|
كتاب صُنِع في الجحيم(12)
ناصر بن رجب
الحوار المتمدن-العدد: 7173 - 2022 / 2 / 25 - 18:58
المحور:
العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني
محنة سبينوزا ونشأة العَصر العَلماني
المعجزات (تابع 2)
إنّ موقف سبينوزا من المعجزات هو موقف أكثر راديكاليّة بكثير من الموقف الذي سيتخّذه، بعد نصف قرن، الفيلسوف الرِّيبِيّ الشّهير دفيد هيوم. فقد كان الفيلسوف الكبير في عصر الأنوار السكوتلندي، الذي كان عموما ميّالا إلى الشّك في الإدّعاءات الكبرى المتعلّقة بالمعارف الميتافيزيقيّة، يحتجّ بأنّه من الصّعب جدّا، بل من المُحال المُمتَنع، تبرير الاعتقاد في المعجزات. فالمعجِزة، حسب تعريفها، هي خرق لقوانين الطّبيعة، فهي إذاً شيء مّا يتعارَض مع "تجرِبة راسِخة ولا تتغيّر"(1). ولهذا يجب على الدّليل الذي ينبني عليه الاعتقاد في المعجزة أن يُحكَم عليه كأيّ دليل آخر، أي حسب احتماليّة حدوثه. وأمام وجود أغلبيّة ساحقة من الأمثلة المضادّة، فإنّ درجة عدم الاحتماليّة تكون مرتفعة جدّا، مُوفِّرةً بذلك "دليلا مباشرا وتامّاً" ضدّ الحدث المقصود، بمعنى ضدّ وجود أيّ معجزة مهما كانت ("يجب إذاً أن تكون هناك تجربة مُتواتِرة مقابل كلّ حدث مُعجِز، وإلاّ فإنّ الحدث لا يستحقّ أن يُسمّى معجزة"). وبالتّالي لا يجب إعطاء أيّ مصداقيّة لقصص المعجزات: إنّ الأسباب التي تدفعنا إلى الاعتقاد في وقوع معجزة مّا ليست كافية مُطلقاً لكي تكون حقيقة حدوثها بالفعل أكثر مصداقيّة من الاعتقاد بأنّه وقع خطأ غير مقصود في الرّواية التي نُقِلت أو أنّ الشّهود قاموا عمْداً بتحريفها: "فالنّتيجة الواضحة إذاً (وهذه قاعدة عامّة تستحقّ انتباهنا) هي: أنّ أيّ شهادة لا تكفي لإثبات معجزة إلاّ إذا كانت الشّهادة من النّوع الذي يكون كذبها أكثرَ إعجازاً من الواقعة التي تُحاوِل إثباتَها"(2). غير أنّ هيوم لا يقدِّم إلاّ برهَنة إبستيمولوجيّة لما يجعل شخصاَ مّا يمتلك أو لا يمتلك أسبابا للإعتقاد. وبالقابل، يبني سبينوزا، من جهته، استدلالا ميتافيزيقيّا عن الواقع أكثر صلابة. إذ لم تكن فكرته تتمثّل فقط في أنّ المعجزات غير محتمَلة للغاية وأنّ الرّوايات بخصوصها تفتقر إلى المصداقيّة، بل كان يرى أنّها مستحيلة على الإطلاق: "إذ لا يحدُث شيء في الطبيعة مُناقِض لقوانينها العامَّة، أو حتى لا يتَّفق مع هذه القوانين أو لا يصدر عنها بوصفه نتيجة لها. إنَّ كلَّ ما يحدُث يحدُث [...] وفقًا لقوانين وقواعد تتضمَّن ضرورةً وحقيقة أزليَّتيْن. وهذه القوانين والقواعد، وإن لم نكن نعرفها كلها، فإنّ الطّبيعة تسير وفقها دائما، وبالتالي فهي لا تحيد أبدا عن مجراها الثّابت واللّامتغيِّر"(4). ففي حين يعتقد هيوم أنّ المعجزة ضعيفة الاحتمال إلى الحدّ الذي يُجرِّدها من أيّ مصداقيّة؛ نرى سبينوزا يعبِّر صراحة أنّ "المُعجزة، كيفما فهمها المرء، سواء على أنّها تُناقِض الطبيعة أو تتجاوزها، هي مجرّد حماقة ما فوقها حماقة"(5). لم يكن سبينوزا المفكِّر الوحيد، في القرن السّابع عشر، الذي أنْكر امكانيّة حدوث المعجزات. فقبل عاميْن على صدور الرّسالة في اللّاهوت والسّياسة، كان كورباخ، صاحب الحظّ التّعيس، قد نشر "مُعجَمه" في اللّغة النييرلنديّة (Een Bloemhof). وكما رأينا سابقا، كان كورباخ قد استغلّ هذه النُّزهة في تاريخ اللّغة واستعمالها حتّى يعبِّر عن العديد من القضايا اللّاهوتيّة والسّياسيّة التّدميريّة. من بين الألفاظ التي يشرحها الكتاب، نجد لفظ "معجِزة" (Mirakel): "عمل عجائبيّ، فعل خارِق. يُلِحّ رجال اللّاهوت على أنّ العمل العجائبي والخارق يجب أن يكون شيئا مخالفاً أو مُتجاوزاً للطّبيعة، وهذا أمر خاطئ، لأنّ لا شيء يحدث من شأنه أن يكون مخالفاً الطّبيعة أو متجاوزاً لها"(6). غير أنّ كورباغ كان، في تلك الفترة، متعوِّدا ومتّفقا مع مبادئ صديقه سبينوزا الفلسفيّة. وهو يحاجِج بهذه الطّريقة في مكان آخر ضدّ المعجزات على أرضيّة التّماهي بين الرّب، والطّبيعة الطّابعة، والأزل، وضرورة وثبات قدرة الرّب اللّامتناهية (أو قدرة الطّبيعة الطّابعة)(7). أي بعبارة أخرى، إنكار كورباخ للمعجزات يعتمد مباشرة على الأسس السبينوزيّة، بحيث أنّ موقفه الرّاديكالي لا يمثِّل سابقة مهمّة لتصوّرات سبينوزا بقدر ما هو نوع من فاتحة الشهيّة لما سنجده بشكل أكثر عمقا وبأَبْلغ عبارة في رسالة اللّاهوت والسّياسة وكتاب الأخلاق. إنّ القيام بمقارنة مع ابن ميمون ومع هوبز، وهما فيلسوفان كانا قد أثّرا تأثيرا مهمّا في سبينوزا عموما وعلى ما ورد في الرّسالة بشكل خاصّ، من شأنه أن يقدِّم لنا توضيحا جيّدا بخصوص هذا الموضوع. من المعلوم جدّا عند أهل الإختصاص أنّ موقف ابن ميمون من المعجزات هو موقف معقَّد. فالباحثون يُلاقون صعوبات جمّة في تحديد ما كان يقصده بدقّة سواء فيما يتعلّق بموضوع إمكانيّة حدوث المعجزات أو في حقيقة حدوثها الفعلي عبر التّاريخ(8). يكمن جزء من الإشكاليّة في أنّ ابن ميمون، ولمرضاة مصلحة قرّائه، وهو ما يقوله لهم صراحة (خوفُه من أن يتشوّش فكر "الجَهلة" منهم جرّاء أفكاره فيسقطون في الكفر)، تَعمّدَ في "دليل الحائرين" إخفاء بعض رؤاه الحقيقيّة في خضمّ تضاربات النّص(9). إذ لا يجوز التّصريح ببعض الحقائق العميقة إلاّ لمَن كان لهم ما يكفي من الإستعداد لتقبّلها (وذلك من خلال ترويض أخلاقي، ومنطقي، وفلسفي أو لاهوتي [علم الكلام]) حتّى يتسنّى لهم استلهامها دون إلْحاقِ أيّ ضرر بعقيدتهم وبإيمانهم. ويبدو أنّ من بين هذه الحقائق، التي يجب لجم العوامّ عنها، هناك تلك الحقائق التي تتعلّق بالمعجزات. لا يضع ابن ميمون قضيّة الإعتقاد في المعجزات من بين المبادئ الأساسيّة الثلاثة عشر للعقيدة اليهوديّة. ويبدو بالإضافة إلى ذلك أنّه تمسّك طيلة كتابه بالإعتقاد في حتميّةٍ سببيّة طبيعيّة. وفي ذات الوقت، نراه غير مستعدّ لإنكار المعجزات إنكارا كليّا. ويظهر أنّ خلاصته لهذه المسألة هي أنّ "المعجزات هي أيضا، بشكل من الاشكال، موجودة في الطّبيعة". فهي عبارة عن مجرّد أحداث شاذّة قياسا بالنّظُم المطَّرِدة التي تُميِّز الطّبيعة على العموم وكذلك السَّيْر العادي للأشياء. إلّا أنّ مثل هذه الأحداث الشاذّة تقع بواسطة سيرورات طبيعيّة للغاية. ويُلمِّح ابن ميمون إلى أنّ المعجزات إذا فُهِمت بهذه الطّريقة تكون قد وُضِعت في الطّبيعة من طرف الرّب. يستشهِد ابن ميمون بحكماء الرّابيّين الذين يشاطرونه الرّأي مشيرا إلى: "أنّهم قالوا إنّه عندما خلق الله هذا الوجود وطبَعه على هذا الطّابع جعل في تلك الطّبائع أن يَحدُث فيها كلُّ ما حدث من المعجزات في وقتِ حدوثها". عل سبيل المثال: "أنّه جعل في طبيعة الماء أن يَصِل ويجري من العُلوِّ للسّفل دائما إلاّ في ذلك الوقت الذي غرق فيه المصريّون"(10). وهكذا فإنّ انفلاق مياه البحر الأحمر يُفسَّر بالطّبيعة الخاصّة بجميع مياه البحار، وهذا، في رأي ابن ميمون: "هو القياس في سائرها"، أي في سائر المعجزات، لأنّ الرّب: "وضَع شروطاً ليس للبحر فقط ولكن لكلّ ما خلق في ستّة أيّام البَدء"(11). بطبيعة الحال، لا يجب أن يكون هناك فرق بين حَدثٍ مخالفٍ لاطِّرادات الطّبيعة كان الرّب قد وضعه فيها في وقت محدَّد وفي لحظة معيّنة من الزّمن، وبين حدث كان قد وضعه منذ بدأ الخلق: فالأمر يتعلّق دائما وأبدا بتدخّل إلهي في المجرى العادي للطّبيعة. يمكننا مع ذلك تأويل موقف ابن ميمون بالقول أنّ الشواذّ يجب اعتبارها، رغم نُدرَتها، بأنّها أحداث طبيعيّة بنفس مقدار طبيعيّة تلك الأحداث التي تنتمي للسَّيْر العادي للطّبيعة. فهي تنتج عن قوانين الطّبيعة، ولكن ليس بديهيّة بنفس البداهة التي عليها الظّواهر الأخرى. فانفلاق المياه، مثل الزّلزال والتسونامي، كلّها ظواهر تُحدِثها العِلل الطّبيعيّة ويمكن تفسيرها، على الأقلّ من حيث المبدأ، من خلال مصطلحات عقلانيّة وعلميّة(12). بالفعل، نرى أنّ ابن ميمون يقلِّل من قيمة المعجزات كدليل على مشيئة الرّب وحكمته، اللّتيْن تتجلّيان بصورة أفضل في السّير العادي للطّبيعة منهما في حوادثها الشّاذّة التي ليست إلاّ استثناءات لا غير. "ما هي أفضل طريق لمحبّة الرّب وخشيته؟ عندما يتأمّل المرء أعمال الرّب الهائلة ومخلوقاته، ومن خلالها الحكمة الإلهيّة اللّامتناهية، فهو يحبّ الرّبَّ مباشرة ويحْمَده ويشعر برغبة كبيرة لمعرفة الرّب المتعالي"(13). إنّ كمال الرّب ظاهر أكثر في الطّبيعة ذاتها، وفي نظام الكون العادي. أمّا "أعمال الرّب" التي يتعرّف عليها ابن ميمون مع مجرى الطّبيعة العادي فهي، بحكم كونها "ثابتة على طبيعتها للأبد [فهي] تدوم مدى الدّهر لا يُزادُ عليها ولا يُنقَص منها، [على غرار] الشّيء الذي يتغيَّر إنّما يُتَغيَّر من أجل نقص فيه فيُتَمَّم، أو زيادة فيه لا حاجة إليها، فتُحذَف تلك الزّيادة"(14). إنّ إنكار سبينوزا الصّريح للمعجزات في رسالة اللّاهوت والسّياسة يمكنه أن يمثّل الحدّ الأقصى للطَّبْعانيّة (naturalism) التي تبدو مُضمَّنة في مناقشة ابن ميمون في دليل الحائرين وكتاباته الأخرى. لقد اعتبر ابن ميمون، بحكم موقعه كَرابِيّ وزعيم دينيّ، أنّه يتوجّب عليه ركوب الحذر، وهو شيء يُمكن تفهُّمه، في عدم الإعلان عن رأيه بكلّ وضوح فيما يتعلّق بإمكانيّة حدوث المعجزات بالمعنى التّقليدي. وبالمقابل، نرى توماس هوبز، من جهة عدائه للسّلطات الدّينيّة وازدرائه للخرافات، مستعدّا لتكسير الحواجز والذّهاب إلى أبعد من ذلك. فهو يعرف جيّدا الأهميّة التي توليها الكتب المقدّسة للمعجزات، بما في ذلك دورها في تحديد ما إذا كان نبيّ مّا يُعلِن عن نفسه يمتلك أم لا هِبة النبوّة؛ ولكنّ هذا لا يمنعه من الخروج بخلاصة مفادها بأنّه لم يعد لدينا أيّ وسيلة للتّمييز بيقين تامّ بين نَبيٍّ ومجنون هاذٍ، وذلك بما أنّ زمن المعجزات والأعاجيب قد وَلّى وانتهى(15). ولكن، عندما يكفّ السّؤال عن تناول ما تقوله الكتب المقدّسة عن المعجزات ويتركّز حول ما هو مُمكِن عقلاً أن نعتقد فيه بخصوص هذا الموضوع، نرى هوبز يتّخذ عندئذ موقفا راديكاليّا بأتمّ معنى الكلمة. يُعرِّف هوبز المعجزات على أنّها "أعمال الرّب المُذْهِلة، ولذلك سُمِّيت هذه المعجزات أيضا عَجائب"، ويميّز فيها صفتيْن أساسيّتيْن: أوّلا، كونها أحداثا "غريبة" بمعنى أنّها نادرا ما تقع؛ ثانيا، لا يمكن للّذين شاهدوها أن "يتخيَّلوا أنّها تَمَّت بواسطة أساليب طبيعيّة، بل فقط بيَد الرّب المباشِرة". وهكذا "فلو نَطَق الحصان أو البقرة، لكان الأمر مُعجِزَة، والسّبب، هو في آن واحد غرابة الأمر، وصعوبة تخيُّل علَّة حدوثه"(16). وهذا الطّابع المذهِل يتبدّد مع ذلك مع تبدّد الجهل الذي صنَعه. فما إن نحدِّد العلّة الطّبيعيّة لهذا الحدث، أو إذا لم يتمّ إكتشاف أيّ علّة بعينها، عندما نُدرِك أنّ الحدث وقع بتواتر أكبر ممّا كنّا قد توقّعناه في البداية، حينئذ نتوقّف على اعتبار الظّاهرة بأنّها معجزة: "[لقد] شكّل أوّلُ قوس قزح ظهر في العالم مُعجِزة، لأنّه كان الأوّل من نوعه، وفي منتهى الغرابة، وكان بمثابة إشارة مُرسَلة من الله، وضعها في السّماء ليؤكِّد لشعبه أنّه لن يكون هناك [بعد الآن] أيّ تدمير شامل للكون بسبب المياه. ولكنّ اليوم، وبما أنّ هذا النّوع من الظّواهر قد أصبح متواترا، فلم يعد معجِزا، وذلك سواء لمَن يعرفون عِلَله الطّبيعيّة، أو لِمَن يَجهَل هذه العِلَل"(17). هنا، يُبْدي هوبز حذَراً كبيراً. فهو لا ينكر صراحة إمكانيّة وقوع المعجزات، مفهومةً بمثابة أحداث حقيقيّة محدَّدة ليس بعِلَل طبيعيّة ولكن "بيَد الرّب المباشِرة". يبدو أنّ هوبز بالفعل يعترف بوجود فترة مّا في الماضي وقعت فيها حقيقةً مُعجزاتٌ، هذا بالرّغم من أنّ هناك أسبابا تدعونا إلى الاعتقاد بأنّه لم يكن جادّا في قوله ذاك (18). نَصِف حدثا مّا بأنّه معجِزة إذا لم نستطع أن نتخيَّل كيف سبّبته الطّبيعة أو إذا كان غير عاديّ من وجهة نظرنا. بعبارة أخرى، يربط هوبز المعجزات بخبْرَة الملاحظين ومدى معرفتهم وعلْمِهم: "وبما أنّ الإعجاب والدّهشة ينتُجان عن المعرفة والخِبرَة التي يمتلكهما البشر، بقدر أكبر، أو بقدر أقلّ، فإنّ ذلك يؤدّي إلى جعل الشيء ذاته يبدو مُعجزاً في نظر البعض، وغير معجِزٍ في نظر البعض الآخر. ومن هنا، نرى أكثر النّاس جهالة وإيمانا بالخرافات يَعتبِرون بعض الظّواهر على أنّها كُبرى الأعاجيب، في حين لا يرى فيها أناس آخرون أيّ مدعاة للعَجب والإندهاش لأنّهم عرفوا أنّها متأتّية من الطّبيعة (أي ليست هي من عمل الرّب المباشِر بل هي من عمله العادي)(19). هل كان هوبز مع ذلك يفكِّر أنّ المعجزات حدثت فعلا أو أنّها، على الأقلّ، مُمكِنة الحدوث؟(20) فهو لا يعتقِد أنّ قوس قزح الذي رآه نوحٌ في السّماء، وهو "أوّل" قوز قزح، كان حقيقةً مُعجِزاً من حيث أنّه يكون قد حدث مباشرة وآنيّا بفعل يد الرّب، بل يعتبِره في ذاته كما هو بسبب طابعه الغريب (داخل التّجربة البشريّة). من جهة أخرى، عندما يُعرِّف هوبز بشكل قاطع ما هي المعجِزة، فإنّه يُسمّيها "عمَلُ الرّب (قَضى به منذ الخَلْق، بالإضافة إلى عمليّة تحقيقه بواسطة مجرى الطّبيعة)، يَفعَلُه لكي يُظهِر لشَعبِه المختار الرّسالة التي سيأتيهم بها رسول خارق للعادة من أجل خلاصهم" (مثلا نبيّ)(21). ومرّة أخرى، يبدو أنّ الأمر يتعلّق بقراءة هوبز للطّبيعة ودور المعجزات حسب القصص التي ترويها الكتب المقدّسة، وليس باعترافه بحقيقة أنّ مثل هذه الأحداث التي تنتج "بيد الرّب المباشِرة" هي أحداث قد حدثت بالفعل. وبالرّغم من أنّ تصوّر هوبز حول المعجزات، المدروس بعناية فائقة، يمكن أن يبدو على الأقلّ على نفس الدّرجة من الغُلُو التي عليها تَصوُّر سبينوزا، فهو يبدو مع ذلك معروضا بمزيد من الحيطة والحذر. فهوبز، على النّقيض من سبينوزا، يبدو أقلّ اهتماما بالاعتبارات الميتافيزيقيّة التي تمسّ إمكانيّة حدوث المعجزات، وأكثر انشغالا بتوضيح كيفيّة إنقياد النّاس بكلّ هذه السّهولة وكيفيّة إغواؤهم والتّغرير بهم، بواسطة "خُدَع"، من قِبَل أولئك الذين ينتفعون من حماقتهم هذه: "وبالفعل، فإذا تواطأ شخصان، وتظاهَر أحدُهما بأنّه أعرَج، وتظاهر الثّاني بشفائه عن طريق السِّحر، سوف يخدعان عدّة أشخاص؛ ولكن إذا تواطأ عدّة أشخاص، فتظاهر أحدُهم بأنّه أعرج، وتظاهر الثّاني بشفائه، وكانت البقيّة شاهدة على الحدث، سيزداد عدد المخدوعين أكثر"(22). فإذا كان لدينا هنا تنبيه مّا، فهو يتمثّل في تحذيرنا من رجال الدّين الذين يستغلّون"هذا المَيْل عند الجنس البشري للمسارَعة دون تردّد في تصديق المعجزات المزعومة"(23). يمكننا أن نلخِّص موقف هوبز الحقيقي من المعجزات، في الليفياثان، على أنّه شكّ عميق مصحوب بمعاداةٍ لأولئك الذين يستخدمون قصص المعجزات بغية مضاعفة سلطتهم الشّخصيّة. وهذا موقف راديكالي يُفسِّر ولا شكّ الحملات المعادية التي شنّتها السّلطات الدّينيّة ضدّ هذا الكتاب. ولكن هوبز لا يتبنّى، أو على الأقلّ لا يصرِّح بذلك علانيّة، الطبعانيّة العميقة والدُغمائيّة، والأكثر راديكاليّة التي اعتمدها سبينوزا في رسالة اللّاهوت والسّياسة. علينا ألاّ ننسى بالنّهاية أنّ هوبز "لم يكن قد أقدَم على الكتابة بمثل تلك الجُرأة [جرأة سبينوزا]"(24).
(يتبع) ------------------- هوامش (1) انظر D. Hume, Enquête sur l’entendement humain X, 1. في هامشٍ نجده في نفس الصّفحة، يُعرِّف هيوم المعجزة تعريفا أكثر حصريّة: إذ يمكن تعريف المعجزة بدقّة بوصفها خرقاً لقانون من قوانين الطّبيعة بفعل إرادي إلهيّ خاصّ أو بتدخُّلِ فاعِلٍ مّا غير مرئيّ. (2) إنّ فكرة هيوم هذه عصيّة على الفهم، فحتّى مؤلّْف الكتاب (Steven Nadler) يعترف هو نفسه بذلك. فهو يعبِّر في هامش الصّفحة على امتنانه الكلّي لأستاذ الفلسفة وصاحب مؤلّفات عدّة حول سبينوزا وهوبز (Ed Curley) الذي ساعده على توضيح هذه النّقطة توضيحا أفضل. ومن جهتنا لمزيد من تبسيط هذه الفكرة اعتمدنا على التّرجمتيِن العربيّتيْن لكتاب هيوم إحداهما بعنوان "مبحَث في الفاهِمة البشريّة"، ترجمة موسى وهبة، دار الفارابي، بيروت، لبنان، الطبعة الأولى 2008؛ والثّانية بعنوان "تحقيق في الذِّهن البشري"، ترجمة محمّد محجوب، المنظّمة العربيّة للتّرجمة، بيروت، لبنان، الطّبعة الأولى 2008. (3) الرّسالة، حنفي، بتصرّف، ص 231. (4) نفس المصدر، بتصرّف، ص236. (5) نفس المصدر، ص 230. (6) أنظر: Koerbagh 1668, 447: “Mirakel: wonderwerk, wonderdaad. De Godsgeleerden willen dat een wonderwerk zal zijn iets ‘t geen tegen of boven de natuur geschied ‘t welk valsch is want daar en kan niet tegen of boven de natuur geschieden.” (7) أنظر،Vandenbossche 1978 . (8) يمكننا مثلا أن نقارن بين موقف Reins 1974، الذي يرى أنّ فكرة ابن ميمون الحقيقيّة هي استحالة المعجزات، وبين ما كتبه Langermann 2004، الذي يعتقد أنّ ابن ميمون كان قد طوّر موقفه حول هذا الموضوع مع تقدّم الزّمن وأنّه يقول في كتابه "دليل الحائرين" بإمكانيّة حدوث المعجزات. (9) هذا الرأي معروف جدّا لدى علماء الإسلام بشتّى أصنافهم، وكان شائعا عندهم ويكاد يكون هناك إجماع بينهم حول عدم كشف كلّ حقيقة ما يعتقدون فيه للرّعاع والجهّال خوفا من أن يَضِلّوا سواءَ السّبيل. وقد أُلِّفت فيه عديد المصنّفات ولعلّ أشهرها مصنّف الغزالي "إلجام العوامّ عن عِلْم الكلام"، أي كبح جماح النّاس عن التّفكير واستعمال العقل في كلّ مسائل العقيدة. ويبدو أنّ ابن ميمون لم يحد مطلقا عن هذا النهج وسلك نفس طريق علماء الإسلام المتمثّل في حجب جواهر الأشياء عن أفراد الشّعب وعدم السّماح لهم بامتلاك أدوات التّفكير حتّى يظلّوا تحت رحمة الفقهاء، والمفسّرين، وسائر رجال الدّين. فهو يقول مثلا بخصوص كلّ ما ذٌكِر في قصّة الخلق في التّوراة أنّ أهل العلم "أطنبوا في إخفائه ومنْع الحديث فيه في الجمهور لأنّ تلك الظواهر مؤدّية، إمّا لفسادِ تخيُّلٍ عظيم، وتطرُّقِ آراءِ سُوءٍ في حقّ الإله، أو لتعطيلٍ محضٍ وكُفرٍ بقواعد الشّريعة، فالصّواب الإضراب عن اعتبارها بمجرّد الخيال والتعرّي عن العلوم، وليس كما يفعل الوعّاظ والمفسّرون المَساكين الذين ظنّوا أنّ معرفة شرح الألفاظ، هو العلم وتكثير الكلام وتطويله زيادة عندهم في الكمال... إلخ" (دليل الحائرين ص 373) [المترجِم] (10) ابن ميمون، دليل الحائرين، مرجع سابق، ج 2، فصل 29، ص 371. (11) نفس المصدر، ص 372. (12) هذه هي القراءة التي يستخلصها Reins 1974، والتي أجدها مقنعَة. (13) ابن ميمون "مشناه توراة"، التّرجمة من عندنا. [المترجم] (14) دليل الحائرين، ج 2، فصل 28، ص 258. (15) اللّفياثان، مرجع سابق، ج 3، فصل 32، ص 370. (16) نفس المصدر، ج 3، فصل 37، ص 426. (17) نفس المصدر، بتصرّف، ج 3، فصل 37، ص 427. (18) نفس المصدر، ج 3، فصل 9. لقد اقترح Ed Curley أن التّنازل الذي يعطيه هوبز بوجود فترة من الماضي تكون قد حدثت فيها المعجزات بالفعل لا يجب أن نأخذه على محمل الجدّ، فهذا يمكن أن يعني أنّه من المعقول الاعتقاد في المعجزات في الحالات التي تكون فيها الأدلّة على ذلك ضعيفة جدّا وترتبط بشهود من أقدم القدماء، ولكن لا يمكن الاعتقاد في ذلك في الحالات التي تكون فيها الأدلّة قويّة نسبيّا (لأنّها أدلّة حديثة). وقد يكون هذا نوعا من المرونة من قِبل هوبز لكي لا يصدم قرّاءه الأكثر أورثوذوكسيّة. (19) نفس المرجع، بتصرّف، ص 427. (20) نفس المصدر السّابق. (21) نفس المصدر السّابق بتصرّف. (22) نفس المصدر، ص 432. (23) نفس المصدر. (24) يعتقد مرتينيش Matinich 1992، أنّ هوبز كان يُمسِك بموقفيْن متناقضيْن بخصوص المعجزات، وأحدهما يتمثّل "في التّوفيق بين الدّين والعلْم دون تقويض العلْم".
#ناصر_بن_رجب (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
كتاب صُنِع في الجحيم(11)
-
كتاب صُنِع في الجحيم(10)
-
كتاب صُنِع في الجحيم(9)
-
كتاب صُنِع في الجحيم(8)
-
كتاب صُنِع في الجحيم(7)
-
كتاب صُنِع في الجحيم(6)
-
كتاب صُنِع في الجحيم(5)
-
كتاب صُنِع في الجحيم(4)
-
كتاب صُنِع في الجحيم (3)
-
كتاب صُنِع في الجحيم (2)
-
كتاب صُنِع في الجحيم (1)
-
رَبُّ القَبائل، إسلام محمّد
-
قراءات أفقيّة في السّيرة النبويّة (14)
-
قراءات أفقيّة في السّيرة النبويّة (13)
-
قراءات أفقيّة في السّيرة النبويّة (12)
-
قراءات أفقيّة في السّيرة النبويّة (11)
-
قراءات أفقيّة في السّيرة النبويّة (10)
-
قراءات أفقيّة في السّيرة النبويّة (9)
-
قراءات أفقيّة في السّيرة النبويّة (8)
-
قراءات أفقيّة في السّيرة النبويّة (7)
المزيد.....
-
بيان إماراتي بشأن اختفاء الحاخام اليهودي
-
قائد الثورة الاسلامية آية اللهخامنئي يصدر منشورا بالعبرية ع
...
-
اختفاء حاخام يهودي في الإمارات.. وإسرائيل تتحرك بعد معلومة ع
...
-
إعلام العدو: اختفاء رجل دين اسرائيلي في الامارات والموساد يش
...
-
مستوطنون يقتحمون مقبرة إسلامية في الضفة الغربية
-
سفير إسرائيل ببرلين: اليهود لا يشعرون بالأمان في ألمانيا
-
المقاومة الاسلامية في لبنان تستهدف مستوطنة -أفيفيم- بصلية صا
...
-
المقاومة الاسلامية في لبنان تستهدف مستوطنة -ديشون- بصلية صار
...
-
سفير إسرائيل ببرلين: اليهود لا يشعرون بالأمان في ألمانيا
-
أسعد أولادك…. تردد قناة طيور الجنة التحديث الجديد 2025 على ج
...
المزيد.....
-
شهداء الحرف والكلمة في الإسلام
/ المستنير الحازمي
-
مأساة العرب: من حزب البعث العربي إلى حزب الله الإسلامي
/ حميد زناز
-
العنف والحرية في الإسلام
/ محمد الهلالي وحنان قصبي
-
هذه حياة لا تليق بالبشر .. تحرروا
/ محمد حسين يونس
-
المرحومة نهى محمود سالم: لماذا خلعت الحجاب؟ لأنه لا يوجد جبر
...
/ سامي الذيب
-
مقالة الفكر السياسي الإسلامي من عصر النهضة إلى ثورات الربيع
...
/ فارس إيغو
-
الكراس كتاب ما بعد القرآن
/ محمد علي صاحبُ الكراس
-
المسيحية بين الرومان والعرب
/ عيسى بن ضيف الله حداد
-
( ماهية الدولة الاسلامية ) الكتاب كاملا
/ أحمد صبحى منصور
-
كتاب الحداثة و القرآن للباحث سعيد ناشيد
/ جدو دبريل
المزيد.....
|