|
الأنا والغيرية
سعود سالم
كاتب وفنان تشكيلي
(Saoud Salem)
الحوار المتمدن-العدد: 7154 - 2022 / 2 / 6 - 20:33
المحور:
الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع
أركيولوجيا العدم ١١٥ منفى الغيرية
هذا الإنسان الذي يحدثني ويسير بجانبي، أنا متأكد من وجوده المادي، أراه وألمسه وأسمع صوته، غير أن ذلك كله يبدو للبعض غير كاف لمعرفة هذا الإنسان والتواصل معه، نتيجة أسطورة الأنا الداخلية والحياة الباطنية، قدس أقداس كييركجارد. في حقيقة الأمر يجب رفض فكرة إزدواجية الأنا، فالشعور الجسدي وعلاقته بالعالم يشمل بالضرورة ما يسمى بالأنا الباطنية. التجربة الحسية التي أعيشها على شاطيء البحر عند الغسق، مع مجموعة من الأصدقاء أو مع أفراد العائلة أو الأقارب، هي تجربة فريدة نعيشها معا أنا والآخرين، ذلك أن وجود الآخر يدخل في تكوين هذه التجربة والتي تؤدي إلى ظهور وعي جديد مركب وهو الأنا الجماعية "نحن". ولا شك أن المعضلة الأساسية تأتي من أن الوعي يختلق هذه الأنا الفردية المنغلقة ويرسم عالمها الداخلي كجزيرة منعزلة، بالإضافة إلى أننا نخلط غالبا بين هذه المعضلة المتعلقة بالمعرفة وبين العزلة الأنطولوجية للوعي كمطلق. "نحن" تدل على مفهوم يتضمن تنوعا لا متناهيا من التجارب الممكنة التي تبدو متناقضة مع وجودي كموضوع بالنسبة للآخر، وتجربة وجود الآخر كموضوع بالنسبة إلي. نحن كـ"فاعل" لا يتضمن أي شخص محدد كموضوع، بل يحتوي على كثرة من الذاتيات التي يتعرف بعضها على بعض كذاتيات. والكل قد عاش ونعيش في كل يوم إنبثاق الـ "نحن" في تجارب متعددة. مثال الرجل، أو المرأة الجالسة في أحد المقاهي، تقرأ الجريدة الصباحية وتشرب قهوتها منتظرة شخصا ما. إنها وحيدة تراقب رواد المقهى الآخرين، البعض منهم يتحدث، بعضهم وحيدا مثلها، بعضهم يشاهد مباراة كرة قدم في التلفزيون .. ليس هناك بينها وبين زبائن المقهى سوى علاقة خارجية، التواجد في نفس المكان ونفس الزمان، هذا المقهى. ولكن ها هو حدث غير متوقع، إنفجار مثلا أو حادث سيارة أمام المقهى، أو شخص يدخل ويبدأ في العزف على قيثارته والغناء، أو أي حدث من هذا النوع يوحد هذه الذوات المشتته ويوجه إنتباهها كـ"مشاهد" إلى نقطة واحدة، وهنا ستنبثق فجأة هذه الشخصية الجديده، وهذه الذات الجماعية " نحن كنا جالسين في المقهى عندما حدث .. " غير أن هذه التجربة التي نعيشها كل يوم في حياتنا العادية غير كافية لإكتشاف ذات الآخر، بل يبدو أنها تضيف طبقة أخرى من الكينونة تساهم في جعل نظرتنا أكثر عتمة. سارتر يرى أن هذه التجربة، والتي وصفها بالتفصيل في الكينونة والعدم، والتي سماها هايدغر قبله بـ "الكينونة مع .. Mitsein" لا تصلح لتكون الأساس لوعينا بالآخر، ولا يمكنها أن تشكل بنية أنطولوجية للواقع الإنساني. فوجود "ما هو لذاته - être pour soi" وسط زحمة الآخرين هو واقعة ميتافيزيقية وعرضية أي لا تتمتع بأية ضرورة من أي نوع. "نحن" إذا ليس وعيا بالذاتية الأخرى، فالآخر الذي هناك يشرب قهوته وحيدا، ما زال غريبا وليس في متناول وعيي. "نحن" هي كائن جديد يتجاوز أجزاءه ويستوعبها ككل تركيبي، على غرار الوعي الجماعي عند علماء الإجتماع، فتجربة الـ "نحن" هي تجربة خاصة وتحصل في ظروف خاصة ومحددة، ولكن بالإرتكاز على ما يسميه سارتر بـ "الكينونة للآخر" والتي تسبق بالضرورة الكينونة مع الآخر الهايدغرية وتؤسس لها. لكي يعي الوعي الفردي إنخراطه في ذات جماعية "نحن"، من الضروري أن يكون الوعي لدى الآخرين الذين يؤلفون معه "جماعة" معطى له أولا بطريقة مختلفة، أي بوصفه تعاليا - متجاوِزا، أو تعاليا متجاوَزاً، بمعنى يجب أن تكون هناك معرفة أو إدراك مسبق بما هو الآخر، كي يمكن أن تتحقق تجربة علاقاتي بالآخر عبر "الكينونة - مع". المرء لا يخجل أو يحس بالعار والإبتذال مثلا، أو بالفخر والزهو حينما يكون وحيدا، فهذه الأفعال النفسية تظهر عندما يطرق الآخر على الباب للدخول، أو حتى حين نسمع وقع خطواته في الممر، فالآخر هو الذي يكشف لي ما أنا عليه، ويكونني وفقا لنموذج "كائن جديد". هذا الكائن الجديد لم يكن مختبئا داخلي، أو موجودا بالقوة ثم ظهر مع ظهور الآخر عندما أطل برأسه من الباب، لأنه لا يمكنه أن يجد مكانا مهما كان ضئيلا في "ما هو لذاته"، حتى مع وجود الجسد كمكون ومعطى أولي وكلي قبل أن يصبح جسدا للآخر، وذلك لإستحالة أن يدخل في هذا الجسد صفات بالقوة مثل الإبتذال والخجل والخنوع وعدم المهارة .. إلخ، لأن هذه الصفات هي دلالات تتخطى جسدي وترتبط في الوقت نفسه بشاهد - أو مشاهد ـ يمكن أن يفهمها وترتبط أيضا بواقعي الإنساني بكل شموليته. هذا الكائن الجديد الذي يظهر للآخر، لا يقيم داخل الآخر، فأنا مسؤول عنه مسؤولية كاملة. فالخجل هو الخجل من الذات أمام الآخر، وجودي لذاته يرتبط بوجودي للآخر. "إذا لم يكن الآخر حاضرا لي بشكل مباشر، وإذا لم يكن وجوده مؤكدا كوجودي فكل تكهن بشأنه يصبح مجردا من أي معنى .. ولكنني لا أتكهن تحديدا بوجود هذا الآخر بل أؤكده" وذلك لمعرفتي المسبقة بوجود هذا الآخر، ووجود تفهم ضمني ولو مضمر بوجوده، وأن هذا التفهم ما قبل الأنطولوجي يتضمن معرفة بطبيعة الآخر وعلاقة وجوده بوجودي. غير أن ذلك لا يكفي لتأسيس وجود الآخر، فكما قلنا سابقا، الحدس وحده لا يكفي، لا بد من إكتشاف الكوجيتو المتعلق بالكينونة من أجل الآخر. وهو ما يقوم به سارتر بتحليله لـ"النظرة Le Regard"
#سعود_سالم (هاشتاغ)
Saoud_Salem#
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
الشك
-
تعرية الله
-
الوعي وتكوين ال - أنا -
-
الحجرة
-
رواية -النسخة- لدوستوييفسكي
-
عن الإنس والجن
-
السرير
-
العودة للحياة
-
المنطق الرياضي لمعرفة الخير والشر
-
تفاصيل يوم الحشر
-
قراءة القرآن
-
- أنا - لم تكتب هذا النص
-
الحجر الجيولوجي والحجر الأركيولوجي
-
عناقيد الهموم
-
الإنسان الإلكتروني
-
رطوبة الصمت
-
ثنائية العقل والجسد
-
الإنسان ومعجزة العقل
-
حكايةعن الجوع والحرية
-
عن الكابوس الليبي والندم
المزيد.....
-
أمينة خليل والسعدني وشاهين بمسلسل -لام شمسية- في رمضان
-
أحمد الشرع يكشف ما بحثه مع محمد بن سلمان في الرياض: -لمسنا ر
...
-
نعيم قاسم: تشييع حسن نصر الله وهاشم صفي الدين يوم الأحد 23 ف
...
-
إيران تسدل الستار عن صاروخ -اعتماد- الباليستي بمدى 1700 كيلو
...
-
ترامب يقر بتداعيات حرب الجمارك وشولتس ينتقد تقسيم العالم بحو
...
-
الرئيس السوري أحمد الشرع بعد لقائه ولي العهد السعودي في الري
...
-
الحرس الثوري الإيراني يكشف عن -مدينة صاروخية- جديدة تحت الأر
...
-
إسرائيل تفجر عددا من المنازل في مخيم جنين (فيديو)
-
إعلام: نتنياهو يسعى لإقناع ترامب بتأييد خطته لمواصلة الحرب ع
...
-
وزارة النقل الأمريكية تصف نظامها لمراقبة الحركة الجوية بأنه
...
المزيد.....
-
حوار مع صديقي الشات (ج ب ت)
/ أحمد التاوتي
-
قتل الأب عند دوستويفسكي
/ محمود الصباغ
-
العلاقة التاريخية والمفاهيمية لترابط وتعاضد عالم الفيزياء وا
...
/ محمد احمد الغريب عبدربه
-
تداولية المسؤولية الأخلاقية
/ زهير الخويلدي
-
كتاب رينيه ديكارت، خطاب حول المنهج
/ زهير الخويلدي
-
معالجة القضايا الاجتماعية بواسطة المقاربات العلمية
/ زهير الخويلدي
-
الثقافة تحجب المعنى أومعضلة الترجمة في البلاد العربية الإسلا
...
/ قاسم المحبشي
-
الفلسفة القديمة وفلسفة العصور الوسطى ( الاقطاعية )والفلسفة ا
...
/ غازي الصوراني
-
حقوق الإنسان من سقراط إلى ماركس
/ محمد الهلالي
-
حقوق الإنسان من منظور نقدي
/ محمد الهلالي وخديجة رياضي
المزيد.....
|