|
محفوظ ؛ مؤرخ مصر وضميرها
دلور ميقري
الحوار المتمدن-العدد: 1660 - 2006 / 9 / 1 - 10:26
المحور:
الادب والفن
1 إستوفت القاهرة حقها من الشهرة بين المدن ، حدّ أنها إستولت على إسم أرض الكنانة برمته ؛ " مصر " . وهذه بدورها ، ملكت أعين وأفئدة أبنائها ، فما عادوا ليروا بلداً آخر غيرها على وجه المعمورة ؛ فنعتوها تحبباً " أمّ الدنيا " . وإذ ننحي جانباً تلك الأسماء والنعوت ، الحسنى ، فلا بدّ من الإفضاء بحقيقة لا يمتري فيها أحد : وهي أنّ مصرَ الخير والسِعَة والمسرّة ، ما كان لها إلا أن تحتبي أهلَ الأرض كأمّ رؤوم ؛ سواءً بسواء ، أاتوا إليها كمهاجرين أو فاتحين أو سائحين . هؤلاء الأخيرون ، ما فتئوا في يومنا الحاضر على تدفقهم إليها ، بوصفها مهداً للحضارة ؛ الأهرامات وحارسها أبي الهول ، الغامض ؛ الكرنك ومعابده العملاقة ؛ المسلة ورموزها الهيروغليفية المبهمة ؛ المتحف ونفائسه العجيبة ؛ المومياءات ولغزها العصيّ .. وغيرها . بيْدَ أنّ مصرَ ، كصبيّة سمراء ، فقيرة ، تتملكُ أيضاً المرءَ بحسنها وبساطتها وسذاجتها وطيبتها ؛ هذه الصفاتُ التي فشتْ كذلك في أبنائها ، فتميّزوا بها على أهلَ المغرب والمشرق . فضلاً عن أوابد التاريخ ومواضع الطبيعة ، الساحرة ، نشيرُ ألى مكامن العبقرية الفنية والأدبية ، المكنونة في أرض الكنانة هذه ، والمتفجرة بأسماء مبدعيها قديماً وحديثا : كافافيس ، سيّد درويش ، قاسم أمين ، أحمد شوقي ، مي زيادة ، لويس عوض ، أم كلثوم ، أسمهان ، فريد الأطرش ، عبد الوهاب ، عبد الحليم ، سعاد حسني ، فاتن حمامة ، عمر الشريف .. ونجيب محفوظ .
2
إسمُ نجيب محفوظ ، كان أليفا لسمعي ، حتى قبل قراءتي لكتب صاحبه ؛ الإسمُ الذي كان يمرّ أمام عينيّ ، منذ سنّ الطفولة ، مقروناً بهذا الفيلم السينمائيّ أو تلك التمثيلية التلفزيونية . أتذكرُ جيداً تعرفي على أدبه ، من خلال رواية " الطريق " ، التي أعارني إياها أحد لداتي ، في سنتي الإعدادية الثانية . منذئذٍ ، أضحى محفوظ طقساً فرضاً ، بالنسبة لي ، حدّ أنني صرتُ زبوناً دائماً لأحد باعة الكتب ، المفترش دكة خشبية في جادة ضيّقة ، متفرعة من شارع " الفردوس " ، الدمشقي . إلا أنّ هذا البائع البشوش الملمح واللطيف العبارة ، سيصيبني بالإحباط ذات مرة ، فيما كانت يدي تمتدّ لجيبي كيما أناوله ثمن الجزء الأول من ثلاثية محفوظ ، الروائية ، " بين القصريْن " . إذ أصرّ البائعُ ، وليس بدون مجاملة ، أن أشتري الأجزاء الثلاثة معاً ، متحججاً بندرة نسخها لديه . وإذ فوّت عليّ الرجلُ فرحة َ ذلك اليوم ، بالعودة إلى المنزل دون تأبط رواية كاتبي المفضل ؛ إلا أنني مضيتُ في صباح اليوم التالي ، مباشرة ، إلى ملاقاة طقسي ، الموسوم ، وفي محجّ آخر ؛ هوَ مقام " الظاهرية " ، الذي كان بمثابة دار لحفظ الكتب وإعارتها . وفي هذا المقام ، يجدر التنويه بأنّ طبعات كتب نجيب محفوظ ، التي إعتدتُ على شرائها من ذلك البائع ، الدمشقي ، والصادرة عن إحدى دور النشر ، البيروتية ، كانت ذات حلة حسنة ، ومزينة دوماً بلوحة غلاف ورسوم داخلية من إبداع الفنان المصري جمال كشك . لم أكن على علم ، وقتئذٍ ، أنّ تلك الطبعات نفسها كانت " مقرصنة " ، أطاحت بحقوق الكاتب ، قبل كل شيء .
3
عاش محفوظ ، معظم سني حياته ، عيشة جد متواضعة . فبالرغم من رواج كتبه ، على مساحة العالم العربي بأسره ، إلا أنها جلبتْ الغنى لهذا الناشر ، الشرعيّ ، أو لذاك التاجر ، القرصانيّ ؛ وبقيَ هوَ ، صاحبها ، فقيراً . بقيت صفته كذلك ، حتى جاءته جائزة " نوبل " ، الأدبية ، على طبق من فضة ٍ ؛ على لون شعر شيخوخته . جاءته الجائزة ، حينما فقدَ العمرُ شهية الحياة وإلتذاذ أطايبها. لا ريب أنه لم تشهدَ القائمة الطويلة ، من أسماء محظوظي " نوبل " ، حالة ًعلى غرار " محفوظنا " ؛ لجهة حياته المكدودة ، الصبورة . فهذا الكاتب النادر ، المتربع لأكثر من خمسة عقود على عرش الرواية العربية ، ما كان طيلة حياته إلا موظفاً بسيطاً في إدارةٍ للأوقاف . وبقي في مدارج تلك الوظيفة ، السقيمة ، حتى عفى عليها سنّ التقاعد . لم تتهيأ له ، هوَ العميد ، العتيد ، للرواية العربية ، سوى سنتين للتفرغ الأدبيّ ، بفضل وزير الثقافة ، المثقف حقا ؛ ثروت عكاشة . ومثل تلك المكرمة ، تهيأت أيضاً لأديبنا ، حينما إنتدب لسنة ونيّف في رئاسة المؤسسة العامة للسينما . وإذاً ، جاءته أخيراً تلك الجائزة ، الدولية ، المرموقة ، فتذكر الجميع حقوقه ، كمؤلف ؛ وتذكرته الدولة ، كمبدع .
4
الباب المشرع على جائزة " نوبل " ، جلبَ لمبدعنا ، الكبير ، أيضاً ، ريحَ صغار الكتبَة ، من ذوي صغائر النفوس ، المبتلية بالحسد والحقد والضغينة .. والشوفينية . تلك الصفة الأخيرة ، تحيلنا إلى أحد كتابنا ؛ من المروجين لأسطورة " العرق السوريّ النقيّ " ، والذي أطلق جملته الشهيرة : " لا يوجد إبداع في مصر ، لا يوجد فيها سوى سعاد حسني ! " ؛ جملة أطنبَ بها كثيرون ، وشاؤوا توجيهها خصوصاً نحو القامة الشاهقة لعميد الرواية العربية . كانت مصر آنئذٍ ، كما هيَ الآن ، في مرمى أصحاب المزايدات القوموية ؛ خصوصاً إثر طيها صفحة الصراع مع إسرائيل بنجاحها ، عن طريق المفاوضات ، في إستعادة أرضها المحتلة . وكان من واردات الحملة على أديبنا العملاق ، مزاعم بعض أقزام الثقافة ، هنا وهناك من أرض العروبة ، بأنّ الأكاديمية السويدية إنما منحته الجائزة " مكافأة " لدولته على إقامة السلام مع العدو الصهيوني . لا بل إنّ آخرين مضوا أبعد ، في ذلك " الشوط " العروبيّ ، بتخرصهم عن مواقف ، مزعومة ، لنجيب محفوظ فيما يخصّ القضية الفلسطينية ؛ حدّ القول ، بأنّ رواياته تخلو من أيّ إشارة لتلك القضية . أتذكرُ شخصياً ، كيف كانت إحدى المجلات السياسية ، البيروتية العنوان والثوروية التمويل ، تسوّق تلك البضاعة الرخِصة ، الموصوفة آنفاً . وهيَ نفس المجلة ، التي صدرت قبيل أشهر من " غزوة نوبل " ، المصاقبة لسبتمبر 1988 ، بهذا العنوان : " نجيب محفوظ ، إمبراطور الرواية العربية جائعاً ! " ؛ عنوان مهينٌ بحق ، لم تهدف المجلة من خلاله إلى إنصاف الكاتب ، وإنما لتلويث سمعة الدولة المصرية . لقد تناسى هؤلاء وأولئك ، بأن محفوظاً لم يسعَ قط لتلك الجائزة ، وما كانت تخطر يوماً في باله . هوَ المشغول دوماً بالكلمة ، حتى أضحى كرقّ لها ؛ هوَ المقتصد في إجازاته على أسابيع قليلة قرب البحر ، حارماً نفسه وعائلته من متع السفر للخارج ومن أوقات الفراغ والأصدقاء . وعلى كل حال ، فإنّ تلك الأقوال المتجنية ، ذهبتْ جميعاً جفاءً . فما يبقى ، أبداً ، هوَ إسمُ المبدع ، نجيب محفوظ ؛ ضميرُ مصر . وما يبقى لنا ، هيَ أعمال محفوظ ، الروائية والقصصية ؛ هذه التي أرّخ فيها لموطنه مجتمعاً وأعرافاً وعاداتٍ وأهواء .
#دلور_ميقري (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
الجريمة والعقاب : طريق نجيب محفوظ في بحث مقارن 1 / 3
-
كردستان ، موطن الأنفال
-
ثقافة المقاومة أم ثقافة الطائفة ؟
-
المقاومة والمعارضة 2 / 2
-
المقاومة والمعارضة
-
الكوميديا السورية
-
إنتصار الظلامية والإستبداد ؟
-
ثقافة المقاومة ، ثقافة الموت
-
لبنان في فم الأسد ، مجدداً ؟
-
صلاح الدين عصرنا
-
قصف إعلامي ، عشوائي
-
محمد أوزون ؛ كاتبٌ كرديّ على أبواب العالم
-
من البونابرت العربيّ إلى الطاغوت الطائفيّ
-
الزرقاوي ، وسوداويّة الإسلام السياسي
-
الوجهُ الجميل لنظام ٍ قبيح
-
المثقفُ مستبداً
-
الدين والفن
-
بين إيكو وبركات 3 / 3
-
فلتسلُ أبداً أوغاريت
-
بين إيكو وبركات 2 / 3
المزيد.....
-
جيل -زد- والأدب.. كاتب مغربي يتحدث عن تجربته في تيك توك وفيس
...
-
أدبه ما زال حاضرا.. 51 عاما على رحيل تيسير السبول
-
طالبان تحظر هذه الأعمال الأدبية..وتلاحق صور الكائنات الحية
-
ظاهرة الدروس الخصوصية.. ترسيخ للفوارق الاجتماعية والثقافية ف
...
-
24ساعه افلام.. تردد روتانا سينما الجديد 2024 على النايل سات
...
-
معجب يفاجئ نجما مصريا بطلب غريب في الشارع (فيديو)
-
بيع لوحة -إمبراطورية الضوء- السريالية بمبلغ قياسي!
-
بشعار -العالم في كتاب-.. انطلاق معرض الكويت الدولي للكتاب في
...
-
-الشتاء الأبدي- الروسي يعرض في القاهرة (فيديو)
-
حفل إطلاق كتاب -رَحِم العالم.. أمومة عابرة للحدود- للناقدة ش
...
المزيد.....
-
مداخل أوليّة إلى عوالم السيد حافظ السرديّة
/ د. أمل درويش
-
التلاحم الدلالي والبلاغي في معلقة امريء القيس والأرض اليباب
...
/ حسين علوان حسين
-
التجريب في الرواية والمسرح عند السيد حافظ في عيون كتاب ونقا
...
/ نواف يونس وآخرون
-
دلالة المفارقات الموضوعاتية في أعمال السيد حافظ الروائية - و
...
/ نادية سعدوني
-
المرأة بين التسلط والقهر في مسرح الطفل للسيد حافظ وآخرين
/ د. راندا حلمى السعيد
-
سراب مختلف ألوانه
/ خالد علي سليفاني
-
جماليات الكتابة المسرحية الموجهة للطفل في مسرحية سندس للسيد
...
/ أمال قندوز - فاطنة بوكركب
-
السيد حافظ أيقونة دراما الطفل
/ د. أحمد محمود أحمد سعيد
-
اللغة الشعرية فى مسرح الطفل عند السيد حافظ
/ صبرينة نصري نجود نصري
-
ببليوغرافيا الكاتب السيد الحافظ وأهم أعماله في المسرح والرو
...
/ السيد حافظ
المزيد.....
|