|
أسرار الكهوف - النبض السري لمدونات كهوف قمران والبحر الميت
عيسى بن ضيف الله حداد
الحوار المتمدن-العدد: 7142 - 2022 / 1 / 21 - 19:45
المحور:
دراسات وابحاث في التاريخ والتراث واللغات
كليّات من مدونات كهوف قمران والبحر الميت من كتابي اسرار الكهوف " النبض السري لمدونات كهوف قمران والبحر الميت، والحلقة المفقودة في مسار تشكل التوراة والأسفار – الطبعة الثالث قمران على أطياف التأمل أجد من الضرورة بمكان، التداول مع مجمل المعطيات التاريخية التي تعلنها أسرار كهوف قمران وتخوم البحر الميت، قبل الولوج عما تعلنه في مجرى تشكل التوراة والأسفار الملحقة بها، من حيث هذا الكل يلقي الأضواء الكاشفة على مناحي هذا التشكّل وأداته.. على وقع مما قد تبدّى من رؤى، كيف لنا أن نرى مدونات كهوف قمران في ذلك الزمان: ماهيتها، أصحابها، ماذا مثلت لهم، لِمَ كتبت، صلاتها مع غيرها، وماذا تعني لنا الصنف المقدس- أول القول: كانت تلك المدونات برمتها تتحلّى بسمة المقدس وفق معايير ذلك الزمان.... ففي عرف هؤلاء القدماء، لا حضور للكتابة وكل الفعل الإنساني من دون إلهام رباني.. وهذا ما قد تجلّى في سياق نصوص عزرا وأشعيا وأرميا وحزقيال وباقي جمهرة الأنبياء. والسؤال، إن كان مثل هذا الاعتقاد بالإلهام الإلهي قد هيمّن بالكلية في تلك الحقبة الزمنية، فكيف كان ينظر الشخص في ملهماته لإلهام مناوئة.. ها هنا يتدخل الشيطان كمناوئ للإله في إلهام المناوئ.. هذا ما ظهر عبر ما يسمّى بالأنبياء الكذبة وتجليّات أخرى من هذا القبيل.. ذلكم هو ما قد ترآى لفريق قمران، بصدد من راح وولّى إلى الضفة الأخرى.. أرى، أن تلك النظرة انطلقت في بدايتها كحالة انعكاس للصراع القائم مع الخصم المتمثل بشريحة الهيكل الحبري، وفق تعبيراته التي كان عليها زمنئذ، ثم ما لبثت أن تتمدد لتظهر بمظهر كوني، متمثل بالصراع الأبدي بين الخير والشر، النور والظلام.. - على هذا الأساس، يمكن لنا فهم أصل تلك الرؤية ومنطلقاتها
. من هم أصحابها ؟: من العسير التوصل إلى التحديد الدقيق لهؤلاء.. من الواضح أن ثمة مدونات من ابتكارات رهبان كهوف قمران، تخص فريقهم كرواد دعوة على طريق الخلاص، بيد أن هذه النظرة لا يمكن أن تنطبق على كافة لفافات مدونات مكتبة الكهوف.. من المؤكد، أن ثمة نصوص يمكن اعتبارها ممثلة للفرق العبرية الأخرى على مثال، الفريق الفريسي (الحبري) والصديقي والسامري والعبري الإغريقي. أرى، أن وجود هذه النصوص الغير معتمدة لديهم، تدخل في نطاق السجال بين هذه الجماعة والفرق الأخرى.. أو على سبيل الاطلاع لما لدى الفرق الموازية والمناوئة من أدبيات.. [ كنصوص زائرة ] تشكّل النصوص والحالة هذه نمطاً من التمثيل الواقعي لوجود الفرق المتعددة في الملّة العبرية، وتعبّر بذات الوقت عن توجهاتها ونزاعاتها، مما ينم عن وجود أزمة تاريخية كانت تعصف بها. بيد أن هذا الشأن لا يمكن أن يحسم هكذا بجرة قلم.. ليس من المستثنى وجود فرق أخرى لم يتح لأدبياتها الوصول إلى مخبأ الكهوف، أو تكون لسبب ما قد اختفت.. -ولكم أخفى التاريخ من أسرار.. المأزق في النصوص كانعكاس للتمزق في الملّة لا يمكن اختزال معطيات مدونات كهوف قمران فيما قد أفرزته من رؤى، أي بما أتى من قبل البحوث والدراسات التي أعلنت بكل جدارة عن المأزق الذي خص النص المقدس، من حيث كونه لم يتثبت بعد ولم تتحدد ملامحه على النحو الذي قد ظهر لنا فيه.. لا غرو، أن المأزق في تلك النصوص يمثل التعبير الجلي عن المأزق الأعظم الذي يتجاوز حال النصوص، ليصل في مداه إلى وضع الملّة العبرية بكليتها، في نظرتها لذاتها وفي رؤيتها وتواصلها مع غيرها.. وهذا ما ظهر عبر توزع الملّة العبرية على عدد من التيارات التي من أهمها: الصدوقيين، الفريسيين، الزيلوت، العيسويين (جماعة قمران)، السامريين، الهيروديين، والحزب العبري الإغريقي. في مدى أبعد من ذلك، تتجلّى الأزمة فيما لدى هؤلاء من نصوص، من حيث كونها بدت مترنحة ومأزومة في ظهورها وما حل عليها من تطورات، وما نجم عنها في دائرة تخومها.. اليهودية في زمن قمران: أهم ما تعلمنا به المدونات، بأن اليهودية وفقاً لمعاييرها المتعارف عليها، لم تتشكّل بعد.. وما كانت آنئذ سوى مشروع توجه من بين عدة توجهات، ما برحت تخط سيرها في مسار التطوّر والتبلوّر.. وما اليهودية في واقعها ومآلها إلا حصيلة مديدة لمخاض تاريخي مديد.. تنامى في أوساط أحبار الهيكل، بلا ريب.. القمرانيون كمعتقد متحاشياً السقوط في براثن النظر المسيطر، الذي يجتهد لتهويد أو تنصير آل قمران في غمرة ذلك الزمان- في زمن لم تكن فيه يهودية مبلوّرة أو مسيحية وليدة – سأعمد للنظر إليهم من منظور محايد.. (أو لعلي سأحاول) على هدى هذا المنحى، حسبي أن أتلمس موضوعة واضحة للعيان يجمع عليها الجميع، تتمثل في كون حجر الرحى في معتقداتهم يتلخص في ثنائية الخير والشر، النور والظلام. الجدير بالبيان، أن هذه الموضوعة لم يكن لها حضور جلي في الفكر التوراتي، من حيث كون الإله التوراتي هو المسؤول عن كليهما (الخير والشر) - ومن دون غيره.. وهمُ إذ عبروا إلى هذا المعتقد التثنوي، وضعوا أنفسهم كنخبة ممثلة أو مرشحة لتمثيل عالم النور أي الخير المطلق – وأرسلوا مَن عارضهم إلى عالم الظلام، أي الشر المطلق. وهمُ في تجوالهم عبر عالم الصراع بين مفهومي النور والظلمة، تعلقوا بمفهوم الخلاص النهائي، حيث " لأمير النور السلطة على أبناء الحق كلهم، وسوف يجوب هؤلاء دروب النور، أما ملاك الظلام فبين يديه السلطة على أبناء الباطل، وسوف يجوب دروب الظلام " - وارتأوا، أن الشر مهزوم لا محالة.. وإذ انعزلوا عن العالم، فهمُ همُ في انتظار المعركة الفاصلة في مستقبل الأيام.. ولكي يكونوا على استعداد لها، راحوا يعدّون أنفسهم للجولة الأخيرة مع معسكر الشر، وسيكونون آنذاك على موعد من تدخل القوى السماوية التي من دونها يستحيل الخلاص، لأن قوى الشر ذاتها لها بدورها ما يدعمها من قوى غير منظورة.. على وقع ذاك سوف تحل نهاية العالم، ويأتي يوم الدينونة وقيام الأموات من القبور، وتقام مملكة العدل، ويشرق عهد الخلاص النهائي. الثنائية في أعماق الذات الإنسانية: من جانب آخر لا تنحصر تلك الثنائية في رؤيتهم للذات الجمعية في مقابل الآخر، بل تذهب إلى الذات الإنسانية الفردية في أعماقها، بما فيها ذواتهم همُ.. تتجسد هذه الرؤية بكون الإنسان بحد ذاته، يخضع لنزعتين: نزعة الخير المتمثل بالنور، ونزعة الشر المتمثل بالظلام.. وهمُ في هذا المنطلق، إنما يجاهدون في أعماق ذواتهم لمحاربة نزعة الشر، بتتبع ممارسات طقوسية معينة، كالصلوات وشعائر أخرى.. على مرآى من الحركة الغنوصية: على ضفاف هذه المفاهيم أعتبر، أن هؤلاء قد انتموا أو شكلوا أحد مظاهر الحركة الفكرية المنبثقة فيما يسمي بالرؤية الغنوصية، تلك الحركة التي سيطرت على ذلك الفضاء وتعددت أشكالها.. وعلى ذات النسق تكون المسيحية الأولى بحد ذاتها، من ذات تجلياتها. لعلّ ذلك الهاجس المتمكن في الجماعة، المتمثل بالبحث عن السلام والصفاء النفسي، يقدم دليلاً على هذا الانتماء.. على هذا النحو، راحوا يمارسون طقس الغوص في داخل النفس.. يذهب فيها العضو بموجبه إلى دواخله ليخلص ذاته من الأفكار والرغبات السلبية والنوازع الشريرة، ويتحكم في غرائزه ويروض نفسه للانتماء لمعسكر الخير، من دون غير. [ لعلنا نعثر هنا على صلة ما مع طقس الاعتراف الكنسي المسيحي، ونظام الرهبنة المسيحي ] يمكن لي، أن أرى رؤية تلك النزعة الغنوصية قد جاءت بمثابة حل نفسي، في عالم قاس لا خلاص فيه - عالم الهيمنة الرومانية، إذ يأتي اللجوء إلى دواخل الذات كهروب من مواجهته.. في المقابل، يظهر التعلق بالخلاص الآتي بمثابة شعاع الأمل المتوهم والعزاء المتبقي. أين هي التوراة من هذا !!: تدفعني مجمل هذه المعطيات إلى اعتبار هذه الجماعة كانوا بقدر ما، على نهج مغاير للمنظور التوراتي (التقليدي)، من حيث كون النصوص التوراتية التي كانت متداولة آنئذ -[وحتى بصورتها الحاضرة ] لا صلة لها البتة مع هذه المعتقدات والرؤى. من جهة أخرى، تعلن هذه المعطيات، عن انتماء هذه الجماعة إلى الحركة الفكرية السائدة في المحيط.. أفترض، بكون هؤلاء قد خرجوا ولو بخطوة أو خطوات عن اليهودية التقليدية، المتمثلة في مقولتها التوراتية المركزية، بشعب الله المختار. ورحلوا إلى مفهوم الصفوة والنخبة المقدسة المتجلية في أبناء النور. وأرى، أن رهبان قمران فيما ظهروا عليه من فكر وممارسة، قد انتموا إلى أحد الأشكال التي ظهرت بها الحركة الرؤوية الغنوصية الواسعة الانتشار، ولا مجال لاعتبارهم بمثابة فرقة يهودية بمعناها المتداول.. ما خلا الجوار أو المنبت.. حتى لو ذهبنا إلى اعتبارهم فرقة يهودية.. فما هم سوى فرقة في طريق التحوّل.. وليس من المستبعد، أنها شرعت تتحوّل أكثر مع تقادم الزمن -على مدى القرون الثلاثة.. في هذا الصدد، يمكن لي أن أستدعي نمطاً من المقارنة بين مقولات مستمدة من نصوص سفر التكوين التوراتي، ومقولات تعبر عن الرؤى المستجدة لفريق قمران. على سبيل المثال يأتي السؤال، كيف بنا أن نرى الصلة بين الشعار التوراتي المركزي الآتي " وتكونون لي مملكة كهنة وأمة مقدسة "(خروج19/6)- وبين المعتقد القمراني المركزي المتمثل بمقولة الصراع بين عالمي النور والظلمة، من حيث فيه " لأمير النور السلطة على أبناء الحق كلهم، وسوف يجوب هؤلاء دروب النور، أما ملاك الظلام فبين يديه السلطة على أبناء الباطل، وسوف يجوب دروب الظلام". ألا نرَ في المعتقد القمراني، خروجاً كلياً عن ذاك الشعار التوراتي المركزي الذي ما انفك أن تتردد صيحته، أينما كان في النص التوراتي وما تلا.. لاسيما حينما نعلم أن الإله التوراتي، أينما حل ورحل، وفي أي نص كان، وعلى هامة أي مروية كانت.. ظهر كمسؤول يقبض بذاته على أعنة الخير والشر.. بل ومارس هذا الدور مع شعبه الأثير.. - وهل تستقيم المقولات التوراتية الآتية التي ما طفقت تتردد بين نص ونص، مما جاء في أدبيات قمران من رؤى !!.. وتلكم مقارنة فيما بينها. "حين قسم العلي للأمم، حين فرق بني آدم نصب تخوماً لشعوب حسب عدد بني إسرائيل، وإن قسم الرب هو شعبه، يعقوب حبل نصيبه -(تثنية الاشتراع (22/8) وفي " إياك قد اختار الرب إلهك لتكون له شعباً أخص من جميع الشعوب الذين على وجه الأرض، ليس من كونكم أكثر من سائر الشعوب التصق الرب بكم واختاركم لأنكم أقل من سائر الشعوب. بل من محبة الرب إياكم. (تثنية7/7) [مفهوم القبيلة المقدسة ] في المقابل منطلقات فريق قمران من إله المعرفة يأتي كل ما سيكون قبل حدوثه. هو ذاته الواضع للنظام الكوني. وعندما تأتي إلى الوجود تكون قد تحققت وفقاً لقصده، وحسب مشيئته بدون أي تغيير. بين يديه القانون لكل شيء " " لقد خلق الإنسان كي يفعل في الكون، وجعل له روحين، كي ترافقانه حتى يوم الدينونة، إنهما روح الحق، وروح الباطل.. نعم إنه هو الصانع لروح النور (الخير)، والظلام (الشر)، وعليهما يشاد كل شيء ".- من وثيقة دمشق-[ مفهوم الصفوة المقدسة.. - ها هنا يبرز السؤال جلياً، هل يوجد صلة بين هذا وذاك: ألا نرى تلك المفردات اللغوية، قد تبدلت أشواطاً عبر المضامين والرموز.. وما يعزز رؤيتي هذه، ظهور تلك المقولة القمرانية الذائعة الصيت الماثلة، في "العهد أو الميثاق الجديد La nouvelle alliance" في مقابل العهد أو الميثاق القديم. أقول: إن شاء نفر من الباحثين أن يتمترس في عقيدة النظر الماثلة في الربط المحكم ما بين آل قمران واليهودية.. فما عليه حتى لو أبى، إلا أن يقر بظهور مجرى التحوّل من و إلى.. وله أن يرى ما يخفي هذا التحوّل من رؤى.. – [ إن تردد ذاك الفريق، يكون قد ضل الطريق..] مع المعلم الحق- المؤسس الأول للجماعة: شخصية غير معروفة عاشت في القرن الثاني ق م، تقدمه الكتابات القمرانية كشخصية نبوية مطاردة من قبل " الكاهن المدنس " المنتمي لأعمدة الهيكل.. اعتقد القمرانيون تمتع معلمهم بحظوة خاصة لدى الإله.. تلقى الحقيقة من فم الإله مباشرة. ربط القمرانيون ساعة الخلاص بقيامته وبشرط مجيئه في الآتي.. تذهب بعض الفرضيات أنه انتهى مصلوباً على خشبة - [ كان الصلب عقوبة سائدة في ذلك الزمان ]. يظهر معلم الحق في الكتابات القمرانية بمثابة المختار من قبل الرب وامتداداً له وروح تنفسه، الذي " يعرف أسرار الإنسان والذي تحل حكمته على كل الشعوب، ويتملك على المخلوقات كلها ". ألا نشهد ها هنا تماثلاً ما بين المعلم الحق، وشخص يسوع الناصري...!! كنتيجة: لي أن أرى، عبر كل هذه الرؤى، حالة خروج علني على المفاهيم الضيقة لليهودية، من خلال ما تحمله من أبعاد وآفاق كونية.. هذا ما ظهر أكثر من مرة.. في أي نظر كان، يمكن اعتبار فريق قمران، كخارجين على آفاق المجموعات اليهودية ورافضين لمقولاتها، على عكس ما يذهب إليه المنظور السائد في التاريخ الرسمي.. يبدو لي: أن العديد من التعاليم والمصطلحات والطقوس القمرانية تتشابه مع نظائر لها في المسيحية، مع الفرق في كون المسيحية ظهرت للنور وراحت تبشر بالخلاص البشري العام.. رفضت العزلة، وتجاوزت إلى حد كبير مفهوم الصفوة.. النظام العام لدى جماعة قمران تتمثل الحلقة الأساسية بالاعتزال المتمثل بالابتعاد عن العالم الخارجي والزهد، والملكية الجماعية والتخلي عن الثروة.. - لا تجارة بين أفراد الجماعة، إنما علاقة تبادل.. - لا نساء في المجمع، سوى حياة رهبانية زهدية تصوفيه شبه اشتراكية.. - نهجها كنهج الأخويات التي كانت سائدة في ذلك الزمان.. [ أو أفترض] ليس من المستبعد وجود رعايا كانت تابعة أو على صلة بالحلقة الرهبانية المركزية، حيث تم الكشف على تخوم أحد المراكز مقبرة للنساء. كما ظهر في نصوص قمران مطالعات عن الزواج والطلاق، مما يدعم وجود رعايا تابعة، في ظرف ما على الأقل. من الممكن جداً، ظهور تطوّر أو تحوّل أو انبثاق لأشكال جديدة، شهدتها الجماعة القمرانية عبر قرونها الثلاثة.. في هذا الصدد، يتردد بين الحين والآخر، أنباء تشير إلى وجود مثل تلك الظاهرة.. على هذا النحو، عثرتُ مؤخراً على ما يدعم هذه النظرة، على سبيل المثال، يذكر كتاب يتحدث عن تاريخ يسوع: أن رعايا تلك الجماعة قد انتشرت في كل المدن وفي تنظيم محكم.. حينما يذهب أحدهم إلى مكان آخر، يتم استقباله من قبل جماعته كأخ.. إلى جانب ذلك، ليس من المستثنى وجود فرق مستقلة عن بعضها، ربما لم تكن على اتساق في نظراتها ولها رؤى مغايرة، ما يؤكد هذه الواقعة، هو ظهور وثيقة في رسالة تنطوي على سجال حار بين فريقين، كانا قد اختلفا في 22 نقطة.. لعّل هذه الظاهرة المتمثلة بوجود خلاف تباين ما في دائرة هذه الجماعة تشكّل قرينة، قد تعكس بدورها دوامة المأزق الأكبر، الذي كان يهيمن على الملّة العبرية اليهوذيّة برمتها...؟ العضوية والالتحاق في نظام الجماعة شروط العضوية: ثمة شروط للقبول في العضوية، ولاسيما لحال الانضمام الكلي في سلك نواة الجماعة التي تتمثل بالصفوة- المسماة بأبناء النور.. تتلخص تلك الشروط بضرورة اجتياز المرشح مدة اختبار على مدى عامين.. على إثره قد يقبل عضواً بقرار من المجمع العام. عليه منذ البداية هبة ما بحوزته من ملكية شخصية إلى الملكية العامة للجماعة. يساهم جميع الأعضاء في العمل. يشاركون في المائدة المشتركة.. [هل هي منتظمة المواقيت أم لا ؟].. من واجبهم دراسة النصوص المقدسة بتكريس ثلث الليل لها. جاء النظام اليومي صارماً، يخضع لرقابة متشددة، بحيث يتعرض العضو المخل في هذا النظام إلى عقوبة قاسية، من بينها: تقليص كمي في الوجبة اليومية، الحرمان المؤقت منها، الطرد من صفوف الطائفة، وتحريم التواصل مع العضو المطرود [الإقصاء والتحريم ]. إن رغب العضو المطرود العودة والانصياع التام لطاعة النظام بكليته المطلقة، عليه أن يبقى محروماً ومنفياً لدى العالم الخارجي لمدة عام، لينظر في أمره فيما تلا، حال عودته عليه الجلوس في مؤخرة صفوف المائدة المشتركة. من الأهمية بمكان، إمعان النظر في كون العقوبة الغذائية تتصدر قائمة تشريع العقوبات.. السؤال هنا: ألا يحمل مجرد ذكر هذه العقوبة وفق تلك الكيفية، على قيمة الوجبة الغذائية وحيويتها في نظام الجماعة، بما فيه واقعة الجلوس في الصفوف الخلفية على مرآى من الأطعمة " الشهية "...!! ماذا يكمن وراء ذلك، أو أبعد من ذلك.. ألا يعني بكيفية ما، أن من بين الحضور، ثمة من يبحث في قرارة نفسه عن الملاذ والقوت.. لعل هذا ما أدركه أيما إدراك المشرفون على النظام العام...! يبدوا لي أنهم في نظامهم، حينما عمدوا لوضع شروط اصطفائية للقبول بالعضوية، ذلك على سبيل الحد من سيل الأعداد الغفيرة القادمة للانضمام إليهم، من حيث كونهم قد شكلوا بنظامهم حلاً لأزمة معيشية طاحنة، كانت تسحق برحاها الرومانية البيئة السكانية التي أحاطت بهم. ونماذج فرعية: ليس من المستبعد ظهور نماذج موازية على تخوم هذا النظام العام، تنطوي على عناصر منبثقة من هذا النموذج، إذ ظهرت أسماء توحي بهذه الواقعة، من أمثال " البسطاء " و " غير الضليعين "، بيد " أن هؤلاء لم يدعوا أنفسهم قمرانيين (عيسويين)، إنما قد شكلوا على الأغلب مجموعات متميزة تتشابه مع هؤلاء - روحياً. يذكر فلافيوس جوزيف، وجود جماعة مماثلة لفريق رهبان قمران، لهم نفس الرؤى والمعتقدات، يتحدد الفرق بينهما، في إباحة الزواج لدى هذه الجماعة. تشير وثيقة دمشق إلى وجود جماعات كانت تعيش في المدن، لأفرادها ملكيتها الخاصة، بيد أنهم قد خصصوا جزءاً محدوداً من دخول أفرادها للصالح المشترك. أطلق هؤلاء على أنفسهم تسمية العهد الجديد.. ظهر هؤلاء على نسق جماعات قمران، ينتظرون نهاية العالم الوشيكة ومجيء معلم الحق. - وعلى نسق فريق قمران يستدعي الانتماء لهم العبور في فترة اختبار. على هذا المنحى، أعلنت إحدى الوثائق - كما مر معنا آنفاً - عن رسالة من قادة الجماعة موجهة إلى متزعم لحزب منافس، يختلف مع جماعة قمران في العديد من النقاط. انتهج هذا الأخير وجماعته طريقاً خاصاً متميزاً معلناً عدم موافقته على جملة من النقاط الحاسمة [ تم ذكر 22 نقطة اختلاف بين الجماعتين ] يدعم هذا النص فحوى رؤيتي، في كون الجماعة قد شكلت جماعة بحث ورؤيا، ولم تبق متجمدة عند نصوص قطعية.. أرى، أن مثل هذا النظام المتمثل بالأخويات، قد كان سائداً في فضاء الشرق القديم، ربما كان من شأنه توفير نمطاً من الحل للمأزق الحياتي السائد آنئذ، وذلك بما يوفره هذا النظام من توفير للحد الأدنى لضرورة البقاء، أو كاستجابة للحاجة والضرورة المعيشية في ذلك الزمن القاسي فضلا عما يحمله من عزاء نفسي وحل خلاصي متوهم.. الطقوس لدى الجماعة تنطوي مسألة الطقوس على قيمة كبيرة، لأنها تعبر بصورة رمزية عن الانتماء - في صلة ما مع التوجه المعتقدي.. لقد تمت المغايرة في هذه النصوص عن الرفض بكيفية ما لنهج الآخر المعني بالرفض. الأمر الذي يعني تحديداً، مخالفة الخط الحبري المتمثل بجماعة الهيكل، في نمط من توجهاته ومعتقداته.. لنتقصى أبرز ما كان لدى هؤلاء من شعائر وطقوس.. رفض تقديم الذبائح الحيوانية برمتها: يمثل هذا الرفض أحد أهم أشكال التمايز عن الخط الحبري الرسمي، بل ويتجاوز ذلك لرفض النظام الاقتصادي التوراتي، من حيث كون الذبائح الحيوانية تشكّل أحد أعمدة هذا النظام.. ها هنا يحق لي التمترس في موقع، اعتبر فيه كون هذه الجماعة قد خرجت عن الأصولية التوراتية، لتبحث عن ذاتها خارج معايير ونظم التوراة.. طقس الاغتسال اليومي: استعاض هؤلاء عبر طقس الطهارة بالماء، عن قانون غفران الخطايا المتمثل بتقديم الضحايا والأعطيات السائدة في قوانين المعبد (شرائع التوراة) ...؟ لعل هذا الموقف قد أتى من اعتماد هؤلاء، على مجانية الماء، ناهيك عن قدسيته المتمثلة بهبوطه من السماء، فضلا عن رمزيته من حيث كونه العنصر الأساسي من عناصر حياة الأحياء..[ يروى عن شيوع طقس الاغتسال في المنطقة..] موقف الجماعة من مؤسسة الهيكل: لقد تمثل خطابهم الأساسي الخاص بمعاداة العالم الفاسد، موجهاً أساساً ضد منظومة الهيكل.. كما لو كانت تلك المنظومة مركز هذا العالم الباطل، من حيث قد رفضوه ورفضوا معه مبدأ تقديم الذبائح والأعطيات.. في يقين مني، إن هذا الرفض لمبدأ تقديم الذبائح والأعطيات.. بما يمثله كمبدأ أساسي في الاقتصاد التوراتي (بمثابة ضرائب)، وكمصدر لثروات دولة الهيكل الحبري السرية – هو ما يشكل اليقين على خروجهم ولو بكيفية ما، على المنظور التوراتي والأصولية اليهودية، كما قد بدت عليه آنئذ. وفق هذا المنحى، تنبئنا الأدبيات القمرانية بما اختزنته من معطيات، أن فريق قمران ناصبوا العداء لمؤسسة ومدرسة الهيكل الحبري، وأدانوا سلوكها، وخرجوا على معاييرها وتنكروا لطقوسها، بل وكان نظامهم الحياتي، بمثابة البديل المتخيل لنظام مؤسسة الهيكل.. تجلّى ذلك عبر العديد من المؤشرات من أهمها: على مستوى المفاهيم: مفهوم الصفوة لديهم، في مقابل مفهوم القبيلة المقدسة لدى الحركة الحبرية اليهوذية.. ثمة أنباء توحي برفضهم سياسة سلالة الحشمونيين، الذين كانوا يمثلون نزعة حبرية يهودية متعصبة، وفق ما كانت عليه اليهودية آنئذ.. - تعلن دلالات عديدة، أنهم تركوا فلسطين في القرن الثاني ق م وجاءوا دمشق، منها بدأ المعلم المؤسس ممارسة دعوته.. يبدو أنهم قد عادوا من دمشق بعيد زوال حكم الحمشونيين، لاسيما في عهد هيرودس.. يعود المعلم المؤسس الملقب بالصالح بجذوره ونشأته إلى الوسط الكهنوتي، ثم انشق عنه.. لأسباب تتعلق برؤيته... - من المؤكد أن أدبيات القدح والذم التي حطت على هامة المعلم الفاسد، كانت تعني مجمل الفريق الحبري المسيطر، ولاسيما أن الأدبيات القمرانية ظهرت مفعمة بفن الاستعارات والتورية.. ناصب القمرانيون العداء للفريسيين والفرق الموازية، واعتبروهم من ذوي الضلال والمصالح الدنيوية. كما قاطعوا الهيكل كموقع ومؤسسة واعتبروه مدنساً بكل بما فيه.. يذهب العديد من المؤشرات لتعاون جماعة قمران مع هيرودس (حيرود).. لا نعرف بالضبط دوافع تلك العلاقة.. - والمعروف أن حيرود ظهر على علاقة جيدة مع جميع المكونات الدينية.. لعله قد عمل على تشجيعهم، من حيث كونه– كما أرى – قد اعتمد سياسة " فرق تسد "...؟ في موقف أساسي، أدان فريق قمران مؤسسة الهيكل ورعاياه ونظامه، وناصبوه العداء، موقفاً وفكراً وسلوكاً وطقوساً ورؤى.. لا مناص من الإقرار، بكون تلك المؤشرات تحمل دلالات على خروجهم بكيفية ما عن جوهر اليهودية وفق ما تجلت لنا هذه اليهودية، في صيغتها الآيلة - إلينا.. الجماعة القمرانية كظاهرة تاريخية في البداية، ليس من المستبعد وجود هذا النمط من التنظيم في ذلك الزمن القديم، في أكثر من مظهر ولدى العديد من الملل.. لعل مدينة أفلاطون الفاضلة بما انطوت عليه من تنظيم وتدريب وتأهيل لأعضائها، يشكل النموذج الأمثل (المتخيل) لمثل هذه النظم.. وما كان لأفلاطون أن يقترح مشروعة المتمثل بمدينته تلك، من دون أن يكون لها حالات شبيه بها أو ظهور تطلعات على نسقها، في معرض التداول العام.. من المعروف أن أفلاطون قد زار مصر والشرق، ونهل مما شاهده في تلك الربوع من فكر وفلسفة ونظم.. في هذا الصدد وكمقارنة أرى: إن بدا مشروع جماعة قمران ونظامهم الخاص متميزاً عن مدينة أفلاطون وغيرها، فإن الأمر ينطلق من واقعهم وبيئتهم واهتماماتهم.. من المؤكد ظهور تباين نوعي بين نظام أفلاطون في مدينته وبيئته المدنيه، ونظام قمران في قرويته وبيئته الريفية، من حيث كون الهاجس الأساسي لدى أفلاطون فلسفي دنيوي، والهاجس القمراني في مظهره ديني [ وإن كان في مرماه، له بعد اجتماعي ] ثمة دلائل كثيرة توحي بشيوع نظام الأخويات في الزمن القديم، بعضها تابع لنظام المعبد، وبعضها على بعد منه.. أما عن اختفاء تلك النماذج عن ناظرينا، فالمسألة تعود بكليتها لعدم توفر ورثة تحمي تراث هؤلاء.. وما ظهر على مسرح التاريخ لا يمثل كل التاريخ.. ولعلّ المدفون في ظلماته (التاريخ) أكثر من المدون على صفحاته.. من جانب آخر أرى، أنه لا يمكن اختزال جماعة قمران بمجرد رهبان وقرية (خربة قمران) وكهوف، إنما أتحرّى فيهم كقبس من ظاهرة راحت تعم المنطقة بكليتها.. من أجل إدراك ماهية هذه الظاهرة وأسباب نشوئها، لابد من تسليط الضوء- ولو على نحو مقتضب – على محتوى التطورات الاجتماعية التي تشكلت على مستوى مجمل مكونات الدائرة الجغرافية في محيط البحر المتوسط، منذ خضوعها للإمبراطورية الرومانية.. النظام الإمبراطوري الروماني: تميز هذا النظام بسحق مجمل المكونات المجتمعية الخاضعة له، بحيث انحدرت مجمل تلك المكونات إلى المستوى الأدنى في السلم الاقتصادي الاجتماعي. وتحولت شرائح واسعة من السكان إلى رقيق تحت أعباء الضرائب والمكوس الباهظة. على وقع مصادرة الأراضي على نحو واسع، التي قدمت كإقطاعيات لأصحاب النفوذ في السلطة الرومانية، تحوّل المزارعون إلى مجرد أقنان.. في المقابل علا شأن النخب من تلك المكونات لتتمتع بمزايا المواطنية الرومانية ونعمها، لكي تساهم بدورها في تدعيم هذا النظام، وكان جُل هؤلاء من قادة الملل.. في ظل هكذا نظام، تهشم تماسك المكونات والملل القديمة وتزلزلت منظومة القيم أو المأثورات السائدة في أوساطها، سواء أكانت لاهوتية أم وضعية، وتعمم في ظلها حالات وأحاسيس القهر والبؤس وساد اليأس. في غمرة من انسداد الآفاق، لم يكن بوسع إنسان ذاك الزمان، إلا البحث عن منظومة أفكار وقيم جديدة.. لعل ظاهرة قمران وما رافقها وتلاها من ظواهر، قد مثلت أحد الشواهد التاريخية لذلك المأزق.. وهكذا كان.. ما بين الظاهرة القمرانية، وإرهاصات انبثاق المسيحية ليس من شأني السقوط في هوة النظر التآمري للتاريخ، الذي يجعل منه محض سير مؤامرات، وتواطؤ سري و خفايا.. وما هذه النظرة سوى هرطقة، تلقى ذاتها تعسفاً على كاهل التاريخ.. على هذا النحو، لن أمتع أحد بجعل فريق قمران هو المسيحية ذاتها والمعلم الصالح (الحق) يسوع الناصري بعينه.. ليس من المستبعد أن تكون الأصابع الصهيونية قد عمدت لمثل هذا الترويج، من حيث تكون هذه الفرضية تخدم قضيتها، فهي من جهة تهوّد يسوع والمسيحية بكليتها، ومن جهة ثانية تخفض من شأنه وشأنها " [ يسوع و المسيحية ] الأجدى لنا، أن نفهم التاريخ على انه مسيرة، والفكر سيرورة تطوّر، والأديان تتلاحق وتتسلسل، وما قمران سوى قبس من إرهاصات أولية على درب انبثاق المسيحية.. ليس من المستبعد في هذا الصدد، أن يكون يوحنا المعمدان (النبي يحيى)، قد شكل الحلقة المفقودة [أو قل صلة الوصل] بين طور مفاهيم رهبان كهوف قمران وطور حركة يسوع الناصري.. من المحتمل أن يكون يوحنا، قد انتمى يوماً إلى طائفة الكهوف، ولعل لمزاولته لطقس المعمودية [ الاغتسال بالماء ] تشكل شاهداً حياً..؟ بيد أنه قد خرج على حياة الاعتزال وراح يزاول التبشير بأفق ديني جديد.. لعل يسوع الناصري بحد ذاته، قد تعرّف بدوره على جماعة قمران، أو تعايش معهم ردحاً من الزمان. ففي سيرته ما ينم عن اختفائه في الصحراء في زمن ما، وهو يافع.. مما يلوّح بقدر ما لتلك الواقعة.. و قد تأتي معموديته في نهر الأردن - على يد يوحنا، كشاهد رمزي أو واقعي في هذا السبيل...؟ يقول البابا بنوا 16، في كتابه عن المسيح، أن المسيح كان ينتمي إليها. إلا أن بعض أخصائي "مسيح التاريخ" شككوا فيما قاله البابا.. بيد أنه لا يمكن أن تكون يسوع صورة مطابقة ليوحنا ولا لجماعة قمران من قبله، من حيث إن رسالته قد تجاوزتهما في مضمون كونيتها، وفي منحى تحررهما من البصمات اليهودية.. مما جعل لرسالته وسع الصدى ولدعوته بعد المدى.. لعل ما ظهر لدى المسيحية من دعوات وطقوس ما يؤكد حقيقة تأثر ما بمفاهيم قمران، من بينها على سبيل المثال: العداء لمنظومة الهيكل الحبري، وطقس المعمودية، وشعيرة الاعتراف الكنسي بالخطايا ومغفرة الذنوب، وأقوال من أمثال " يسوع نور العالم " وغيرها من مصطلحات ومفاهيم. أجل، ثمة قرابة بين المسيحية وما ظهر لدى رهبان قمران من رؤى، وما بينهما من مصطلحات مشتركة.. ولم لا...! من حيث كونهما على قرب في الزمان.. استقيا من نهر ثقافي واحد، وانتميا إلى محيط واسع واحد.. [ فكر وثقافة ولغة منطقة الهلال الخصيب ].. من جانب آخر، ثمة دلائل تشير إلى ظهور حركة نبوية رؤوية وخلاصية متعددة في الوسط العبري.. من المؤكد ظهور حركات مماثلة لها لدى الأوساط غير العبرية، وإن لم يوفر لها التاريخ حظاً من الذاكرة.. هذا ما لوّح به مكسيم روندنسون، حينما قال: كانت الظاهرة النبوية شائعة في ذلك الزمن.. ويغمر النسيان على الدوام صفحة المغلوبين.. الميل الطبيعي يذهب لدعم وترويج الإيديولوجيا السائدة. " ومن ذا الذي يمكنه نفي وجود حركات على مثال فريق قمران، لدى آرام وكنعان.. والناس في كينونتهم وماهيتهم سواء في سواء، أمام قوانين التاريخ والمجتمعات وسيكولوجيا النفس الفردية والجمعية. لا يخامرني الشك بكون المسيحية كحركة شعبية أممية، قد تلاقت فروعها وروافدها من ومع سائر المكونات في المنطقة، وهذا ما رسخ فيها مظاهر كونية أصيلة منذ نشأتها.. على هذا المنوال، وبما له من صلة بين الفرقة القمرانية والمسيحية الوليدة، سألجأ على سبيل الإيجاز، إلى المقارنة بينهما، عبر جدولين، يبين الأول حال التباين ويظهر الثاني حالة التماثل.. أساسيات في التباين/ رهبان قمران: فرقة في عزلة مقلقة - معلم ومريدين – مفهوم الخلاص الخاص للجماعة ومن معها – فرقة منشقة عن اليهودية وعلى صلة بها – لديها مفاهيم تجمعها بها وأخرى تميزها عنها أما العناصر التي تنطوي على ما يماثل التماثل، يمكن أن تجمل في الآتي: أساسيات التماثل/ المسيحية المبكرة: - أما العناصر التي تنطوي على ما يماثل التماثل، يمكن أن تجمل في الآتي: التماثل لدى رهبان قمران/ تأثر أولي بالفكر الغنوصي- الاغتسال والمائدة المشتركة – ممارسة الطبابة – عداوة لمؤسسة الهيكل(الأحبار) كسلوك وممارسة في المقابل لدى المسيحية المبكرة/ تأثر واسع بالفكر الغنوصي- المعمودية في مقابل الاغتسال- ممارسة الطبابة – عداء لشريحة الهيكل، كسلوك وممارسة.. القول الفصل في مدونات قمران كتساقط أوراق الخريف الذابلة الصفراء، راحت تتساقط مقولات ورؤى، وما أكثرها، لعل أهمها إظهار ما حدا بالكتاب المقدس العبري من انهيار مريع في مدى وثوقياته، وتاريخياته.. لكأنما في نهجها هذا فضلاً عن غيره، أرادت أن تعلمنا ولو بطرف خفي، أنها قد شرعت تشق طريقها، متميزة عن الأصولية اليهودية المغلقة على ذاتها، لتطرق أبواب السير قدماً نحو الأفق الكوني للمسيحية القادمة.. على وقع من هذه الحقائق، لكم يكون متواطئاً ذلك النهج الذي راح يسعى جاهدا لتهوّيدها – أو ذهب ليجعل منها مجرد فرقة يهودية فحسب، في زمن لم تكن فيه اليهودية الأصولية ذاتها قد اكتمل بناؤها، إنما كانت مجرد مشروع يلوح في الأفق.. أرى أن الدافع الكامن في مثل هذا الانجرار في منحى التهويد لها، إنما يعود للخلل في الرؤية والمنهج، الذي ما انفك يمارس النظر إلى ذاك المحيط كجزر معزولة، لاسيما بما له من صلة بالعبرانيين وورثتهم، ومن بينهم القمرانيين.. بل وهبّ البعض ليواصل سعيه ليجعل من المسيحية بحد ذاتها، كتابع ملحق هزيل باليهودية ذاتها.. ويزداد ذلك المنهج غلوّاً وولوغاً بما هو فيه، حينما يذهب نحو الربط المحكم للقمرانيين باليهودية، ويعمد إلى الفصل بين هؤلاء وهؤلاء عن ملل ومكونات المحيط. بحيث يُظهِر- هذا المنهج، كما لو كان مسكوناً بمس تأصيل الأسرلة (من إسرائيل) فيعمل جاهداً على زج مسار التاريخ عبر ميزابة، على نحو متصل وبدون انقطاع، بدءاً من الآباء إلى مملكة يهوذا، إلى عزرا ونحميا، إلى أحبار الهيكل وقمران، حتى هرتزل ودايان.. قافزاً فوق مسافات الأزمنة ومساحات الجغرافية وفواصل المجتمعات.. كما يحلوا لذاك المنهج، أن يقطع صلة تلك الحالات عن محيطها، ضارباً عرض الحائط قوانين التاريخ، كما لو كانوا بمثابة جزيرة معزولة، في بحر المحيط بل والعالم. وعندما يحلو لأصحاب هذا النهج توجيه النظر نحو المحيط، فإن تلك المقاربة تبقى في حدود السطحية أو مجرد مستقبل لا فاعل، أو تنحوا لتجعل من ذاك المحيط بمثابة حصان طروادة لتمرير ما يرغبون.. حسبي ثم حسبي، أنني قد رغبت في التحري عن موقعها – (موقع جماعة قمران)، بالنسبة لليهودية، وكشفت في ظلالها عن ملابسات أزمة اليهودية ومأزقها.. لقد تمثل الأمر بكل جلاء، عبر العداء الذي أظهره فريق قمران لمنظومة الهيكل، كناموس وطقوس ورؤى.. وذلك على وقعٍ من إصغاء - هذه الجماعة، بما لدى المحيط من أفكار ورؤى ولاهوت. في الاختفاء - أرى، إن كانت مدونات قمران قد كشفت عن مأزق اليهودية وعاشته وعايشته، فإن اختفاء جماعة قمران من مسرح التاريخ يصبح شأناً مفهوماً، لكونها لم تشكّل الحل المطلق لذاك المأزق، بل كانت الشاهد التاريخي لتشكله، والمظهر المجسد لإعلانه على الملأ.. ليس من المستبعد في هذا الصدد، أن تكون جماعة قمران والجماعات المماثلة لها لدى الملل والأقوام الأخرى، قد شكّلت جمهور المسيحية الأوائل، ولاسيما نتلمس بصمات من التماثل، في معايير القيم والمفاهيم والطقوس، بين أولئك وهؤلاء.. لي أن أرى، في مقابل ما تمثله جماعة قمران وما آلوا إليه، راح فريق الهيكل الحبري في هروبه نحو الأمام، منكباً على صياغة اليهودية التلمودية، وفق ما قد جاءت عليه، وما انفكت تتغذى من مأزقها وتتشرنق فيه – وتبتدع الآليات الكفيلة برعايته، حتى اندمج في لحمتها، وغدا ككوّن لجوهرها وماهيتها.. كخلاصة لا يمكن إدراك المغزى الفعلي من وجود المدونات في مكتبة الكهوف، دونما معرفة توجهات جماعة قمران، من خلال ما ترشح لنا عنهم من نظرات وسلوك وشعائر.. في يقين مني، أرى فيما أتى من قبلهم يبدي توجها مضادا لخط الأحبار، من خلال معاداة الهيكل كمنظومة لاهوت وتشريع وسلوك.. وهم على هذا النحو قد اتخذوا منحىً منشقاً عن نهج منظومة الهيكل الحبري، وراحوا يعملون في عزلتهم، على الدراسة والتنقيب، عبر مجمل ما توفر لديهم من مخطوطات ونظر في معطيات معالم الواقع والحياة فيما حولهم، وذلك في مسعى سيرهم لتحديد توجههم المستقبلي.. وفقاً لهذا المنظور ندرك التنوع المتعددالبادي في توجهات تلك المدونات، مما قد يوحي بكونها مكتبة للدراسة.. ونرى، أن التحولات الآتية عبر القرن الأول والثاني ميلادي، بما رافقها من أحداث ومظاهر وتطورات، أدى في نهاية المطاف إلى تبلوّر تيارين: الأول تمثل في التيار اليهودي الحبري وفق أدبياته التي تم قوننتها آنذاك، أما الثاني، فقد تجلّى بظهور المسيحية الأولى وفق أدبياتها المعروفة آنذاك.. مما يدعم رؤيتنا تلك، هو أن اليهودية الحبرية قد أخذت مداها التنظيمي والتنظيري في ذلك الزمن، وبالتوازي ظهرت المسيحية الوليدة - بتياراتها المتعددة.. ولعل حالة التداخل والتصادم بين هذين التيارين يؤكد تلك الحقيقة.. ناهيكم عما أظهرته مدونات قمران، من تنوع وتفرع.. - ولعلي أرى، في اختفاء جماعة قمران من مسرح التاريخ، قد وجد طريقه لدى المسيحية الكونية.. هو ما يصب في تلك الحقيقة.. منذ ذلك الزمن، راحت منظومة الأحبار تسعى في منحى تنمية توجهها، لتؤسس دولتها السرية عبر ما ادعوه دولة الهيكل في مقابل هيكل الدولة الذي قد تشكًل في عموم المنطقة.. ولعل الشعار التوراتي الآتي هم ما يسلط الضوء على هذه الحقيقة، " وتكونون لي مملكة كهنة وأمة مقدسة " - هكذا كان منذ ذاك الزمان – كما أرى..
#عيسى_بن_ضيف_الله_حداد (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
الكاتب-ة لايسمح
بالتعليق على هذا
الموضوع
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
مع العلمانية / موقف
-
من التاريخ - الإمبارطورية
-
من حروب غيرت مسار التاريخ - الحروب ما بين روما وقرطاج
-
القبائل العبرية فيما قبل اليهودية
-
إضاءة تاريخية على الأصل الأقدم للفينيقيين
-
اضاءة على الأصل الأول لفينيقيا
-
العرب والبربر عبر التاريخ
-
من أوراقي - لاهوت الماء تقديس الماء عبر التاريخ
-
من أوراقي: مقدمات في الجغرافية التي صنعت اقاليمنا
-
وقفة مع الهيمنة الفارسية (538-333 ق م): سنأخذها نموذجا للإمب
...
-
مقدمات في مدارات التشكّل في منطقتنا (مقتطع من بحث مطول) التج
...
-
االبحث عن موسى
-
حوار – حول روايتي – على وهج الذاكرة
-
قراءة معاصرة للحياة السياسية في سورية في زمن الخمسينات
-
في قراءة معاصرة للحياة السياسية في سورية في زمن الخمسينات
-
الماء كمقدس - في تاريخنا الحضاري
-
كخلاصة للمناظرة مع فرويد في منهجه، كما ظهرت في موسى والتوحيد
...
-
مقتطف من مخطوطة عنوانها المسار التاريخي للكتاب المقدس الحبري
-
من علم الأديان تعريف بحركة القراء = حركة منشقة عن اليهودية ا
...
-
ما بين بن ميمون والفلسفة
المزيد.....
-
-عيد الدني-.. فيروز تبلغ عامها الـ90
-
خبيرة في لغة الجسد تكشف حقيقة علاقة ترامب وماسك
-
الكوفية الفلسطينية: حكاية رمز، وتاريخ شعب
-
71 قتيلا -موالين لإيران- بقصف على تدمر السورية نُسب لإسرائيل
...
-
20 ألف كيلومتر بالدراجة يقطعها الألماني إفريتس من أجل المناخ
...
-
الدفاع الروسية تعلن تحرير بلدة جديدة في دونيتسك والقضاء على
...
-
الكرملين يعلق على تصريح البنتاغون حول تبادل الضربات النووية
...
-
روسيا.. اكتشاف جينات في فول الصويا يتم تنشيطها لتقليل خسائر
...
-
هيئة بريطانية: حادث على بعد 74 ميلا جنوب غربي عدن
-
عشرات القتلى والجرحى بينهم أطفال في قصف إسرائيلي على قطاع غز
...
المزيد.....
-
الانسان في فجر الحضارة
/ مالك ابوعليا
-
مسألة أصل ثقافات العصر الحجري في شمال القسم الأوروبي من الات
...
/ مالك ابوعليا
-
مسرح الطفل وفنتازيا التكوين المعرفي بين الخيال الاسترجاعي وا
...
/ أبو الحسن سلام
-
تاريخ البشرية القديم
/ مالك ابوعليا
-
تراث بحزاني النسخة الاخيرة
/ ممتاز حسين خلو
-
فى الأسطورة العرقية اليهودية
/ سعيد العليمى
-
غورباتشوف والانهيار السوفيتي
/ دلير زنكنة
-
الكيمياء الصوفيّة وصناعة الدُّعاة
/ نايف سلوم
-
الشعر البدوي في مصر قراءة تأويلية
/ زينب محمد عبد الرحيم
-
عبد الله العروي.. المفكر العربي المعاصر
/ أحمد رباص
المزيد.....
|