|
آخر يوم في 2021
منير المجيد
(Monir Almajid)
الحوار المتمدن-العدد: 7123 - 2021 / 12 / 31 - 11:32
المحور:
كتابات ساخرة
وهكذا صرنا على بعد ساعات قليلة من السنة الثالثة للجائحة وأشهر قلائل لتدخل المقتلة السوريّة عقدها الثاني. بداية يومي لم تكن مُشجّعة على الإطلاق. كأس الشاي الذي اعتدت شربه بعد الإفطار منذ نصف قرن انشطر بفرقعة صغيرة وسال الماء المغلي في كل مكان وعلى قدمي. إنكسر الشر؟ أي شرّ؟ الشرّ لا ينكسر بل يمتدّ سرطانياً. انكسرت الكاسة وأحمرّ جلد قدمي قليلاً. قليل من التفاؤل يعني أن يحدث هذا اليوم أُفضل من أن يحدث في آخر يوم من السنة.
للمرّة الألف سأتحدّث عن نفسي. يُرجى عدم المُؤاخذة، فأنا أعرف إسرافي في هذا لإرضاء «أناي»، ومن ناحية اخرى لا مجال كبير لطرح مواضيع شيّقة بسبب الحجر والإغلاق وهيك شغلات. مجالي وفضائي المُريح هو رواية قصص أسفاري في المقام الأول، وبسبب عدم توفّرها لجأتُ إلى أحاديث عن مواقفي الغبيّة وترهاتي ووعكاتي وتجارب زياراتي للأطباء والمستشفيات، كوني في خضمّ «سنّ التصليحات» مؤخّراً. لم يكن القصد من أحاديثي إثارة قلق بعض الأصدقاء، أو تصيّد «سلامتك من كل شرّ» أبداً. كل ما هُناك أنني وجدت فيها، بالرغم من كلّ شيء، جانباً من المتعة والتسلية، خلافاً لوجهة نظر البعض.
السفر الذي كنتُ أمارسه بشغف كبير تفرمل بين ثانية واخرى. ومنه، بطبيعة الحال، إدماني لجولات وصولات اليابان. أيضاً الزيارات الساتيلاتية القصيرة للمدن الأوروبية. هناك بعض المدن التي لم أزرها بعد. أيضاً كندا ونيوزيلندا كانتا على قائمتي. أمريكا؟ لا شكراً. البلد الذي لا أتطلّع لزيارته، لكن نيويورك، وفقط نيويورك، أردت أن أمنهحا فرصة.
قبل بدء الجائحة بقليل إزداد عدد أفراد أسرتي بحفيدين. سُعدنا وفرحنا، لكن تباعدنا فيما بعد. فاتني الكثير من الوقت في متابعة نموّهما ورؤية أول إبتسامة لهما، كما كان الأمر مع الحفيدين الأولين. الإغلاق الشامل في البلاد تطلّب بقاء الجميع في البيت، وكان تأثير ذلك على الوليدين الجديدين مُلفتاً. المعروف أن الأطفال الصغار هم قنابل نوويّة صغيرة من البكتيريا والجراثيم المُغلّفة في جلدهم الناعم الرائع، لأنّهم يرتادون الحضانات. ولهذا فائدة وضرورة لأنهم كلما اختلطوا بالآخرين، كلما قويَ جهاز مناعتهم. مواليد فترة الحجر ظلّوا محميين في حضن أمهاتهم لفترة طويلة، وكأنهم عاشوا في جهاز مُعقّم. وحينما خُفّفت القيود والحجر الصحي اضطر الأولياء للذهاب إلى العمل تاركين أطفالهم تحت رحمة عدوى الأمراض التي تمرح في رياض الأطفال. وهكذا كان أمر الحفيدين. مرضا بشكل لا يوصف، سال إنفاهما بالمخاط وارتفعت درجات حرارتهما، واضّطررتُ إلى الذهاب إلى كوبنهاغن مرّات عديدة لتنطيف مؤخراتهما وتبديل قماطاتهم المليئة بالإسهال. كان هناك مشكلة صغيرة اخرى تعلّقت بعدم كفاية معرفتهما بي كي أبقى معهما طيلة اليوم. لحسن الحظ، زالت بتكرار الزيارات.
أربكني الوضع الجديد لأنه فُرض عليّ الإقلال من الإختلاط بأفراد العائلة والأصدقاء، والإبتعاد عن الذين لا أعرفهم وكأنهم مجزومون. ماذا أفعل؟ انصرفت إلى الكتابة كفشّة خلق ومشاهدة عشراة الأفلام، حتّى الهوليودية التافهة، والمسلسلات غير العربيّة وبرامج عن الحيوانات البريّة والأسماك، مُكتسباً عادات جديدة: ذرف الدموع لأتفه الأسباب. إذا بكت الممثلّة ساندرا بولوك أجهش بدوري في البكاء، وكذلك إن تاه طفل عن أمّه في مسلسل نيتفليكسي. في جيوبي محارم على الدوام. كأنني خرجتُ من حياتي وصرت مُجرّد متفرج عليها. هي ليست مسرحية أو ما يشبه، فأنا أعرف أنهّا حياتي، بيد أنني خارجها على نحو ما. كيف أشرح الموقف؟ لا أستطيع التطلّع إلى المستقبل، كما كنتُ أفعل مسبقاً. لم يبق لي سوى تذكّر حياتي التي مضت. أو هل أقول التي أُهدرت؟
حفلة الميلاد التي نُمارسها تقليدياً وثقافياً باجتماع كل أفراد العائلة مُسحت من روزنامتنا في 2020، لكنّنا أبشرنا خيراً بعد تقليّنا للّقاح الأول والثاني والثالث المُعزّز، وانتظرنا الموعد بفارغ الصبر. فجأة انتشرت العدوى في حضانة حفيدتي «سيا». لا حول ولا! حملوها إلى المستشفى لإجراء الفحص يوم 22، وجلستْ على كرسي وفتحت فمها بشجاعة فظيعة مُثيرة إعجاب المُمرّضة. أمّا نحن فقد جلسنا كلٍ في بيته بانتظار نتيجة الفحص. يوم 23 لا شيء. اخت هالشغلة! التحضيرات في خطر، حتى كميات الطعام قد تُهدر. إتّكلنا وقلنا لا بأس، لم نجتمع العام الماضي ولن نفعلها السنة أيضاً. يوم 24 وفي تمام الساعة الخامسة وخمس دقائق مساءً تلقينا النتيجة التي أثارت فرح وغبطة الجميع: سيا ليست مُصابة. فما كان عليّ إلّا أن أرتدي ثيابي وآخذ معي ضيفتي. هاه، نسيتُ ضيفتي. هي إبنة صديق ياباني تدرس في لندن. في الواقع مازالت في ضيافتي. في البداية، حينما أفصحت عن رغبتها بزيارتي، توجّستُ قليلاً. ماذا ستفعل صبية لم تبلغ العشرين في قرية معزولة لمدّة أسبوعين؟ لكنني تفاجأت حينما أبدت، فقط، الإهتمام بزيارة متاحف الفن الحديث، والسير معي في حقول المنطقة. لكن لحظهّا العثر أُعلن عن إغلاق شامل للبلاد قبل مجيئها بيومين، بما في ذلك المتاحف. وصلنا إلى كوبنهاغن. كانت التحضيرات على قدم وساق وكتف. أخذتُ صوراً للطاولة التقليدية ووضعتها بصمت مُطبق على فيس بوكي.
ماذا عن سنة 2021 التي هي على وشك أن تنتهي إلى الأبد؟ صرفتُ في الحقيقة ساعات كثيرة منها للمشي، لأن نادي القرية الرياضي أُغلق. المشي يُذكّرني بتوم هانكس في دور فوريست غامب الذي قضى حياته راكضاً. قطعتُ كل متر مربع من طرقات قريتي وحقولها المُحيطة، وإن لم يكن كافياً صرت أمشي في بيتي كالمعتوه. أستمع إلى الموسيقى أحياناً، وأحياناً أتحدّث إلى الأصدقاء وأنا أمشي. منذ أولّ يوم، أردتُ أن أعرف تماماً تفاصيل عن جهودي. أولاً تبعت رأي الخبراء الذين يوصون بعشرة آلاف خطوة يومياً. هواتفنا لحسن الحظ لديها تطبيقات للعملية الحسابية. أنا أردت، في تحدٍ لا مُبرّر له للخبراء، وعلى شكل مُزايدة شرق أوسطية مَرَضيّة، أن أمشي، على الأقل، خمسة عشر ألف خطوة لأصل إلى عشرة كيلومترات كل يوم. صار الأمر هوساً. إن لم أمش نحو هدفي، الذي خطّطتُ له في دماغي، أنام قلقاً تلك الليلة، ثمّ أقوم ببذل جهد أكبر في اليوم التالي لإستعاضة ما فاتني. اليوم، في آخر يوم لسنة 2021 تشير أرقامي هكذا: بلغ متوسط عدد الخطوات 15,228 في اليوم الواحد. هذا يعني 5,558,220 خطوة، أي 3723 كيلومتراً في سنة 2021. أذهلتني هذه الأرقام، ولم يخطر في بالي ولا حتّى لحظة أنني مشيتُ كلّ هذه المسافة. هذا يعني أنني لو بدأت المشي من قريتي إعتباراً من اليوم الأول، في خط مستقيم مثل رحلات الطائرات، عابراً الأنهار والبحيرات والجبال والبحار، مُتجنّباً اللصوص في البلقان وقطاع الطرق الأتراك، لكنتُ اليوم أكتب هذه الأسطر في دمشق. هل أعتبر هذا إنجازاً أم عناداً كردياً أحمقاً؟ لا أعرف! إلّا أن النتيجة مُريحة في نهاية المطاف: عضلات ملموسة في الساقين. يعطيني العافية.
قد يضع العام القادم حدّاً للكورونا. ليس بالقضاء عليه، فهو جاء ليبقى، بل بتقليصه إلى مرض يُشبه الإنفلونزا، يمكن تجنّبه بلقاح في موسم الخريف. هل هناك فيروسات اخرى تقف في صفّ لتحصل على فرصتها في الشهرة؟ أم هل سيتناكح فيروس الإنفلونزا بكل إصداراته مع فيروس الكورونا، أيضاً، بكل إصداراته لإستنباط نوع مُمانع مُقاوم؟ أمرٌ غير معروف. لكنني مُتفائل من أن العالم قد تعلّم الكثير من الدروس ولن يُؤخذ من ذنبه من جديد. هل ستقلّ الحروب والمجاعات والكوارث الطبيعية وإضطهاد الإنسان للإنسان؟ لا، أعتقد سيحدثُ العكس! هل سنعمل بجد أكثر على تحسين البيئة والإقلال من نفايات البلاستيك والإنبعاثات؟ ممكن في بلاد الكفر، وغير ممكن في بلاد الإيمان.
رجاءً، تناولوا الكحول اليوم، أو أقيموا الصلوات، كل حسب رغبته وأسلوب عيشه، وودّعوا 2021 بمزاج معتدل، رغم إنف كل المؤشرات التي تبعث على الإكتئاب. كل عام وأنتم لا أعرف ماذ بدقّةا! لكن أرسل للجميع؛ الهوموسابيان والجوراسيين والنياندرتال، المُعاصرين والمنتسبين للعصور الحجرية، وكل من مشى ودبّ وزحف، رسالة حب دافئة. المُتسببّون بكوارث الحروب والإرهاب والبيئة والإنقلابات العسكرية: تفو عليكم! لعنكم الله وأسكنكم ضيّقَ جهنّمهِ.
#منير_المجيد (هاشتاغ)
Monir_Almajid#
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
لا حياء فيها
-
الفصل العاشر من رواية «كوبنهاون»
-
الفصل الأول من رواية كوبنهاون
-
لارس والآودي
-
الحجّ على الطريقة اليابانية
-
محافظة يهودية في روسيا
-
الحورية على شكل حشرة
-
رأي سابق في المقتلة السورية
-
الزطّ (الغجر)
-
الشيطان والحمار
-
الزيزان
-
النمل
-
العتائق ونشأة الحياة
-
فوتبول
-
لونا وروبيرت
-
الحمار
-
ورد جوري دمشق
-
المتّة
-
صابون
-
الخنزير
المزيد.....
-
بشعار -العالم في كتاب-.. انطلاق معرض الكويت الدولي للكتاب في
...
-
-الشتاء الأبدي- الروسي يعرض في القاهرة (فيديو)
-
حفل إطلاق كتاب -رَحِم العالم.. أمومة عابرة للحدود- للناقدة ش
...
-
انطلاق فعاليات معرض الكويت الدولي للكتاب 2024
-
-سرقة قلادة أم كلثوم الذهبية في مصر-.. حفيدة كوكب الشرق تكشف
...
-
-مأساة خلف الكواليس- .. الكشف عن سبب وفاة -طرزان-
-
-موجز تاريخ الحرب- كما يسطره المؤرخ العسكري غوين داير
-
شاهد ما حدث للمثل الكوميدي جاي لينو بعد سقوطه من أعلى تلة
-
حرب الانتقام.. مسلسل قيامة عثمان الحلقة 171 مترجمة على موقع
...
-
تركيا.. اكتشاف تميمة تشير إلى قصة محظورة عن النبي سليمان وهو
...
المزيد.....
-
فوقوا بقى .. الخرافات بالهبل والعبيط
/ سامى لبيب
-
وَيُسَمُّوْنَهَا «كورُونا»، وَيُسَمُّوْنَهُ «كورُونا» (3-4)
...
/ غياث المرزوق
-
التقنية والحداثة من منظور مدرسة فرانكفو رت
/ محمد فشفاشي
-
سَلَامُ ليَـــــالِيك
/ مزوار محمد سعيد
-
سور الأزبكية : مقامة أدبية
/ ماجد هاشم كيلاني
-
مقامات الكيلاني
/ ماجد هاشم كيلاني
-
االمجد للأرانب : إشارات الإغراء بالثقافة العربية والإرهاب
/ سامي عبدالعال
-
تخاريف
/ أيمن زهري
-
البنطلون لأ
/ خالد ابوعليو
-
مشاركة المرأة العراقية في سوق العمل
/ نبيل جعفر عبد الرضا و مروة عبد الرحيم
المزيد.....
|