|
إله المسلمين على أرض العلمانية
محمد اليوسفي
الحوار المتمدن-العدد: 7140 - 2022 / 1 / 19 - 03:39
المحور:
مواضيع وابحاث سياسية
هل نحن محصنون من مصير صامويل باتي؟ هل نحن محصنون من صناعة المزيد من قاطعي الرؤوس؟
إن صامويل باتي في هذا السياق لم يعد "شخصية" أو "ذاتا محددة" قُطعت رأسها ووُورِي الثرى! أبدا. كما أن قاطع رأسه لم يعد مجرد تلميذ ارتكب جرما "فظيعا" سيتكلف به القانون إدانة وعقوبة ومصيرا. إن النقاش حول هذه المسألة يتجاوز، أو يجب أن يتجاوز، مجرد قاعة المحكمة مكانا. كما يتجاوز، أو يجب أن يتجاوز، لحظة اقتراف الجرم وانتهاء أطوار المحاكمة زمانا. إن جوهر المشكلة (=التي صارت ظاهرة بحكم تكرارها)، وتحديدا بخصوص المتهم بشكل أوْلى، يجب أن يتجاوز التناول التقليدي المعتاد في الجرائم "العادية" و "المألوفة" كجرائم القتل بمنطق العصابات وباقي الفئات الإجرامية المعروفة. إن ما اقترفه التلميذ ليس إلا تجسيدا لجزء من بنية عقدية ليست وليدة اليوم بقدر ما احتضنها الزمن القديم والوسيط والحديث وما يزال يحتضنها الزمن عندنا إلى اليوم في مقابل شبه اختفائها في سياقات سوسيولوجية وإطارات ثقافية أخرى كالثقافة التي انتمى لها صامويل وغيره من أبناء البلدان "التقدمية" و"الحداثية" و"اللائكية". حيث استطاعت التجربة السياسية عندهم النجاح في تدبير المجالات الإنسانية واللاهوتية عبر فصل كل مكون عن الآخر وحصره في مهامه الخاصة. وفي ظل هاتين البنيتين المختلفتين جذريا؛ المعبر عنهما بالتلميذ وأستاذه الضحية، سيظل هذا السيناريو المرعب يتكرر في كل لحظة ما لم نفكر في سبل اتقاء هذا الشر بالطرق المعقولة لا بردود الأفعال العاطفية والحمية العقدية التي لا، ولن، نجني منها سوى المزيد من تعبيد الطرق نحو تكريس هذه العقلية "الظلامية" سواء الظاهرة منها أو المخفية على شكل خلايا نائمة، مادام العقل الإرهابي في هذا السياق لا يختلف في النوع بقدر ما يختلف، فقط، في الدرجة؛ أقصاها الذبح "المقدس"على هذه الشاكلة.
لقد كثرت الاعتراضات من أقوام كثر عندنا، يكاد القاسم المشترك بينها هو الاتجاه نحو تصريف الأزمة للسياسة الفرنسية عوض القيام بنقد ذاتي لــ"منطقيات العقيدة" عندنا. إذ حتى لو سلمنا بكون هذه الأفعال الإجرامية/الإ رهابية إنما ليست إلا مجرد ردود أفعال صنعتها العلمانيات "الكافرة" في الغرب، بطريقة أو بأخرى، فإن مجرد عودة بسيطة إلى الماضي تبين بالملموس أن ثقافة الاختلاف بقدر ما شهت تداولا وانتشارا في سياقات إسلامية معينة فإنها لم يكن مرحب بها في سياقات إسلامية أخرى كثيرة. ومن مأساة وسخرية التاريخ أن المسلمين ودَّعوا نهائيا السياقات الأولى لصالح الثانية؛ خاصة مع صعود حركة السلفيات بكل أنواعها وما تبعها من نماذج أخرى من السلفيات ذوات ربطات العنق وبذلات الإفرنجة (=الإسلام السياسي وأحفاد البنا). وهكذا فعوض رمزية الفارابي وابن سينا وابن الراوندي والرازي الطبيب والحلاج وأبو يزيد البسطامي والسهروردي المقتول وفرقة المعتزلة وابن باجة وابن طفيل وابن رشد وابن عربي...وغيرهم من عقلاء المسلمين، الذين انبثقوا من قلب العلم والمعرفة، قُُدِّمت لملايين الأجيال عندنا من العراق إلى المغرب، في ظل الانحطاط الذي تلا هذه المرحلة النيرة، رموز أخرى طفت على السطح منبثقة من قلب الأزمة وفيها تربت فأزّمت الوضع وكرّست الجهل وصنعت ثقافة الرأي الواحد والحق الواحد وصدّرته إلى كل بقاع العالم عبر شيوخها ودعاتها وسياسييها وقنواتها الإعلامية وثقافة الأشرطة قبل ذلك بكثير...فأصبحنا لا نكاد نزور حيا من أحياء بلاد المسلمين دون أن نسمع صيحات حسان والحويني والقرني وكشك ومحمد الغزالي والهضيبي والفيزازي والمغراوي والنهاري وبنحمزة...وغيرهم ممن دعموا هذا الاتجاه الذي قضى على كل أمل في غد أفضل ومتنور وهم يجهزون بكل ثقلهم، وبدعم سياسي مباشر وغير مباشرة من طرف الأنظمة الاستبداية الحاكمة، حتى ينتفي عندنا كل فكر تقدمي ونقدي يسائل السياسة والدين والإعلام والثقافة والواقع بكل تناقضاته الرئيسية وغير الرئيسية. ولم يكن الحوار ولا النقاش ولا التناظر العقلاني هي الوسائل المعتمدة في هذا المسار بقدر ما كانت لغة الوعد والوعيد هي الفيصل مادامت هذه الأطراف تؤمن منذ البداية أن كل جدال تفاعلي هو مجرد مضيعة للوقت والجهد وأن الحق هو الحق لا مجمجة فيه ولا اختلاف! وبطيبعة الحال هذا الحق المتصور هو ما تعتقده هي حرفيا. وهنا لن أنسى نهائيا تلك الغوغائية الجماهيرية المستغلة من طرف هؤلاء في آخر مناظرة أجراها المرحوم فرج فودة ومحمد أحمد خلف الله مع كل من محمد الغزالي والهضيبي وعمارة بمقر نقابة المهندسين (=مصر) حيث كانت القاعة تهتز بهتافات شباب ملتحي وشابات محجبة تظهر على وجوههم علامات الاستعداد للإقدام على كل فعل شنيع؛ دون أن ننسى ما كانت تلقي به من عبارت الشتم في حق فودة وخلف الله. حتى سميت هذه المناظرة "المناظرةَ التي قتلت فودة"! كما لن أنسى نهائيا التصريح الذي صرح به محمد الغزالي بعد إصدار الحكم على الجاني، قاتل فرج، حينما قال: "لا قصاص في حق هذا (=أي المذنب) لأنه لا قصاص إلا بين مسلم ومسلم.". وبطبيعة الحال لم يتوقف مسلسل الإرهاب الفكري إلى هذا الحد ولا إلى هذا الحدث المروع، بل ظل يسري كالسم في روح الملايين من أجيال المسلمين في مشارق الأرض ومغاربها. ولم نكن مطلقا استثناء هنا في مغربنا تحديدا حينما تم غزو الجامعات والأحياء الشعبية والنقابات والمدارس والمساجد والجمعيات والإعلام...بهذه النماذج التي وظفت عندنا لنفس الغرض الذي وظفت فيه في بلاد النيل: محاربة الفكر الإلحادي الشيوعي ثم العلماني لاحقا! ولست في حاجة إلى ذكر مآل رواد آخرين في الفكر كنصر حامد أبو زيد (المنفي) وحسين مروة (الشهيد) وجلال صادق العظم وأركون والجابري وطه حسين وخلف الله والقمني وعلي عبد الرازق والأفغاني وسلامة موسى والعروي...وغيرهم من مفكري الثقافة الإسلامية عندنا المنبوذين عند عامة الناس بسبب ما وقع من تحريف تأويلي لأفكارهم بغية صرف الأجيال/المغسولة الدماغ عنهم؛ مادام رجل الدين ورجل السياسة لا يستثمران إلا في الجهل ولا يربحان ماديا ومعنويا إلا من داخل سياجات نشر الأساطير وتأجيج المشاعر الغبية! وبطبيعة الحال فإن لهؤلاء سند تاريخي وشرعي يبنيان عليهما ما يصدر عنهم من أحكام وقرارات. ذلك أن سياقات تاريخية كثيرة من داخل التاريخ الإسلامي عرفت تحجيرا على الفكر وقتلا للمختلف. ولا أدل على هذا أكثر من حرق كتب أبي حامد الغزالي، حجة الإسلام، في دولة يتمثلها المسلمون اليوم "دولة فقه وفقهاء". ثم ما حدث أيضا لقاضي القضاة الفقيه وابن الفقيه ابن رشد. وقبلهما فلاسفة ومفكرون وعلماء كثر لسنا في مقام أكاديمي/محض للتدقيق فيهم وفي ما نالوه من تضييق! إن ما حدث ليس مجرد فعل ذاتي صادر عن تلميذ كجسد ولحم وعظام، بل هو أمر صادر عن بنية عقدية ترى في المختلف أو الناقد لعقيدتي الذاتية عدوا وجبت تصفيته. وهنا تماما يحضرني موقف الفيلسوفة حنا آرندت بخصوص محاكمة النازي آيخمان؛ حينما اعتبرت أن ما صدر عنه هو مجرد ترجمة لبنية فكرية عنصرية أقوى منه، مادام كان مجرد ضابط صغير الرتبة تحت إمرة الفوهرر. إن انفتاحنا على الفلسفة وعلوم الاجتماع والإنسان عوض التركيز على الشحنات الدينية والقانونية فقط هو الكفيل بتحقيق فهم أعمق لما يجري في عالم اليوم. وعدم إيماننا بهذا السبيل سيجعلنا دوما معرضين للنقد الأسود من طرف غيرنا حتى نزداد تأزما ويزداد غيرنا سخرية منا.
#محمد_اليوسفي (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
التاريخ الكمي
-
العالم بوصفه ظهورا عند -حنة أرندت Hannah Arendt -.
المزيد.....
-
الجيش اللبناني يعلن تسلمه 3 معسكرات تابعة لفصائل فلسطينية لب
...
-
منظر مذهل في تركيا.. تجمد جزئي لبحيرة في فان يخلق لوحة طبيعي
...
-
إندونيسيا تحيي الذكرى العشرين لكارثة تسونامي المأساوية التي
...
-
ألمانيا تكشف هوية منفذ هجوم سوق الميلاد في ماغديبورغ، وتتوعد
...
-
إصابات في إسرائيل بعد فشل اعتراض صاروخ حوثي
-
شولتس يتفقد مكان اعتداء الدهس في ماغديبورغ (فيديو+ صور)
-
السفارة السورية في الأردن تمنح السوريين تذكرة عودة مجانية إل
...
-
الدفاع المدني بغزة: القوات الإسرائيلية تعمد إلى قتل المدنيين
...
-
الجيش الروسي يدمر مدرعة عربية الصنع
-
-حماس- و-الجهاد- و-الشعبية- تبحث في القاهرة الحرب على غزة وت
...
المزيد.....
-
لبنان: أزمة غذاء في ظل الحرب والاستغلال الرأسمالي
/ غسان مكارم
-
إرادة الشعوب ستسقط مشروع الشرق الأوسط الجديد الصهيو- أمريكي-
...
/ محمد حسن خليل
-
المجلد العشرون - دراسات ومقالات- منشورة بين عامي 2023 و 2024
/ غازي الصوراني
-
المجلد الثامن عشر - دراسات ومقالات - منشورة عام 2021
/ غازي الصوراني
-
المجلد السابع عشر - دراسات ومقالات- منشورة عام 2020
/ غازي الصوراني
-
المجلد السادس عشر " دراسات ومقالات" منشورة بين عامي 2015 و
...
/ غازي الصوراني
-
دراسات ومقالات في الفكر والسياسة والاقتصاد والمجتمع - المجلد
...
/ غازي الصوراني
-
تداخل الاجناس الأدبية في رواية قهوة سادة للكاتب السيد حافظ
/ غنية ولهي- - - سمية حملاوي
-
دراسة تحليلية نقدية لأزمة منظمة التحرير الفلسطينية
/ سعيد الوجاني
-
، كتاب مذكرات السيد حافظ بين عبقرية الإبداع وتهميش الواقع ال
...
/ ياسر جابر الجمَّال
المزيد.....
|