|
السودان: في الذكرى 66 لانتفاضة جودة 1956 ومسألة -الدولة المدنية-
محمود محمد ياسين
(Mahmoud Yassin)
الحوار المتمدن-العدد: 7176 - 2022 / 2 / 28 - 21:30
المحور:
ابحاث يسارية واشتراكية وشيوعية
أطلت على الشعب السوداني في شهر فبراير 2022 الذكرى السادسة وستين لانتفاضة مشروع جودة الزراعي في 26 فبراير 1956 والاحداث المأسوية التي رافقتها. فقد انقضت ستة وستون عاما على موت مئات من مزارعي القطن السودانيين بمشروع جودة الزراعي على الضفة الشرقية من النيل الأبيض على بعد 100 ميل محمود جنوب مدينة كوستي. وكل الذنب الذي ارتكبه المزارعون هو أنهم نهضوا مطالبين بحقهم في تنظيم أنفسهم في اتحاد ومحتجين على شراكة ظالمة جمعتهم مع أصحاب المشروع. ولكن موقف المزارعين لم يرق لأول حكومة” وطنية “حيث قمعتهم بالسلاح الناري وحبست من لم يصرعه الرصاص في عنبر صغير تابع لحامية للجيش في مدينة كوستي ما أدى إلى موت المئات منهم نتيجة الاختناق الذي ضاعف من شدته استنشاق المحبوسين مادة المبيد الحشري ”الجمكسين“، المخزنة بالمحبس- (راجع مقال الكاتب بعنوان ”في الذكرى الخمسين لجودة وعنبر كوستي“ بموقع الحوار المتمدن). وتجدر الإشارة الى انه لطالما ظلت القوى السياسية التقليدية والنخب الدائرة حولها التقليل من شأن انتفاضة جودة وتبخيسها؛ وعندما يفرض عليهم سياق ما تذكرها، يشيرون اليها ب ” أحداث جوده“. لكن الدروس والعبر التي تعطيها لنا ذكرى جودة مازالت صالحة للاقتداء بها حتى يومنا هذا. وسبق الانتفاضة نشاط مكثف لتوعية المزارعين بمنطقة النيل الأبيض قام به الحزب الشيوعي السوداني (الموحد)؛ ومن الشيوعيين البارزين في قيادة ودفع ذلك النشاط كان هناك الطاهر عبد الباسط ومكي عبد القادر والمزارع العبيد عامر (شيخ العبيد وهو من قرية ام هاني بالقرب من مدينة كوستي). وجدير مقارنة نشاط أعضاء الحزب آنذاك بالتجريبية التي تمارسها القيادة الحالية لهذا التنظيم ودورانه حول نظرية الرأسمالية الطفيلية التي وصفها أحد المثقفين بأنها صارت أضحوكة، ولكن شر البلية ما يضحك؛ فالنظرية رغم مزحتها، الا انها تسبب ضررا كبيرا يتمثل في تشويه النظرية والمنهج الماركسي. ومن الدروس التي تناولناها دائما هي مسالة طبيعة الدولة السودانية الحديثة وعلاقتها بالحركة الشعبية والتنظيمات المطلبية التي تمثلها؛ فالديناميك الذي صبغ سياسة الحكم” الوطني“ في هذه العلاقة عبر العقود الستة الماضية سلب الحركة النقابية من الاستقلالية التي تمكنها من النضال لحل المشاكل والمظالم الكبيرة التي تواجه العمال والمزارعين والعمال الزراعيين، فيما يتعلق بالحقوق والأجور في القطاعين العام والخاص. وذكرنا ان محاربة الدولة السودانية، التي أعقبت الحكم الاستعماري المزال في 1956، للحركة النقابية للعمال والمزارعين والعمال الزراعيين ظلت قطعية اذ صارت معاداة اتخذت أشكالاً عدة من التنكيل. وبلغت هذه العداوة ذروتها في العهدين العسكريين لنظام 25 مايو (1969-1984) وحكم الإنقاذ للإسلاميين (1989-2019). فالنظامان سلكا أسلوب تفتيت الحركة النقابية وشلها تماما؛ فمثلا في حقبة حكم 25 مايو سارت الحكومة على خطى الحكم العسكري الأول ”الجنرال عبود“ (1958-1964) والغت قانون العمل النقابي ل 1948 تعديل 1956 بغرض إحداث الشرخ في الحركة النقابية؛ والمفارقة أن قانون 1948 وضعته سلطة الاحتلال البريطاني وان العمال استجاروا به في 1964 ورأوا فيه عدلا أكثر من قوانين الحكم ”الوطني“ وذلك عندما أدى تحركهم لتفعيله عقب انتفاضة أكتوبر التي أطاحت بالحكم العسكري قبل أن يعود الحكم العسكري الثاني، مايو، ويلغيه مرة أخرى في 1971. أما في عهد الإنقاذ الإسلامي وعلى هدى سياسة التمكين، التي هدفت لسيطرة الاسلاميين على أنظمة الحكم القائمة واستبعاد مشاركة الغالبية من الشعب في إدارة البلاد وفي الشأن العام بشكل عام، تمكنت الحركة الإسلامية من تقييد الحركة النقابية واحتواءها من خلال نقابة المنشأة التي وضعت فئات متباينة مصالحها في نقابة واحدة الأمر الذي أعاق متابعة قضاياها ومطالبها المتمايزة بصوره فعالة. كما فشل الحكم الانتقالي الحالي، منذ تكوينه في 2019 وحتى الآن بعد انقلاب 25 أكتوبر 2021، في تحقيق الاستقلالية المسلوبة للحركة النقابية؛ ولم يكن الحكم الانتقالي الا امتدادا، بشكلا أجمالي، للنظام السابق. وعَنَّ لي في هذه الذكرى ان اضيف، بإيجاز، للحديث والتوصيف عن طبيعة الحكم السوداني القائم في 1956، الذي نكَّلَ بمزارعي جودة. وتجئ المحاولة في وقت يتناسب مع دعوة في الساحة السياسية تنادى بما يسمى” الحكم المدني“. والدعوة لحكم مدني عٙنٙى أصحابها بها، في سياق ما يجرى في الساحة السياسية، أنها غير عسكرية او ثيوقراطية. ان الكلام عن دولة مدنية لا معنى له؛ لا يوجد شيئا اسمه دولة مدنية اذ ان الدولة سياسية والمجتمع المدني هو ما تتأسس عليه الدولة (السياسية)، فلا يجوز الخلط بين هذين المفهومين والا صار الحديث عن دولة مدنية بمثابة تناقض في الالفاظ (contradiction in terms)، وحتى علم السياسة وعلم الاجتماع السياسي البرجوازيين يدركان هذه البديهية!! والفئات المتصارعة في المجتمع المدني هي ما يحدد، في نهاية التحليل، وجهة الدولة. وقد تلجأ القوى السياسية المتسيدة من اجل توسيع كبتها وقوة بطشها بالحركة الشعبية تفعيل قوانين الطواري وحتى وضع القرار السياسي بيد حكم عسكري أكثر قدرة على تقييد الحراك الشعبي. لكن الدعوة لدولة غير عسكرية او ثيوقراطية من دون تعيين محتواها دعوة تقع في حيز التجريد. فالتصور المصاحب لهذه الدعوة يتمثل في تحقيق حقوق المواطنة والعدالة والمساواة وقوانين عدم التمييز ومرجعيات حقوق الانسان، لكن كل هذه الحقوق صارت مجرد كليشيهات ثابتة حتى في برامج ودساتير أكثر الأنظمة السياسية سلبا لحقوق مواطنيها ما يجعلها تخلو من أي مصداقية؛ وهكذا يتم التجريد بالتحدث عن الحقوق بإغفال تام لقضية التغيير الاجتماعي المادي الذي يكسبها (الحقوق) معناها الحقيقي ونبلها وحيويتها ويزيل عنها الابتذال والتكرار. والآن وعلى خلفية هذه الفكرة عن طبيعة الدولة، فاذا نظرنا للحكم القائم في السودان في عام 1956، فنجد أن "الحكم" الذي قتل المزارعين بالرصاص وبمبيد الحشرات "الجمكسين" حكما ليس عسكريا او ثيوقراطيا؛ وان الدولة السودانية لم تتغير طبيعتها عن الدولة التي تركها الاستعمار البريطاني بعد جلائه، وأي تغيير في أجهزتها وهياكلها جاء، لحد كبير، شكليا لم يمس جوهرها الاقتصادي-الاجتماعي كدولة التف عليها المستعمر وجعلها كيانا رجعيا تابعا لمشيئته. فدولة الاستعمار المباشر خلقت واقعا اجتماعيا متخلفا واقتصادا تابعا حافظت عليه قوى اجتماعية محلية؛ وهذا ما سارت عليه الحكومة السودانية في 1956 برئاسة إسماعيل الأزهري التي أعقبت الإدارات البريطانية، بعد جلاء الاستعمار ان السودان بلد فقير ويعيش في حالة من التخلف السياسي والاجتماعي والثقافي، ومن شان الدعوة لما يسمى بالدولة "المدنية الديمقراطية" طمس لطبيعة الدولة الموروثة من العهد الاستعماري المباشر كدولة تابعة تستمد قوتها وتسيدها السلطوي بإسناد من الخارج الذي يمنحها الشرعية من أجل تكريس التبعية. وهكذا فإن التحدي الاساس الذي تواجهه الثورة السودانية يتمثل في التحويل الجذري للدولة لكي تقوم بإنجاز مهمة التحرر الوطني وتحقيق الديمقراطية السياسية والاقتصادية.
#محمود_محمد_ياسين (هاشتاغ)
Mahmoud_Yassin#
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
فولكر بيرتس: الأَبْلَه والأحمق
-
السودان: مبادرة الهيبك (HIPC) وسياسة استدامة الدَيْن
-
لجنة تفكيك نظام الإنقاذ السودانى: المساءلة القانونية والنقد
...
-
الاتحاد الأفريقي وتعزيز شرعية الكيان الصهيوني
-
السودان: الجيش وحرب الفشقة والبيان الفضيحة
-
مصر الرسمية ليست صديقة للسودان
-
إنها الرأسمالية يا عزيزي
-
مقاطعة إسرائيل : السودان أولاً
-
السودان: أجمل وأبشع ما قيل في مجرى انتفاضة ديسمبر
-
السودان: مسألة الحرب والاقتصاد لدى أرجوزات المجلس السيادي
-
هل يكون السودان مقرا للقيادة العسكرية الأميركية في إفريقيا (
...
-
الحكم الانتقالي يواصل تسهيل إحكام سيطرة مصر على السودان
-
الازمة الاقتصادية الرأسمالية جراء الكوفيد 19
-
ممارسة التضليل حول علاقة فيتنام بالبنك الدولي (1-2)
-
الانتخابات الامريكية: دستور 1789 على المحك
-
السياسة والجيش في المملكة العربية السعودية
-
السودان-الدولة الكتشنرية: مسارها ومشروع وصاية بعثة يونبيمس(N
...
-
الفهم المبتذل لقضية تطبيع السودان مع إسرائيل
-
صفقة القرن وتجديد الحلم الإسرائيلي القديم
-
السودان: فتح نيران جائرة على لجان المقاومة
المزيد.....
-
غزة: لماذا تختار الفصائل الفلسطينية أماكن مختلفة لتسليم الره
...
-
نبيل بنعبد الله يعزي في وفاة شقيق الرفيق السعودي لعمالكي عضو
...
-
الحزب الشيوعي العراقي: تضامنا مع الشيوعيين السوريين ضد القر
...
-
موسكو: ألمانيا تحاول التملّص من الاعتراف بحصار لينينغراد إبا
...
-
مظاهرات بألمانيا السبت وغدا ضد اليمين المتطرف
-
النسخة الإليكترونية من جريدة النهج الديمقراطي العدد 589
-
تحليل - فرنسا: عندما يستخدم رئيس الوزراء فرانسوا بيرو أطروحا
...
-
برقية تضامن ودعم إلى الرفاق في الحزب الشيوعي الكوبي.
-
إلى الرفيق العزيز نجم الدين الخريط ومن خلالك إلى كل مناضلات
...
-
المحافظون الألمان يسعون لكسب دعم اليمين المتطرف في البرلمان
...
المزيد.....
-
الذكرى 106 لاغتيال روزا لوكسمبورغ روزا لوكسمبورغ: مناضلة ثور
...
/ فرانسوا فيركامن
-
التحولات التكتونية في العلاقات العالمية تثير انفجارات بركاني
...
/ خورخي مارتن
-
آلان وودز: الفن والمجتمع والثورة
/ آلان وودز
-
اللاعقلانية الجديدة - بقلم المفكر الماركسي: جون بلامي فوستر.
...
/ بندر نوري
-
نهاية الهيمنة الغربية؟ في الطريق نحو نظام عالمي جديد
/ حامد فضل الله
-
الاقتصاد السوفياتي: كيف عمل، ولماذا فشل
/ آدم بوث
-
الإسهام الرئيسي للمادية التاريخية في علم الاجتماع باعتبارها
...
/ غازي الصوراني
-
الرؤية الشيوعية الثورية لحل القضية الفلسطينية: أي طريق للحل؟
/ محمد حسام
-
طرد المرتدّ غوباد غاندي من الحزب الشيوعي الهندي ( الماوي ) و
...
/ شادي الشماوي
-
النمو الاقتصادي السوفيتي التاريخي وكيف استفاد الشعب من ذلك ا
...
/ حسام عامر
المزيد.....
|