|
زمن الكوارث
عذري مازغ
الحوار المتمدن-العدد: 7128 - 2022 / 1 / 6 - 18:54
المحور:
الادب والفن
في بداية السبعينات وانا لا زلت طفلا لم ادخل المدرسة بعد، في منطقة نائية (نائية بمعيار ذلك الوقت)، نائية لأن وسيلة النقل المستعملة حينها هو البغل، وحتى الطريق التي رسمتها فرنسا في منطقتنا، كان الذي يستعملها هم موظفي المياه والغابات (هي نفسها الطريق الحالية التي تربط مدينة مريرت بأكلمام ازكزة، في وقتها كنا لا نسمع ضجيج السيارات إلا نادرا، وكنا حين نسمع صوتها من بعيد نخرج كلنا لنراها تمضي بين الأشجار البلوطية، كانت آليات شبه عسكرية ذات لون اخضر بسبب نظرنا النقي البدوي كنا نميزها من بين خضرة شجر البلوط، منطقتنا كانت بدون ضجيج ولا تلوث سمعي بشكل كان تواصلنا يتم بالمناداة، حتى في الغناء الأمازيغي الرحالي، اجمل صوت هو الصوت القوي بدون مكبرات صوت. كنا نقطن بالخيام برغم وجود منزل لنا بإغرم بتيط إفسثن، لاسباب موضوعية متعلقة بتربية الغنم والماعز كنا نسكن في خيم بمنطقة خصبة نسميها أعرقوب او أغبال أكسواث (أغبار الكبير) كانت الخيم هي الطريقة التي تسمح بالتنقل إلى المراعي الخصبة، نسكن بأغبال إذا كانت مناطق اخرى مزروعة بالقمح والشعير والمنتوجات القطنية المكملة، نعود للسكن بهذه المناطق المزروعة في السنة الموالية، كانت لدينا منطقة مؤنثة تسمى ايضا تاغبالت نسكنها حين لا نزرع فيها، كنا نسكن بالخيم المناطق التي لا نزرعها لإراحتها ونزرع التي كنا نسكن بها ونتعامل هكذا: حيث الرعي لا يجب ان يقارن بالمكان المزروع، وهذا لا يعني كل شيء، كنا نشطين حتى ف اماكن الزرع، كنا ناخذ النباتات من المناطق المزروعة لتغذية مواشينا ، المنزل بإغرم كنا نستعمله في الفترات الصعبة، فترة الثلوج خاصة وأننا نستعملها أكثر لتخزين الحبوب الزراعية زمن كان الناس فيه يحرمون على انفسهم السرقة وزمن لم تكن الملكية الخاصة أمرا مقدسا لدرجة الإنجرار في تعب الجلسات في المحاكم المخزنية، كان استقلال المغرب بشكله المميع كما يفهمه الآن المثقفون الموضوعيون، كان بالنسبة لسكاننا امرا طيبا وساحرا لدرجة صدق الأمازيغ عندنا تلك الخرافة الجميلة من ظهور محمد الخامس مجسما كنقد فضي في صفحة القمر، كان عيد الإستقلال الذي اغتصبه الحسن الثاني فحوله إلى عيد العرش كان احتفال بالعادات الطيبة الأمازيغية في تلاحم بعضهم ببعض، وكان الذهاب إلى مريرت للإحتفال أمرا ملحميا لا يقاس يتنظيمات وزارة الداخلية الآن: تنصب الخيم في الشوارع المهمة لمريرت وكانت عبارة عن تجمعات غصنية للقبيلة، كل القبائل التي تترابط فيما بينها بالقرابة تتخذ مكانا يوحدها ولا يهم الموقع هل تتوسط مريرت او تاحذ مكانا متطرفا، كان المهم هو ان تكون العشائر المتقاربة موحدة في مربع معين، وكان فن التبوريدة تخص له ساحة معينة للتباري وهو ملحمة لإظهار حسن التنظيم وقوة الإتحاد بين عشائر قبيلة معينة وكانت تقام في شكل تباري بدون جوائز: كان التباري تلقائيا الفائز منهم هو من تكلمت الناس عنه لمدة طويلة واحيانا يطغى الحديث على بعض الحوادث أكثر من طغيان التباري. كانت العلاقة بيننا في الجبال وبين مدينتنا مريرت هي علاقة تمثيل دبلوماسي تتجلى ملامحه في السوق الأسبوعي، وحتى احياء مريرت كانت موزعة بالتكتل القبلي: تاحجاويت يغلب عليها عنصر قبلي معين وهكذا دون ان ادخل في التفاصيل لأن الأمر يحتاج إلى دراسة معمقة إحصائية لكن من الناحية السكانية هناك تمركز لقبائل معينة في منطقة معينة في هذا الزمن الذي اتكلم عنه (أقصد بداية السبعينات من القرن الماضي)، في هذه السنوات بالتحديد كانت علاقتنا بالمخزن تتأسس على ترسيم اخطبوطه في الجهات الريفية البعيدة أصلا عن اي ثقافة سياسية: كانت التجمعات القبلية في عمقها تبحث في اختيار ممثليها عند السلطة في اختيار "شيوخ" و"مقدمين"، اما العمليات الإنتخابية فكانت صورية لا اكثر، في ذلك الوقت كان "الشيخ" و"المقدم" اكثر من اختيار ممثل السكان، لم يكن مستوعبا بعد ان العلاقة بين النظام السياسي للدولة هو علاقة تبادل المنفعة بل كانت من وجهة نظر المخزن إخضاع القبائل لسلطته (لم تكن علاقة مدنية اقصد) وكانت من وجهة نظر القبائل علاقة تقرب للسلطة وتقرب للحظوة السياسية، فخر بالقوة والتفاخر اكثر منها فخر بعلاقة منفعية متوازنة، كنا نعتمد على انفسنا في كل شيء بخصوص التدبير المعيشي، وكان المخزن بتلك العلاقة المؤسسة يستبيح استغلال ثرواتنا الطبيعية حيث تخلص من خلال فرنسا في سياسة تثبيت الملكية الخاصة بوجود غابات مخزنية واخرى جماعية لم يحن لفرنسا تملكها بسبب امور عجلت بخروجها (لو بقيت فرنسا حتى السبعينات لما كان هناك ما يسمى بالأراضي السلالية وهذا ما يذهب آنيا المغرب في سياقه: قتل الملكية الجماعية من خلال تمرير تلك الاراضي لشركات إيماراتية وسعودية وبشكل عام المال البيترودولاري، وشركات اجنبية اخرى). كنا نعتمد على انفسنا في كل شيء وهنا بيت القصيد من كوننا في بداية السبعينات، بسبب من النمط الرحالي كنا نفضل الخيم على المنازل وفق إيقاع نمط الإنتاج الرحالي، كان والدي يعتمد في تغذيتنا باللحوم بالصيد البري، كان الكسكس والخبز اكلنا اليومي، فطورنا يعتمد على الشاي بالخبز، كنا كاطفال نعاني المجاعة واتذكر ان كلا منا كان يجري وراء أمه يباكي قطعة خبز: "ريخ أغروم" (اريد خبزا) وكان الامر يصل إلى ضربنا للكف عن الإلحاح، لم يكن عندنا في الاطلس المتوسط مشكل اثاره كاتب روائي مغربي لا اتذكر الآن اسمه والذي مثلت روايته في مسرحية مدرسية عنوانها: "اويد أمان" آتيني بالماء، فالإحالة مختلفة جدا، في ذلك الزمن. لاستحالة وجود النقد عند آبائنا كانوا يلجأون إلى طحن الحبوب في طاحونات مائية تقليدية مقابل كمية من المحصول (إذا كانت مثلا نسبة الكمية قنطار، ياخذ صاحب المطحنة المائية جزء متفق عليه لطحن ذلك القنطار، هو طحين لايوفر الكمية الكافية لإيجاد طحين للخبز بشكل يومي، نعم هناك طحين لكن اغلبه مقشر يصلح في اكلة هي الآن تعتبر منسية، أكلة "أحرير" (احرير مذكر تاحريرت وهي الاكلة المشهورة الآن عالميا "الحريرة"، لكن احرير انطفأ ريقه لأنه كان حريرة ثقيلة بقشور الحبوب وعروق النباتات) وكان يقام في مناسبات كثيرة منها توفيره للمرأة التي وضعت مولودا، كان احرير هو ضمان وجود الحليب لطفلها في ثديها، كان الغذاء المفضل للنساء الرضيعات. الامراض الوبائية! يا إلهي كانت كارثية عندنا وهذا هو القصد من كتابتي اليوم من ذكر ذلك المكان المشؤوم "اعرقوب"، كنا جارين، عائلتين، عائلة عمتي وعائلتنا، كنا خمسة اطفال، كنا نحن أربعة، انا واختي فاطمة ومليكة وأخي لحسن، وفي العائلة الثانية كان طفل هو ابن ابن عمتي، لحسن ومليكة وفاطمة وابن عمتي، كنا خمسة اطفال مات ثلاثة منا في يوم واحد وبقيت انا واختي فاطمة، لم اكن مريضا بينما فاطمة كانت مريضة لكن ليس بدرجة مرض الثلاث الآخرين، ماتوا في يوم واحد، وعندما ذهبوا لإقبارهم التقوا بموتى اطفال آخرين في قبور الولي "لحسن الطريفة"، كارثة بكل معايير عصرنا هذا، المرض لا اتذكره واعتقد كان مرض الحصبة (بوحمرون)، في زيارتي للمغرب سنة 2003 قالت لي والدتي بان اخي لحسن كان اذكى مني ولكن حينما سألتها كيف ماتوا كانت لا تتذكر سوى أننا كنا نلعب وقلت لهم بأنهم سيموتون ، حقد طفولي لا اتذكر، وقالت ان نبوءتي حصلت، لكن الحقيقة هي اني كنت محظوظا لا اكثر، كنت الكبير في ذكور العائلة وكانت العائلة قد ارسلتي عند عمي بجبل عوام لاجل التمدرس وصادفت في كثير من المراة تلقيحات ضد هذه الاوبئة عكس إخوتي الصغار، كان الإشعاع التمدني للدولة المغربية حينها يمس فقط المقربون للمدينة اما الذين يبنون الخيم للإحتفال بعيد العرش في ثالث مارس من سكان الجبل فلم يكونوا يستوعبون اهمية وجود الدولة، كانوا في زمن آخر
#عذري_مازغ (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
لاول مرة في الحوار اتكلم عن كرة القدم
-
اليسار والثورة
-
تحرير ماركس من الخرافات..! تحرير أم تفهرس؟
-
الامازيغية حين تهان في وطنها
-
وزير العدل المغربي وحكاية جوارب
-
أخاشث وا (لك هذا)
-
الخطأ المقدس
-
لماذا نقد الماركسية وليس الرأسمالية
-
ردي على تعليق الصديق عبد الحسين في مقالي: الماركسية ليست طوب
...
-
الماركسية ليست طوباوية
-
المغرب الرخيص وقضايا الصراع الطبقي
-
حوار الطرشان في قضية الصحراء
-
الغجر
-
هل سينجح استيفان دي مستورا في مهمته بالصحراء الغربية؟
-
-كان صبت اندبي! كان صحت اندبي.-
-
قضايا مغربية
-
البوليزاريو وإشكالية توحيد الشعوب المغاربية
-
قراء مقتضبة في نص الحوار المفتوح للرفيق رزكار عقراوي
-
لا يمسه إلا المطهرون
-
-دير النية أوكان...!-
المزيد.....
-
تونس: أيام قرطاج المسرحية تفتتح دورتها الـ25 تحت شعار -المسر
...
-
سوريا.. رحيل المطرب عصمت رشيد عن عمر ناهز 76 عاما
-
-المتبقي- من أهم وأبرز الأفلام السينمائية التي تناولت القضية
...
-
أموريم -الشاعر- وقدرته على التواصل مع لاعبي مانشستر يونايتد
...
-
الكتب عنوان معركة جديدة بين شركات الذكاء الاصطناعي والناشرين
...
-
-لي يدان لأكتب-.. باكورة مشروع -غزة تكتب- بأقلام غزية
-
انطلاق النسخة السابعة من معرض الكتاب الفني
-
مهرجان الأفلام الوثائقية لـRT -زمن أبطالنا- ينطلق في صربيا ب
...
-
فوز الشاعر اللبناني شربل داغر بجائزة أبو القاسم الشابي في تو
...
-
الموصل تحتضن مهرجان بابلون للأفلام الوثائقية للمرة الثانية
المزيد.....
-
التجريب والتأسيس في مسرح السيد حافظ
/ عبد الكريم برشيد
-
مداخل أوليّة إلى عوالم السيد حافظ السرديّة
/ د. أمل درويش
-
التلاحم الدلالي والبلاغي في معلقة امريء القيس والأرض اليباب
...
/ حسين علوان حسين
-
التجريب في الرواية والمسرح عند السيد حافظ في عيون كتاب ونقا
...
/ نواف يونس وآخرون
-
دلالة المفارقات الموضوعاتية في أعمال السيد حافظ الروائية - و
...
/ نادية سعدوني
-
المرأة بين التسلط والقهر في مسرح الطفل للسيد حافظ وآخرين
/ د. راندا حلمى السعيد
-
سراب مختلف ألوانه
/ خالد علي سليفاني
-
جماليات الكتابة المسرحية الموجهة للطفل في مسرحية سندس للسيد
...
/ أمال قندوز - فاطنة بوكركب
-
السيد حافظ أيقونة دراما الطفل
/ د. أحمد محمود أحمد سعيد
-
اللغة الشعرية فى مسرح الطفل عند السيد حافظ
/ صبرينة نصري نجود نصري
المزيد.....
|