|
ثورة 1936م-1939م مقدمات ونتائج
محمود فنون
الحوار المتمدن-العدد: 7127 - 2022 / 1 / 5 - 15:44
المحور:
مواضيع وابحاث سياسية
في ثلاثينيات القرن الماضي ،وكان المجتمع الفلسطيني يتشكل في غالبيته الساحقة من جمهرة الفلاحين ،الذين يكدح جزء منهم في استثمارة الإقطاعي وقسم آخر في حيازته الصغيرة . واذا اضفنا البدو للفلاحين تصل النسبة إلى أكثر من 85% من مجمل السكان، يضاف لهم الحرفيين والعمال في المشاغل والموانيء والباعة والكسبة وموظفي الادارة الحكومية الصغار ، وقريب منهم البرجوازية الصغيرة من أصحاب المتاجر والمشاغل ،ويتربع على رأس الهرم طبقة الإقطاعيين المتحالفين مع الشريحة العليا من رجال الدين وكبار التجار ورجال المال والإعمال والبرجوازية الكبيرة . وهؤلاء يشكلون نسبة صغيرة من التركيب المجتمعي ويتزعمهم رجالات الإقطاع العائلي بالدرجة الأولى . هذه التركيبة الاقتصادية الاجتماعية الطبقية التي تحملت عبء مجابهة المشروع الصهيوني ،بل هذه التركيبة هي التي نما المشروع الصهيوني الى جانبها وعمل على خلعها والحلول محلها .
ومنذ بداية المشروع الصهيوني وضحت ملامحه الاحلالية الاقتلاعية . ولا بد ان نسجل ان شعب فلسطين قاوم ومنذ البداية كل محاولات الاستيطان الصهيوني ومحاولات نقل الأراضي منذ العهد العثماني وفي ظل ظروف مجافية في المستويين الذاتي والموضوعي.
موقف الفلاحين والجماهير الشعبية الأوّليّ من الصهيونية :
كان الفلاحون هم أوائل الناس الذين تم اقتلاعهم من الأراضي التي استولت عليها الصهيونية من خلال بيوعات الإقطاعيين ، حيث كان يتم طرد الفلاحين من الاستثمارات التي يقيمون عليها ويعملون فيها بعد إن يتخلى عنهم الإقطاعيون ، ومن خلال الأراضي التي حصلت عليها بفرمانات السلطان العثماني ، أو من خلال بيوع المزاد العلني لأراضي الدولة من قبل السلطنة العثمانية. و فيما بعد في زمن السلطة البريطانية حصل الصهاينة على أراضي الدولة التي استولت عليها حكومة الانتداب ومن خلال بيوع الملاكين العقاريين الاقطاعيين والسمسرة . وكانت تمرّدات الفلاحين وانتفاضاتهم هي أولى إرهاصات المقاومة الشرسة للمشروع الصهيوني ، حيث كانوا يهاجمون المستعمرات الجديدة ويحرقوها ويطردوا سكانها في العهد العثماني . وقد استمر الحال في بدايات الانتداب البريطاني . مع العلم ان انتفاضات الفلاحين كانت عفوية وبدون الاستناد الى التنظيم والقيادة السياسية والعمل المقاوم الممنهج. لقد أدركت الطبقات الشعبية حقيقة المشروع الصهيوني ودور الانتداب البريطاني حسيا بما حرق جلودهم مباشرة فحاولوا التصرف : "خلال الفترة (ديسمبر 1919-مارس 1920)وقعت هجمات عربية على المستعمرات اليهودية في الجليل الأعلى ، حيث دمرت مستعمرات في المطلة وتل حاوي وكفر جلعادي واضطر اليهود للفرار "(د.محمد حسن صالح،فلسطين ،دراسات منهجية في القضية الفلسطينية ص270) و"كانت أول بوادر مقاومة المشروع الصهيوني إنشاء جمعية "الفدائية"اوائل 1919 م،وتكونت لها فروع ... وتولى زعامتها في البداية محمد الدباغ ،ثم محمود عزيز الخالدي ويظهر ان افرادها شكلوا عناصر تحريض مهمة في انتفاضة موسم النبي موسى في القدس في ابريل 1920.."المصدر السابق .
موقف الطبقات العليا من الصهيونية :
عرفت الطبقات العليا عن المشروع الصهيوني من خلال الصحافة ووسائل الإعلام المتاحة لهم زمن العثمانيين،ومن خلال معرفتهم بنوايا ونوازع السياسة البريطانية والفرنسية في البلاد ومن خلال ما نشرته الثورة البلشفية عن اتفاقية سايكس بيكو، ثم من خلال صك الانتداب الذي تضمن وعد بلفور. "وكان المندوب السامي قد اطلع الزعامة التقليدية على نصوص صك الانتداب وابلغهم ان حكومة صاحب الجلالة معنية بتنفيذ ما جاء فيه .." وكانوا قد مارسوا أشكالا من الاحتجاج ورفع العرائض على نقل الاراضي واقامة المستوطنات زمن العثمانيين." واثار روحي الخالدي هذا الموضوع في مجلس المبعوثان في ايار سنة1911 م... وعاد الى القدس في صيف 1911 م وحث الموظفين العرب في المتصرفية على العمل على منع انتقال الاراضي لليهود"(زيدان كفافي،القدس عبر العصور ص268) وقام بعض المثقفين بمتابعة التحريض بعد الانتداب البريطاني .
الزعامة التقليدية والانتداب :
وما ان دخل الاحتلال البريطاني حتى ورث فورا الزعامة التقليدية الرجعية التي كانت موالية للسلطة العثمانية وركيزتها في هذا المجتمع ،فأصبحت ركيزة للانتداب وعونه في حكم البلاد . وهي بهذه الصفة وباستقوائها بالسلطة ونفوذها عند الإدارة الحاكمة وبما تملكه من مقدرات ، مثلت الزعامة النافذة في المجتمع المحلى وتسنمت الوظائف المتاحة وارتقت الى المناصب العليا بحكم الاهلية التعليمية وخبرة موظفي الدولة العثمانية الذين ورثتهم دولة الانتداب . وبسرعة ارتبطت مصالح هؤلاء مع الاحتلال الانجليزي واستقبلوه بالورود والأرز، واعطوا الولاء لحكومة الاحتلال بصفتها السلطة الحاكمة دون اهتمام يذكر بطبيعة هذه السلطة والبرنامج الذي أتت لتنفيذه . إنها قد تواطأت ضد نفسها أولا وضد الجماهير الفلسطينية ثانيا وتحالفت مع حكومة الانتداب التي أبلغتها أنها تحمل مشروعا لإقامة وطن قومي لليهود في فلسطين، و هي لم تشهر السيف في وجهها رأسا،ذلك ان التناقض بين الوجود الفلسطيني من جهة والمشروع الصهيوني والاحتلال البريطاني من جهة اخرى تناقضا تناحريا لا محالة . إن إبراز الجهل كعامل يفسر العلاقة الودية بين متنفذي العائلات والزعامات التقليدية وحكومة الانتداب لا يكفي ليفسر ما حصل. ذلك إن التناقض مع الصهيونية كان تناقضا قائما وفعليا وشاملا وغير مؤجل من قبل ان يدخل الانجليز الى فلسطين في نهاية عام 1917 وبداية عام 1918 م . وبعد دخول الانجليز أصبحت الصهيونية تستولي فعلا على الأراضي بمساعدة الانتداب وسلطات الانتداب ،وهذه الأراضي لا تصنع صناعة ولا تجلب من الخارج. إن حصول الصهيونية على كل دونم من الأرض إنما يأتي في سياق عملية قضم للاستيلاء على أراضي الوطن الفلسطيني كله ليصبح وطنا آخر لأناس آخرين . والأراضي هي إما أراضي الإقطاعيين وكبار الملاكين العقاريين المستثمرة من خلال الفلاحين ،أو أراضي الفلاحين الصغار ذوي الحيازات الصغيرة ، او اراضي الدولة التي اصبحت فور الاحتلال البريطاني لفلسطين في تصرف حكومة الاحتلال . لقد جاءت الصهيونية نقيضا للوجود الفلسطيني كله، نقيضا للتركيب المجتمعي كله بما في ذلك أصحاب العقارات...ونقيضا لوجود عموم سكان فلسطين ،المقاوم منهم والمتواطئ .
هربرت صموئيل:
وكانت بريطانيا تمكنت من " اقناع فرنسا بالتخلي عن مشروع تدويل فلسطين كما في نصوص سايكس بيكو مقابل رفع بريطانيا لدعمها للحكومة العربية التي نشأت في دمشق بزعامة فيصل بن الشريف حسين "(د.محسن محمد صالح ,فلسطين دراسات منهجية في القضية الفلسطينية,ص34) وكان مؤتمر سان ريمو 1920 قد "منح بريطانيا حق الانتداب على فلسطين ،وحدد واجباتها من خلال تكرار نص تصريح بلفور حرفيا .."(عبد الهاب الكيالي .تاريخ فلسطين الحديث ص133) فجاء تعيين هربرت صموئيل في عام 1920 مندوبا ساميا على فلسطين ،بعد ان نشر مواقفه واقتراحاته بشأن مستقبل اليهود في فلسطين وحماسه الشديد لتطبيق وعد بلفور على مراحل حيث قال في مذكراته المنشورة انه عين في المنصب المذكور "مع معرفة حكومة صاحب الجلالة التامة بعواطفي الصهيونية بل، دون شك ، بسبب هذه العواطف الى حد كبير"( مذكرات هربرت صموئيل) "وكان صموئيل قد قرر قبل وصوله ان يتبنى سياسة ذات حدين ترمي الى حمل العرب على الاذعان لسياسة بريطانيا في انشاء وطن قومي لليهود في فلسطين ...بالتدريج وهو امر مفروغ منه ...وكسب تأييد الفلسطينيين المعتدلين ذوي المصالح.."المصدر السابق. وعقد اجتماعين مع الوجهاء المحليين في منطقة القدس وحيفا وابلغهم فيها بالسياسة البريطانية . والف حكومة عين فيها موظفين يهود صهاينة في مناصب حساسة مثل سكرتير اول الحكومة وسكرتير قانوني ونائبا عاما ومدير المساحة .. وفي عهده الذي دام خمس سنوات ، تقدمت الصهيونية قفزات كبيرة من حيث بناء المستوطنات التي زادت من 44 مستوطنة الى 100 مستوطنة وساعد في تسريب اراضي مرج بن عامر وجزء من وادي الحوارث وهي مئات الآلاف من الدونمات .كما (ساعد) في مشروع تأسيس الادارة الصهيونية ، والعصابات المسلحة ونظام حماية المستوطنات .(الموسوعة الحرة .هربرت صموئيل) لقد كانت صورة هربرت صاموئيل واضحة للزعامة الفلسطينية والمتنورين وقراء الصحف حيث ذاع صيته قبل وصوله . وبالتالي فان كل استخذاء او تواطؤ مع حكومة الانتداب كان موقفا واعيا . لقد كانت سياسة الانتداب في عهد هربرت صموئيل تقوم على الحزم في تنفيذ مخططات برنامج الصهينة وتقديم كل الدعم للصهيونية من جهة واسترضاء الزعامات التقليدية الفلسطينية وتقديم التبجيل والاحترام لها مع فتح ابواب السرايا لهم . هكذا : لليهود الارض والقوة .وللعرب التبجيل والابتسامات والمجاملات الكاذبة. من هنا نشأت فكرة مطالبة بريطانيا بالعدل بين العرب واليهود ،وبما يخدم شريحة الزعامة التقليدية .
المبنى القيادي (الزعامي):
عقد المؤتمر العربي الفلسطيني الاول(27 كانون ثاني -10 شباط 1919) في القدس . ورفض تقسيم بلاد الشام ودعا لتشكيل حكومة وطنية في فلسطين . وبرز اسم موسى كاظم الحسيني كزعيم اول وذلك بصفته العشائرية والمجتمعية وظل في منصب الزعامة الاول حتى عام 1934 حيث توفي وهو لا يرى بريطانيا عدوة للشعب الفلسطيني .(د. محسن صالح ,مصدر سبق ذكره) كان الفلسطينيون يرون ان بلادهم جزء من بلاد الشام وعبروا باشكال لفظية عدة عن" احتجاجات ضد السياسة البريطانية التي اسهمت في تقسيم سوريا" صحيفة الكرمل في 6 أيار 1920 م وقد فشل المؤتمر الثاني سنة 1920 م وعقد المؤتمر الثالث في حيفا في 13 كانون الاول 1920م وانتخب لجنة تنفيذية هي أول اطار قيادي تنفيذي فلسطيني ، من وجهاء فلسطين المعتدلين برئاسة موسى كاظم الحسيني وعهد اليها تنفيذ مقررات المؤتمر وهي : 1- شجب السياسة الصهيونية التي تنطوي على اقامة وطن قومي لليهود والمبنية على تصريح بلفور 2- رفض مبدأ الهجرة اليهودية 3- اقامة حكومة تمثيلية وطنية (عبد الوهاب الكيالي تاريخ فلسطين الحديث ص 138) لقد وصف عيسى العيسى ، وهو من جيل الشباب ، قرارات مؤتمر حيفا بانها لم تكن جذرية (جريدة فلسطين) وحظيت بانتقادات العروبيين الشباب . وكان نجم امين الحسيني قد بدأ في الصعود اثر تعيينه في منصب مفتي القدس سنة 1921 ثم المفتي الاكبر لكل فلسطين ، وبهذه الصفة يكون كبير رجال الدين المسلمين ، ورئيس المجلس الإسلامي الأعلى سنة 1922م (محسن صالح .دراسات منهجية في القضية الفلسطينيةص) وبصفته من آل الحسيني ، أصبح شخصية زعامية كبيرة احتلت موقعها في مختلف النواحي بما فيها القيادة السياسية للشعب الفلسطيني ، إلى جانب عمه موسى كاظم الحسيني . لم يكن الحاج أمين بين المنتخبين الفائزين الثلاثة الذين يختار المندوب السامي واحدا منهم ليكون مفتي القدس"فحملت السلطات احد المرشحين الثلاثة الناجحين وهو الشيخ حسام الدين جار الله على الانسحاب بحيث تسنى للحاج امين ان يكون الثالث بين الفائزين فاختارته من بينهم"وذلك بعد ان كان قد اجتمع مع حاكم القدس وتعهد له بحفظ الامن والنظام (كتاب المفتي الاكبر وكتاب تاريخ فلسطين الحديث)
وكان المعارضون من نوعين : الاول :المعارضة التقليدية وهي معارضة للمجلسيين وتتكون من زعماء(آل النشاشيبي والخالدي والدجاني وآخرين) وهي تظهر معارضتها للصهيونية وتخدمها في نفس الوقت من خلال تساوقها مع حكومة الانتداب وهي من ذات المبنى الطبقي والاجتماعي لما عرف بالمجلسيين (آل الحسيني ومن معهم) الثاني :هم الوطنيون الاكثر جذرية والذين كانوا يعارضون الوجود البريطاني والمشروع الصهيوني معا ، وهم يدعون الى الكفاح الوطني من اجل دحر الانتداب والمشروع الصهيوني. كتب وايزمن بحق"ان الجانب الاكبر من المفكرين والمحرضين من الشباب موالون للفكرة العربية ويرون ضم فلسطين ضما تاما الى.. "اما الطبقات المعتدلة والوجهاء المتقدمون في السن فيؤثرون الحصول على حكم ذاتي محلي ... ومع انهم معادون لليهود الاّ انهم لن يقفوا موقفا معارضا للتفاهم معهم .اما الشباب فانهم يحاربون هؤلاء الوجهاء..." ان هؤلاء الوجهاء بشقيهم المجلسيين والمعارضة من الصنف الاول هم الذين تصدروا الحالة الزعامية والقيادية طوال فترة الكفاح الوطني الفلسطيني في عهد الانتداب وهم الناطقون الرسميون ،كما انهم وبصفتهم الزعامية الموروثة ، هم الاكثر نفوذا في الاوساط الفلاحية ، ذلك انهم يقفون على رأس الهرم الزعامي الذي تبدأ قاعدته من الآباء ، والوجهاء المحليين في العشائر القروية والمخاتير ، صعودا الى وجهاء المستويات الوسطى وحتى الطبقة الوجاهية العليا ، يقفون على رأس حزب زعامي تقليدي ، تمتد جذوره عميقا الى الارياف والبوادي بنفوذ معترف به بحكم التقاليد وارتباطا بالبيوت والاحساب والأنساب المعترف بها و التي كانت تمثل شرطا عرفيا للزعامة والنفوذ وهي في خدمة هؤلاء . وهكذا كان المبنى القيادي تعبيرا عن النفوذ الطبقي في صورته الزعامية التقليدية ولم يتمكن جيل الشباب من المثقفين والأكثر وعيا وصلابة وجذرية من كسر هذه القوقعة واحتلال موقع القيادة . بل ان هذا الطاقم الزعامي هو وبفعل رسوخه وقوته الاقتصادية ونفوذه الواسع على كل الصعد والدعم الذي قدمته له سلطات الاحتلال واعتراف الحكومات العربية بهذه القيادة حصريا وهذا الطاقم القيادي اخذ يهيمن شيئا فشيئا بحكم الحاجة والواقع على جيل الشباب ويلفه تحت عباءته او يقربه ليظل يدور قريبا منه ويمنعه من الابتعاد كما حصل اثناء ثورة 1936م كما سنرى لاحقا. كان الدعم والإسناد العربي مطلوبا وكان يقدم من خلال القيادة التقليدية الرسمية فقط. ان هذا المبنى وقد أتى من الوجاهة العشائرية والعرف والعادة والسطوة .لم يكن نتاج حراك سياسي تنظيمي ،يحمل وجهة نظر حزبية متبلورة لتعبر عن رؤيا طبقة معينة للواقع السياسي المعقد من حولها والمناهض لوجودها. انه موروث العهد العثماني طبقيا واقتصاديا واجتماعيا وثقافيا ، كما انه موروث الذهنية المحافظة المتكلسة المتحالفة مع رجال الدين ، شيوخ السلاطين والمجيشين لخدمة السلاطين والنظام الإقطاعي المتعفن . وهو موروث معزز بالعشائرية التي ولّى زمنها والتي شكلت التنظيم الاجتماعي السائد والداعم في نفس الوقت لهذا المبنى القيادي الراسخ . والذي ظل يدافع عن بقائه دائما .وقد انتظم في الجمعية الإسلامية المسيحية في البداية . ولقد وعت بريطانيا هذا الحال وعززته بكل ما تستطيع وتغلغلت فيه . "فقد حضر المؤتمر العربي الفلسطيني الأول 27 مندوبا كان من بينهم 11 عملاء للانجليز واثنين للفرنسيين واثنين مستقلين والباقي من العروبيين" .(عبد الوهاب ألكيالي مصدر سبق ذكره ) وحينما شكلت الأحزاب كما سنرى في بداية الثلاثينات ، قامت العائلات والطبقات ذاتها بإنشاء هذه الأحزاب على مقاسها ودون ان تستبدل الركوبة الأصلية (كمن يشتري سيارة ويجعلها تسير مجرورة بالخيل )فلم تكن الأحزاب خطوة ارتقائية للمبنى الاجتماعي السياسي السائد ، بل كرسته بما يخدم نفوذ وبقاء الزعامة التقليدية العشائرية عموما . وهو كذلك وجود معزز بالنظرة الدينية لهؤلاء ومدعوم كما ذكرنا بتحالف كثرة من رجال الدين الموروثين من العهد العثماني. ان وجود الآراء والمواقف الأكثر جذرية لم يكن يعكس نفسه بشكل جدي عل مبنى ومواقف هذه الزعامة ، وان يكن قد وجد لنفسه موقعا بارزا في الميدان ما دون التأثير في القرار السياسي الوطني (كما حال فصائل الفلاحين وقيادات الميدان في ثورة 1936-1939 م) . وقد ظل التقليديون يهيمنون على المؤتمرات وقراراتها ، كما ظلوا هم التمثيل القيادي الرسمي امام سلطات الانتداب و تتشكل منهم الوفود الرسمية في ظروف الانتفاضات والهبات الجماهيرية وذلك بالرغم من ظهور "الفدائية" والقساميين" ومن على طريقتهم .
تصاعد الغضب الشعبي الفلسطيني :
تصاعدت الاحداث والاحتقانات والفورانات الشعبية خلال الفترة التي صاحبت الاحتلال الانجليزي حتى انطلاقة الثورة الكبرى ، وذلك بالرغم من أن"الزعماء الرئيسيين لا يبدون تباطؤا في استخدام نفوذهم للحيلولة دون نشوب الاضطرابات او قمعها كلما كان ذلك ضروريا "كما كتب صموئيل الى تشيرشل .واضاف مشخصا المواقف الطبقية بدقة "ان الميل الى اللجوء الى الاضطرابات واستخدام العنف يمثل طابع الطبقات الدنيا من سكان المدن والقرى حيث توجد درجة عالية من الوعي والاهتمام بترجمات الصحف العبرية والبريطانية " ولذلك كانت الحالة الشعبية تتناقض مع الوجهاء وتعمل بمنأى عنهم كلما استطاعت الى ذلك سبيلا . ان الحالة القيادية المهادنة اذن هي في تناقض مع الحالة الشعبية التي يتنامى غضبها ضد الاحتلال البريطاني والمشروع الصهيوني . قال احدهم معبرا عن موقف الشباب من التقليديين "ان هؤلاء الشيوخ المسنين يتلاعبون بمستقبلنا ..." (شكبورغ الى ماسترتون "العلاقات العربية الصهيونية" وفي ظل هذا الواقع وارتباطا بالهجمة الشرسة للصهينة والممارسات البريطانية التي اضّرت بالاقتصاد بل بالوجود الفلسطيني ـ وعكست نفسها بقوة على الطبقات الشعبية: وقعت انتفاضة النبي موسى سنة 1920 ، انتفاضة يافا سنة 1921 ، ثورة البراق سنة 1929 ، انتفاضة تشرين سنة 1933 ، وصولا الى الاضراب الشامل عام 1936م . وطوال هذه الفترة لم تتوقف الممارسات الفلسطينية الكفاحية خارج عباءة هذه القيادات وبما يحرجها أمام "أصدقائها "الانجليز! . فهناك الكثير من الغارات على المستوطنات بما تيسر من سلاح ابيض او غيره . لقد كان الشعب يقاتل يتيما ومن خلال روابط تنظيمية بسيطة ولكنها تضحوية وبطولية . "فخلال الفترة 1919-1920م وقعت هجمات عربية على المستعمرات اليهودية في الجليل الاعلى حيث دمرت مستعمرات المطلّة وتل حاوي وكفر جلعادي واضطر اليهود للفرار . و كانت ثورة البراق عنيفة وشاملة واستهدفت اليهود في المدن المختلطة ووقع فيها الكثير من الضحايا . وثورة الكف الأخضر التي استمرت في العمل بعد ثورة البراق وقامت بمهاجمة اليهود والشرطة . وأكد محسن صالح على يتم المجوعة الثورية بقوله "ولم تستطع هذه المجموعة الثورية من الاستمرار بسبب ما تعرضت له من حملات ، ولأن الزعامات السياسية الفلسطينية لم تتبن أسلوبها في العمل ، ولم تدعمها ولم تتعاون معها "إن لم تكن عملت على إحباطها"( محسن صالح دراسات منهجية في القضية الفلسطينية ) وفي انتفاضة 1933 م حيث تزايد الوعي بأن بريطانيا هي أصل الداء وسبب البلاء ، وقد اندلعت اثر تزايد الهجرة ، ورفض سلطات الانتداب وضع حد للهجرة وطرد السكان ، فعمت المظاهرات والإضرابات ووقعت مجزرة يافا في 27 تشرين أول 1933م ، وكانت المواجهات بمشاركة اللجنة التنفيذية ومباشرة ضد بريطانيا . وكان القساميون وطريقتهم الثورية بمعزل عن الزعامات التقليدية ، حيث استشهد القسام عام 1935 ليكون استشهاده عامل تفجير ثوري قل نظيره في التجربة الثورية . كان القسام نموذجا في الوعي والتضحية والفداء ، وخاصة إن استشهاده لم يكن نهاية حركته بل مقدمة أساسية للثورة الكبرى واستمرار أعمال التضحية والفداء من مجموعات القساميين .
الأحزاب :
ان البنى الحزبية في أي مجتمع هي ضرورة تستهدف تنظيم المجتمع وحشد قواه ، وتشكل طليعة لجذب الجماهير للعمل السياسي ، وتحريضها وتوعيتها وقيادة انشطتها على كل الصعد . وهي تبنى بطرائق تتناسب والاهداف المنوي الكفاح من اجلها ، وفي حالنا يتلخص الهدف في طرد الاحتلال البريطاني ومعه الصهيونية واستيطانها واقامة الوطن الفلسطيني الحر وعلى الاغلب بوصفه جزء من سوريا الكبرى .
وفي حالنا ، شكلت الاحزاب بصورة علنية (كان صموئيل قد اقترح تشكيل الاحزاب المعتدلة)، وهذا يعني انها سوف تسقف مواقفها وانشطتها في حدود العلنية والشرعية ، وذلك خلال صراع نادر الوجود حاد جدا هو:صراع وجود . هو صراع يستهدف تمكين الصهيونية من انتزاع فلسطين من الفلسطينيين بواسطة بريطانيا واقامة مجتمع آخر ونظام آخر .نظام جديد لا يمكن ان يتصالح مع القديم بل ينفيه نفيا كليا. لقد كان تأسيس حزب الاستقلال وهو اقرب ما يكون الى التعبير عن شريحة المثقفين البرجوازيين ، فقد بادر الى تأسيسه الشباب المثقف والراغب في التمرد على الزعامة التقليدية والخروج من تحت عبائتها وهو كذلك مسقوف بالوضع الذي نشأ فيه ومحكوم بكل التعقيدات التي سنأتي على ذكرها . فقد اتهم الاستقلاليين بعض اعضاء اللجنة التنفيذية المذكورة اعلاه بأنهم سماسرة أراضي لليهود"وكان الاستقلاليون قد عقدوا قبل تأسيس حزبهم في آب 1932 عدة محادثات مع المفتي حثوه فيها على ضرورة معارضة السياسة البريطانية والانتداب .ولكن الحاج امين امتنع حينذاك لأسباب تتعلق بمركزه الرسمي ومصالحه الشخصية، عن الارتباط بخط سياسي مناهض للسياسة البريطانية بصورة سافرة "كما ذكر عبد الوهاب الكيالي . وفي سنة 1934 شكل راغب النشاشيبي حزب الدفاع المدعوم من الانتداب .(عبد الوهاب الكيالي مصدر سابق) وقد كان للانجليز دور هام في ظهور الحزب الوطني بزعامة فخري النشاشيبي الذي ناشد كلفرسكي بمعونة مادية للحزب وسليمان ناصيف وهو أحد قادة الحزب ومن الاقطاعيين طلب من الصهيونيين مساعدة مالية(الاحزاب السياسية) وقد ظهرت هذه الاحزاب كعباءات للقيادات اكثر منها ادوات اتصال بالجماهير وتنظيمها وتوعيتها وحشد طاقاتها للنضال ، كما رأينا من ظروف تشكيلها. ولكنها تشكلت في ظروف احتدام الصراع وتأجج الحالة الشعبية وتكرار الاصطدامات بين الفلاحين والاستيطان اليهودي وتراكم الوعي الوطني بفعل محددات الحياة بعمق الأزمة واتضاح الدور البريطاني أكثر فأكثر وضرورة توجيه السهام للانتداب بوصفه أداة الصهينة ذات المخالب القوية .
ما قبل العاصفة:
ان كل ما ذكر سابقا هو مقدمات ما قبل العاصفة . فالتناقضات ازدادت حدة ولكن الاصطفافات في الجانب الفلسطيني لم تنضج الى مستوى التعامل مع نضج هذه التناقضات بالرغم من نضوج الحالة الشعبية الى درجة الانفجار الثوري العظيم. فالإقطاع يتناقض ويتهادن ويتواطأ في آن واحد . و هو مع اتجاهات الريح. انه متناقض موضوعيا ولكن عقليته وسلوكه لم يرقيا الى مستوى نضج هذا التناقض. والانتداب يدرك هذا التلون و يدرك امكانية ابتعاد الاقطاع عن المركز على مسافة قصيرة ، و يظل قادرا على استعمال هذه الحالة ، و تظل هي التركيب القائد ويمكنها ان تأخذ بعض الهوامش لتكرس مواقعها . ومن جهة ثانية فانه يستهدف الإبقاء على تواصله مع الحالة الوطنية والعمل على السيطرة عليها من خلال هذه الزعامة . قلنا ان الصهيونية هي نقيض الوجود الفلسطيني ،ولكن الاصطفاف العلوي الفلسطيني لا يتعاطى مع هذه البديهية بشكل جدي ، وقد أخذ هذا التناقض يفرض نفسه يوميا بشكل متصاعد ومتسارع وخاصة بعد عام 1933 المليء بالحوادث والتي ظلت متصلة، وقد تصاعدت أكثر في عام 1935 م وزادت حدة بعد ان جاءت الحالة القسامية وقالت قولتها باستشهاد القسام .واستمرار القسامية فعليا بمنهج مختلف عن كل منهج الزعامة التقليدية المتواطئة المهادنة . لقد احتشدت العوامل متداخلة لتقول كلمتها استجابة للحالة السياسية الفلسطينية رغم البطش البريطاني والتخاذل الزعامي وقلة التنظيم والإدارة ، وحالة اليتم التي تعاني منها القوى الحية المعبرة بجوهرية عن القضية الفلسطينية آنذاك . وحيث أن الحالة الفلسطينية نشأت وتكونت إلى جانب الحالة العربية بعامة ، فانها جزء من اللوحة من جهة ، ومن جهة أخرى فان الحالة العربية هي جزء من التناقضات الفلسطينية ومن عوامل تسبيبها في ذات الوقت. ان الدول العربية المحيطة بفلسطين تحت الهيمنة البريطانية والفرنسية وموالية لهما ،وهي بحكم الاحساس بدورها ومسؤوليتها القومية شريك فعال في الوضع لجهة التظاهر بالإسناد أو التآمر .وقد ورد في تصريح لسفير السعودية ما يكثف موقف الرجعيات العربية بدقة ووضوح "...إن ابن سعود صديق لبريطانيا العظمى ومن المؤكد انه لا يحاول أن يوجد لها مشكلات في فلسطين أو غيرها وأن يوسع شقة المشكلات الحالية ...ويعتقد الملك ان بريطانيا تقبض بيدها على قسطاس العدل بين اليهود والعرب" (أمين سعيد –الثورة الكبرى الجزء الثالث ص107) وهذا حال إمارة شرق الأردن والملكية في العراق ومصر وآل حميد الدين في اليمن . وعلى أية حال فان هذه الدول لا تستطيع تقديم الدعم الضروري للنضال الثوري الفلسطيني خارج اللوحة الأكبر بعيدا عن النفوذ البريطاني ، وهي وان فكرت ان تقدم شيئا فهو من طريق القيادات التقليدية ، مما يبقي على الحالة القسامية ومن هم على شاكلتها خارج إمكانيات هذا الدعم . ان الحركة الثورية الفلسطينية وفي حدود حالها الموصوف أعلاه ، تنمو وتتشكل في بيئة رجعية محاطة بتأثيرات بريطانيا على المحيط العربي ، مما يزيد الامر سوءا على سوء وتعقيدا على تعقيد ، وبما يسهل الالتفاف عليها كما سوف نلاحظ لاحقا في إنهاء الإضراب ووقف الثورة المؤقت . إن التناقض الأبرز والمشهود بالعين المجردة كان بين الاستيطان من جهة والفلاحين من جهة اخرى ، و كان يدور حول استعمال الارض وتملكها : "لقد اصبح العرب الذين لا يملكون ارضا مشكلة سياسية نظرا لازدياد عددهم المضطرد من جهة ونظرا للمخاوف التي ولدها ذلك في صفوف الفلاحين من جهة اخرى .. "وبدأ الفلاحون العرب يظهرون مزيدا من التصميم على مقاومة أوامر الإخلاء" (واكهوب الى وزارة المستعمرات) وزاد البوليس الانجليزي من حضوره في عمليات الاخلاء العنيفة . وقد كتب واكهوب المندوب السامي البريطاني على فلسطين في تلك الفترة الى وزارة المستعمرات في 7|12|1935م يقول"ان خمس القرويين العرب قد اصبحوا بالفعل دون ارض يمتلكونها كما ان عدد العمال العاطلين عن العمل في المدن آخذ في الازدياد ، ناهيك بتصاعد الاستياء من الحكومة يوما بعد يوم" كما ان ازدياد عدد المهاجرين الصهاينة بشكل كبير ( 60000 )عام 1935 م مترافقا مع الاستفزازات الصهيونية الناتجة عن مهاجمة المستوطنين للقرى العربية اثار غضب الرأي العام. وقد ادركت الزعامة الفلسطينية ان الامور آخذة بالإفلات من سيطرتها واختراق السقف المتفاهم عليه. وقد عبّر ممثلوا خمسة احزاب عن مخاوفهم في لقائهم مع واكهوب المندوب السامي البريطاني آن ذاك".. بانهم سيفقدون كل ما يملكونه من نفوذ على اتباعهم .وعند ئذ تسود الاراء المتطرفة وغير المسئولة." وقد اكد واكهوب بأن الزعماء العرب "محقون في القول ..بأنهم سيفقدون ما يملكون من نفوذ..."(مراسلات واكهوب) نعود الى القول ان الشباب الاكثر ثورية والأكثر تنورا من الحركة الفلسطينية والمتحدرين في معظمهم من الاقطاع والبرجوازية الفلسطينية والمثقفين حزموا امرهم وبتحريض من الاستقلاليين على تشكيل مجموعاتهم الخاصة فقد اورد عبد الوهاب الكيالي في كتابه تاريخ فلسطين بأنه "ظهرت التشكيلات الخاصة في المدن الكبيرة بقيادة عناصر الشباب فكان اكرم زعيتر ابرز افراد كتلة نابلس وحمدي الحسيني وميشيل متري رئيس جمعية العمال العرب في يافا وفي قلقيلية كتلة جديدة من الشباب الثوري وفي طولكرم تولى سليم عبد الرحمن وقادة الكشافة العرب زعامة كتلة جديدة اخرى.اما في حيفا فتولى عاطف نور الله حركة مماثلة وكان يساند هذه الكتل عزت دروزة وعجاج نويهض من زعماء حزب الاستقلال." وكانت هذه اشكال تنظيمية اولية ارادت ان تعلن رفضها للانتداب البريطاني ودوره في ايجاد الصيونية وما نتج عن ذلك من اطوار ، واجبار الزعامة التقليدية على تبني قرارات قوية .."
اندلاع الثورة واعلان الاضراب :
"تفجرت الشرارة الاولى للثورة الكبرى في فلسطين يوم 15 ابريل 1936,عندما قامت مجموعة قسامية بقيادة الشيخ فرحان السعدي بقتل اثنين من اليهود وجرح ثالث على طريق نابلس طولكرم ، وقد رد اليهود باغتيال اثنين من العرب في اليوم التالي ...صدامات في منطقة يافا يوم 19 ابريل أدت إلى مقتل 9 يهود وجرح 45 آخرين وقتل من العرب اثنان وجرح 28.. ساد جو من التوتر ، أعلنت الحكومة على أثره حالة الطوارئ في كل فلسطين .."(تقارير بريطانية عن فلسطين وشرق الاردن ص281 )وقد جاءت هذه الشرارة تعميقا ثوريا لكل الحوادث التي سبقتها بما فيها حوادث شباط .
هنا بلغ التوتر ذروته : الخلايا المسلحة تهاجم الاستيطان والمراكز الحكومية ، وتكشف عن الطريق الثوري الوحيد الذي يعتقدون انه يؤدي الى طرد الانجليز وإفشال المشروع الصهيوني الاستيطاني . والحكومة تعلن منع التجول في يافا وتل أبيب ، وتتخذ اجراءات المجابهة والقمع .
الاختلال بين العامل الموضوعي والذاتي وتخلف القيادة:
ان تفجر هذه الشرارة الاولى مع ما صاحبها من مفاعيل ثورية عمت الوطن بأكمله ولنقل انها تأخرت زمنيا وان تكن وقعت في سياق نضج الظروف الثورية . ان الظروف الثورية تنضج كذلك بالتنظيم والتعبئة والتحريض والخطاب السياسي الجريء وتنضج في سياق الافعال المعادية التي تصل في تأثيرها الى الحد الذي يقال فيه اصبح من المستحيل قبول الوضع القائم من قبل المحكومين . لقد كانت القيادة الثورية بالمعنى الواسع غائبة وكان المستوى القيادي يخضع للفريق المهادن والمتواطئ فعليا . اما الاحزاب التي تشكلت فلم تكن وسيلة تنظيم وتحريض الجماهير باستثناء فريق من الاستقلاليين تقريبا،وكانت الاحزاب الاخرى في بعض الاحيان تتماهى مع الحالة الوطنية افتعالا بحكم ضغط الظروف وتعمق الاحتقان الشعبي والاندفاعات الشعبية في الشارع . أي انها لم تكن احزابا قائدة تساهم في انضاج الظروف الذاتية والموضوعية للثورة بل انها لم تحرض على الثورة العامة في وجه الاحتلال البريطاني .
*** ورد في كتاب الاحزاب السياسية الفلسطينية "..ان اللجنة التنفيذية الممثلة للمؤتمرات العربية الفلسطينية كانت لا تضمر الشر للانتداب البريطاني بل ترى العداء فقط ممثلا بالصهيونية.. "ثم استمرت سياسة اللجنة التنفيذية العربية على منوالها من حيث حصر اعدائها بالصهيونية حتى بعد وقوع حوادث البراق عام 1929م واشتراك الانجليز لصالح الصهيونية" جاء في بيان للجنة التنفيذية ردا على اتهام الفلسطينيين لبريطانيا بمساعدة اليهود وتسليحهم: "...ونرجو منكم شعب فلسطين جميعا الاخلاد الى السكينة والهدوء وبذل الجهد في المساعدة على اقرار الامن وعدم الاصغاء الى مثل هذه الاشاعات والاراجيف المختلقة ، وان تثقوا بأننا باذلون كل جهد في تحقيق مطالبكم الوطنية بالطرق السلمية فتذرعوا بالحلم والحكمة والصبر وان الله مع الصابرين " توقيع : رئيس اللجنة التنفيذية رئيس المجلس الاسلامي الاعلى موسى كاظم الحسيني محمد امين الحسيني رئيس بلدية القدس راغب النشاشيبي محمود الدجاني عارف الدجاني اسحق الشهابي (الاحزاب السياسية الفلسطينية ص 68) كتب واكهوب الى كنليف-ليسترفي 4|3|1935 "..في الخامس والعشرين من كانون ثاني 1935عقد الحاج امين بوصفه رئيس المجلس الإسلامي الأعلى اجتماعا في القدس حضره نحو خمسمائة نسمة معظمهم من القضاة والعلماء وذلك للبحث بصورة رئيسية في مشكلات بيع الأراضي لليهود وأعمال السمسرة والهجرة اليهودية ، ولكن المفتي اكتفى على كل حال بالتهديد بفرض عقوبات دينية على أولئك الذين يبيعون أراضيهم لليهود أو يمارسون السمسرة على بيع الأراضي لهم دون أن يدعوا الى أساليب اشد عنفا لمحاربة الصهيونية" ومع ذلك وفي الحال وكما وصف عبد الوهاب الكيالي "وفي غضون الاشتباكات التي وقعت في التاسع عشر من نيسان اصيب عشرات العرب بجروح واحرق الكثير من المنازل العربية . اما رد الفعل العربي لهذه الحوادث فقد كان عفويا عنيفا في جميع مناطق البلاد". من المهم هنا ان نلتفت الى التفجر العفوي الذي يعبر بعنفه عن درجة عميقة من الاستعداد للكفاح الثوري . إن تشكيل اللجان لقيادة الحراك الشعبي الواسع كما حصل بعد ذلك لا يكفي للتعويض عن التنظيم ،عن الجماهير المنظمة ، بدلا من الجماهير العفوية .
إعلان الإضراب إعلان التحدي :
"في 20 ابريل شكلت في نابلس لجنة قومية غير حزبية ، كان وقودها الدافع مجموعة من الشبان المثقفين في مقدمتهم اكرم زعيتر ، وقد دعت اللجنة الى الاضراب العام في فلسطين على ان يستمر الى ان تعلن الحكومة البريطانية استجابتها للمطالب الوطنية ... "وقد لقي الاضراب استجابة واسعة وتشكلت لجان قومية في انحاء فلسطين لتأمين الاضراب ونجاحه "وتجاوبت الاحزاب العربية الفلسطينية مع الاضراب وايدته..."يوميات اكرم زعيتر وهكذا عم الاضراب كل انحاء فلسطين وكانت مطالب الاضراب كما سجلها اكرم زعيتر (ايقاف الهجرة اليهودية الى فلسطين ، ومنع انتقال الاراضي العربية ، وإنشاء حكومة وطنية مسئولة أمام مجلس نيابي) لا بد من تسجيل ملاحظات أساسية : أولا: القساميون هم الذين أطلقوا الشرارات الأولى للثورة ، وكانوا متناقضين مع كل من المجلسيين والمعارضة الذين يمثلون الزعامة التقليدية، و قد استمروا في الكفاح العسكري بشكل متواصل . ثانيا: لقد أعلن الإضراب وعممّ من قبل القيادات الشبابية التي تقف موقفا نقديا من القيادات التقليدية الوجاهية وبمعزل عنها ، وأعلن من نابلس وليس من القدس . ثالثا: كانت استجابة الأحزاب العربية الفلسطينية تالية لاعلان الإضراب ومتأخرة عنه وأصدرت الأحزاب الخمسة بيانها في الثاني والعشرين من نيسان الذي يؤيد مواصلة الإضراب . رابعا : لم يكن هناك أية إطار قيادي فلسطيني طوال السنتين الماضيتين المليئتين بالأحداث الجسام . لينظم الحالة الفلسطينية، وذلك منذ موت موسى كاظم الحسيني في آذار 1934م والذي انحلت بموته اللجنة التنفيذية التي وصفناها بأنها أول إطار قيادي فلسطيني . خامسا: لم ينهمك المستوى القيادي الاول في الإعداد للإضراب ولم يتحرك لأية ترتيبات على هذا الصعيد ، وكل ما يتعلق بالإعداد للاضطراب وتنظيمه وقيادته ، تم منذ لحظة انطلاق الاضراب وليس قبلا . سادسا: لا بد من الانتباه انه وبوفاة موسى كاظم الحسيني غدا الحاج امين الحسيني بما له وما عليه زعيم فلسطين الاول دون منازع بما له من منزلة موروثة دينية وقبلية بالاضافة الى مناصبه الرسمية في حكومة الانتداب. سابعا : بانفجار الحالة الثورية ، تكشف الصراع على حقيقته : حكومة الانتداب والصهيونية في جانب ،والشعب الفلسطيني في جانب وعلى ارض واحدة . ثامنا : كانت فلسطين متأثرة بحقيقة أنّها انتزعت من عمقها الاقتصادي الاجتماعي المتمثل ببلاد الشام ،وكان يصاغ بداخلها للاستيطان نظام اقتصادي اجتماعي حديث وموازي ويحظى باهتمام الحكومة ، بينما كانت التنمية في المجتمع الفلسطيني المتخلف مهملة وتلقائية بطيئة .
تشكيل قيادة الإضراب :
انقضى وقت ثمين نسبيا قبل تشكل القيادة السياسية العلنية للإضراب . وقد تشكلت اللجان القومية تباعا في كل المواقع ، وكان عوني عبد الهادي على اتصال دائم معها بالهاتف . وفي الحادي والعشرين من نيسان اجتمع واكهوب بزعماء الأحزاب الخمسة لدفعهم لوقف الاضطراب ودعاهم لتشكيل وفد للسفر الى لندن ، فأبلغوه برغبتهم الأكيدة في إعادة الأمن والنظام ولكنهم بحاجة الى خطوة أولية مثل إعلان وقف الهجرة اليهودية على الفور ... وانتقد جمال الحسيني موقف البوليس امام واكهوب الذي أعطى للشعب انطباعا بأن العدو الحقيقي هو البريطانيون ، كما ذكر واكهوب في مراسلاته لوزير المستعمرات . فزعيم الحزب العربي هذا وعضو اللجنة العربية العليا التي تشكلت لاحقا حتى هذه اللحظة، لا يرى دور بريطانيا على حقيقته او يتظاهر بذلك ومع هذا وبحكم قربه من الحاج امين يكون من ابرز اعضاء اللجنة العربية العليا . تفيد المصادر انه وبعد انتشار الإضراب بنجاح بدعوة من خارج عباءة الزعامة التقليدية ، بادر وفد من زعامة حيفا بالذهاب للقدس والدعوة لعقد اجتماع لتداول مسألة القيادة العليا وذلك في الخامس والعشرين من نيسان . فعقدت الزعامات التقليدية للبلاد ومن خلال ادواتها الحزبية اجتماعا تداولت فيه الموضوع. وبعد الاخذ والرد تم اقناع الحاج امين الحسيني برئاسة اللجنة العربية التي تم تأليفها والمكونة من: أمين الحسيني وجمال الحسيني وألفرد روك وراغب النشاشيبي ويعقوب فراج وعبد اللطيف صلاح وحسين الخالدي وعوني عبد الهادي سكرتيرا وأحمد حلمي باشا أمينا للصندوق. لقد تجمع التقليديون المهادنون والمتواطئون معا ، المجلسيون والمعارضة، بصفتهم قادة الاحزاب الموجودة ، واستولوا على القيادة السياسية للثورة ورسمّوا بهذا أنفسهم قيادة للشعب الفلسطيني وكفاحه الوطني دون وجه حق ، وبفعل قوة العرف الاجتماعي الزعامي السائد ، وليس بالعرف الثوري .ان الثورة لم تعد بيد أمينة، وقرارها السياسي أصبح مرتهن بيد فريق من المترددين المتماهين معها بحكم انطلاقتها وانتشارها موضوعيا . المفارقة هنا :ان الشريحة العليا من المثقفين الشباب والاستقلاليين ، وجدوا انفسهم بحكم الستاتيكو الاجتماعي العشائري الحزبي يسلمون راية القيادة للفريق الذي بذلوا جهودا كبيرة للتخلص من عباءته ثم انضووا تحتها . لقد" تردد الحاج امين بقبول رئاسة تلك اللجنة ، وعزا اسباب تردده الى خشيته من ان لا يتعاون معه زعماء الاحزاب السياسية الاخرى . ولكن السبب الحقيقي لهذا التردد كان على الارجح هو عدم رغبته في ان يصطدم اصطداما مباشرا بالبريطانيين" كما ذكر عبد الوهاب الكيالي( مصدر سبق ذكره).
***
ان الحركة قد تطورت لتصبح ثورة مسلحة بالإضافة الى كل اشكال النضال المتاحة والإضراب الشامل المتواصل. وكان تأليف اللجان القومية مظهرا شاملا وصل الى الأرياف ، والأرياف منذ تلك اللحظة شكلت حاضنة الثورة ومناطق نفوذها وحطبها .وهنا أصبحت عموم الجماهير الفلسطينية في الميدان ، واصبح الميدان كل فلسطين. ولم يكن للفريق الزعامي اية أيادي في ذلك .
فالقيادة المشكلة لا تقود الفعل على الارض ."ان دور اللجنة العليا لم يكن اكبر بكثير من دور الناطق الرسمي في القاموس السياسي المعاصر"(عبد الوهاب الكيالي مصدر سبق ذكره) .ومع ذلك فالجماهير الشعبية تقسم بحياتها جهلا وتهتف لها ملء الحناجر ، ذلك انه لم يكن هناك فرق في ذهنية الجماهير بين الوجاهة التي تتزعم في امور قبلية وعشائرية وبين القيادة السياسية ما دامت هذه الزعامة قد احتلت موقع القيادة السياسية. القيادة السياسية التي من المفروض ان تقود نضالا وطنيا تحرريا بمناهج العملية الكفاحية لتحقيق الأهداف الوطنية وبعنوان الاستقلال التام دون صهيونية . وفي" وثائق فلسطينية" وفي سياق الحديث عن الوفد الذي أرسله واكهوب الى بريطانيا مكون من جمال الحسيني وشبلي الجمل والدكتور عزت طنوس وعبد اللطيف صلاح وفي لقائهم مع المسئولين الانجليز "اعترفوا بأنهم أصبحوا الى حد كبير مرتهنين لدى الشعب ، وأشاروا إلى تهديدات تلقاها جمال الحسيني وعوني عبد الهادي بأن لا يبديا أي تساهل .." ولكن في سياق الزمن ترسخ دورهم كقيادة سياسية . هي قيادة لا تقود الاضراب ولكنها تكرست بفعل الزمن والتصريحات والبيانات المتكررة بوصفها الناطق الوحيد و بحكم الاعتراف العربي والانجليزي بها الى درجة اتخاذ القرار بشأن الإضراب وحله كما حصل لاحقا .
موقف الانتداب البريطاني من اللجنة العربية العليا :
لم يتخذ الاحتلال البريطاني أيّة إجراءات ضد من تظاهروا بأنهم قادة الثورة . وقد اعتقل عوني عبد الهادي فقط وبشكل مؤقت وذلك لما وصفه واكهوب بأنه "قدراته وكفاءاته التنظيمية" . "..اما الحاج امين فعلى الرغم من رئاسته للجنة العربية العليا التي كانت ظاهريا تتولى قيادة العرب في اضرابهم المناهض للحكومة وعصيانهم المدني المتمثل في الامتناع عن دفع الضرائب ، فأن واكهوب كان يبدي الكثير من التقدير والامتنان لمواقفه المعتدلة" . وكتب واكهوب :ان الحقيقة التي تسترعي الانتباه ان النداء الديني لم يرفع طيلة الاسابيع الستة الماضية ... والفضل في ذلك يعود في الدرجة الاولى الى المفتي"(وقائع مقابلة ). كما شكل منهم وفدا لزيارة بريطانيا مع كل التسهيلات اللازمة كما مرّ ذكره. ولم تتوقف اللقاءات والاتصالات فيما بين اللجنة والمندوب السامي ، وبقيت منزلتهم الزعامية دون مساس في الداخل والخارج . وتعود هذه العلاقة لسببين : الاول :معرفة الانتداب الاكيدة ان اللجنة العربية وقادة الاحزاب العشائرية ، براءة من الثورة . ثانيا: ان بقائهم في سدة القيادة يبعد امكانية بروز الصف الثاني في مواقعهم فيكونوا الاشد خطورة والاكثر تطرفا .ان الانتداب قد أغلق مراكز القيادة في وجه الشباب من خلال الابقاء على هؤلاء النواطير ، الطرابيش. ثالثا: ان الاحتلال يرصدهم للوقت المناسب لمعرفة المزاج الجماهيري من خلالهم و لتحجيم الثورة ووقف الاضراب بواسطتهم بوصفهم القيادة السياسية للبلاد.
موقف الانتداب البريطاني من الثورة والجماهير:
في محاولته لقمع الانتفاضة فقد استقدم الانتداب مزيدا من القوات البريطانية واستمر بالقمع والفتك بالجماهير وطلائعها الثائرة ، واعتقل 660 رجلا . وادار الانتداب ظهره لمطالب الجماهير الثائرة ، ليس هذا فحسب ، بل وفي حمى تأجج النضال وفي اليوم الثامن عشر من ايار "اعلنت الحكومة برنامجا جديدا للهجرة يسمح بموجبه باستقبال 4500 مهاجرا خلال الاشهر الستة التالية .."(محسن صالح دراسات منهجية في القضية الفلسطينية) ولأن الانتفاضة بتنوع مركباتها ظلت مستمرة فقد استقدم الانتداب مزيدا من القوات البريطانية واستمر بالقمع والفتك بالجماهير وطلائعها الثائرة . وكان للاعتقالات وشدة القمع إثرهما على اجتذاب مزيد من القطاعات للمشاركة في الاضراب وكل اشكال الكفاح . وقد ضاعف الانتداب من قمعه وبدأ كما كتب بيرس "بالتعاون مع مفتشي البوليس في تفتيش القرى ...وكانت اعمال التفتيش تجري في الظاهر بحجة البحث عن السلاح وعن الاشخاص المطلوبين ولكن الحقيقة هي ان الاجراءات التي كان البوليس يتبعها والتي كانت تسير على نفس خطوط الاجراءات التركية القديمة ، انما هي اجراءات تأديبية شديدة " بيرس الى وزارة الطيران ص 34. واستمر القتل والاعتقال والعقوبات الجماعية وهدم البيوت ، وكان هدم احياء في مدينة يافا ذروة من ذرى الاجراءات التأديبية .
وساطات الحكام الرجعيين
"قرر الانجليز اتباع الاسلوب السياسي الدبلوماسي إلى جانب القوة العسكرية التي فشلت في كسر الثورة ، فأرسلوا نوري السعيد وزير خارجية العراق (حينئذ م.ف) الذي اتصل بالملوك العرب في بداية الامر ,فرحب به الفلسطينيون(المفتي واللجنة العربية العليا م.ف) ووافقوا على وساطته ووساطة الملوك العرب.." وفي ذات الوقت اصدرت اللجنة العربية العليا بيانا في 30 |8|1936م معلنة استمرار الاضراب "..الى ان تصل هذه المفاوضات الى النتيجة المرغوبة .." أي انهم بهذا البيان مهدوا لربط الامر بالمفاوضات والوساطات ، ليكون هذا ملجأ حين اللزوم .(ناجي علوش ,المقاومة العربية في فلسطين ص128) "وارسل المفتي برقية بتاريخ 14|9|1936م للملك عبد العزيز آل سعود جاء فيها "...اصدرت الهيئة العربية العليا بيانا اظهرت فيه بصراحة انها كانت وافقت بالاجماع وبكل ارتياح على وساطة جلالتكم وهي لا تزال ترحب بهذه الوساطة وترجو مؤازرتكم"نص البرقية :تيسير جبارة وثائق فلسطينية في دور الارشيف البريطانية .مركز الابحاث جامعة الخليل . وجاءفي (وثائق الحركة الوطنية الفلسطينية .اوراق اكرم زعيتر وثيقة رقم 256ص 447 نص برقية الامير عبدالله امير شرق الاردن المرسلة الى رئيس اللجنة العربية العليا بتاريخ 26|8|1936م "لقد سرني ما رأيت في الصحف من تأكد عزم أصحاب الجلالة ملوك العرب العظام في التوسل لحل مسألة فلسطين حلا يتناسب مع اماني العرب. وزاد اغتباطي مرور فخامة نوري باشا السعيد بفلسطين واختلاطه بكم وسائر الاوساط العربية والبريطانية ثم زيارته ايانا ...نعلم ان القضية الفلسطينية دخلت في دور العطف الظاهر نحوها من الممالك العربية " "ووصل الامير فيصل(ولي عهد السعودية وملكها لاحقام.ف) لحث اللجنة العربية العليا على فك الاضراب .. وقال في كلمته"فكانت فرحتي بلقاء هؤلاء الثوار لأبشرهم بأن جهودهم لن تذهب سدى.."(محمد علي سعيد.بريطانيا وابن سعود .ص136) اما نوري السعيد ف"كان يتنقل بين بغداد والقدس وعمان والرياض لمحاولة فك الاضراب .." وقد ارسل المندوب السامي برقية الى سكرتير الدولة البريطانية اخبره فيها عن اجتماعه مع اعضاء اللجنة العربية العليا وطلب منهم وقف الاضراب فأجابوه بأن ذلك لن يتم الا اذا جاء هذا الطلب من الملوك والرؤساء العرب مجتمعين . ورد السكرتير البريطاني "..ان ابن سعود استلم برقية من الحاج امين الحسيني أخبره فيها انه يوافق على وساطة ابن سعود ويرحب بذلك "(ارشيف وزارة المستعمرات برقية 713 من المندوب السامي ,وبرقية رقم 510 سري من سكرتير الدولة الى المندوب السامي ) "واستمرت المشاورات بين العواصم العربية حول وقف الإضراب وذلك بالتنسيق مع الانجليز.." وقد استمر دور الملوك والأمراء العرب في طعن الشعب الفلسطيني والنضال الفلسطيني والتآمر على القضية الفلسطينية بعد فك الاضراب كما سنرى لاحقا. وكما يتكرر في حالنا الحاضر.
وبعد فشل محاولات الوساطات التي قام بها الامير عبد الله امير شرق الاردن ونوري السعيد رئيس وزراء العراق وفيصل آل سعود ، شددت بريطانيا من مواقفها . وقد اصدرت وزارة المستعمرات البريطانية بيانا شديد اللهجة واعلنت انه تقرر ارسال فرقة عسكرية اضافية من الجيش البريطاني الى فلسطين وان يتولى اللفتنات جنرال ديل القيادة العسكرية العليا في البلاد. في 10|9|1936م أي بعد ثلاثة أيام من البيان البريطاني العنيف ، استقبل واكهوب "كل من الحاج أمين الحسيني وراغب النشا شيبي وعوني عبد الهادي كل على انفراد ، وقبل ان تجتمع اللجنة العربية العليا لبحث الموقف من بيان وزارة المستعمرات البريطانية ،واتفقوا مع المندوب السامي على كيفية انها الاضطرابات ووقف الإضراب . وكانت هذه اكبر طعنة من هؤلاء المتخاذلين . يقول واكهوب:"... إن ثلاثتهم أوحوا بشكل صريح إنهم مستعدون لإنهاء الإضراب اذا طلب منهم الملوك والأمراء العرب ذلك..." . آخذين بعين الاعتبار ان موقف هؤلاء الملوك والأمراء كان متساوقا مع الحكومة البريطانية وقد سبق وتوسطوا من أجل اقناع الفلسطينيين بحل الاضراب وقد حثتهم بريطانيا على استمرار الوساطة . ان تنفيذ السيناريو كان سهلا ، وخاصة بعد ان التقت مواقف الرجعية الفلسطينية مع الرجعية العربية مع الامبريالية البريطانية . فذهب عدد من أعضاء اللجنة العربية العليا لزيارة الملوك والذين بدورهم وجهوا نداء مشتركا دعوا فيه إلى حل الإضراب ووقف الثورة "والاعتماد على النيات الطيبة لصديقتنا بريطانيا العظمى التي أعلنت أنها ستحقق العدالة".رسالة الملك عبد العزيز آل سعود الى اللجنة العربية العليا(تيسير جبارة العلاقات الفلسطينية السعودية ).
هذه القيادة التقليدية الرجعية المتواطئة تسلحت بدعوة الملوك والأمراء لفك الاضراب كما ورد اعلاه ، واصدرت على الفور بيانا في 12 تشرين الاول الذي جاء فيه"ولما كان الامتثال لارادة اصحاب الجلالة والسمو ملوك العرب والنزول على ارادتهم من تقاليدنا العربية الموروثة ... " ولذلك فان اللجنة العربية العليا وامتثالا لإرادة أصحاب الجلالة والسموّ الملوك والأمراء العرب واعتقادا منها بعظم الفائدة التي تنجم عن توسطهم ومؤازرتهم تدعو الشعب العربي الكريم إلى إنهاء الإضراب والاضطراب إنفاذا لهذه الأوامر السامية ..." بيان نويهض الحوت . "وسرعان ما توقف الاضراب والثورة بالفعل في اليوم التالي ، وسمح للعصابات بأن تحل نفسها كما سمح للثوار القادمين من الدول العربية المجاورة باجتياز الحدود تدريجيا والعودة الى الأقطار العربية التي جاؤوا منها . وأخذ الجو العام يتجه نحو الهدوء"عبد الوهاب الكيالي . لقد توقفت الثورة دون ان يتحقق أي من اهدافها ، ولم يتحقق سوى ارتفاع منزلة الزعماء عند الجماهير الفلسطينية والانتداب البريطاني والحكام العرب،لقد قبل الزعماء بالنوايا الطيبة بدلا من تحقيق أهداف النضال الوطني .لقد تعززت منزلة القيادات وتراجعت القضية الفلسطينية خطوات أخرى للوراء .(وهذا ظل يحصل في جميع المراحل اللاحقة حتى يومنا هذا م ف) صحيح ان القمع كان شديدا وان بريطانيا حشدت حوالي عشرين الف جندي ودعمتهم بالبوليس ومن الهاجناة ومن حرس الحدود من شرق الاردن ـ و سبعين الف جندي كما تقول بعض المصادر وهذا عدد كبير بالنسبة لفلسطين ، بالاضافة الى التعاون الفرنسي الانجليزي من جهة الحدود السورية واللبنانية ، غير ان الفعل الثوري المدعوم من قبل الجماهير كان قويا وقابلا للاستمرار بصورة موضوعية . ولكن: ولكن العملية الثورية كانت غير معززة بقيادة سياسية ثورية وقيادات عسكرية محلية مجربة . أما فوزي القاوقجي فقد سارع الى الرحيل وهو ضابط تركي وبعد ان انهارت تركيا انخرط في خدمة الجيش الفرنسي في الاستخبارات العسكرية، ثم ذهب للخدمة في العراق قبل ان يأتي لفلسطين ليشترك في العمل المسلح قيادة وادارة وتوجيها .
المرحلة الثانية حتى عام 1939م
توقفت الثورة وتوقفت الحكومة البريطانية عن الاهتمام بمطالب الفلسطينيين ولم يهتموا بوساطات الملوك والأمراء العرب . لقد قام الملوك والأمراء العرب بالدور المنوط بهم وبالتساوق مع اللجنة العربية العليا ورئيسها وتحت اشراف بريطانيا وبهدف محدد واحد ووحيد هو فك الإضراب وإنهاء الكفاح المسلح والثورة . وهذا ما حصل فعلا . وقد استمرت بريطانيا في اعتقال ومحاكمة القادة الميدانيين والمحرضين ، مما اضطر امين الحسيني لرفع شكوى على الانجليز للملك السعودي يخبره بذلك . (ارشيف جمعية الدراسات العربية. ملف مخابرات مع المملكة العربية السعودية) فرد بن سعود بأنه يأسف لما يقوم به الإنجليز "والذي نوصيكم به الاعتصام بالحزم والصبر والمحافظة على السكون لأن ذلك أضمن للنجاح ان شاء الله"المصدر السابق. أي ان الموقف الحازم الذي اوصى به بن سعود هو الاخلاد الى السكينة والصبر ,وهو قطعا لا يملك ما يفعله لارغام بريطانيا على الامتثال لأية وساطة لمصلحة الشعب الفلسطيني وتتعارض مع وعد بلفور ومشروع إقامة دولة لليهود في فلسطين. وكانت بريطانيا قد أعلنت انها بصدد ارسال لجنة ملكية (لجنة بيل) الى فلسطين في حال توقف الاضراب والاضطرابات وفقا لقرار وزارة المستعمرات البريطانية في 29|7|1936م ولكن وقبل ارسال اللجنة "منح اورمبسي غور وزير المستعمرات 1800 شهادة هجرة جديدة يهودية الى فلسطين "فأعلن الفلسطينيون رفضهم لمقابلة اللجنة الملكية واوفدوا وفودهم للملوك والامراء العرب وارسلوا لهم البرقيات واصدروا البيانات التي تؤكد موقفهم هذا(عبد الوهاب الكيالي .وثائق المقاومة الفلسطينية). غير ان القادة العرب كان لهم رأي آخر ينسجم مع الموقف البريطاني ويتغافل عن المصلحة الفلسطينية ويعتمد التدليس والتضليل . ففي 1|1|1937م وبعد مباحثات الوفود في العواصم العربية عموما وفي الرياض خصوصا ارسل الملك عبد العزيز آل سعود برقية الى رئيس اللجنة العربية العليا جاء فيها "...وبعد استماعنا لكل ما ابداه الوفد الكريم من مبررات لموقف لجنتكم ,وبالنظر لما لنا من الثقة بحسن نية الحكومة البريطانية في إنصاف العرب،فقد رأينا أن المصلحة تقتضي بالاتصال باللجنة الملكية والإدلاء إليها بمطالبكم العادلة ... ونحب ان تكونوا على ثقة بأننا لا نألوا جهدا في سبيل مساعدتكم لإصلاح الحال بقدر امكاننا وانا لنرجو من الله ان يوفقنا لما فيه الخير للاسلام والعرب (محمد على السعيد.مصدر سبق ذكره) وجاءت الردود من الآخرين تحمل نفس الفحوى والضغوطات والتهديدات ومنذرة بالعواقب .(محمد عزت دروزة .حول الحركة العربية الحديثة) كما"هدد الملك عبد العزيز بقطع جميع علاقاته باللجنة العربية العليا اذا رفضت المثول امام اللجنة الملكية.( د.عبد الوهاب الكيالي .تاريخ فلسطين الحديث) وهكذا استجابت اللجنة العربية العليا لأوامر الملوك والامراء العرب مرة أخرى. ملاحظة : كانت النظرة السائدة عند العوام بأن الملك السعودي هو امام المسلمين ويحظى بهذا بمنزلة عالية، كما ان اسم الملك والامير كان ذو هالة وتأثير كبيرين على جمهرة الفلاحين البسطاء ،وكان هذا يستخدم بذكاء من قبل الراغبين في تضليل الشعب الفلسطيني. واوردت اللجنة العربية العليا المطاليب الفلسطينية في مذكرة جاء فيها البنود الخمسة التالية: "1- وقف الهجرة اليهودية الى فلسطين وقفا تاما 2- منع انتقال الاراضي العربية الى اليهود منعا باتا وفي الحال. 3- العدول عن تجربة الوطن القومي الفاشلة... 4- انهاء عهد الانتداب وتبديله بمعاهدة تقوم بموجبها حكومة وطنية دستورية . 5- اعادة النظر في جميع النتائج التي نتجت عن سياسة الانتداب." في تاريخ 7|7|1937م صدر قرار لجنة بيل "والذي يوصي بتقسيم فلسطين الى ثلاثة مناطق ، منطقة يهودية ومنطقة عربية ومنطقة تبقى تحت الانتداب البريطاني (القدس وبيت لحم والناصرة )كما اوصى التقرير بتبادل السكان بين المنطقتين العربية واليهودية ,علما ان عدد اليهود في المنطقة العربية 1250 يهودي فقط وبالمقابل فان عدد العرب في المنطقة اليهودية يبلغ 300,000نسمة أي نصف السكان ويملك العرب ثلاثة اضعاف الاملاك اليهودية في المنطقة اليهودية نفسها"(محمد عزت دروزة .حول الحركة الفلسطينية الحديثة ) واصدرت اللجنة العربية العليا بيانا في 9|7|1937م اكدت فيه رفضها لقرار التقسيم .وقالت فيه ان هذه البلاد لا تخص عرب فلسطين وحدهم بل العالمين العربي والاسلامي قاطبة .المصدر السابق كان لا بد اذن من رفض قرار التقسيم ،بل كان لا بد وان تشتعل الثورة من جديد .والاهم كان لا بد ان يكتشف الفلسطينيون ان وساطات الملوك العرب هي ضغط على الجانب الفلسطيني لصالح الانتداب البريطاني،وهي وساطات لخدمة طرف واحد فقط هو الجانب البريطاني واهدافة المعروفة جيدا لهؤلاء .كما هي حال وساطات الحكام والملوك العرب اليوم لقد كان واضحا حجم الجريمة الهائل لقرار التقسيم كما ورد في دراسة هامة للدكتور تيسير جبارة بعنوان العلاقة الفلسطينية السعودية (1936-1939)وبقية الدارسين والباحثين ,كما كان هذا واضحا لعموم الشعب الفلسطيني *** ولا بد ان نذكر هنا ان الاضراب وما واكبه من نضال وطني فلسطيني قد اجتذب عموم طبقات الشعب الفلسطيني للنضال السياسي. وفي غمرة الكفاح الوطني هذا ادرك عموم الشعب الفلسطيني مأساته حكما بشكل اعمق واعمق ، وتحسسوا من خلال طلائعهم الوطنية ، حجم التواطؤ الذي يحيط بهم من الملوك والامراء العرب تساوقا مع الانجليز وعبروا عن ذلك في أدبياتهم وأمثالهم وكل مصادر التعبير ، بل ولأنهم لم يقدموا الدعم الكافي للثورة والثوار فقد اتهموا من قبل الفلسطينيين بالخذلان. *** ومن جهة ثانية فقد كان التضامن الجماهيري العربي يتعمق ويزداد على شكل تبرعات ومتطوعين ومظاهرات ومسيرات في البلاد العربية وكانت بعض الصحف العربية تشرح وتحرض وتعبر عن تضامنها وتأييدها للشعب الفلسطيني . كما صدرت العديد من الفتاوي التي تدين التقسيم وتتوعد من يقبل به. وقد توجت هذه المظاهر" بعقد مؤتمر بلودان في ايلول 1937 م وحضر المؤتمر اكثر من 450 عضوا من مختلف الاقطار العربية . ومن اهم القرارات التي اقرها المؤتمر : 1- ان فلسطين جزء لا ينفصل من اجزاء الوطن العربي 2- رفض ومقاومة تقسيم فلسطين وانشاء دولة يهودية فيها ..." وبقية النقاط التي ترفض الانتداب والهجرة اليهودية ..الخ.(بيان الحوت .القيادات والمؤسسات السياسية في فلسطين.ص367) ثم ان مصر في هذه الفترة كما كتب داعية العروبة ساطع الحصري ,كانت قد اكتشفت عروبتها ونشطت في حركة النضال العربي . وكذلك في كل من تونس والمغرب الاقصى والجزائر حيث قامت الحركات القومية باستنكار التقسيم وجمع التبرعات ...(امين السعيد.الدولة العربية المتحدة ). وكانت حركة الجماهير في الوطن العربي قد انتظمت في مؤتمر بلودان كما اسلفنا . وعقد في صيف عام 1938 بمبادرة من لجنة برلمانية مصرية ، مؤتمر برلماني عربي في القاهرة اشترك فيه نواب وشيوخ من برلمانات مصر والعراق وسورية ولبنان ينتسبون الى مختلف الاحزاب ، كما اشترك فيه ممثلوا الحركة القومية في المغرب الاقصى ومن فلسطين، وقرر المؤتمر تأييد مطالب الحركة القومية العربية وميثاقها القومي ...(محمد عزت دروزة . حول الوحدة العربية الجزء الثالث ص215 ) ووقعت مظاهرات في الاردن كما فجروا خط انابيب بترول شركة نفط العراق .المصدر السابق *** لقد ابدت الجماهير الفلسطينية غضبها الشديد ضد مشروع التقسيم بل انها شعرت بالخذلان "وقدمت الى السلطات عرائض الاحتجاج من مختلف انحاء فلسطين ، ولكن اشد ردود الفعل هذه جاءت من منطقة الجليل التي شملتها الدولة اليهودية والتي استقبل فيها القرار بصدمة اقترنت بعدم التصديق... "لقد كان الاتحاد الذي ابداه المسيحيون والمسلمون والفلاحون وملاكوا الاراضي بما يتعلق برفض الاقتراح اشدّ على الارجح مما ابدوه في أي وقت مضى فقد كان الشعور العام لدى سكان هذه المنطقة انهم ذهبوا ضحية الخيانة وانهم سيجبرون على التخلي عن اراضيهم والهلاك في مكان ما من الصحراء". (مقتطفات من التقرير الاداري الشهري لمنطقة الجليل لشهر تموز ).
وحيث انه كان ظاهرا رفض توصيات لجنة بيل من قبل الشعب الفلسطيني فقد طرحت عدة مشاريع بديلة من عدة اشخاص مثل نوري السعيد لوحدة كونفدرالية لدول آسيا العربية ورفضته بريطانيا وقدم صموئيل اليهودي بتشكيل اتحاد كونفدرالي عربي يضم سوريا وفلسطين وشرق الاردن والعراق ..بالتعاون مع الحركة الصهيونية. ورفضته بريطانيا لأنها متمسكة بقرار التقسيم . اقترح بن غوريون مشروعا بوحدة فلسطين وشرق الاردن والسعودية شريطة ان تفتح ابوابها للهجرة اليهودية الى فلسطين وشرق الاردن . ورفض ايضا.
استئناف العملية الثورية من جديد:
الحدث الابرز"كان حادث اغتيال اندروز حاكم لواء الجليل يوم 26 سبتمبر م 1937م المؤشر البارز على بدء المرحلة الثانية من الثورة الفلسطينية" .محسن محمد صالح ص283.
"وقد سنحت الفرصة لاتخاذ اجراءات ضد القيادة السياسية للمرحلة الجديدة من الثورة عندما تم في الناصرة اغتيال اندروز حاكم لواء الجليل وحرسه . فعلى الرغم من ان اللجنة العربية العليا وجميع اللجان القومية استنكرت علنا هذا الحادث فقد اعلنت السلطات هذه اللجان كلها غير شرعية وأقصي المفتي عن جميع مناصبه سواء في رئاسة المجلس الاسلامي الاعلى او في رئاسة لجنة الأوقاف ، ثم اعتقلت السلطات بعض اعضاء اللجنة العربية العليا ونفتهم الى جزيرة سيشل والقت القبض على مئات من المناضلين والثوار المشتبه بهم ."(عبد الوهاب الكيالي .تاريخ فلسطين الحديث ص287) وكانت سلطات الانتداب قد قررت طرد المفتي وعوني عبد الهادي الى سيشل ، اثر توجيهه رسائل لزعماء العالم الإسلامي حثهم فيها على الجهاد لإفشال خطة التقسيم ، فغضب الانجليز على المفتي .( أرشيف مكتب الهند ). ووضع الجنرال ديل خطة للقبض على المفتي وذلك بمداهمة اللجنة التنفيذية بتاريخ 17 |7|1937م واعتقال المفتي "للحيلولة بينه وبين اصدار مزيد من النداءات وتقديم المساندة الى اولئك الذين قد يرغبون في احداث الاضطرابات "عبد الوهاب الكيالي مصدر سبق ذكره ص 285. وعلم المفتي بذلك عن طريق حارس البناية فهرب من الباب الخلفي والتجأ الى المسجد الاقصى المبارك ، وبقي المفتي في الحرم مدة ثلاث شهور (د.تيسير جبارة مصدر سبق ذكره) واثر حادث مقتل اندروز أقصي المفتي عن جميع مناصبه كما ذكرنا سالفا . وعلم المفتي بنية الانجليز تجنيد هنود مسلمين لدخول الاقصى واعتقاله! وتمكن من التسلل في الرابع عشر من تشرين الاول بالرغم من الاحتياطات التي اتخذها البوليس وهرب الى حيفا ومن هناك الى لبنان .وهكذا خرج المفتي من البلاد ليلجأ الى لبنان ومن هناك لاحقا الى العراق .(عبد الوهاب الكيالي وتيسير جبارة ) وكانت الحكومة البريطانية قد رفضت توصيات عديدة باعتقال المفتي او عدم السماح له بالعودة من سفرية معينة وذلك طوال احداث 1936 وحتى تموز 1937م . ***
المفتي يدعو لحل الاضراب مجددا : وصف عبد الوهاب الكيالي القيادة التقليدية الفلسطينية بانها قيادة هزيلة(ص278) في كتابه تاريخ فلسطين الحديث وفي اليوم الثاني من تشرين الاول اضربت القدس احتجاجا على اعتقال الزعماء ، وفي اليومين التاليين امتد الاضراب الى اجزاء اخرى كثيرة في البلاد (ليس بدعوة من المفتي م.ف) وبعد يومين من ذلك أصدر المفتي( متطوعا من تلقاء نفسه م.ف) بيانا دعا السكان العرب فيه الى العودة الى اعمالهم وانهاء الاضراب واعقبت ذلك فترة من الهدوء.. وقد لاحظنا ان الوضع بدأ يتأزم والاضطرابات اخذت تنتشر وتتوزع في بداية تشرين الاول وكان دور الحاج امين بالدعوة ليس لتأجيجها وتعميمها واسنادها بل بالدعوة الى إنهاء الإضرابات ، ثم تسلل خارج البلاد وتبعه جمال الحسيني وهكذا كانت الثورة مرة أخرى يتيمة ، ولكن عليها( طربوش) قيادة ذهنيتها هزيلة .
(في انتفاضة عام 1987 م كانت هناك دعوة لاستراحة المحارب ، وتكررت في انتفاضة الاقصى- ما اشبه اليوم بالبارحة) *** وتجددت الثورة المسلحة بعنف أشد واتسعت اتساعا كبيرا في عام 1938 م بحيث اضطرت الحكومة البريطانية الى استخدام الطائرات والدبابات ومختلف انواع المدفعية لقمعها .(إميل توما ,جذور القضية الفلسطينية ، ص261) "وفي ليلة 14|15 من تشرين الاول 1937... جرت غارتان على سيارات الركاب اليهودية في ضواحي القدس ، وتعرضت المستعمرات اليهودية الى اطلاق النار بصورة متقطعة واتلف جانب من خط انابيب العراق في بقعة تقع الى الغرب مباشرة من نهر الاردن واشتعلت النار في النفط المتدفق كما قطعت خطوط التلفون ودمرت بعض خطوط السكة الحديدية ، فخرج احد قطر الركاب عن خطه ، كما اطلقت نار كثيفة على قاطرة حديدية تنقل القوات البريطانية وذلك في بقعة تقع في الجبال الجنوبية الغربية من القدس ، وأطلقت النار كذلك بغزارة على إحدى دوريات البوليس بالقرب من الخليل . وعندئذ فرض منع التجول على مدينة القدس فورا . وفي مساء اليوم التالي اخترق فريق كبير من الثوار العرب مرافق مطار اللد واحرقوا المكاتب الخشبية التابعة للمطار إحراقا تاما بما في ذلك مكاتب الجمارك وجوازات السفر ومنشآت اللاسلكي . ففرضت السلطات على مدينة اللد منع التجول لمدة ثلاث وعشرين ساعة في اليوم الواحد طيلة أربعة أيام متوالية ، كما هدم منزلان فضلا عن فرض غرامة جماعية مقدارها 5000 جنيه فلسطيني . وهكذا كانت المرحلة الثانية من الثورة قد بدأت ".المصدر السابق وسرعان ما أعلنت حالة الطوارئ وأقيمت مراكز للبوليس على نفقة السكان في قرى عديدة مختلفة . ومنذ تشرين ثاني 1937 أصبحت قوات الحكومة التي تدخل القرى تتعرض لإطلاق نار كما كان بعض القرويين يحاولون المقاومة ويقذفونها بالحجارة بينما تتولى القوات الرد بإطلاق النار ".(انظر تشرشل الى اورمبسي غور). دخلت البلاد إذن مرحلة جديدة وباندفاعة ثورية قوية ومتماسكة وقد قلبت كل الموازين والمواقف . وكان تنظيم الثورة المتجددة اشد إحكاما من تنظيم ثورة 1936م *** "في غضون تشرين أول تدفق الثوار على القدس وبحلول السابع عشر من الشهر نفسه تمكن الثوار من طرد البوليس من البلدة القديمة والسيطرة عليها سيطرة تامة .."عبد الوهاب الكيالي مصدر سبق ذكره "ورغم محاولات الجيش سحق هذه الثورة بكل الوسائل ، إلا أنها استطاعت الاستمرار والانتشار ، وعاشت فلسطين جوا من الثورة الوطنية العارمة التي حظيت بدعم شعبي هائل . وفي صيف 1938 وصلت الثورة الى قمة نفوذها ، وخضعت لهيمنتها مناطق واسعة خصوصا شمال فلسطين ووسطها ، وتحطمت الإدارة المدنية في معظم مناطق فلسطين واقتحم الثوار العديد من المدن الهامة ، وكانوا يسيرون وهم مسلحون تماما في شوارع نابلس دون خوف ، واظهر الثوار قدرة جيدة على التنظيم وفاعلية في حرب العصابات وشكلوا محاكم للفصل في القضايا ، وعاقبوا بحسم السماسرة والجواسيس والعملاء .. "وبلغ من شدة الثورة ان وزير المستعمرات عدّ فلسطين أصعب بلد في العالم ، ووصف مهمة المندوب السامي والقائد العام للقوات البريطانية بأنها اشق مهمة واجهت السلطات البريطانية في اية بلاد أخرى بعد الحرب العظمى"(محمد عزت دروزة ومحسن محمد صالح ،صبحي ياسين ). "وبسبب تصاعد عمليات الثوار في فلسطين وبسبب غضب العالم الإسلامي على التقسيم قررت وزارة المستعمرات البريطانية في كانون ثاني عام 1938 م إرسال لجنة فنية لدراسة احتمال إجراء التقسيم ،وتدعى لجنة وود هيد نسبة الى رئيسها جون وود هيد ، ووصلت اللجنة فلسطين في 27|4|1938م وقد وجدت هذه اللجنة عند وصولها فلسطين شعلة من نيران الثوار ومن المظاهرات الصاخبة ضد التقسيم ، فقدمت تقريرها في 9 تشرين الثاني 1938م باستحالة تنفيذ التقسيم.واعتبر الثوار ان توصية لجنة وود هيد بعدم التقسيم نصر كبير للثورة الفلسطينية ."تيسير جبارة .مصدر سبق ذكره . وكان الأمير عبدالله أمير شرق الاردن قد اجتمع بلجنة وود هيد وفند فكرة التقسيم من واقع الإقرار بفكرة المشروع الصهيوني والتساوق مع السياسة البريطانية . وقدم للجنة"مشروعا مفصلا لدولة موحدة تضم شرق الاردن وفلسطين على ان يكون لليهود فيها استقلالهم الذاتي في مناطقهم ، مع مشاركتهم بنسبة عددهم في مؤسسات الدولة المركزية وان يكون لهم الحق بهجرة محدودة بنسبة معقولة الى هذه المناطق".محمد عزت دروزة . الحركة العربية الحديثة – الجزء الثالث ص223. قلنا ان العملية الثورية الجارية في فلسطين كانت اكثر حدة وتنظيما من عام 1936م حيث ذكر هايننغ القائد العسكري البريطاني في 25|9|1938 "إن المرحلة الثانية من الثورة أصبحت اقل اعتمادا على المساعدة الخارجية مما كانت عليه المرحلة الأولى عام 1936 وليس هناك من يملك نفوذا لدى الثوار الذين هم ذو ذهنية وطنية .(المندوب السامي الى وزير المستعمرات) فالثورة في هذه المرحلة كانت في الداخل تدير نفسها بنفسها ومعظم شخصيات القيادة التقليدية غادرت البلاد ، وهي عندما كانت في الداخل لم تكن تقوم بدور قيادة الفعاليات الثورية بل كانت الفاعليات تدار ميدانيا. وكان هناك فصل بين قيادة الميدان الراغبة في تأجيج النضال والاستمرار به حتى نهايته المظفرة وبين التقليديين الذين انخرطوا من البداية في البحث عن وساءل التهدئة والابقاء على شعرة معاوية بل حبل معاوية بينها وبين سلطات الانتداب البريطاني
مؤتمر لندن:
في بيان الحكومة البريطانية الذي الغى قرار التقسيم "دعت بريطانيا الى عقد مؤتمر يحضره العرب واليهود في لندن يدعى اليه ممثلون عن الدول العربية المستقلة ولم تكن الغاية من المؤتمر المقترح اقامة تفاهم عربي يهودي بقدر ما كان فرض حل بريطاني يرتضيه كلا الجانبين ويمتص الثورة العربية الناشبة في جبال فلسطين "عبد الوهاب الكيالي ,مصدر سبق ذكره ص297 وكانت دعوة مندوبين عن الدول العربية من اجل ان يساهموا في اقناع الفلسطينيين بانهاء الثورة . وذكر بيترسون في رسالته لوزارة الخارجية من بغداد " ان العراق والمملكة العربية السعودية مستعدتان لاستخدام نفوذهما لدى زعماء فلسطين لوضع نهاية للثورة وتهيئة اسباب النجاح للمؤتمر "وذلك بالضغط على الوفد الفلسطيني لابداء المرونة والتنازلات. وفي تشكيل الوفد ، وبعد ان افرجت سلطات الانتداب عن الزعماء المنفيين ليشاركوا في المؤتمر بدون الحاج امين ، وتشكل الوفد برئاسة جمال الحسيني ، ضغطت الدول العربية من اجل ضم راغب النشاشيبي ويعقوب فراج الى عضوية الوفد (تكرر بعد ذلك الضغط على المنظمة لضم رشاد الشوا والياس فريج الى الجبهة الوطنية الفلسطينية في الأرض المحتلة وبعدها ضم الياس فريج لعضوية الوفد الفلسطيني لمؤتمر مدريد عام 1991م ) وذكر عبد الوهاب الكيالي ص300 انه"وفي غضون المحادثات قدمت الحكومة اقتراحات تنطوي على انهاء الانتداب وعقد مؤتمر حول مائدة مستديرة في فصل الخريف يوضع خلاله دستور دولة فلسطين تحت الحماية البريطانية على ان تتمتع الاقلية اليهودية فيها بحماية تقترن بضمانات معينة. وطالب العرب بأن يبدأ تنفيذ هذه المقترحات على الفور ..." أي انهم تنازلوا درجة عن السلم دون ان يحصلوا على شيء، بينما كانت الثورة في اوجها . وظن العرب انهم توصلوا لشيء ،غير ان بريطانيا كانت تماطل . وبمضي الوقت تعذر الوصول الى اتفاق .
الكتاب الابيض:
اثر توصية لجنة وود هود بشأن صعوبة التقسيم ,اصدرت بريطانيا الكتاب الابيض في ايار 1938 ايذانا بالغاء قرار التقسيم (مؤقتا كما سنرى ففكرة التقسيم خطوة في صالح المشروع الصهيوني،حيث يترسخ في الذهنية العربية والفلسطينية ان الحل لا يتضمن طرد اليهود بل اعطائهم قسما من البلاد كخطوة على طريق الاستيلاء على فلسطين كلها ،حالما يتوفر العامل البشري ) كان اصدار الكتاب الابيض"احد العوامل التي اسهمت في تهدئة الثورة"كما ذكر محسن محمد صالح. وقد لخصت الموسوعة الحرة الكتاب الابيض كما يلي" الكتاب أبيض لسنة1939" ويعرف أيضاً بكتاب مكدونالد الأبيض الذي سمي على اسم مالكوم ماكدونالد وزير المستعمرات البريطاني، والذي تم إصدار الكتاب تحت سلطته وسلطة الحكومة البريطانية، تم في هذا الكتاب التخلي عن فكرة تقسيم فلسطين إلى دولتين إحداهما يهودية والأخرى فلسطينية، لصالح تأسيس دولة فلسطينية مستقلة تكون محكومة من قبل العرب الفلسطينيين واليهود بناء على نسبة كل منهما لإجمالي سكان فلسطين في سنة 1939. كما تم تحديد عدد اليهود المسموح لهم بالهجرة إلى فلسطين في السنوات الخمس اللاحقة لصدور الكتاب ب 75000 ألفاً (1940-1944) بحيث يتم قبول هجرة 10000 يهودي سنوياً ويتم زيادة هذا العدد ليصل إلى 25000 سنوياً. وبعد سنة 1944، تصبح هجرة اليهود مقرونة بموافقة الأغلبية العربية الموجودة في فلسطين. كما كان هذا الكتاب يحوي على قيود على حقوق اليهود في شراء الأراضي من العرب. رفض العرب واليهود هذا الكتاب ثم أعلنت انكلترا تمسكها به. لكن الحرب العالمية الثانية جعلته حبرا على ورق" ومن المهم الانتباه الى النقاط التالية 1-لقد صدر هذا البيان المعروف بالكتاب الابيض تحت ضغط الثورة الفلسطينية وظروف الثورة الفلسطينية ، وفي سياق عملية السيطرة عليها ووقفها كما سنرى وليس نزولا عند مطالبها . ويقول تيسير جبارة ص74 "الحقيقة ان الكتاب الابيض كان عبارة عن ابرة مخدر للشعب الفلسطيني ولم يكن سوى وسيلة لتهدئة ثورة الشعب الفلسطيني التي بدأت منذ عام 1936م (مصدر سبق ذكره) ترافق مع صدور الكتاب الابيض اشرس هجمة عسكرية استهدفت تصفية الثورة 2- انقسم الموقف الفلسطيني والعربي,"فالامير عبدالله وحزب الدفاع هما وحدهما اللذان وافقا على السياسة البريطانية الجديدة ... (عبد الوهاب الكيالي مصدر سبق ذكره) كان نوري السعيد "يدير لسانا آخر في جلساته الخاصة مع الانجليز وأن المذكرة التي قدمها للمستر ماكدونالد حين مغادرته لندن كانت تحتوي على قبوله لما جاء في الكتاب الابيض(بيان الحوت القيادات والمؤسسات السياسية في فلسطين ص369) اما زعماء الثوار فقد اعلنوا على الفور رفضهم للمقترحات البريطانية الجديدة .. "وقد توافرت للمصادر البريطانية اسباب قوية تدعوها للاعتقاد بأن اعضاء اللجنة(العربية العليا)غير مجمعين على موقفهم فهنالك بعض الاعضاء الميالين للتعاون مع سياسة الحكومة .." وقد اصدرت اللجنة العربية العليا بيانا ختمته برفض الكتاب الابيض بوصفه لا يحقق مطالب العرب التي تتلخص في ان "تظفر فلسطين باستقلالها ضمن اتحاد فيدرالي عربي وتبقى عربية الى الابد"عبد الوهاب الكيالي 3- ان تقييد الهجرة كما ورد في نصوص البيان لا تعني منعها بل بالضبط تشريعها ، فبدلا من ان تدخل الاعداد المطلوبة(75000) بمعزل عن ارادة العرب ، قصد ان تدخل بموافقتهم وتصديقهم طوال السنوات الخمسة الاولى بينما العدد مقرر سلفا من قبل الانجليز،وان تستمر الهجرة بعد السنوات الخمسة بموافقة العرب كذلك كما هي في السنوات الخمسة الاولى . أي انها ثبتت فكرة الهجرة بدلا من وقفها بشكل نهائي ومعالجة الآثار التي ترتبت على حدوثها سابقا . 4- وكذلك الحال بالنسبة للقيود على نقل الاراضي والذي يعني بالضبط ان تستمر عملية نقل الاراضي ويستمر السماح ببيع الاراضي في ظل الاحتلال ، ولكن هذه المرة بقيود ،أي بنظام تتحكم بريطانيا طوال السنوات العشرة بوضعه وتطبيقه . أي انها اعادت تثبيت سياسة نقل وبيع الاراضي بدلا من ان تمنعها قطعيا (الشرعية الدولية تمنع نقل وبيوعات الاراضي تحت الاحتلال) 5- والنقطة الجوهرية الاخرى ان بريطانيا لم تتراجع عن المشروع الصهيوني بل تستمر في تنفيذه على الارض من خلال تأسيس دولة فلسطين المحكومة بالعرب واليهود وفق نسبة كل منهما . ليس تنميق العبارات هو المهم فالأهم جوهرها - كانت فلسطين بدون اليهود ، والمطلوب ان تكون باليهود . والبيان يؤكد على استمرار المشروع باستمرار الهجرة واستمرار بيع ونقل الاراضي وبمشاركة اليهود في السلطة المنوي تأسيسها . 6- مع ان الانجليز صرحوا "انهم سوف ينفذوا بنوده سواء قبل به العرب واليهود ام رفضوه "(تيسير جبارة ص 37مصدر سبق ذكره)الاّ انهم في الحقيقة اهملوه ولم يحصل شيء مما رتبوه للخمس سنوات القادمة، ذلك انهم لم يستهدفوا اتخاذ أي اجراء يحدّ من تقدم وتسارع المشروع الصهيوني .انهم لم يعلنوا قطعيا انهم قرروا ادخال أي تعديل على وعد بلفور ولم يعلنوا ان خطوات في الكتاب الابيض تتناقض مع ما جاء في التزامهم بوعد بلفور وما جاء في صك الانتداب الذي يلزمهم باقامة وطن قومي لليهود في فلسطين .
بريطانيا ترد على تصاعد الثورة :
"بدأ هايننغ (القائد العسكري البريطاني ) اعادة اقامة السلطة البريطانية في المدن مستخدما فرقتين عسكريتين بريطانيتين وعددا من اسراب الطائرات والبوليس البريطاني وحرس الحدود الأردني بالإضافة الى قوة يهودية مساعدة مؤلفة من ستة آلاف جندي ،وبعد ان قام بتنسيق جهود هذه القوى كلها تصدى لتفتيش جميع قرى لوائي الجليل والسامرة تقريبا .وتمكن هايننغ بفضل هذه الحملة من البدء بحملة عامة لنزع سلاح السكان ..." عبد الوهاب الكيالي ص 296 مصدر سبق ذكره) "كانت حملة هايننغ ضد الثوار الفلسطينيين قد نقلت الثورة الى داخل المدن حيث ازدادت أعمال التخريب وتفجير القنابل حدة . وفي اواخر شهر كانون الاول (1938م.ف )كان عدد من الثوار البارزين قد اجتمعوا في دمشق ... وعاد هؤلاء الزعماء إلى فلسطين في كانون ثاني وتمكنوا من تكثيف غاراتهم على الموظفين البريطانيين واليهود وممتلكاتهم كما بدأوا بجباية الضرائب من المدن .. واضرب سكان القدس في شهر كانون ثاني 1939م احتجاجا على إقامة مركز بوليس داخل الحرم الشريف وكثرت احتجاجات العرب عن وحشية القوات البريطانية وشراستها .. "(عبد الوهاب الكيالي ص 299 مصدر سابق) "وخلال عام واحد (نوفمبر 1938-نوفمبر 1939)كانت القوات البريطانية قد قامت باحتلال 2088 قرية وتفتيشها أي ان كل قرية فلسطينية احتلت وفتشت بما معدله مرتين لأن مجموع قرى فلسطين يبلغ حوالي الف قرية . ولذلك فقد عانت الثورة من التراجع والضعف خصوصا منذ ابريل 1939 حيث فقدت الكثير من زخمها واستشهد الكثير من قادتها بينما اضطر آخرون للانسحاب غير ان جذوة الثورة استمرت بالانطفاء تدريجيا حتى اواخر سنة 1939م" (محسن محمد صالح ,مرجع سبق ذكره)
نتيجة القمع البريطاني :
وقد لخص عبد الوهاب الكيالي حالة العامل الذاتي القيادي والاداري الفلسطيني بقوله : "ولقد ادى الضغط المتواصل على الثوار الى الكشف عن ضعف تنظيماتهم الداخلية والعواقب الخطيرة لفقدان قيادة سياسية قادرة على تجنيد الجماهير وحشدها ناهيك بفقدان قيادة عسكرية فعالة قادرة على مواجهة تحدي تفوق القوة العسكرية البريطانية الساحق ، وكانت الفوضى الناشئة عن إساءة استعمال وسائل جمع التبرعات والضرائب من اقوى اسباب تشويه سمعة الثوار ونفوذهم . تضاف لذلك المبالغة بالاغتيالات السياسية دون مبرر شجع العناصر العربية الموالية للحكومة على تحدي الثوار علنا "عبد الوهاب الكيالي تاريخ فلسطين الحديث ص 296). وهذا وكان الانجليز قد شكلوا من خلال ما كان يعرف بالمعارضة فصائل باسم الثورة وتماهت معها وارتكبت هي كذلك اعمالا فاحشة عمدا دون ان تتعرض للانجليز في محاولة لزعزعة العلاقة العميقة التي كانت قائمة بين الثورة والجماهير .
النهاية المأساوية:
باعلان الحرب العالمية الثانية اضمحلت الثورة الفلسطينية الكبرى دون ان تحقق اية نتائج سياسية . لقد كانت ثورة بطولية في وجه انتداب اعظم دول العالم في ذلك الوقت ومن اجل مقاومة ابشع مشروع تدعمه الدول الامبريالية مجتمعة . لقد ثار الشعب بفعل عوامل نهوضه ومن اجل منع تبديده وتشريده ، ودفع ثلاثة آلاف شهيد وسبعة آلاف جريح ولم تتوقف القوة الدافعة للثورة والمقاومة للمشروع الصهيوني. لم يتخاذل الشعب الفلسطيني وقدمت جماهير الفلاحين مع المدينيين العطاء المتواصل . وطوال معاناة الشعب الفلسطيني لم يسجل على نفسه التخاذل والاستسلام وكان دوما مستعدا لتقديم التضحيات الجسام . ولكن الجماهير قدمت هذا العطاء في ظل تركيب طبقي يقف على رأسه الاقطاع المتهالك والمهادن منذ اليوم الاول للاحتلال البريطاني . وفي ظل عجز الطبقة البرجوازية عن الانفصال عن الاقطاع وعجز القيادة البرجوازية الاكثر وعيا وصلابة عن الانفصال التام عن القيادة والزعامة التقليدية انفصالا ثوريا حاسما . قدمت الجماهير عطائها في ظل قيادة يمكن وصفها في أحسن الحالات بالخلطة بين المهادنين الى درجة الموت والمتآمرين الى درجة الموت حيث تزاوج التهادن والتآمر ليصل بالثورة الى خاتمتها المأساوية . لم تتمكن الطلائع المتقدمة من تنظيم وتوعية الجماهير بحقيقة القيادة التقليدية ، ، بل ربما انها كانت بحاجة الى جهود جبارة من التوعية والتثقيف لقلب وعي الجماهير الراسخ بالولاء لمثل هذه الزعامة . ولذلك كانت الجماهير في موقف متناقض فهي تحتفظ في نفسها بدرجة عالية من الولاء لهذه الزعامة بحكم التقاليد وقوة الدفع وبما تتمتع به هذه الزعامة من قوة اقتصادية واجتماعية ودينية، ومن جهة أخرى فانها ادركت بحسها العفوي ان سقف هذه القيادة اهبط بكثير من متطلبات العملية الثورية ، ولذلك كانت دوما تتخطاها ولكن دون ان تقطع الخيط معها . كانت تتخطاها وتتهمها وتهاجم تمسكها بالاعتماد على حسن النوايا البريطانية وتهاجم تخاذلها ، وترى ان دورها اقرب الى التوسط منه الى قيادة النضال وفي نفس الوقت تهتف لسيف الدين الحاج امين وتعطيه الولاء (حصل هذا في الموقف من قيادة الثورة المعاصرة). لقد انتهت الثورة دون ان تحقق أي من اهدافها السياسية ولكنها تركت اثرها حقا . لقد اكدت ان شعب فلسطين لم يفرط بارضه ووطنه وحقوقه رغم تخاذل القيادات الفلسطينية والعربية ، ورغم شدة العسف والقمع الذي مورس من قبل الاتنتداب . لقد اشّرنا على حالة العامل الذاتي في الكفاح الوطني المتمثل بالقيادة والتنظيم والادارة وكل ما يستتبع ذلك من عوامل القوة في مواجهة الانتداب والصهيونية، وكان العامل القيادي قاصرا بل في كثير من الاحيان محبطا بالاضافة الى افتقاره لحكمة القيادة ودافعية التضحية والعطاء . ان الثورة في جانبها الذاتي اشد ما تكون حاجة الى التنظيم القائد والقيادة الحازمة المسلحة بالاهداف الواضحة والتخطيط الثوري السليم . انها تحتاج الى قيادة اتخذت قرارا بالنضال حتى الانتصار وليس ما دون هذا السقف – بعكس حال قيادة الثورة الفلسطينية سابقا ولاحقا . قيادة ترى ان من واجبها حشد وتعبئة طاقات الجماهير حول شعارات واهداف النضال ودفعها للتضحية والعطاء حتى تحقيق هذه الاهداف وليس دونها . قيادة تحدد بوضوح من هو معسكر الاعداء ومن هو معسكر الاصدقاء ودون أي لبس . فبريطانيا ليست صديقة وليس لها نيات حسنة ولا اهمية لسعيها للعدل والانصاف .انها في صف الاعداء والمطلوب منها ليست العدالة ـ المطلوب ان تنسحب وتسحب معها الصهيونية . هكذا بوضوح دون لبس او ابهام . ان الانظمة العربية الرجعية هي في صف الاعداء وهي تمارس العرابة والتدليس والتضليل من اجل ان تمرر سياسة الاعداء وليس من اجل حماية فلسطين والقضية الفلسطينية وذلك ابتداء من فيصل بن الحسين الذي عقد اتفاقية فيصل وايزمن عام 1919م والذي سعى للتوسط بين القيادة الفلسطينية والقيادة الصهيونية على قاعدة امكانية التفاهم بل ونصح الوفد الفلسطيني بالتفاهم مع اليهود ، ومرورا بكل القيادات الرسمية العربية في ذلك الوقت في كل من مصر والاردن والعراق والسعودية واليمن . وبدون اية استهانة بالعامل الموضوعي : ان فلسطين كانت في مجابهة بريطانيا العظمى المدعومة بحلفها الامبريالي ، ومساندة بقوة من الدول الرجعية العربية . اما الثورة فكانت يتيمة ولكنها مصممة قدر المستطاع وبمقدار ما كانت تتحرر من العباءات واشكال التأثير المحبطة .
في 13|تشرين الاول 2012م هذه جزء من دراسة تشمل كل محطات تاريخ القضية الفلسطينية حتى يومنا هذا
#محمود_فنون (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
استشهد باسل الاعرج فهل مات
-
انا من ام الفحم واعتز
-
نقاش في رفض تطبيع دريد لحام
-
bلا احاول اقناع احد
-
خواطر وقصص قصيرة
-
كتاب تورة 1936م-1939م مقدمات ونتائج
-
كتاب بين حل الدولتين وحل الدولة الواحدة دراسة نقدية
-
قالوا علينا استرداد منظمة التحرير الفلسطينية
-
قرارات السلم والحرب فلسطينيا
-
كيف نفهم همروجة الضم
-
البنك والأزمات الإقتصادية وكورونا
-
العراق رؤيا بين مرحلتين
-
بيان الإخوان المسلمين مناصرة لتركيا
-
نقاش في البيان الصادر عن التجمع العربي والإسلامي لدعم خيار ا
...
-
موقفين من الهزيمة
-
نواف مقاتل فلسطيني ورحل شهيدا
-
تركيا ممثلة للناتو دون مواربة
-
الصين تواجه نكبتها والكلاب تنبح
-
رفض صفقة القرن وبيان ملتقى فلسطين
-
فلسطين ومحور المقاومة
المزيد.....
-
المدافن الجماعية في سوريا ودور -حفار القبور-.. آخر التطورات
...
-
أكبر خطر يهدد سوريا بعد سقوط نظام الأسد ووصول الفصائل للحكم.
...
-
كوريا الجنوبية.. الرئيس يون يرفض حضور التحقيق في قضية -الأحك
...
-
الدفاع المدني بغزة: مقتل شخص وإصابة 5 بقصف إسرائيلي على منطق
...
-
فلسطينيون يقاضون بلينكن والخارجية الأمريكية لدعمهم الجيش الإ
...
-
نصائح طبية لعلاج فطريات الأظافر بطرق منزلية بسيطة
-
عاش قبل عصر الديناصورات.. العثور على حفرية لأقدم كائن ثديي ع
...
-
كيف تميز بين الأسباب المختلفة لالتهاب الحلق؟
-
آبل تطور حواسب وهواتف قابلة للطي
-
العلماء الروس يطورون نظاما لمراقبة النفايات الفضائية الدقيقة
...
المزيد.....
-
لبنان: أزمة غذاء في ظل الحرب والاستغلال الرأسمالي
/ غسان مكارم
-
إرادة الشعوب ستسقط مشروع الشرق الأوسط الجديد الصهيو- أمريكي-
...
/ محمد حسن خليل
-
المجلد العشرون - دراسات ومقالات- منشورة بين عامي 2023 و 2024
/ غازي الصوراني
-
المجلد الثامن عشر - دراسات ومقالات - منشورة عام 2021
/ غازي الصوراني
-
المجلد السابع عشر - دراسات ومقالات- منشورة عام 2020
/ غازي الصوراني
-
المجلد السادس عشر " دراسات ومقالات" منشورة بين عامي 2015 و
...
/ غازي الصوراني
-
دراسات ومقالات في الفكر والسياسة والاقتصاد والمجتمع - المجلد
...
/ غازي الصوراني
-
تداخل الاجناس الأدبية في رواية قهوة سادة للكاتب السيد حافظ
/ غنية ولهي- - - سمية حملاوي
-
دراسة تحليلية نقدية لأزمة منظمة التحرير الفلسطينية
/ سعيد الوجاني
-
، كتاب مذكرات السيد حافظ بين عبقرية الإبداع وتهميش الواقع ال
...
/ ياسر جابر الجمَّال
المزيد.....
|