|
محفّزات الإدمان الثقافي والمغامرة الخاسرة
كريم ناصر
(Karim Nasser)
الحوار المتمدن-العدد: 7182 - 2022 / 3 / 6 - 09:19
المحور:
الادب والفن
لم يقبل الشعر يوماً عبر تاريخه الطويل قضايا التأويل إلّا في حدود الفضاء الخاص به، وهكذا يبقى الشعر في إطار هذه المعادلة عالماً تتحقّق كينونته انطلاقاً من تمظهراته الدلالية في سياق لا يخضع إلّا لمعيار جمالي جوهره الفكر والمعرفة والثقافة، ونظراً إلى طبيعة حساسية الموضوع، فإنّنا نستطيع أن نضع الشاعر الجوهري في المقدمة لانتمائه للأنتلجنسيا Intellectuals في إطارها المعرفي خاصة.. يدرك الشاعر المثقف معنى وجوده سلفاً بالقياس إلى وظيفته الفكرية ورؤيته الشمولية للحياة، وواضح أنَّ انحيازه إلى قيم الجمال يدلّ دلالةً واضحةً على عمق ثقافته التي خرج من صلبها، وكان لا بدّ من هذا التجسيد المبدئي أن يفرض نمطاً ثقافياً مُستنبطاً من منابع جمالية أصيلة لمواجهة الأنماط الهشّة التي تمثّل ذروة الانحطاط الفكري، ولعلّ فعلاً إيجابياً مثل هذا من شأنه أن يقودَ الشاعر إلى التفكير في الإستقلالية الفكرية، لأنّها المنهج والحل والمقياس، هذا إذا ما اتخذّ موقفاً مبدئياً يمسّ جوهر المسألة ويمضي بعيداً عن مشروع تدجينه أو أدلجته، وكلّما ازداد ايماناً بقيمه الانسانية تمكّن من تحقيق رؤية تلائم حلمه ومستقبله الشعري في إطار ابستمولوجي لتوسعة مداركه لكيلا يكون سريع الانقياد كمن يعدو إلى غابة حرجية، وقد يؤدي هذا الاستنتاج إلى نتيجة تفضي إلى ضمور الشعر واضمحلاله، صحيح أنَّ الكتابة رؤية معرفية وليست ساحة لميدان المنافسة في بورصة تجارية أو في صالون أدبي، لأنَّ الكتابة من هذا النمط غالباً ما تعالج موضوعات طارئة تبحث عن ضروراتِ السوق ضمن معايير النشر البرجوازية في إطار يحفظ للمستهلك الرخيص ذوقه، ولاغرو من أن يكون هذا المستهلك أساساً ناشطاً أيديولوجياً، هذا الموضوع في حقيقته يمثّل خطراً كبيراً على الثقافة قبل أن يكون خطراً على الشعر نفسه.
كلّنا يعلم جيداً أنَّ المؤسسات الثقافية ليست إلّا جمعيات إدارية مالية لا تُعنى بالأدب والفن والمعرفة والفلسفة والفكر كثيراً، وقد اتّضح أنَّ دور المؤسسة الثقافية قد يخلو تماماً من رؤيةٍ شموليةٍ لتنفرد بها، لذلك بقي نشاطها مقصوراً على عناصر بحثية أكادمية ليست فنية بحتة، وإذا كانت هذه الجمعيات في أوج أنشطتها مرغمةً على أداء دور البورصة، فإنَّ من البديهي أن تظلَّ دائماً رهن سياسة خاصة لا يتجاوز مضمونها فكرة الأماسي وفحواها وأنماط برامجها التي تجيّر بواسطتها الأدب من جهة أخرى لمصلحة فئةٍ معينة تكون في الأغلب خارج سياق الأدب نفسه، ولذلك دلالة قد يدحضها المنطق.
والحقيقة فإنَّ عملية تنظيم الأماسي الشعريّة كما عرفناها في المحافل الثقافية كظاهرة موروثة من الصالونات الأدبية لم تتمكّن من الثبات طويلاً لكي تحافظ على ذلك الدور الحاسم الذي أدّته في مراحل مختلفة، لأنَّ عملها الروتيني يكاد يكون نشاطاً رمزياً في ظلّ التطوّر التكنولوجي العلمي الذي من شأنه أن يضع الشاعر حينئذ قدّام متلقّيه الجدد وجهاً لوجه من دون الاعتماد على وساطةٍ من حزب أو خطاب من مؤسسة أو إجازة من دولة، أمّا في ما يتعلّق بمبدأ الشهرة الموروثة من الذات المريضة ولغرض إثبات وجودها وخلق قيمة مزيفة لتضخيمها بالمعنى نفسه، فذلك من الجائز أن ينتزع مفهوم الابداع من مضمونه.. وإذاً فإنَّ الحضور الذاتي المكثّف في المحافل الثقافية قد يوهم الكاتب الذي لا يملك تجربةً ثقافية، فالواقع أنَّ نشاطاً مدرسيّاً كهذا يكفي أن يقدّم سجالاً سالباً ليقابله من جهة أخرى سجالٌ حضاري يأتي كردّ فعلٍ طبيعي على سطوة المعايير المستهلكة للحدِّ من تناقضاتها.
من الخطأ الجسيم أن نجمع بين الأنواع الأدبية وقانون السوق، فربما يصعب علينا تسويق الأدب في ظلّ التطوّر التكنولوجي الجديد، ما دام العالم برمّته قد أصبح قريةً صغيرةً وثيقة الصلة بما يحيطها، وهكذا يجب أن يكون المسوّق دائماً عنصر الإبداع نفسه، وربما هو غير الشاعر في فرضية عامة، على أساس أنَّ القيمة الجمالية تظلّ هي الفيصل في قضايا الأدب.
الكمال الزائف:
إنَّ الاقرار بوجود ثغراتٍ في بنية اللغة الشعرية: يسهّل عملية التأويل داخل صيرورة اللغة ذاتها، فالكمال في جوهره يبقى مفهوماً ملتبساً، ولتقريب المعنى أكثر يمكن أن نستخلص مما سبق أنَّ الثغرات الأدبية قد تزيد من عمق التنقيب كدلالةٍ على البحث عن معالم التطور، ولا غرو من أنَّ انتفاء الأحلام وعدم بلوغها خير مثال على تجسيد هذه الفكرة، لأنَّ شروط تحقيقها تلغي جوهر وجودها الموضوعي، وليس من العجب أن تتوقّف صيرورة البحث الدائم عن المعرفة، وهذا الرأي هو القائم بداهة.. والحق أنَّ إشاعة النصوص الشعرية وتداولها في الدوريات الثقافية والصالونات الأدبية على أساس أنّها أُنموذجات تجسّد الكمال الأدبي المنشود قد تغدو سابقةً على عملية الإبداع كقيمةٍ فريدة، لأنّها وبصراحة تامّة قد تقود مثل هذه الفكرة من وإلى موت النص الضحيّة قبل موت المؤلف المعهود الذي يكشف اقراراً بإحيائه.. ولو دقّقنا في مقاربةٍ قصيرةٍ من منظور علمي لاكتشفنا أنَّ معظم العظماء في التاريخ قد مقت المؤسسة واختار العيش في دائرة الظلّ عن وعي، أمثال: جوليان غراك، وجان جينيه، ورينيه شار، وسالنجر على سبيل المثال.. وهذا النزوع نفسه ينطبق على الشاعر أبي العلاء المعري فضلاً عن الشعراء الصعاليك الذين آثروا العزلة وانحازوا إلى عالم الجمال.
التداول المجاني والعلاقة المركبّة:
يمكن أن نستخلص أنَّ الشعر بادراجه ضمن تعريفات السوق قد يفقد قيمته كمرجعٍ معرفي، لأنَّ موضوع التسويق يضع الشعر حينئذ خارج المشهد الأدبي، وربما يجعل تأثيره سالباً نظراً إلى فقدان رونقه وخصائصه الجوهرية وسماته الجمالية، وفي ضوء هذا المنهج يمكن أن نرى من وجهة النظر العلمية أنَّ من الخطأ الجسيم إقحام الذات في وقائع فضّة لتظهرها وكأنهّا قيمة سالبة، فلا يليق بالشاعر الفذّ انطلاقاً من هذا المبدأ أن يكون جزءاً من ظاهرة هي موضوع إلتباس دائم.. لا نعرف لماذا يلجأ المثقف الجوهري إلى استهجان منجزه إذا افترضنا جدلاً حتمية مشاركته في محافل ثقافية مع معرفته السابقة على أن لا وجود لقارئ حقيقي ولا حتى لمتلقٍ يتابعه بإحساسات صادقة توحي بالضرورة إلى اهتمام جمالي، والحقيقة أنَّ هذا الخلل يحوّل الشعر إلى قيمةٍ سلبية، ولذلك يمكن من باب أولى في هذا السياق أن نعرف سلفاً المناخ الثقافي العام، لأنَّ فكرة المحافل الأدبية تستدعي في الظاهر تأويلاً استثنائياً، نرى أنَّ ظاهرة النشر المجاني تنطوي على مخاطر جسيمة لا سيما في وجود هذا الكم الهائل من الشعراء الرديئين، ربما يكفي من منظورنا أن يضع الشاعر كتاباً أدبياً واحداً أو كتابين فكريين حتى إذا فرضت عليه المرحلة إرجاء كتبه إلى ما بعد موته، فذلك هو الشيء الوحيد الذي يمكن أن يخلّده إذا ما كان يختزل تاريخه الأدبي.
إنَّ الشاعر بمقاييس الحداثة يحتاج إلى قوّة تخيّل توازي بذلك هيبة التكنولوجيا وصلابة الفلسفة، وسمو الفن انطلاقاً من إيماننا العميق بحتمية الشعر في عالم تتهدّده الكوارث، إذاً فالشاعر يظلّ جزءاً من منظومة فكريّة تتطوّر في سياق هذا المعنى، ونظراً إلى المخاطر الوجودية فمن هنا تحتّم عليه المرحلة المحافظة على أصالته بمقدار ما يمكن له أن يحافظ على رؤيته الفكرية، ويعزّزها ويعمّق جذورها، ويبقى هذا الموضوع ضرورياً في إطار العملية الثقافية، وتعقيباً على ذلك نستطيع أن نثبت بالقطع أنَّ الانجرار إلى النشر المفرط كثيراً ما ينتقص من قيمة الأديب الخلّاق، بل ربما قد يشوّه تاريخه المشرق، وقد يكون حضوره المبتذل في المنتديات أسوأ من عملية النشر في حالات الإدمان الثقافي والمغامرة الخاسرة.. وفي إطار هذه الرؤية يقتضي عدم الانسياق إلى أفضية مظلمة تعزله عن واقعه، وبهذا لا ينبغي للشاعر الجوهري حينئذ أن يرهن إبداعه بعوامل من خارج الأدب، ولكيلا يصبح مهرجاً زقاقياً بمعنى من المعاني، وبتعبير أدق لكيلا تضيع أحلامه في خضمّ نصوص ساذَجة لا سيما في وجود هذا التراكم الأدبي الذي لا بدَّ من أن يؤول سلفاً ويدرج في الثقافة على أنّه ليس أدباً، وعلى هذا الأساس يمكننا أن نضع الشاعر البصْري محمود البريكان مثالاً خالصاً لمقاربتنا هذه، والدلالة امتناعه عن نشر أعماله الشعرية في حياته، وقد أثبتت النظريات أنَّ تجذير الشعر في أوساط متخلّفة معضلة حقيقية مآلها النيل من المبادئ الجمالية.. وفي ضوء هذه الفكرة نلاحظ أنَّ الشعر الخالص يتطلّب فهماً عميقاً وقارئاً فريداً من نوعه يفهم ما نجترح من أفعالٍ غريبة مع أنّها في جوهرها ليست أعمالاً غريبةً كما نظن، بل يمكن أن تكون الرؤى الشعرية تراكيب عميقة الجذور يتعذّر تأويلها لأنّها تحتاج إلى عقل متطوّر قادر على استيعابها، فما دام الشاعر مغيّباً من المشهد العام فما نفع وجوده في منظومة لا اعتبار لها إلّا بعد موته.
#كريم_ناصر (هاشتاغ)
Karim_Nasser#
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
جياكومو جيرولامو كازانوفا
-
الصيف البارد
-
طائر يلتقط السلاحف
-
سجالات في التحليل الأدبي: مأزق الثقافة وانحطاط القيم
-
كم حرسنا الذهب
-
سجائر لا يعرفها العزيز بودلير: شعرية التمرّد والأهليّة الجما
...
-
حروب أبجديّة: الأسلوبية اللغوية تجسيد عميق للشعر
-
الصيادون لا يعرفون الغناء
-
شجرة الغروب
-
الرسام
-
لعلّك لا تحب السمندل
-
أظنّ أنَّ المرأة ريح
-
ليت قلب السمكة ورقة
-
لن أطويَ عمري على مغزل
-
تمثال ينهبه إعصار
-
أطارحك الغرام كولد
-
قطار الثلج
-
عن الشعر وانزياحاته اللغوية
-
الطُغراء
-
جلالة الوقت: الصيرورة الشعرية وغرابة اللغة
المزيد.....
-
طالبان تحظر هذه الأعمال الأدبية..وتلاحق صور الكائنات الحية
-
ظاهرة الدروس الخصوصية.. ترسيخ للفوارق الاجتماعية والثقافية ف
...
-
24ساعه افلام.. تردد روتانا سينما الجديد 2024 على النايل سات
...
-
معجب يفاجئ نجما مصريا بطلب غريب في الشارع (فيديو)
-
بيع لوحة -إمبراطورية الضوء- السريالية بمبلغ قياسي!
-
بشعار -العالم في كتاب-.. انطلاق معرض الكويت الدولي للكتاب في
...
-
-الشتاء الأبدي- الروسي يعرض في القاهرة (فيديو)
-
حفل إطلاق كتاب -رَحِم العالم.. أمومة عابرة للحدود- للناقدة ش
...
-
انطلاق فعاليات معرض الكويت الدولي للكتاب 2024
-
-سرقة قلادة أم كلثوم الذهبية في مصر-.. حفيدة كوكب الشرق تكشف
...
المزيد.....
-
مداخل أوليّة إلى عوالم السيد حافظ السرديّة
/ د. أمل درويش
-
التلاحم الدلالي والبلاغي في معلقة امريء القيس والأرض اليباب
...
/ حسين علوان حسين
-
التجريب في الرواية والمسرح عند السيد حافظ في عيون كتاب ونقا
...
/ نواف يونس وآخرون
-
دلالة المفارقات الموضوعاتية في أعمال السيد حافظ الروائية - و
...
/ نادية سعدوني
-
المرأة بين التسلط والقهر في مسرح الطفل للسيد حافظ وآخرين
/ د. راندا حلمى السعيد
-
سراب مختلف ألوانه
/ خالد علي سليفاني
-
جماليات الكتابة المسرحية الموجهة للطفل في مسرحية سندس للسيد
...
/ أمال قندوز - فاطنة بوكركب
-
السيد حافظ أيقونة دراما الطفل
/ د. أحمد محمود أحمد سعيد
-
اللغة الشعرية فى مسرح الطفل عند السيد حافظ
/ صبرينة نصري نجود نصري
-
ببليوغرافيا الكاتب السيد الحافظ وأهم أعماله في المسرح والرو
...
/ السيد حافظ
المزيد.....
|