عبداللطيف هسوف
الحوار المتمدن-العدد: 1661 - 2006 / 9 / 2 - 07:24
المحور:
دراسات وابحاث في التاريخ والتراث واللغات
تبدو سياسة فرنسا اتجاه السلطان المغربي غير مستقرة على حال، إذ قطعت مراحل عديدة مختلفة:
- مرحلة أولى: تقوية دور السلطان لمساعدة الفرنسيين على ضرب القبائل المتمردة في جبال الأطلس والريف والجنوب.
- مرحلة ثانية: تجاهل السلطان بعد أن تم تأمين القبائل ونشر السلم نسبيا بربوع البلاد.
- مرحلة ثالثة: إكساب السلطان مرتبة متميزة من جديد حين احتاج إليه الفرنسيون لإصدار نداءات للمغاربة قصد مساعدتهم أثناء الحرب العالمية الثانية.
- مرحلة رابعة: الدخول مع السلطان في مواجهة مفتوحة حين ساندته القبائل الأمازيغية التي راهن الفرنسيون خطأ على ولائها لهم، وكذا حين سانده الوطنيون بالحواضر.
أما اتجاه المغاربة كشعب فقد كانت نظرة فرسا في الغالب نظرة انتقاص، بل وفي بعض الأحيان نظرة احتقار. يقول جوليان عن المعمرين: كان الفرنسيون يعتبرون أنفسهم من طينة مغايرة للسكان المغاربة الأصليين، حتى حين لا يعترفون بذلك (Julien).. وقد ظهرت عبارات يرددها المعمرون من قبيل: العربي طاحونة ريحها المحركة هي الأوربي، فإذا توقفت الريح توقف اشتغال الطاحونة . وقال الاشتراكي دولنييرز: لنحب العربي كما لو كان أخا متخلفا عقليا سيلحق بنا في يوم من الأيام . (Deslinières Lucien, La France Nord-Afriaine, Paris, Editions de Progrès civique, 1920, p. 381) . وآخرون رددوا: تعليم السكان الأصليين يعني الحط من قيمة الفرنسيين . كما كان بعض الفرنسيين يظنون أن شقاء الفلاح المغربي هو ما سيساهم في ازدهار المعمر الفرنسي.
ومع ذلك فإن فرنسا ستفتح المغرب على الحداثة. وقد كتب لادريت: إن فرنسا لا تستعمر كما يفعل الآخرون، بل إنها باستعمارها البلدان تفتح أمامها الباب واسعا نحو الحداثة (Ladreit de Lacharrière Jacques, La création marocaine, Paris, Payrounet, 1925, p :10). وقد خلق ليوطي ما سماه بيرك: نظام استعماري ذو أهداف نبيلة . (Berque, p 58). وكتب ليوطي نفسه عن المغرب يقول: هذا البلد لا يجب قيادته بالقوة وحدها. إن الطريقة العقلانية، الوحيدة والناجعة، التي من أجلها أرسلت إلى هنا، أنا وليس غيري، هي في الحقيقة لعبة مستمرة تزاوج بين السياسة والقوة . (Lyautey, ‘’Choix de lettres, Paris, Colin 1945, p : 296). كما كاتب ليوطي هنريس ينصحه: عاقب إن كان ذلك ضروريا، لكن الأساسي هو أن تتوصل إلى عقد سلام حقيقي، إلى نظام حكم عادي ومستقر، وأن تتمكن من أن تجعل مناطق بني مطير وبني مكيلد غطاء تقي تقدمك عوض أن تصبح تهديدا لك من الخلف . (Lyautey, ‘’Choix de lettres, Paris, Colin 1945, p : 13).
لم يتوقف ليوطي خلال فترة إقامته بالمغرب من ترديد: يجب إبراز القوة حتى لا نكون مجبرين على استعمالها . وكان ليوطي كلما فتح منطقة وأمنها، يتبع ذلك بفتح الأسواق والمستوصفات بمحاذاة هذه المنطقة وأراضي القبائل التي لم يخضعها بعد، ثم يغرق السوق بالسلع الرخيصة التي تقبل عليها هذه القبائل. وكان ذلك محاولة منه لإظهار النعمة التي سيعممها المستعمر على السكان متى استسلمت له. وقد كان يردد: عوض أن أخرب أسواق القبائل، يجب أن أطورها... فالاعتبارات الاقتصادية تتلاقى مع الاعتبارات العسكرية. فطالما أن مدافعي موجهة إلى هذه الأسواق، فإنني أجزم أنني أحكم البلد. كيف ذلك؟ لأنني بذلك أستطيع أن أنشر الوفرة بين الناس أو أن أنشر المجاعة، وذلك بمد السوق بالبضائع أو قطعها عنها . ويضيف ليوطي: إن التجارة وحدها هي الكفيلة باستمالة المغاربة. فكل مغربي يغتني سيصبح حتما مساندا لنا... .
يقول ليوطي: في حين كنا بالجزائر أمام غبار حقيقي... بالعكس، وجدنا أنفسنا بالمغرب أمام إمبراطورية تاريخية ومستقلة تغير حد الهوس على استقلالها، تتمرد على كل نوع من أنواع الاستعباد... وحتى سنوات قريبة، كان المغرب يشكل دولة تحكمها تراتبية الوظائف، ولها تمثيليات في الخارج... في المغرب يوجد حتى الآن أناس كانوا يمثلون بلدهم في ستراسبورغ ولندن... رجال لهم حظ من الثقافة تعاملوا الند للند مع رجالات الدول الأوربية... هذا طبعا ما لم نصادفه في كل من الجزائر وتونس... . سنة 1915، حضر ليوطي تجمع الطلبة (حملة القرآن) بضريح مولاي إدريس زرهون، إلا أنه منع النصارى من دخول حرم المسجد، بل إنه هو أيضا ظل بالخارج ورفض دعوة لدخول المسجد حين طلب منه الشرفاء الأدارسة ذلك قصد الدعاء له بالشفاء بعد مرض كان قد ألم به. لكن ليوطي كان يزور المواسم والأسواق المقامة خلال المناسبات الدينية، ولا يفوته أن يضع في كل مرة 25 نص من الذهب (لويز) في صندوقة الولي الصالح.
في ماي 1914 م، طرد الليوتنان (Boucly) من البلاد حين قتل ثلاث نساء ب البروج لاتهامهن بتسميم أحد الرماة المغاربة العاملين في الجيش الفرنسي. كما أن ليوطي أعفى الكولونيل ريبيل (Reibell) من مهامه حين أخذ صورة تذكارية مع أعيان قبيلة بالجبل، لكن حين تأكد من استئمانهم له، قامت جيوشه بقتلهم غدرا. وحين قامت طائرة فرنسية بإلقاء القنابل على قبيلة وقت تناول فرسانها الغذاء، وجه الجانبين المغربي والفرنسي للطيارين الفرنسيين انتقادات لاذعة، ذلك أن العرف في القبائل الجبلية أن لا يهاجم العدو وقت الظهيرة. (Robin Bidwell, ‘’Morocco Under Colonial Rule’’, University of Combridge, Frank Cass and Company, London 1973, p. 35).
إلا أن هذا الاحترام النسبي الذي أبداه ليوطي للمغرب سلطانا وشعبا لم يفتأ ينحسر بعد انتهاء مهمته، فقد تقاطر على المغرب خلال ثلاث سنوات من ولاية ستيج (Steeg) عدد كبير من المعمرين المحتلين لأراضي المغاربة فاق ما حج إلى المغرب من معمرين خلال 13 سنة التي قضاها ليوطي حاكما عاما للمغرب. وكتب المقيم العام الجنرال جوان: هل يمكننا أن نقدم لأيادي غير مجربة وعقول غير مهيأة ميكانيزمات الإدارة العصرية التي يتطلبها تقد المغرب الجديد؟ لا بالطبع، وقد اعترف المغاربة أنفسهم بذلك (Le Monde, 1er septembre 1957). وقال فريش بنوع من المبالغة: لو أن النبي إبراهيم نزل للتو من السماء وسط قبيلة من القبائل المغربية، لاستنتج أن عادات وتقاليد وأفكار عصره لازالت حية... (Frisch R.-J., ‘’Le Maroc’’, Paris Le Roux, 1895, p : 47).
ومن الانتقادات التي وجهت إلى ليوطي نفسه، وهو الملكي حتى النخاع، الأرستقراطي الأفكار، أنه أغمض العين على فساد النخب المغربية المساعدة له في الحكم. إذ أنه عمل كل ما في وسعه للحفاظ على المرتبات الاجتماعية كما كانت قبل الحماية. تبث وجهاء القبائل في مناصب مهمة كقياد وباشوات وأدخل الأسر المخزنية سابقا لمساعدة إدارته مؤكدا على أن الحماية لا يجب أن تحدث تغييرا في البناء الاجتماعي المغربي.
ورغم فإن التغييرات الاجتماعية والاقتصادية خلال 40 عاما من الحماية كانت أقوى من التغييرات التي عرفها المغرب خلال قرنيين من الزمن. ويمكن القول بأن استفادة المغاربة من الحماية كانت متفاوتة، طبعا سيستفيد عامة الناس أكثر، ليس فقط لأن فرنسا مدت سكك الحديد وفتحت الطرق وجلبت السيارات... لكن ما جاءت به فرنسا إلى المغرب كان يتمثل بالأساس في نشر الأمان ومنع القهر الذي كانت تمارسه القبائل المحاربة القوية على القبائل الضعيفة ( Maurois, p : 226). والمؤكد أن سياسة فرنسا بالمغرب لم تكن منتظمة. يقول بيرك: إن فرنسا أخفقت في توجيه التحولات بالمغرب بعد أن كانت انطلاقتها جيدة (Berque, p : 423-424). ويرجع هذا ربما إلى أن فرنسا لم تفهم أبدا عقلية المغاربة. هذا القصور في فهم الآخر جعل الاختلافات والمواجهات تكبر مع بروز نخبة من المتعلمين المغاربة سيشكلون نواة الحركة الوطنية. وعوض أن يشكل أفراد هذه النخبة، التي كونتها فرنسا، قنطرة بين المعمر الفرنسي والمستعمر المغربي، إلا أنهم كانوا السبب في خروج فرنسا من المغرب بعد أن التحموا حول الملك المنفي المرحوم محمد الخامس. (Lepp Ignace, Midisonne au Maroc, Paris, Aubier, 1954, p : 45).
#عبداللطيف_هسوف (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟