|
قراءة الأستاذة الأديبة الناقدة منيرة الحاج يوسف، من تونس في قصيدة (كُفِّي اللّوم) للشّاعر العراقي مديح الصادق، من كندا.
مديح الصادق
الحوار المتمدن-العدد: 7175 - 2022 / 2 / 27 - 00:41
المحور:
الادب والفن
يتحول غرض الغزل في شعر الصادق إلى طقوس إيمانية تأخذ القارئ في جو من العشق الصوفي والنقاء الروحي، فيسمح لنفسه ألا يغيب، رغم أن الخطاب الشعري، مباشر ثنائي، واضح، وصريح ولا يقبل ثالثا إذ يدور بين (أنا) الشاعر وحبيبته من خلال ضمير الخطاب (أنتِ) ويجد هذا القارئ نفسه مأخوذا بسحر الكلمة وفخامة الحرف وجلال الصورة ورفعة المقام، فيستقر في النص مستمتعا بما يدور مرة، ومرة متوجعا؛ فالشاعر يترجّى الحبيبة أن تكفّ اللّوم، ويذكّرها بما كان منه إزاء حرفها، وهو في عمق ما يقول يذكّر بصادق وفائه إزاء إلفها ليصبح الحبّ والحرف وجهين لعملة واحدة وهي صورة مستحدثة في علاقة الحبيبين خاصّة هذا التّعالق مابين ما تكتب وما يردّ هو به عليها، مسحورا، مسلوب اللّب غارقا في بحار من الحبّ، اقتضت أن يغوص في أعماقها ليستخرج النادر من الأصداف والمرجان من عبارة حبيبته فيحوّلهما مهرا للعشّاق على مدى الدّهر، ويتشّتت القارئ في رحلة العشق هذه ما بين الفاعل والمفعول به فكلاهما ساحر وكلاهما مسحور يدعم ذلك تردّد الإسناد بينهما فمرّة هو الرّاجي والملام، لأنه بحبّها مغمور، وبحرفها مبهور، وبلومها مقهور ومرة يستعمل فعل التّحويل (جعل) ليثبت لها أنّه حوّل بذور اللغة أغراس زهر تنث أحلى عطور، و صاغها لتكون جوهرا وياقوتا وزبرجدا، يتحلّى بها العشّاق، فليس أعمق من الحرف يطفئ لهفة المشتاق، ومن به لوعة الفراق. ويتحوّل في مقطع ثان ليصوّر جمال الحبيبة التي عشق تفاصيلها فجعل عينيها، قبلة وثغرها البسام محجا لمقلتيه، وحياء يظهره تورد خدّيها خشوعا في قلبه الذائب بهواها ويتكثّف معجم القداسة وتطغى الرّوحانيّات فكأنّنا إزاء عشق صوفيّ، أبعد ما يكون عن هوس العاشق بالجمال الجسدي والشهوة، بل فيه من السّمو والرّفعة ما اقتضى أن يحفر في القلب، وفي الدّرب، على الجدران وفي مفارق الطّرقات ولكأنه علامة يستدلّ بها العشّاق ليتبيّنوا السّبيل، وفي غرفة النّوم حيث يرتاح ويتخفّف من أتعاب اليوم، وعلى الوسادة، ولا نستغرب أن تحمل كل الأمكنة العامّة والخاصّة اسم الحبيبة فهي الملاذ وهي آية تدعوه إلى القداسة والعبادة. اسمها ورسمها، وصوتها وصمتها وكلّ ما فيها عزفه اللّيلي وأنيس سهاده، بعد إذ عز ّرُقاده، ويعترف انها نسفت ما سبق من عزف ونزف، وحرف، وما نهله من مناهل العشق القديمة وما همس هو به لأخريات، وما تسجل في وجدانه من ذكريات ليعيد القارئ مرة أخرى لتشتّته بين من منهما الساّحر ومن منهما المسحور، من المعلّم ومن المتعلّم، ومن العابث ومن المتألم، من العاقل ومن أتلف العشق عقله. وقد ضمن الشاعر قصيدته تناصات كثيرة من خلال ما أورده فيها مما يحيل على قصة قيس بن الملوح وجنونه بمن أحب، أو نزار قباني في علاقته مع المرأة الحبيبة عامة. يرسم الشاعر باللّغة صورة للمعشوقة تفوق الخيال إذ ينتقل بنا من معجم العقل والقداسة إلى معجم الجنون والدناسة فهي سارقة، عابثة، شقية، لاهية شوّشت بوصلة الشّاعر وأغرقته في يمّها بعد أن سرقت مجذافه وفوق كل ذلك يراها الأجمل على الإطلاق وهو تفضيل له ما يبرره فقد استحسن حاله؛ وإن كان القارئ قد تعاطف معه وانجرف مع تيّار اتّهامه الظّاهر الذي وجّه فيه أصابع اللّوم إلى حبيبة هي الخصم والحكم، وصوّر ما آلت إليه حاله من هوان التّسليم بالقدر وما به حكم قاضي الهوى ولكنّه في حقيقة الأمر مجروحة جوارحه مهتز ّصرحه، مضطرمة نيران كبريائه. لقد نجح السّارد نجاحا باهرا في جعل هذا النّص منفتحا على أكثر من جنس أدبي فهو وإن كان شعرا بما احتواه من صور بديعة ومنسوب عال من شعرية الخطاب فقد نوّع الأساليب الفنّية بين الخبر المثبت والمنفي، وبين الإنشاء فكثّف الطّلب فمرّة كان راجيا ومرّة آمرا، كما توسل أسلوب التّعجب، والنّداء. واستخدم معجم الغزل وما اتّصل به من معايير جمال المرأة كما طالعتنا في نصوص القدامى والمحدثين؛ فالعينان نافذة العشاق، وصفّ اللّؤلؤ والثّغر البسّام زاد العاشق، لكنّ الجديد هو هذا الدّور الذي يسنده إلى الحبيبة؛ فهي جمع في صيغة المفرد، ساحرة، شاعرة، آمرة بكل ما يحتاجه العاشق ومالا يحتاج، عامرة بكل شيء، لا تشبه النّساء فهي فوق اللّحم والدّم، امرأة فوق الخيال، فيها سحر وجمال ودلال، تربكنا، بما أسند إليها الشاعر من خصال وغريب فعال، لكنه يرغمنا على الانبهار بها أفليست هي من حرّكت قريحته ليكتب في الغرام أعذب موّال؟ لعلّها الوطن البعيد القريب، أفتكون بغداد الفاتنة؟ أم لعّلها فكرة عميقة ساكنة في خبايا الروح وبالقلب لصيقة، إذ من الصعب أن نفصل بينه وبينها، ضميران متّصلان لا ينفصلان، محفورة، منقوشة، مغروسة، مهموسة فهي الأرض والشجر والحجر، وهي الماء والصفاء والعناء، معشوقة بنكهة الحياة في تقلباتها، مرة ضاحكة مستبشرة ومرة ضاربة، سادرة، عليها غبرة. و هو كذلك قصة مكتملة المقومات السردية من شخصيات وأحداث وزمان ومكان، بل التسريد فيها يميل إلى ما بعد الحداثة بما احتوى من انزياحات الشكل والمضمون والدلالة، فالمجازات التي وظفها ترفع مستوى التكثيف ناهيك عما اختاره من وسائل وصفية عديدة مكنت من الكشف عن مهارة الشاعر في استخدام نوعَي الجملة: (الفعلية، والاسمية) وتوظيف ذلك في إبداع صور جديدة بل فريدة في علاقة العاشق بمعشوقته، تتداخل فيها المعاجم وتتنوع الحقول الدلالية وتتوالد المعاني وتحسن الرموز، ما يُحدث نشوة التلقي لدى القارئ. نصّ من أبدع ما جادت به قريحة شاعرنا القدير، نلمس فيه براعة التعبير في مختلف ما تميز به من صنوف الأدب. الشاعرة الناقدة منيرة الحاج يوسف، من تونس. النصّ: كُفِّي اللومَ... أرجوكِ؛ فإنِّي بِحرفِكِ الساحرِ مأخوذاً دُهشْت عليهِ ما توجَّبَ مِن فيضِ اليراعِ وما يستحِّقُ مِنِّي آثاراً ترَكت على طبقٍ مِن الماسِ قدَّمتُهُ لِناسِي، وزوّارِ مَحفلِي جعلتُ ممّا نظمْتِ زهراً، وجواهرَ على صوامعِ العشّاقِ في الأرضِ وحيثُ يسكبونَ رحيقَهُم، نثرْت في بحرِ عينَيكِ وجدْتُ قِبلتي وصفِّ اللؤلؤِ إذْ تُشرقُ الشفتانِ تضجُّ الدماءُ على خدَّيكِ مِن خجلٍ توضَّأتُ بما فاضَ من عَيني خاشعاً بينَ يدَيكِ صلَّيت حفرْتُ اسمَكِ في خافقِي على الحوائط قد نقشتُهُ في الأزِقَّةِ... في غرفةِ نومي، على وسادتِي علَّقتُ رسمَكِ في مفارقِ الطرقات آخرَ الليلِ، وجفني خاصَمَ الكرى ينسابُ همسُكِ مفزوعاً ليعزِفَ صوتُكِ في مَسمَعي ما لم يزرْهُ قبلَ عزفِكِ من نوْتات محوتُ ما نهلتُ مِن قيسٍ وأمثالِهِ كلَّ الحروفِ التي لأُخرياتٍ بعثتُها مسحتُ شرائطَ مِن ذكرياتِي وعلى يدَيكِ في الصفِّ الأولِ أوَّلَ درسٍ في الحبِّ مِنكِ نهلْت يا أجمَلَ بنتِ أُنثى عبثَتْ بقيثارَتِي ومِنْ رحيقِها خطراً أعلنَ ناقوسِي مَن حوليَ أشاعَ أنِّي بحبِّكِ سكرانُ أو جُنِنـْتْ سرَقْتِ مِجذافيَ، شوَّشْتِ بوصَلتِي في اليَمِ مكتوفاً، وعندَكِ مَرفئِي ما أروعَ أنِّي ببحرِكِ، يا سمراءُ وكنتُ شيخَ العاقلينَ؛ غرِقْت! لأقداريَ سلَّمتُ أمرِي رضِيتُ بما أشاعَ قاضِي الهَوى حتى عليَّ قد طلعتْ شمسُ الضُحى ومِن أجملِ حُلمٍ في حياتِي فزَزْت جمعتُ ورداتٍ حجَبتِ غيثَكِ عنها وما لك عنديَ، ما أعلنتُ وما أخفيت قصائدي التي إليكِ بسيلِ جَفنٍ كتبتُها آثاراً لكِ قد عشِقتُ في موقِدِ كبريائِيَ ألقيتُها نيرانَ قلبي، جوارحِي، وجُرحي بها أضرَمْت... مديح الصادق، من كندا. الأحد 20 - 2 - 2022
#مديح_الصادق (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
دمٌ مُقدّس... نصٌّ شعري ليوم الشهيد الشيوعي.
-
-قبَساً من نورٍ كانتْ... إلى شهيدة شيوعية عرفتُها... نصٌّ شع
...
-
شيءٌ من اللغة العربية ح 30 (عواملُ جزمِ الفعلِ المُضارِع).
-
كُفِّي اللومَ... نصٌّ شعري
-
شيءٌ من اللغة العربية ح 29 (إعراب الفعل المضارع).
-
على قارِعةِ التمنِّي... نصٌّ شعري.
-
ثلاثةٌ... نصٌّ شعري
-
لُعبة... نصٌّ شعري
-
شيءٌ من اللغة العربية ح 28 (الاستغاثة، والنُدبة، والترخيم).
-
زائرةٌ... نصٌّ شعري.
-
شيءٌ من اللغة العربية ح 27 (أسلوب النداء).
-
شيءٌ من اللغة العربية ح26 (الإضافة).
-
ناقوس... نصٌّ شعري.
-
شيءٌ من اللغة العربية ح 25 ( حروف الجرّ).
-
عندما تعشقُ الأميرات... نصٌّ شعري
-
شيءٌ من اللغة العربية ح 24 (أسلوب الاستثناء) خاص ليوم اللغة
...
-
توبة... نصٌّ شعري.
-
شيءٌ من اللغة العربية ح 23 (العدد).
-
شيء من اللغة العربية ح22 (التمييز).
-
أستاذي... قالتْ، نصٌّ شعري
المزيد.....
-
-الناقد الأكثر عدوانية للإسلام في التاريخ-.. من هو السعودي ا
...
-
الفنان جمال سليمان يوجه دعوة للسوريين ويعلق على أنباء نيته ا
...
-
الأمم المتحدة: نطالب الدول بعدم التعاطي مع الروايات الإسرائي
...
-
-تسجيلات- بولص آدم.. تاريخ جيل عراقي بين مدينتين
-
كيف تحافظ العائلات المغتربة على اللغة العربية لأبنائها في بل
...
-
السكك الحديدية الأوكرانية تزيل اللغة الروسية من تذاكر القطار
...
-
مهرجان -بين ثقافتين- .. انعكاس لجلسة محمد بن سلمان والسوداني
...
-
تردد قناة عمو يزيد الجديد 2025 بعد اخر تحديث من ادارة القناة
...
-
“Siyah Kalp“ مسلسل قلب اسود الحلقة 14 مترجمة بجودة عالية قصة
...
-
اللسان والإنسان.. دعوة لتيسير تعلم العربية عبر الذكاء الاصطن
...
المزيد.....
-
تجربة الميج 21 الأولي لفاطمة ياسين
/ محمد دوير
-
مذكرات -آل پاتشينو- عن -العرّاب-
/ جلال نعيم
-
التجريب والتأسيس في مسرح السيد حافظ
/ عبد الكريم برشيد
-
مداخل أوليّة إلى عوالم السيد حافظ السرديّة
/ د. أمل درويش
-
التلاحم الدلالي والبلاغي في معلقة امريء القيس والأرض اليباب
...
/ حسين علوان حسين
-
التجريب في الرواية والمسرح عند السيد حافظ في عيون كتاب ونقا
...
/ نواف يونس وآخرون
-
دلالة المفارقات الموضوعاتية في أعمال السيد حافظ الروائية - و
...
/ نادية سعدوني
-
المرأة بين التسلط والقهر في مسرح الطفل للسيد حافظ وآخرين
/ د. راندا حلمى السعيد
-
سراب مختلف ألوانه
/ خالد علي سليفاني
-
جماليات الكتابة المسرحية الموجهة للطفل في مسرحية سندس للسيد
...
/ أمال قندوز - فاطنة بوكركب
المزيد.....
|