في نيسان الماضي كنت أقف، كما يقف طفل، أمام جنازة أبيه في مقبرة السيدة زينب في دمشق، مع الصديق كريم الزيدي، أمام ذلك الإنسان والمفكر الكبير هادي العلوي، خجلا لأني واقف، وهو نائم، لذلك جلست وطلبت ورقة من كريم استلها من دفتر خاص مخصص للرسائل الغرامية وكتبت العبارة التالية ووضعتها بين زهور قرب الشاهدة:
( أيتها الأيائل لا تيقظي الحبيب النائم) وهي جملة من الكتاب المقدس.
كان الصمت صلبا في تلك المقبرة، في ظهيرة دمشقية ساخنة، لكن الكلام كان متروكا للعين، وعلى من يمر من أمام قبر شيخ المعرة، المتصوف، والماركسي النجيب، وآخر مثقف عراقي أعاد للكلمة هيبتها وجمالها وكرامتها، أن ينحني قليلا ويسلم على النائم( على مقربة منه كان ينام شاعرنا الكبير الجواهري، وعلي بن سعدي يوسف، والشاعر مصطفى جمال الدين).
وكانت المفارقة الأخرى : إن منظف المقبرة كان مع كريم الزيدي في غرفة واحدة للإعدام!
قلت بقلب متوجع:
ـ أية مصادفة هذه، كريم، حين تلتقي في مقبرة معي أنا الهارب، ومع رفيق لك في الزنزانة، و الموتى شعراء أو كبار الكتاب؟!
الهارب يزور المفكر الشريد!
ومنظف المقبرة يتحدث مع كريم عن أيامهم في السجن. ويشكرون الأقدار التي أنقذتهم. لكن أين يجري هذا الحديث؟ في مقبرة، وأمام قبر الجواهري، والعلوي، وعلي، وجمال الدين؟!
وفجأة قال منظف المقبرة:
ـ هنا يرقد صديقنا( لم أتذكر أسمه) الذي كان معنا في نفس القاووش، جاء هنا، ومات قبل أيام!
سألته:
ـ هل توجد زهور للبيع؟
ـ لا مع الأسف.
وعادت بي الذاكرة إلى نسيان من عام 1989 في سجن كويتة الباكستاني يوم وصلتني برقية من المفكر الكبير من دمشق بكلمات قصيرة لكنها كافية لكي تحول ليل الزنزانة إلى نهار( نحن معك ونشاطرك كل أحزانك).
وبعد أيام من هذه البرقية، كنا على موعد، نحن الأكثر من مائة سجين عراقي كانوا قد عبروا الحدود الايرانية الباكستانية مع قدر أرعن، وخطر رهيب، حين اتفقت الحكومة الفيدرالية في إقليم بلوجستان الباكستاني مع السفارة العراقية في اسلام آباد، على تسليمنا على شكل وجبات إلى النظام العراقي.
تلك كانت واحدة من أمر تجارب المنفى.
تم ربطنا بالسلاسل في السجن، وأخذنا، مربوطين، إلى محطة قطار كراجي /كويتة ( كنا 35 سجينا) وفي عربات القطار تم ربطنا كل أربعة أفراد في سلسلة واحدة تكون نهايتها مربوطة بعامود عربة القطار بصورة مهينة لا تحدث مع الحيوانات، وعلمنا فيما بعد أن المخابرات العراقية كانت معنا في العربة بثياب المواطن الباكستاني التقليدية، في أكبر صفقة تسليم لمعارضين جرت في تاريخ العالم حتى ذلك الوقت.
ماذا نفعل؟
هذا هو السؤال المرير الحائر لسجناء عزل كتب عليهم الموت الوشيك ويتجه بهم قطار مجنون، شاحب، عتيق، عبر الأراضي الباكستانية الجرداء إلى مصير أسود ومحتوم( تفاصيل رحلة القطار المشؤومة تلك منشورة في جريدة" الغد الديميقراطي" في نيسان 89( البطولة في رحلة موت) بقلم أبو شذى، ولم تكن شذى قد ولدت إلا في 2001 في النرويج!).
كان يجب أن نفعل شيئا. لكن ماذا نفعل والسلاسل تكبس على معاصمنا بقسوة ووحشية؟ قلت للأصدقاء الذين كانوا معي في القيد المشترك( وكان هناك سجناء في عربات أخرى) وهم الاخوة صلاح وعلي ورحيم( يعيشون في أوسلو اليوم!) أننا نتجه إلى الموت وإلى إعدام مؤكد ويجب أن نفعل شيئا، خاصة ونحن كنا هاربين في إيران في زمن الحرب، ولن ننجو أبدا من مجزرة رهيبة ستكون في انتظارنا في بغداد.
لكن ماذا نفعل؟
بصعوبة شرعت أكتب في ورقة قدمها لي أحد هؤلاء مع قلم رسالة إلى السفارة السورية في إسلام آباد مختصرة ومركزة( السيد السفير السوري المحترم: نحن مجموعة من اللاجئين العراقيين تم إخراجنا بالقوة من سجن كويتة إلى مكان مجهول وسنسلم إلى العراق. رجاءً إرسال هذه الرسالة فورا إلى السيد هادي العلوي في دمشق للتدخل العاجل).
وبما أن القطار قديم، والطريق طويل يحتاج إلى أكثر من يومين للوصول إلى كراجي، فقد تم وضع هذه الرسائل في كل المحطات التي نمر بها، وبصورة سرية، وعن طريق أشخاص باكستانيين مسافرين مع نقود قليلة كثمن للطوابع وهدية أيضا( لم يكن يسمح لنا بالنزول).
( بعد اشهر قال لي القنصل السوري في إسلام آباد وهو رجل شهم وطيب أنه أستلم رسائلي وأرسلها فورا عن طريق الفاكس إلى دمشق).
وفي دمشق خلال زيارتي الأخيرة لبيت الشيخ والمعلم والمناضل هادي العلوي قالت لي السيدة زوجته أم حسن ( لم ينم طوال ثلاثة أيام حتى علم بإخراجكم من السجن وفشل عملية التسليم)!
في كراجي كانت هناك ملحمة عذاب أخرى مريرة. كنا نمشي طابورا من السجناء أمام الناس المذهولين، مربوطين بالسلاسل، حتى سجن كراجي المركزي.
كان مدير السجن صريحا معنا تماما وقطع كل شك. قال:
ـ أنتم هنا بناء على طلب من حكومتكم. ستعودون بطائرة خاصة جاءت خصيصا لكم وهي موجودة الآن في مطار كراجي....!
وقبل أن يكمل كان شحوب الموت قد حل زائرا على وجوه الجميع: طائرة خاصة، وبلا شك قوات خاصة، وسنقتل داخلها من الرفس والتعذيب وكل الاحتمالات.
( قالت أم حسن أن المرحوم قد أقام أمام السفارة الباكستانية طوال تلك الأيام وكان قد أصدر بيانا وقع عليه أكثر من عشرة أحزاب ومنظمات وتجمعات عراقية وأرسل للبرلمان الباكستاني بيان يحتج فيه بشدة على هذا الإجراء ويطالب بإطلاق سراحنا فورا، وأن الكاتب رياض العطار ـ في السويد حاليا ـ كان يحمل أحيانا رسائل المرحوم العلوي إلى المنظمات والسفارات الأجنبية ومنظمات حقوق الإنسان).
في السجن طلب منا العودة إلى العراق فرفضنا.
دهش مدير السجن قائلا:
( قبل أيام كان هنا مجموعة من السجناء السريلانكيين يريدون العودة فلم نجد طائرة تقلهم. انتم طائرتكم موجودة وترفضون. لماذا ترفضون؟!).
لم يعرف المسكين أي شيء. قلنا نريد ممثل الأمم المتحدة في كراجي. جاء بعد ساعات السيد نيك جاندرفون مسؤول مكتب الأمم المتحدة في المدينة مرتبكا جدا.
قال بالحرف الواحد:
ـ هناك محاولة وصفقة لتسليمكم إلى العراق خلال 24 ساعة وقد أنجح أو لا أنجح. أعطوني فرصة!
خلال هذه الساعات كنا نعاني الموت والحر والهاجس والقلق والتوجس، وكنا قد قررنا الاعتصام داخل قاعة السجن وأغلقنا الباب وأعلنا الإضراب عن مقابلة أي شخص عدا ممثل مكتب الأمم المتحدة السيد جاندرفون.
( قالت لي السيدة أم حسن أن المرحوم كان على صلة شخصية مع شخصيات باكستانية في الحكومة في ذلك الوقت وقد بذل جهدا مضنيا ).
وكنت أعرف أنه على معرفة بالسيدة نصرت بوتو زعيمة حزب الشعب الباكستاني وأم بونازيرت بوتو رئيسة الوزراء يومذاك، وزوجة ذو الفقار علي بوتو. في واحدة من رسائله لي قال: يمكنك الذهاب إلى السيدة نصرت بوتو وتقول لها أن مرتضى حيران يسلم عليك!.
وكنت في السجن حافيا، بثياب ممزقة، بلا مال، وخجلت أن أقول للحرس أني أريد مقابلة السيدة نصرت بوتو، فربما سأرسل لمصح عقلي حالا!
لكني إلى اليوم لا أعرف من السيد مرتضى حيران!
هل هو الاسم الذي تعرفه به السيدة نصرت؟!
بعد يومين من القلق والانتظار جاء السيد جاندرفون ليقول فرحا:
ـ تم وقف عملية التسليم!
ركضت بلا شعور من غرفة الإدارة نحو قاعة السجناء حيث كانوا يراقبون هذه اللحظات العصيبة عبر الشبابيك وقفزت في الهواء تلك القفزة التي لم تتكرر في حياتي وأنا أصرخ:
ـ حرية، حرية، حرية!
وحين وصلت القاعة تمددت فوق الأرض ونام كل السجناء فوقي وهم يعتقدون أني جننت:
ـ تكلم؟
ـ تسليم؟
ـ ماذا حدث؟
قلت:
ـ فشلت اللعبة وسنعود إلى سجن كويتة اليوم!
اندلعت صيحات فرح، وعناق، ودموع:
ـ إلى كويتة!
ـ إلى كويتة!
كنا فرحين بالعودة إلى السجن الأول!
رافقنا الصديق الرائع نيك جندرافون، هذا الآسيوي الباسل، إلى محطة القطار خوفا من الاختطاف. وحين ودعنا لم أنس أن أقول له هذه الكلمة:
ـ سوف لن ننساك أبدا. شكرا أيها الصديق.
وعدنا في قطار آخر، عبر الأراضي الشاحبة، مع شرطة بسطاء، شرعوا ما أن مشى القطار بضعة كيلو مترات، في تدخين الحشيشة والغناء وناموا وبنادقهم تتساقط واحدة إثر الأخرى تحت مصاطب العربة!
وقبل أن نصل محطة كويتة ، بال أحد الشرطة فقال لي الصديق علي ضاحكا:
ـ خاتمة عبثية تليق بفيلم هندي!
قالت لي السيدة الرائعة أم حسن في دمشق العام الماضي:
ـ حين علم المرحوم بعودتكم نام تلك الليلة كطفل مسرور!
كنت أريد أن أتحدث عن هذا الجانب الإنساني المدهش في سيرة المفكر والإنسان هادي العلوي. هذه التفاصيل الحميمة هي التي تصنع الموقف الحقيقي لمثقف نادر جميع بين:
الكلمة والموقف.
بين الاشتراكية وبين المشاعية.
بين كونفشيوس وبين ماركس.
بين التاو الصني وبين الصوفي البسطامي.
بين تعاليم المحبة الحقيقية للبشر وبين صلابة الرأي.
لم يمسك نقودا بيده. كان يعتبرها نجاسة. وكان يقول في كتبه وفي جلساته:
لاشي يفسد غير المال والسلطة.
والسلطة أنواع:
سلطة الحاكم، وسلطة المعايير، وسلطة رجال الدين، وهؤلاء كان يخافهم كثيرا، حين يخرجون من قوله( عليكم البلاغ وعلينا الحساب) وكان يؤمن بسلطة الفقراء.
لم أجد في بيته مالا ولا أطيانا. كان الشيء الوحيد الذي ملكه المعلم هو كرسي سقط منه في أخر لحظة( وضعته في موقعي الشخصي رمزا للبراءة وعفة الضمير) ومجموعة كتب، وقصيدة مهداة من الشاعر عبد الإله الياسري على الحائط، ونظارتين، وعصاه، وهدية كريستال من طلابه الصينيين هدية له ووفاءً لذلك المعلم الذي كان يرفض استلام راتبه الشهري من جامعة بكين وتتولى أم حسن المهمة الشاقة، قرر الأبي أن تغطى لكي لا يراها، ووجدتها مغطاة حتى اليوم، وكان يرفض استلام أية مكافأة نقدية على مقالاته.
لا تنسوا المعلم هادي العلوي هذه الأيام.
الرجل الذي أحبنا بصمت وأنقذنا من موت وشيك دون أن يعرف أحدا منا.
آخر عملاق عراقي نائم في السيدة زينب.
أيها الذاهبون إلى العراق، خذوا معكم هادي العلوي.
ويا أيها المارون بقبر السيدة، لا تزعجوا الحبيب النائم!