|
بين يافا ويافا وبين -نوار العلت- وشوكه
محمد بركة
الحوار المتمدن-العدد: 7123 - 2021 / 12 / 31 - 14:44
المحور:
الادب والفن
*رواية "نوار العلت" للكاتب محمد علي طه، الصادرة عن "الاهلية للنشر والتوزيع، عمان، 2021*
كتبت كوكبة من الأساتذة المرموقين في النقد الادبي عددا من المقالات النقدية العلمية عن رواية "نوار العلت" للكاتب محمد علي طه، فأجادوا بما لا يدعو لتدخّلي في شأن ليس لي، فماذا عدا مما بدا لأكتب أنا؟
انا، والعياذ بالله منها، لست ناقداً ولا أطمح لذلك.
انما انا مجرد قارئ، واعترف انني لست قارئا كأيّ قارئ انما انا في هذه الحالة قارئ متحيّز للكاتب، وما اكتبه هنا، على غير عادة، لا يتعدّى كونه شذرات مما علق في ذهني بعد قراءة هذه الرواية الرائعة.
كتب البروفيسور مصطفى كبها في معرض كتابته عن الرواية ملخَّصا مكثّفا لها، استعين به فيما يلي: "العنوان (نوار العلت) هو وصف أطلقته السيدة فاطمة أبو مراد (أم أحمد) على عيون فتاة يهودية اسمها يافا" جميلة" وقع في حبها ابنها سمير، طالب الحقوق في جامعة حيفا، وخطط للزواج منها.
ولكن هذا الزواج لم يتم بسبب قتل الفتاة من قبل عشيقها السابق وهو مستوطن يهودي متدين ومتزمت يعيش في إحدى المستوطنات في الضفة الغربية. وفي خضم التحقيقات حول مقتل الفتاة تتفاعل وتتقاطع أحداث الرواية وقضاياها المختلفة: العلاقات بين جمهور الأغلبية اليهودي ومؤسسات الدولة وبين الجمهور العربي، العلاقات بين اليهود الشرقيين، الذين يمثلهم الضابط ابراهام ذو الأصول العراقية واليهود الغربيون، الذين يمثلهم الضابط أوري ذو الأصول الرومانية. وبين جيل مؤسسي الدولة (الذي يمثله والد يافا، الضابط المتقاعد الذي يسكن حيفا) وبين جيل "شباب التلال" من غلاة المستوطنين (والذي يمثله نفتالي عشيق يافا السابق وزميلها في الجامعة) قضية العلاقة بين مكونات المجتمع العربي المختلفة (أحمد وسمير أبو مراد وهما شابان ينتميان لأسرة لاجئة من قرية ميعار الجليلية وكلاهما يمثل، مع الاختلافات بالاجتهادات وقراءة العمليات التاريخية الجارية، جيل الشباب الجامعي ذا المواقف اليسارية والعلمانية المتشبّث بهويته وأرضه والرافض لسياسات التركيع والإذلال من جهة، ووالدتهما فاطمة المهجرة هي الأخرى من الطنطورة وهي مثال للجيل الثاني من المهجرين وهو جيل واجه ارتدادات النكبة ونتائجها بطريقته التي تجمع بين ضرورة التعليم والبحث عن الوظيفة المحترمة بواسطته فقد تعلمت في دار المعلمين وأصبحت معلمة".
في قراءتي لاحظت أن تسمية الرواية بهذا الاسم الى جانب كونها تحمل رقة لون نوار العلت كوصف "قروي فلسطيني" لعيون يافا اليهودية، فهي تشير الى حقيقة أخرى وهي ان العلت لا يزهر الا بالتزامن مع نموّ شوكه.
وما أدراك ما شوك نبتة العلت التي قد تُدمي حين تجفّ؟
من الواضح ان الكاتب أبحر في دراسة زمن الرواية السياسي والاجتماعي، وبذل جهدا استثنائيا في دراسة المرحلة بأحداثها ومفرداتها وضمّخ أحداثها وزمنها بمخزون وفير من مفردات وأحداث وأعلام الثقافة والسياسة في إسرائيل والعالم، ليؤكد ان الكتابة ليست نزوة وليست ارتجالا انما هي الى جانب الابداع والتخيل، دراسة وتعمّق.
لقد اختلط الامر عليّ، فلا اذكر هل كان ذلك في سياق حديث شخصي مع محمود درويش او في احدى القراءات عنه انه قال انه راجع تاريخ الاندلس على مدار سنة كاملة، ليكتب شعرا عن الاندلس.
اذكر أيضا انني سألت في حديث لي مع الفنان الراحل زياد الظاهر عن مدى التزام الكاتب إبراهيم نصرالله في رائعته "قناديل ملك الجليل" بالحدث التاريخي المتعلق بجدّه الأول ظاهر العمر، فقال لي وفق ما تتوارثه العائلة فان الدقة التاريخية تتجاوز ال40% وهي نسبة كبيرة في رأيي، الامر الذي يدلّ على ان كاتب "القناديل" قد اجتهد ودرس فكانت الرواية معبّقة برائحة المكان الذي نعرفه معايشةً وبرائحة الزمان الذي فاض علينا من الرواية.
صحيح ان كاتب الأدب ليس مؤرخا فهو يحتاج الى فضائه ليحلّق كيفما يشاء، لكن الكتابة الأدبية التي تطال زمانا ومكانا بعينهما، إذا افتقدت رائحتهما فإنها تتحول الى تضليل للقارئ، وهذا ما تجنبه الكاتب محمد علي طه بتوخّي الأمانة المبنية على دراسة وعلى تعقّب الزمان والمكان..
الكاتب محمد علي طه، الى جانب كونه الراوي الرئيسي في روايته، فقد منح شخصيات الرواية المركزية حقّ ان تروي ذاتها ورؤيتها وروايتها بذاتها، فبدا الكاتب وكأنه قائد أوركسترا ماهر يعطي لكلٍّ من "العازفين" مساحته ليعطي العازف (شخص الرواية) ما عنده ليترك للمستمع (القارئ) ان يحكم عليه دون ادانة مسبقة ودون تحبّب مسبق.
كاتب "نوّار العلت" لا يخشى رواية الإسرائيلي، بل يرويها بكل دقة، ودون إدانة مسبقة، بعيدا عن الصورة النمطية السائدة في كثير من زوايا الادب العربي التي تخشى منازلة رواية العدو كي لا تبذل جهداً في إحباطها، بينما يضع كاتب "نوار العلت" حجة الحق الفلسطيني بكل أناقة وبكلّ إحكام في مقابل رواية الآخر التي تسقط عن الغصن كالورقة الجافة.
هناك رمزية لافتة والتي لامست الوجع الفلسطيني، في قتل يافا على يد متطرف يهودي إدّعى حبّها، فيافا ليست مجرّد فتاة جميلة يهودية لون عينيها كلون نوّار العلت، انما هي يافا، عروس فلسطين التي تُقتل كلّ يوم حتى اليوم ولا تموت لأنها عصيّة عليه.
بعد ان تصل حبكة الرواية (الكشف عن قاتل يافا) الى منتهاها، يواصل الكاتب كتابته فيصاب القارئ بدهشة ما (ماذا بعد؟) ليصفّي الكاتب حسابه مع الشرطي المحقق اوري وهو أحد ابطال الرواية المنفوخ بمجد موهوم، وزهوّ زائف ليُظهر مدى هشاشته وسخفه فيتكوّم جبروته حطاما عند المسؤول الأعلى منه الذي صادر منه حلمه التافه، وعند اقدام عاشق زوجته العربي.
يخيّل اليّ انني ابن زمن الرواية ومكاناتها، حتى أنني كنت، خلال قراءتي، اسير مع الابطال في مقثاة البطيخ وفي عناق الجبل مع البحر في حيفا وفي الحرم الجامعي وفي غرف التحقيق الاسرائيلية.
رواية "نوار العلت" للكاتب الكبير محمد علي طه تتيح للقارئ العربي خارج الوطن فرصةَ الإطلال على جدلية حياة الفلسطيني الذي بقي على ارض وطنه تحت حكم إسرائيل بعد النكبة، بتعقيداتها ومفرداتها واولوياتها ومآزقها، وهي خلافا لرواية "المتشائل" رائعة إميل حبيبي المؤسِّسة والتي وقعت احداثها بعد النكبة مباشرة وتمثلت بشخصية سعيد أبو النحس المتشائل المهزومة والفهلوية ، تأتي لتتعاطى مع مرحلة أخرى تبعد عقودا كثيرة عن النكبة في حياة هذه المجموعة الفلسطينية، والتي تتمثل بانتصاب القامة الفلسطينية وكسر شوكة الغطرسة الإسرائيلية وبالتحيز لنوار العلت وشوكته المؤلمة.
#محمد_بركة (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
الولجة قرية فلسطينية تحولت الى مختبر لتنفيذ جرائم الاحتلال
-
من -هبة القدس والاقصى- إلى -صفقة القرن- عدالة قضيتنا عصيّة ع
...
-
في رحيل المناضل الكبير ضد الابرتهايد والعنصرية دنيس غولدبرغ
-
قائمة الشركات ال 112 الداعمة للاستيطان هي قائمة الرعب للاحتل
...
-
تصريح بومبيو عن الاستيطان يجب ان يفتح الملف برمّته
-
صاحب الجلالة – الشعب الفلسطيني في شهادة الياس نصرالله
-
إسرائيل تراهن على ترحيل جماهيرنا خارج انتمائها وحقوقها، وخار
...
-
هذا بديلنا – نحن قادرون على طرح البديل
-
لنتعاون جميعًا للتصدي لسياسة الإقصاء والاقتلاع والهجوم على ب
...
-
نذود عن اللغة العربية.. هذا عهدنا للأستاذ الكبير حنا مخول
-
القدس بين السيادة والعبادة
-
واجب الساعة اولا : الخروج من جلباب القبيلة.... واجب الساعة ث
...
-
4 تصريحات إسرائيلية خطيرة وسياسة عدوانية واحدة
-
علم المنطق الإسرائيلي والكلب والمفاوضات
-
ميزانية العسكرة والاحتلال والرأسمالية المتطرفة
-
يهودية الدولة وحلّ الدولتين
-
يهودية دولة إسرائيل وحلّ الدولتين
-
الرفيق نمر مرقس: نعاهدك أن نضع أعيننا في عين الشمس ونواصل ال
...
-
شكرا لجماهيرنا: الجبهة القوة الاولى في المجتمع العربي
-
الفيلم المنحط ضد الرسول صناعة المزبلة الأميركية
المزيد.....
-
-البحث عن منفذ لخروج السيد رامبو- في دور السينما مطلع 2025
-
مهرجان مراكش يكرم المخرج الكندي ديفيد كروننبرغ
-
أفلام تتناول المثلية الجنسية تطغى على النقاش في مهرجان مراكش
...
-
الروائي إبراهيم فرغلي: الذكاء الاصطناعي وسيلة محدودي الموهبة
...
-
المخرج الصربي أمير كوستوريتسا: أشعر أنني روسي
-
بوتين يعلق على فيلم -شعب المسيح في عصرنا-
-
من المسرح إلى -أم كلثوم-.. رحلة منى زكي بين المغامرة والتجدي
...
-
مهرجان العراق الدولي للأطفال.. رسالة أمل واستثمار في المستقب
...
-
بوراك أوزجيفيت في موسكو لتصوير مسلسل روسي
-
تبادل معارض للفن في فترة حكم السلالات الإمبراطورية بين روسيا
...
المزيد.....
-
تجربة الميج 21 الأولي لفاطمة ياسين
/ محمد دوير
-
مذكرات -آل پاتشينو- عن -العرّاب-
/ جلال نعيم
-
التجريب والتأسيس في مسرح السيد حافظ
/ عبد الكريم برشيد
-
مداخل أوليّة إلى عوالم السيد حافظ السرديّة
/ د. أمل درويش
-
التلاحم الدلالي والبلاغي في معلقة امريء القيس والأرض اليباب
...
/ حسين علوان حسين
-
التجريب في الرواية والمسرح عند السيد حافظ في عيون كتاب ونقا
...
/ نواف يونس وآخرون
-
دلالة المفارقات الموضوعاتية في أعمال السيد حافظ الروائية - و
...
/ نادية سعدوني
-
المرأة بين التسلط والقهر في مسرح الطفل للسيد حافظ وآخرين
/ د. راندا حلمى السعيد
-
سراب مختلف ألوانه
/ خالد علي سليفاني
-
جماليات الكتابة المسرحية الموجهة للطفل في مسرحية سندس للسيد
...
/ أمال قندوز - فاطنة بوكركب
المزيد.....
|