يسري حسين
الحوار المتمدن-العدد: 1666 - 2006 / 9 / 7 - 10:20
المحور:
الادب والفن
كان صوت الشيخ إمام عيسى وأشعار أحمد فؤاد نجم , بيان الرفض الحاسم لزلزال 1967 , الذي إقتلع جذور اليقين وأحدث شرخا عميقا في روح الأمة , خرج منه العنف والتمرد الحاد , وبرزت من جروحه جميع الأمراض التي أصبحت بمرور الوقت مزمنة وتعشعش داخل خلايا الجسم الضعيف , حيث أصابت النكسة في مقتل المناعة الفكرية والثقافية مما أتاح تقوية الإستبداد , الذي إستفاد من بروز الظاهرة السلفية التي عزلت الناس عن تحديات التنمية وألقت بهم في متاهات البحث في الأصول الدينية .
سيظل حادث النكسة قائما في سجل التاريخ والواقع , لأنه كان إنعطافة دامية في مسار الحلم التقدمي الجميل , ومرحلة السقوط العنيفة التي قامت بتعرية أشياء كثيرة وسمحت بثقافة الضد أن تنمو على سطح مشروع جيلنا الذي تعرض للإنهيار الساحق .
وكل الثقافات التي خرجت بعد 67 , هي الصدى لهذا الحدث سواء كان ذلك بشكل تراجعي يعانق التخلف ويقمع الحريات , أو بطريقة أخرى تصر على مساحة الحلم , والتعلق بطموحات الديمقراطية , والتغني بمشروع نهضة يطل على الغد بأفق التنمية وبناء الوطن ليكون للجميع وليس لفئة ضيقة تحتكر الثروة والسلطة معا .
وكان صوت الشيخ إمام إعلان الرفض لهزيمة ضارية تسعى لقتل روح مصر ودفعها نحو الحضيض وإضعاف قدرتها على الحلم والثورة . وجاء شعر أحمد فؤاد نجم مدوياً متمرداً , غير أن الألحان التي حملت الكلمات كانت لهذا الشيخ الضرير , الذي خرج من المجهول يحمل العود الخشبي , ويعزف عليه الأنغام , التي لا تهدف إلى التطريب وإثارة المشاعر الحسية , وإنما كانت تؤكد على تفجير ينابيع الرفض والإنتماء إلى إرث الوطن والتغني بكفاحه الطويل وإنه قادر على المقاومة والصمود ورفع علم مصر فوق سيناء مرة أخرى . وكانت الألحان والكلمات تنسج في ألفاظ ونغمات قوية تدعو إلى التحرير والحرب وطرد المستعمر من الأرض التي إحتلها في عام 1967 .
وقد تحلق حول إمام ونجم مجموعة متنوعة من المثقفين والأدباء والفنانين مارسوا مهمة سلبية هي الإستماع إلى ألحان تتحدث عن الثورة والحرية والمقاومة . لكن الشعر مع صوت إمام كان له الدور الأكبر في تحريك الطلاب داخل الجامعات للمطالبة بالمعركة والديمقراطية والحريات . وقد تنبهت مصر أن الهزيمة حدثت لغياب الحريات وإبتعاد الديمقراطية عن ممارسات الحياة . وهي تعيد الأن نفس سيناريو الوعي في مقاومة الإستبداد والفساد .
وقد شعر المثقفون المصريون بهزيمة عاتية , وجاء شعرهم ومسرحهم ونقدهم يعبر عن الإنكسار والألم , فقد تركنا الوطن يسقط في قبضة الهزيمة . ولعل قصيدة أحمد فؤاد نجم هي أبلغ تعبير عن الحالة التي جرت عندما سقطت مصر في مصيدة العدوان ولم يملك أهلها قدرة الدفاع عنها أو إنقاذها من هذا المصير المؤلم .
فجّرهذا الإحساس بالعجز والهزيمة الشعور بالإحباط والندم , غير أن ألحان الشيخ إمام المباشرة وكلمات أحمد فؤاد نجم دعت إلى شئ أخر , إلى التحرير وإخراج المحتلين من سيناء , وذلك لم يتم قبل إسترداد ديمقراطية ضائعة وحريات مهدورة .
كان هذا الصوت القوي يواصل في السبعينات مهمة بعث الروح الوطنية وإيقاظ مشاعر الثقة داخل قلوب المواطنين , والإيمان بأن النصر ممكن لو إستطاعت الأمة الإلتفاف حول مشروع واحد يضم الجميع دون إستسلام ويضعهم في خندق المقاومة والتحرير .
كان إمام مع نجم حزب المعارضة الوحيد بعد النكسة الدامية . وحمل شرف هذه المهمة بأمانة شديدة . وظل هذا الثنائي يقود حملة إيقاظ المواطنين من مشاعر الإحباط واللوعة والألم . وأرى أن شعر نجم بكل قصائده منشور وطني مصري من الدرجة الأولى كان له فضل إنقاذ الوطن ودفعه نحو الحرب والتحرر من الهزيمة . ولعل قصيدة نجم التي تغنت بعبور أبناء الفلاحين كانت الأروع في تجسيد إيقاع الوطن وفرحته بهذه البشارة .
وعندما رحل الشيخ إمام , وجد من يسجل دوره الفريد . غير أن بعض الكتّاب هاجموا الرجل بطريقة سخيفة للغاية , مما يؤكد عدم فهمهم لهذه المرحلة التي عاقبت هزيمة يونيو الدامية والتصدي لمشروع السادات الذي باع الوطن للأجانب مرة أخرى ووقع على إتفاقية كامب ديفيد وضرب كل الوطنيين في مذبحة سبتمبر قبل رحيله .
لقد تعرض الشيخ إمام إلى التجاهل من الإعلام الرسمي , وشن عليه بعض الصحفيين هجوما سخيفا لازعا . وإنتقده قبل رحيله الملحن سيد مكاوي وإدعى أن ألحان إمام ضعيفة وغير متألقة . والمثير في الأمر أن المظاهرات التي خرجت في شوارع القاهرة يوم الخميس الدامي كانت تغنى ألحان إمام في رفض الإستبداد وعشق مصر والحرية . وهذا الهجوم الذي تعرض له إمام في حياته وبعد رحيله يكشف عن تدهور خلايا الوعي لدى البعض الذين لا يعرفون التفريق بين الألوان والأصوات والمراحل التاريخية المختلفة .
لقد إنبرى كاتب عربي ليعقد مقارنة سخيفة بين إمام وعبد الحليم حافظ ؟ وشن هجوما ساحقا على ألحان الشيخ وصوته منطلقا من هذه المقارنة الظالمة . ولا أعتقد أن هناك سخافة أكثر من ذلك . لقد كان إمام ملحن عبقري يدرك قوة أنغام الثقافة الشعبية , وتعرض الملحن الضرير للسجن لسنوات طويلة بسبب موقفه العظيم المعبر عن رفض أمة للهزيمة والإستبداد وغياب الديمقراطية وهيمنة سلطة الأمن على مقاليد الحياة .
إن الشيخ إمام عيسى لم يكن بالتأكيد سيد درويش , لكنه بالإرث الفني الذي تركه يحتل مكانة بارزة في عالم الغناء المقاوم والرافض . وألحانه تنطلق من هذه القواعد , ودوره كان مؤثرا في مرحلة سقطت في ظلام دامس , وكان من الضروري أن يخرج يعلن إرادة التحدي ورفض الموت والهزيمة معا , ومقاومة الأسباب التي جاءت بالنكسة والنظام الساداتي الذي ضرب كل الوطنيين وإعتقلهم في هجمة واحدة قبل رحيله بأيام .
ولم يكن إمام , عبد الحليم حافظ , فالمقارنة لاتحدث والتشابه غير موجود ولا توجد مفاضلة فعبد الحليم عبر عن أجيال وأنشد للسد العالي وزراعة الصحراء . والشيخ إمام إنتشل مصر من لحظة يأس وكان العقاب ضاريا إذ تم وضعه في السجن مع نجم عقابا لهما على مهمة المطالبة بالحرية ونبذ الإستبداد حتى يتحرر الشعب وينتصر على العدو الخارجي .
لقد جمع إمام المثقفين حوله في فترة مهمة وحساسة , وأعطى المقاومة دفعة كان جسم الوطن المنهك يحتاجها بشكل بالغ . والمثقفون عقل الأمة وفكرها , وقد تعرض هذا العقل لغارة عنيفة أحدثت الزلزال المروع , وإنهار الجميع إلا شيخ ضرير وجد في كلمات أحمد فؤاد نجم راية المقاومة فرفعها بكل قوة وإباء .
إن الشيخ إمام عيسى , صوت مرحلة عبر عنها بألحان مباشرة تحريضية لا تعرف قواعد التطريب أو الإسترخاء , وكان دور هذا الرجل ضروريا , وأقل ما يستحقه هو تسجيل هذا الموقف العظيم . وأعتقد جازما ان التاريخ المحايد الذي لا يعرف المناورة سيذكر إمام عيسى , الضرير الذي تصدى بعوده وشعر أحمد فؤاد نجم لنكسة عارمة هزت هذا الوطن ولا تزال منذ عام 1967 .
وستبقى ألحان إمام محفورة في وجدان هذا الوطن لأنها تعبر عن لحظة وعي تكشف عن جذور المقاومة والرفض والإنجذاب الشديد لرياح الحرية ونسيم الديمقراطية .
وتعانق مصر هذه الأيام مجددا ألحان إمام وشعر أحمد فؤاد نجم . ويجد المصريون في معركتهم ضد الإستبداد هذا الموقف لرفع راية الحرية فوق الطغيان وإحتكار السلطة ورفض تداولها.
إن نجم يعود مرة أخرى إلى مرحلة الشباب ويقف في الميادين ليلقي قصائده العاشقة لوطن حر غير مكبل بقيود الديكتاتورية والتسلط وإرهاب أجهزة الأمن التي سحلت المصريين في الشوارع بوحشية مقززة . ورغم ذلك ستنتصر الحرية عن الإستبداد , كما إنتصرت مصر على الهزيمة وعبرت القناة لتطهير جسدها من إثم العدوان والإحتلال .
#يسري_حسين (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟