الإطَاحِيَّة!
ستة من نوُّاب شرق السودان بالمجلس الوطنى تقدموا ، الأسبوع الفائت ، بمذكرة إلى رئيس الجمهورية لم يُتح لى التحقق ، بعد ، من فحواها على وجه الدِّقة ، وإن كان الراجح على أيَّة حال ، حسب الظاهر ممَّا نشر عنها حتى الآن ، أنها تتمحور حول افتقار منطقتهم إلى التنمية. المهم فى الأمر أنها مُجرَّد مذكرة ، أيَّاً كانت ، وأن عضويَّة أصحابها فى الحزب الحاكم وفى هيئته البرلمانية لم تحُل دون أن يتقدموا بها إلى رأس الدولة ، وبأسلوب غاية فى الهدوء والسلم. مع ذلك فقد ثارت ثائرة السلطة ممثلة فى السيد محد طاهر إيلا ، وزير الطرق والجسور وعضو المجلس عن إحدى دوائر الشرق ، الذى أعلن عن ترتيبات سوف تتخذ ، واجتماعات سوف تنعقد ، ودنيا بأسرها سوف تقوم ولن تقعد ، كل ذلك للنظر فى "الخطأ" الذى وقع فيه هؤلاء النوَّاب بعدم اتباع الخطوات الصحيحة لتقديم مذكرتهم! هكذا ، وبدلاً من أن يكون "مضمون" المذكرة نفسه هو محل البحث ، فإن جهداً ووقتاً سوف يُهدران فى المناقشة والجدل ، بل وربما التعانف ، حول "الشكل" الذى اتبع فى تقديمها ، وأكثر من ذلك "العبارات" التى صيغت بها ، والتى وصفها السيد الوزير بأنها "عبارات إطاحيَّة" لا تحلُّ قضية، أو كما قال (الخرطوم ، 14/5/03).
إبتسمت لطرافة العبارة ، إذ تجلت ، للوهلة الأولى ، فى بداهة ذمِّ "العنف اللفظى". غير أننى سرعان ما استغرقت فى تأمُّل طويل لدلالاتها الملتبسة ، حمَّالة الأوجه ، حين خطر لى أن ثمة تناقضاً بادياً بين رفض الأسلوب "الحربى" لرفع المطالب فى غرب السودان ، من جهة، وبين رفض الأسلوب "السلمى" لرفعها فى شرق السودان ، من الجهة الأخرى (!) بل وخطر لى أن النظام نفسه الذى يتحدث الوزير باسمه هو ، من قبل ومن بعد ، أكبر ممارس "للعنف اللفظى" ، ضمن مختلف أشكال وألوان "عنف الدولة" المادىِّ والمعنوى والتشريعىِّ والادارىِّ ، ضد المعارضين المؤسَّسيين ، كما وضد رافعى المطالب النقابيين والجهويين ، على حدٍّ سواء ، وذلك منذ مجئ الجبهة الاسلامية القومية إلى سدة الحكم من فوق انقلاب الثلاثين من يونيو عام 1989م.
لقد دشن النظام عهده بوصفه لنفسه ، منذ أيامه الأولى ، بأنه "قطار ليس أمام الناس من خيار سوى ركوبه أو المكوث على الرصيف" (!) وكان ذلك بمثابة إعلان فصيح باكر عن عدم استعداده للاعتراف بأيَّة مشروعية لأدنى موقفٍ سياسىٍّ سلمىٍّ ينشأ فى مواجهته. وعندما اضطر المئات من الكوادر الحزبية والآلاف من نشطاء المنظمات المدنية للتسلل إلى خارج البلاد ، تحت الضغط المتواصل لما لا عين رأت من صنوف القمع والملاحقة ، وما لا أذن سمعت من التشريد والاعتقال ، تحركت أجهزة الاعلام الرسمىِّ تطاردهم فى أصقاع المنافى بتهمة الركون إلى دِعَةِ "الفنادق" المخمليَّة "للمتاجرة" بالضمائر والقضايا والأوطان!
ثم ما لبث النظام أن ذهب إلى أبعد من ذلك بإلقاء قفاز التحدى غير المسبوق فى وجوه معارضيه: "نحن انتزعنا هذه السلطة بالسلاح ، ويتعيَّن على من يريد انتزاعها منا أن يرفع سلاحه هو الآخر" (!) وقد كان ، حيث لجأت المعارضة ، أو ، بالأحرى ، ألجأتها هذه الدعوة الجهيرة "للمبارزة" ، فى بلد تسيطر عليه الذهنية الرعويَّة ، لخيار العمل المُسلح ، باحتلال بعض المدن الحدوديَّة ، ورفع شعارات "سلم تسلم" و"الاجتثاث من الجذور" وما إلى ذلك. غير أنها ما كادت تفعل حتى انبرت لها آلة الدعاية الحكوميَّة تتهمها ، بلا هوادة ، "بالبغى" و"العدوان" و"العمالة" و"الارتزاق" و"الخيانة العظمى"!
وفى فترة لاحقة ، عندما قامت للمبادرات الوفاقية "أسواق" داخلية وخارجية ، واشتدَّ الطرح لما يُعرف "بالحل السياسى" أو "الحل السلمى" ، أبدت المعارضة موافقتها المبدئية للانخراط فى تلك المشاريع ، على أن يُبدى النظام قدراً لازماً من الجديَّة "بتهيئة أجواء" التفاوض المطلوب صوب تفكيك "دولة الحزب" لصالح "دولة الوطن" ، وذلك بإلغاء القوانين المقيدة لحريات التعبير والتنظيم والتنقل وإصدار الصحف والنشاط الحزبى والنقابى وما إليه. غير أن النظام راح يُبدى ، بدلاً من ذلك ، قدراً كبيراً من التصلب والتشدُّد إزاء ما أسماه "بالشروط المسبقة" ، مطالباً المعارضة بقبول الحوار "دون أىِّ قيد أو شرط"!
مؤخراً ، وفى خلفيَّة التداعيات التى ما تزال تتعرَّض لها المنطقة بأسرها جراء الحرب الأمريكية البريطانية على العراق ، أصدر التجمُّع الوطنى الديموقراطى المعارض ، لأوَّل مرة منذ تكوينه فى أعقاب انقلاب 1989م ، جملة قرارات لا تتقيَّد بأىِّ "شروط مسبقة" للتفاوض مع النظام حول الحلِّ السياسىِّ الشامل ، مِمَّا أنعش الآمال مجدَّداً فى النفوس الوطنية بإمكانية التوصُّل العقلانى إلى كلمة سواء حول إعادة تنظيم الصراع الذى ليس منه بُدٌ بين النظام والمعارضة ، ولو لتأهيل "الجبهة الداخلية" بالحدِّ الأدنى من التماسك فى مجابهة الأخطار المحدقة ، خاصة وأن "التجمُّع" لم يقتصر على محض التثمين لنتائج المفاوضات "الثنائية" بين أحد أعمدته الرئيسة ، الحزب الاتحادى الديموقراطى ، وبين الحكومة ، خلال الفترة الماضية، مِمَّا كان يُعَدُّ "حراماً" إلى عهدٍ قريب (!) أو مجرَّد الترحيب بعرض الحكومة لإجراء المفاوضات المباشرة ، والمنقول إليه عبر رئيسه السيد محمد عثمان الميرغنى ، الذى هو ، فى ذات الوقت ، رئيس الحزب الاتحادى نفسه ، بل قام ، أكثر من ذلك ، بتفويض السيد الميرغنى لإجراء الاتصالات اللازمة مع الحكومة لبحث ترتيبات وأجندة اللقاء ، وتحديد مكانه وزمانه ، وتكليف لجنته "لمبادرات الحل السياسي الشامل" ببلورة موقفه التفاوضى (الشرق الأوسط ، 25/4/03). وقد فسَّر السيد ياسر عرمان ، الناطق الرسمى باسم الحركة الشعبية لتحرير السودان ، أحد أركان "التجمُّع" ، تلك "المرونة المفاجئة" بالمسؤولية الوطنية التى تستوجب توفير الاجماع الوطني الذي تحتاجه البلاد "في هذه الظروف" (الايام ، 1/5/03) ، كما عزاها ، من جانبه أيضاً ، السيد فاروق أبو عيسى ، الأمين العام لاتحاد المحامين العرب وأحد أكثر صقور التجمع تشدُّداً ، إلى "المخاطر السياسية التي تهدد وحدة البلاد ومستقبلها .. في ظل الاوضاع الاقليمية والدولية المعروفة بعد غزو العراق" ، قائلاً: "تخلينا عن أي شروط خاصة في ما يتعلق بتهيئة المناخ وخلافه من أجل الحفاظ على السودان وتحقيق مصالح شعبنا في الوحدة والاستقرار والسلام .. ولعل المسؤولين في الخرطوم يقرأون خريطة الاوضاع داخلياً وإقليمياً ودولياً كما قرأها التجمع الوطني ، و.. يقدمون على حوار بناء من أجل سودان ديمقراطي جديد يقوم على سيادة حكم القانون والتعدديَّة وتداول السلطة في ظل القضاء المستقل واحترام حقوق الانسان". وختم تصريحه بقوله: إن "عدم استذكار دروس غزو العراق سيعرض وطننا لمزيد من الآلام .. نحن على ثقة من أن العقلاء في حكومة الخرطوم يعرفون كل هذا .. ولعلهم يتصرفون بموجبه" (سودانايل ، 6/5/03).
ولكن الردَّ ، للأسف الشديد ، ما لبث أن جاء سلباً على لسان السيد أبراهيم أحمد عمر ، الأمين العام للحزب الحاكم ، الذى نفى "أىِّ ترتيبات للحوار أو التفاوض مع التجمُّع" ، مؤكداً أن "الترتيبات تجري للنقاش مع محمد عثمان الميرغني وليس التجمع" (الأيام ، 12/5/03)!
يتهيَّأ النظام للاحتفال ، فى الثلاثين من الشهر القادم ، بعيده الرابع عشر. على أن أهل النظام سوف ينجزون عملاً مجيداً لأنفسهم وللوطن ، دون شكٍّ ، فى ما لو استغلوا هذه المناسبة للعكوف على صياغة مُحكمة ودقيقة لإجابة مطلوبة بإلحاح على جملة أسئلة متناسلة تشكل ، فى النهاية ، سؤالاً واحداً أساسيّاً ، حتى يتبيَّن الناس ما يتعيَّن عليهم "أن يفعلوا بأصابعهم العشرة" على قول الحكيم كونفوشيوس ، وذلك على النحو الآتى: طالما أنه قد ثبت لكل ذى بصيرة أن المطالب لن تتوقف ، وأن المعارضة سُنة ماضية إلى يوم الدين ، فكيف يريدون من المعارضين أن يفاوضوهم ، ومن رافعى المطالب أن يرفعوها: حرباً أم سلماً؟! من داخل السودان أم من خارجه؟! بشروط مسبقة أم بدونها؟! وعموماً ، بأساليب "التعدُّد السلمى" أم بالأساليب .. "الإطاحيَّة"؟!