|
عادت - العذراء - و - الصرخة - المسروقة الى جدار متحف مونش
عدنان حسين أحمد
الحوار المتمدن-العدد: 1665 - 2006 / 9 / 6 - 10:17
المحور:
الادب والفن
بعد سنتين وتسعة أيام من البحث المتواصل عثرت الشرطة النرويجية على التحفتين الفنيتين الأصليتين " الصرخة " و " مريم العذراء " للفنان التعبيري إدوارد بحالة جيدة على رغم من إصابتهما ببعض الأضرار التي وصفها إيفر ستينسرود، مسؤول شعبة مكافحة الجريمة المنظمة بأنها " أقل بكثير مما كنا نخشاه. " وكان البوليس النرويجي يعتقد بأن اللوحتين قد ظلتا في النرويج منذ سرقتا، ولم يتمكن لصوص الأعمال الفنية من تهريبهما خارج الحدود. وقد تمت عملية السرقة في يوم الأحد المصادف 22 أغسطس 2004، حينما دهم مسلحان ملثّمان متحف مونش في العاصمة النرويجية أوسلو، وأجبرا حرّاس المتحف على الانبطاح أرضاً بينما كانا ينزعان اللوحتين عن الجدار، ثم هرباً بسيارة نوع " Audi A6 station wagon " وقد صادف أن يلتقط أحد المارة صورة عجلى للسارقَينْ وهما يحملان العملين الفنيين المشهورين. وعلى رغم من أن البحث قد استغرق وقتاً طويلاً إلا أن الشرطة النرويجية قد وجدت اللوحتين في 31 أغسطس 2006، وعد البوليس يوم استرداد اللوحات بمثابة نصر لجميع النرويجيين. ونظراً لأهمية هذين العملين الفنيين في تاريخ الفن العالمي سنتوقف عند كل لوحة على انفراد لنبين القيمة الفنية والجمالية لهاتين التحفتين اللتين تعدان جزءاً من الإرث الإنساني الذي لا يخلُ من مشاكسة.
لوحة " الصرخة " . . هل هي صرخة مونش أم صرخة الطبيعة؟
ثمة إشكال في تسمية هذه اللوحة ولا بد من توضيحه. فعنوان هذا العمل الفني بالنرويجية هو " skrik " وبالإنكليزية " shriek "، وبالهولندية " schrik " وكلها تعني بالعربية " صرخة " وهي الترجمة الدقيقة لعنوان هذه اللوحة، وكل من ذهب إلى اشتقاقها من " الصياح أو الزعيق أو البكاء أو النحيب أو العياط " فقد نبا عن المضمون الحقيقي للوحة. إن المتتبع للمنجز الفني لمونش، والباحث في تجربته الفنية سيكتشف أن هذا الفنان القلق، والخائف من المجهول كان بحاجة لأن يطلق صرخة مدوية تحرره من " من الفزع الوجودي "، وتنقذه من " الحصر النفسي " لأنه كان أسير صراع لعواطف داخلية جياشة تريد أن تتلمس طريقها في الوجود. هذا الذعر يشبه تماماً الذعر الذي تحدث عنه الفيلسوف الدنماركي سورين كيركيجارد، بمعنى الفزع أو الرهبة أو الهلع الذي ينتاب الحالة النفسية للإنسان العميق، المنغمس في التفكير، والذي يسائل الوجود يومياً. إن القلق، وعدم الشعور بالأمان، وعدم الاستقرار، واليأس، والقنوط هو ما يشعر به الإنسان المتشكك دائماً، وغير الراضي عن أفعاله اليومية. هذه المهيمنات الأساسية على حياة الإنسان هي التي تفرض عليه نوعاً الزعزعة الدائمة، والقلق، واللاتوازن، وهذا الفزع الرهيب مرّده بحسب كيركيجارد " هو أن الحرية المُعطاة للبشرية تترك الإنسان في خوف دائم من الفشل في تأدية واجباته تجاه الله، بينما الحيوانات راضية بأفعالها على الدوام كونها عبيداً للخالق الذي منحها الغرائز. ". فالذعر الذي يشعر به الإنسان ما هو إلا " خوف من المسؤولية تجاه الله " أو خشية من المجهول الذي لا يفسّر. يتساءل الكثير من المعنيين بتجربة مونش الفنية عن مصادر إلهام هذه اللوحة، ومم استوحاها، كيف شطحت، وكيف جاءت إلى الوجود؟ يقول مونش في هذا الصدد: " كنت أتمشى على طريق طويلة مع اثنين من أصدقائي، كانت الشمس تغرب، فجأة تحولت السماء إلى لون أحمر دموياً، وقفت، وشعرت بالإنهاك، وانحنيت على السياج. كان هناك دم، وألسنة من النار فوق سماء فيورد الزرقاء المسودة وفوق المدينة. مضى صديقاي في طريقهما، بينما وقفت أنا مرتعداً من القلق، ثم شعرت بصرخة لا متناهية تعبر الطبيعة.". وكأنه يريد أن يقول بأن " الفيكر " الأساسي في اللوحة، والشخصية المركزية فيها، شاحبة اللون، والتي تشبه مومياءً أكثر مما تشبه الإنسان العادي، لم تكن تصرخ، وإنما " الطبيعة " هي التي كانت تصرخ، وبعضهم ذهب إلى القول " بأن حركة هذا الفيكر أو الشبح أو المومياء ما هي إلا ردّة فعل لليأس والقنوط والفزع من الصيحة التي كانت تعبر أو تجتاح الطبيعة. ". البعض الآخر يرى أن مشهد اللوحة، ومكانه وزمانه له علاقة قوية بالصرخة. فالمشهد برمته مأخوذ من طريق يطل على أوسلو " أوسلو فيورد "، وهذا الطريق يشرف من تلة " إيكه بيرخ ". وفي اللحظة التي كان مونش يرسم فيها هذه اللوحة كانت أخته الكئيبة لورا كاثرين، كبقية أفراد الأسرة المثقلة بأحزان كثيرة، قد دخلت مستشفى الأمراض العقلية الكائن قرب مرتفع " إيكه بيرخ ". وأكثر من ذلك فإن الفلكيين قد كشفوا عن حقيقية علمية عام 2003 بأن اليوم الذي رسم فيه مونش لوحته الشهيرة " الصرخة " بأن ثوران بركان كراكاتاوا في عام 1883 قد سبب غروباً شديداً في مختلف أنحاء أوروبا في شتاء 1883-4 حيث أمسك مونش بهذا الغروب الدامي، ثم جسدّه لاحقاً في لوحة " الصرخة ". وإذا كانت الدوامات اللونية الكائنة خلف الفيكر الرئيس في اللوحة، والمرسومة بطريقة متمعجة، متموجة تذكرنا ببعض أعمال فان كوخ الفنية، فإن الفيكر الذي يتوسط لوحة " الصرخة " يذكرنا بشكل المومياء كما يقترح روبرت روزنبلوم، والذي قارن بين " هذا المخلوق الغريب، اللاجنس له في مقدمة اللوحة وبين المومياء البيروفية التي يمكن أن يكون مونش قد رآها في المعرض العالمي في باريس عام 1889. ". المهم في أن المومياء تبدو في وضع مميت، وشاحب، ومخيف، وهي تغطي وجهها بيديها، ولهذا فقد اعتبر النقاد هذه اللوحة بأنها " رمز للتعاسة الإنسانية ". وقد " خمّن أحد الأنثروبولوجيين الإيطاليين بأن مونش يمكن أن يكون قد رأى مومياءً في متحف التاريخ الطبيعي في فلورنسا تحمل شبهاً قوياً من لوحته. " آخذين بنظر الاعتبار أن مونش كان كثير السفر، ويحب التنقل بين الحواضر والمدن الأوروبية، الأمر الذي أتاح له فرصة مشاهدة الكثير من الآثار الفنية في المتاحف، وليس من المستبعد أن يكون قد رأى مومياءً، وأفاد منها، أو وظفّها في عمله الفني. وسواء أكان مونش قد سمع صرخة حقيقية صادرة من شخص ما كان قريبا منهً، أو أنها صرخة مُتخلية كان مصدرها المحيط الخارجي، أو أنها صرخة الفنان نفسه فإن هذه الصرخة تظل رمزاً للجزع الكوني، وأيقونة للكرب الوجودي.، وشيفرة للكآبة والسوداوية. وهي في النهاية واحدة من سلسلة أعمال تنطوي تحت عنوان " إفريز الحياة " التي تقصى فيها معاني الحياة، والحب، والخوف، والموت، والحصر الانقباضي الذي أشرنا إليه سلفاً. العذراء . . لوحة مثيرة للجدل يتفادى الكثير من النقاد دراسة وتحليل لوحة " مريم العذراء " لأسباب متعددة سنأتي عليها تباعاً. وأول هذه الأسباب أن "السيدة العذراء " لم يرسمها أحد قبل مونش بهذه الطريقة، وبهذه السن أيضاً. فكل اللوحات السابقة التي رسمها فنانون كبار كانت تشي بالعفة والطهارة والنضج، أما مونش فقد آثر أن يرسمها شابة، مراهقة، ولهانة، بل وأكثر من ذلك فقد رسمها بطريقة حسيّة، شهوانية، إن لم نقل إيروسية. وجدير ذكره أن مونش قد أنجز خمس نسخ من هذه اللوحة بين عامي 1894 و 1895، وبقياس " 91 x 70.5 cm " مستعملاً مادة الزيت على الكانفاس، وواحدة من هذه النسخ تعود الى متحف مونش في مدينة أوسلو وهي اللوحة التي كانت مسروقة وتم استردادها، بينما يمتلك النسخة الثانية رجل الأعمال نيلسون بيلتز. " الفيكر " يُظهر " السيدة العذراء " أصغر من سنّها بكثير من خلال وقفتها العارية التي تكشف نصفها العلوي فقط، وهي تميل برأسها بخفة ورشاقة الى اليسار صوب حزمة الضوء المُسلطة على وجهها المعبّر جداً، بعينيها المسبلتين، حيث تضع ذراعها اليمنى المرفوعة خلف رأسها، مُقوّسة جذعها الى الوراء وكأنها تريد أن تجذب انتباه الناظرين الى ثراء حركتهما الجسمانية اللافتة للانتباه، بينما تركت ذراعها اليسرى مسترخية الى جانب قوامها الممشوق. ولا أدري لماذا يتفادى النقاد العرب الحديث عن هذه اللوحة التي تأخذ اهتماماً متساوياً لقرينتها " الصرخة " المفقودة التي خطفت كل الأضواء وكأن " العذراء " لم تُسرق وتُسترد!
#عدنان_حسين_أحمد (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
كتابة على الأرض للمخرج الإيراني علي محمد قاسمي إدانة الإرهاب
...
-
درس خارج المنهاج: أخبرنا عن حياتك - للمخرج الياباني كيسوكي س
...
-
غونتر غراس يعترف. . ولكن بعد ستين عاماً
-
كاسترو يتنحى عن السلطة مؤقتاً، وراؤول يدير الدكتاتورية بالوك
...
-
رحيل القاص والكاتب المسرحي جليل القيسي . . . أحد أعمدة - جما
...
-
برئ - ريهام إبراهيم يضئ المناطق المعتمة في حياة الراحل أحمد
...
-
الروائية التركية بريهان ماكدن: المحكمة حرب أعصاب، وعذاب نفسي
...
-
تبرئة الروائية التركية بريهان ماكدن من تهمة التأليب على رفض
...
-
المخرج السينمائي طارق هاشم ل - الحوار المتمدن -: أعتبر النها
...
-
(المخرج السينمائي طارق هاشم ل - الحوار المتمدن-: أريد فضاءً
...
-
المخرج السينمائي طارق هاشم للحوار المتمدن :أحتاج الصدمة لكي
...
-
المخرجة الإيرانية سبيدة فارسي: لا أؤمن كثيراً بالحدود التي ت
...
-
بيان قمة الدول الثماني الكبرى يُنحي باللائمة على القوى المتط
...
-
المخرج الإيراني محمد شيرواني للحوار المتمدن: السينما هي الذا
...
-
كولم تويبن يفوز بجائزة إمباك الأدبية عن رواية المعلّم
-
العدد الثالث من مجلة - سومر - والإحتفاء برائد التنوير التركم
...
-
الفنان طلال عبد الرحمن قائد فرقة سومر الموسيقية: الغربيون يغ
...
-
باسم العزاوي الفائز بالجائزة الذهبية يتحدث عن صناعة الصورة ا
...
-
اليميني المحافظ فيليبي كالديرون، زعيم حزب الحركة الوطنية
-
الفنان العراقي كريم حسين يخرج من عزلته التي دامت عشر سنوات ف
...
المزيد.....
-
فيلم ’ملفات بيبي’ يشعل الشارع الاسرائيلي والإعلام
-
صرخات إنسانية ضد الحرب والعنف.. إبداعات الفنان اللبناني رودي
...
-
التراث الأندلسي بين درويش ولوركا.. حوار مع المستعرب والأكادي
...
-
الجزيرة 360 تعرض فيلم -عيون غزة- في مهرجان إدفا
-
من باريس إلى عمّان .. -النجمات- معرض يحتفي برائدات الفن والم
...
-
الإعلان عن النسخة الثالثة من «ملتقى تعبير الأدبي» في دبي
-
ندوة خاصة حول جائزة الشيخ حمد للترجمة في معرض الكويت الدولي
...
-
حفل ختام النسخة الخامسة عشرة من مهرجان العين للكتاب
-
مش هتقدر تغمض عينيك “تردد قناة روتانا سينما الجديد 2025” ..
...
-
مش هتقدر تبطل ضحك “تردد قناة ميلودي أفلام 2025” .. تعرض أفلا
...
المزيد.....
-
التجريب والتأسيس في مسرح السيد حافظ
/ عبد الكريم برشيد
-
مداخل أوليّة إلى عوالم السيد حافظ السرديّة
/ د. أمل درويش
-
التلاحم الدلالي والبلاغي في معلقة امريء القيس والأرض اليباب
...
/ حسين علوان حسين
-
التجريب في الرواية والمسرح عند السيد حافظ في عيون كتاب ونقا
...
/ نواف يونس وآخرون
-
دلالة المفارقات الموضوعاتية في أعمال السيد حافظ الروائية - و
...
/ نادية سعدوني
-
المرأة بين التسلط والقهر في مسرح الطفل للسيد حافظ وآخرين
/ د. راندا حلمى السعيد
-
سراب مختلف ألوانه
/ خالد علي سليفاني
-
جماليات الكتابة المسرحية الموجهة للطفل في مسرحية سندس للسيد
...
/ أمال قندوز - فاطنة بوكركب
-
السيد حافظ أيقونة دراما الطفل
/ د. أحمد محمود أحمد سعيد
-
اللغة الشعرية فى مسرح الطفل عند السيد حافظ
/ صبرينة نصري نجود نصري
المزيد.....
|