون بأسلافهم الطغاة.. ويسمعون من كل طاغية الكلام نفسَه؛ الشعب لا ينام طويلًا.. والزمن لا يرجع الى الوراء أبدًا..."
#نجيب_علي_العطّار (هاشتاغ)
Najib_Ali_Al_Attar#
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
تسقط دولة فلسطين
-
الهولوكوست اللبناني
المزيد.....
-
الوزير يفتتح «المونوريل» بدماء «عمال المطرية»
-
متضامنون مع هدى عبد المنعم.. لا للتدوير
-
نيابة المنصورة تحبس «طفل» و5 من أهالي المطرية
-
اليوم الـ 50 من إضراب ليلى سويف.. و«القومي للمرأة» مغلق بأوا
...
-
الحبس للوزير مش لأهالي الضحايا
-
اشتباكات في جزيرة الوراق.. «لا للتهجير»
-
مؤتمر«أسر الصحفيين المحبوسين» الحبس الاحتياطي عقوبة.. أشرف ع
...
-
رسالة ليلى سويف إلى «أسر الصحفيين المحبوسين» في يومها الـ 51
...
-
العمال يترقبون نتائج جلسة “المفاوضة الجماعية” في وزارة العمل
...
-
أعضاء يساريون في مجلس الشيوخ الأمريكي يفشلون في وقف صفقة بيع
...
المزيد.....
-
ثورة تشرين
/ مظاهر ريسان
-
كراسات شيوعية (إيطاليا،سبتمبر 1920: وإحتلال المصانع) دائرة ل
...
/ عبدالرؤوف بطيخ
-
ورقة سياسية حول تطورات الوضع السياسي
/ الحزب الشيوعي السوداني
-
كتاب تجربة ثورة ديسمبر ودروسها
/ تاج السر عثمان
-
غاندي عرّاب الثورة السلمية وملهمها: (اللاعنف) ضد العنف منهجا
...
/ علي أسعد وطفة
-
يناير المصري.. والأفق ما بعد الحداثي
/ محمد دوير
-
احتجاجات تشرين 2019 في العراق من منظور المشاركين فيها
/ فارس كمال نظمي و مازن حاتم
-
أكتوبر 1917: مفارقة انتصار -البلشفية القديمة-
/ دلير زنكنة
-
ماهية الوضع الثورى وسماته السياسية - مقالات نظرية -لينين ، ت
...
/ سعيد العليمى
-
عفرين تقاوم عفرين تنتصر - ملفّ طريق الثورة
/ حزب الكادحين
المزيد.....
|