كامل عباس
الحوار المتمدن-العدد: 1659 - 2006 / 8 / 31 - 09:54
المحور:
الادب والفن
لنجيب محفوظ مكانة في قلبي لايعلمها الا الله , ولقد رأيت أن أفضل رثاء له مني هو نشر الفصل الأخير من كتابي – مسك الختام - الذي لايزال مخطوطة بين يدي
عنوان الكتاب : اليسار السوري وتحرر المرأة – رابطة لعمل الشيوعي نموذجا -
مسك الختام
لمدرسة الواقعية الاشتراكية – بمسحتها التفاؤلية وحتميتها التاريخية وبطلها الايجابي – الدور الأول في الحفاظ على توازني النفسي والجسدي طيلة سنوات السجن المديدة ( برهبتها وممنوعاتها ) , لقد علمتني تلك المدرسة مواجهة ظرفي من اجل الانتصار لقضيتي , بالمقاومة المبرمجة والمخططة والتي تتناسب مع شخصيتي وبنيتي الفيزيولوجية (1) , وهكذا كنت أضع في الأسبوع الأول من كل عام خطة محكمة أسير على هديها يوما أثر يوم وأتقيد بها بشكل عام . كانت خطتي لعام 1988 هو الانشغال بهذا الكتاب (2) , وتشاء الصدف أن أقرأ رواية نجيب محفوظ ( ميرامار ) لأول مرة في حياتي بعد أن أصبح الكتاب مخطوطة بين يدي على الورق , لتوحي لي بفصل جديد هو : مسك الختام .
قرأت روايات عدة لنجيب محفوظ تتناول المرحلة الناصرية , بداية ونهاية , الكرنك , ثرثرة فوق النيل , اللص والكلاب , ورأيت فيه رجلا شجاعا ونبيلا لايخشى في قول الحق لومة لائم , يضع الأصبع على الجرح وهو ينزف غير عابئ بمباحث عبد الناصر التي تملأ فضاء مصر آنذاك , جديد رواية ميرامار هو إحساسي وكأنها تعالج موضوع رابطة العمل الشيوعي في سوريا في صراعها مع البعث , مع أنها كتبت قبل أن تولد الرابطة بربع قرن !
أذكر جيدا أن أحد رفاقنا عندما اعتقل في أول حملة قمع لم يستطع أن يتحمل الضرب كما يضرب الحمار وعنده لسان قادر على إيقاف هذا الوجع بكلمة , وكانت الكلمة حرة وعفوية وصادقة , حكى فيها كل ما يعرفه عن الرابطة من أجل ان يوقف تعذيبه , ووعدهم في حال أخلوا سبيله ان يأتيهم بالأخبار عنها , وكان له ذلك ,ولكنه جاء إلينا وتكلم بنفس الصدق والعفوية عما جرى له , وقد تكررت القصة أكثر من مرة , يذهب لعندهم وقد عاهد نفسه الا يخون رفاقه , ولكنه لايتمكن من الصمود في الدولاب , يخرج ليتكلم عن كل كلمة قالها في التحقيق عندهم , بالنهاية مله الطرفان وتركوه ,
كثيرا من رفاقنا سلمهم أهلهم لرجال الأمن رغما عنهم ,من فرط محبتهم لهم وحرصا على مستقبلهم
كثيرون أيضا تواروا فترة ذروة حملة القمع , لتبدأ تدخلات ووساطات أقاربهم االمسموعة كلمتهم في الدولة
كثيرون منهم قالوا لأخوتهم ما قال منصور باهي لأخيه
(( - ولا كلمة ,سأقتلعك من الوكر !
- ولكني لم اعد طفلا ..
- ألم تسرع بأمك الى القبر ؟
- اتفقنا على ألا نذكر ذلك الماضي البعيد .
- ولكني أراه حاضرا , ستذهب معي الى الاسكندرية ولو اضطرت الى أخذك بالقوة .
- عاملني كرجل من فضلك .
- انك ساذج :أتظننا غافلين , لسنا غافلين .
وتفرس في وجهي بقوة ثم قال
- انك غر جاهل , ماذا تحسبهم ؟ أبطالا .. هه ؟ , أني أعرفهم خيرا منك , وستذهب معي طوعا او كرها .. )) (3) ليصبح بعدها منصور بعيدا عن القاهرة محل إقامته الدائمة وليقول لنفسه (( قضي علي بالسجن في الاسكندرية وبان أمضي العمر في انتحال الأعذار ))(4) ويصبح أمثاله من رفاقنا بين نيران عديدة , الأمن يطاردهم والرفاق ينظرون اليهم بوصفهم جواسيس وأصدقاءهم ينظرون اليهم بريبة وشك
- (( ولست أجهل ما قيل عني , قالوا انني أسعى للعودة لأعمل عينا لأخي ! )) (5)
(( وأنا كذلك , أني في رأي أصحابنا جاسوس , وفي رأي نفسي خائن , )) (6)
الأهم من كل هذا بالنسبة لموضوع كتابي وهو تحرر المرأة والموقف العملي منه عند المحك , أي عندما يعتقل الزوج وتصبح المرأة وحيدة مع جسدها ورغباتها ,
شغلنا الموضوع في السجن كما شغلنا فترة الاحتراف
- بعض من رفاقنا وصلهم خبر التفريق بينهم وبين زوجاتهم عبر الجريدة الرسمية وتقبلوا الأمر بهدوء وبتفهم لوضع زوجاتهم .
- بعض منهم ثارت ثائرته وأرغى وأزبد وتوعد .
- بعض من زوجات رفاقنا ارتبطن برفاق آخرين بعد طلاق أزواجهن الموجودين في السجن
- بعض رفاقنا نصح زوجته بالطلاق وسهل لها الأمر على الا تهمل أطفالها .
- بعضهن التزمن خمسة عشر عاما جاهدن كل تلك السنوات لقمع أجسادهن واحترام أزواجهن وأطفالهن وبقين كذلك حتى لحظة إخلاء السبيل .
أما بالنسبة لدرية وزوجها فوزي وحبيبها السابق منصور , فلا أعرف ان كان نجيب محفوظ قد اخترع تلك الشخصيات ام انه أخذها بشحمها ولحمها من تجربة الشيوعيين المصريين , ما أعرفه أن درية وفوزي ومنصور كانوا أشخاصا حقيقيين في الرابطة ولم يكونوا شخوصا تتحرك على الورق . لنتابعها كما جرت في الرواية وفي الواقع .
منصور يهرب من القاهرة الى الاسكندرية ( من دمشق الى حمص ) يعتقل رفيقه وأستاذه وزوج حبيبته السابقة في دمشق ( القاهرة ) يفكر بعد حين بزيارة الى حبيبته السابقة وزوجة رفيقه ومعلمه وتتكرر اللقاءات .
(( - متى جئت الى القاهرة ؟
- جئتك من المحطة رأسا .
- اذن علمت ..
- هل قبض عليهم جميعا
- أظن ذلك
- وأين ذهبوا لا ادري
- وانت ؟
- كما ترى .. وحيدة بلا مورد . كان أستاذا مساعدا بكلية الاقتصاد ولكن بلا مدخرات . كل شيء واضح وضوح الكآبة التي تخنق المكان كله .
- درية , انت زميلة قديمة , وهو صديق , أعز صديق رغم كل شيء . )) ( 7)
- تتكرر اللقاءات (( أرهقني السفر ذهابا وايابا )) (8) فيتذكران الماضي
((- أحببتك من قديم , انك تذكرين ذلك , ثم فوجئت بخطوبتك !
فقالت بحزن
- انت تبدو مترددا فيسهل اساءة فهمك ..
ثم قالت بنبرة اعتراف :
- قبلت فوزي تأثرا بشخصيته , انه كما تعلم يستحق كل إكبار ..
وكان يجلس حولنا كثيرون من العشاق فسألتها .
- هل نحن سعداء ؟ )) (9)
وعندما يتلكأ منصور في السفر الى القاهرة تأتيه درية
- جاء دوري لمطاردتك !
- أوجزت لها أخباري المتضمنة عذري , وكانت قلقة متوترة الأعصاب فأكثرت من التدخين , ولم أكن على أحسن حال ...
- والعمل
- لو سألنا العقل لأجاب بان علينا ان نفترق أو ان نسعى الى الطلاق !
- - اتسعت عيناها الرماديتان في فزع ربما لاستجابتها لا لنفورها
- أنت تعلم انه يحبني .
- ولكنه لن يبقي عليك اذا علم انك تحبيني ,
- ألا يتسم تفكيرك بطابع نظري جدا ؟
- ولكني أعرف فوزي وهذا واقع !
- تصور .. تصور ان يقول ..
- انك تخليت عنه وهو في السجن , أليس كذلك ؟, لا قيمة لذلك انك تتخلين عنه لا عن مبادئه . )) (10) وفي اللقاء اللاحق قالت وهي تغض البصر
- بلغتني رسالة من فوزي عن طريق صحفي صديق , خفق قلبي . انه الصحفي الصديق . لاخير هناك على وجه اليقين قالت :
- انه يمنحني الحرية للتصرف بمستقبلي كما أشاء !
- اشتد خفقان قلبي ..... وسألت بعناد
- واضح انه علم بأمرنا )) (11)
على ما يبدو في تلك الفترة جرى صراع داخلي بين العقل والقلب عند منصور . بين عواطفه تجاه حبيبته وبين ما يمكن ان يقال عنه . وقد حسم الآمر
وفي اللقاء اللاحق والأخير(( انبثق شعاع غاضب من عينيها الرماديتين وقالت :
- - انك تجعلني أشك في عقلك !
- أعتقد اني أستحق ذلك !
فصاحت بحنق :
- أكنت تعبث بي طيلة الوقت ؟
- درية !
- صارحني .. أكنت تكذب علي ؟
- أبدا ..
- اذن هل مات حبك فجاة ؟
- أبدا..أبدا ..
- انك تصر على العبث بي !
- ليس عندي ما أقوله , اني أكره نفسي , هذا ما يجب ان أصارحك به , وعليك ألأ تقتربي من رجل يكره نفسه )) (12)
وبعد ان تغادر وهي تعاني من هبوط كلي في قواها الداخليه
(( رنوت الى مشيتها المألوفة المحبوبة بغرابة , وبحزن , وحتى تلك اللحظة الجنونية لم يغب عني أن ذاك الكائن المخلخل المقهور الذي يختفي رويدا رويدا في السابلة , لم يغب عني انه حبي الأول وربما الأخير في هذه الدنيا , وباختفائها هويت الى الحضيض . ورغم شقائي المؤكد فقد داخلني ارتياح غامض غريب )) (13) .
..............................................................................
خجلت من نفسي بعد قراءة الرواية لأن معالجتي للموضوع بدت لي سطحية جدا مقارنة بمعالجة نجيب محفوظ لها . ولكنني وجدت عزاء لي بأنني سياسي ونجيب محفوظ أديب والفرق بين المعالجتين هو فرق بين الأدب والسياسة . كان همي أن انقل التجربة كما جرت ليستفيد منها من يريد أن يسير على هذا الدرب الشاق , درب مواجهة السلطات الاستبدادية في الشرق . أردت ان يتسلح الرفاق بما يمكن ان أقدمهم لهم من تجربتي نظرية وممارسة .
أما نجيب محفوظ فلم يكن مقيدا بأي قيد كونه أديب والأدب عالمه أوسع وأرحب بكثير من السياسة , والأدب المتميز والرفيع هو الذي يثير مشاكل في زمان ومكان محدد تكون محل خلاف بين المنظرين والسياسيين والفلاسفة والحكماء والعقلاء . وهذا ما فعله نجيب محفوظ في معالجته لموضوع الجنس والحب في الرواية
وهل هناك موضوع معقد أمام الجنس البشري أكثر من موضوع الغريزة الجنسية وطرق اشباعها في هذه اللحظة من تطوره عبر الشكل القائم في كل تجمعاته ؟ أي عبر الارتباط بين الرجل والمرأة في العائلة الحالية .
كامل عباس – اللاذقية
..........................................................................
هوامش :
1- على سبيل المثال أذكر أنني دخلت في دورة لتعلم اللغة الفرنسية ودورة أخرى لتقوية لغتي الانجليزية , ولكنني لم أستطع المتابعة رغم تفوقي بهما , كنت أشعر أن التعلم داخل السجن يزيد من وطأة القضبان على روحي على عكس قراءة الروايات التي تنقلني الى الحياة خارج السجن عبر الورق , وفعلا تابع العديد من رفاقي تعلم أكثر من لغة ومنهم من أصبح مترجما مشهورا ليس على مستوى سوريا فقط بل والعالم العربي أيضا في حين بقيت أنا بلديا صرفا حتى الآن لاأجيد سوى اللغة العربية .
2- شغلني الموضوع جيدا خارج السجن , وقد قمت بأكثر من جهد واكثر من دراسة داخل المنظمة من اجل وضع ضوابط لممارستهم بما يخدم المنظمة , وباءت كل جهودي بالفشل , وقد كررت المحاولة في السجن ووزعت مخطوطتي على الرفاق ولم تلق أي اهتمام كما في الخارج , كان هم الرفاق هو موضوع محكمة امن الدولة العليا المزمع تحويلنا اليها , وما هو الموقف الصحيح تجاهها .
3- رواية ميرامار - دار مصر للطليعة ص 153
4- """""""" ص139
5- """""""""ص 158
6- """"""""ص 169
7- """"""""""ص 155
8- """""""ص 159
9- """"" ص 179
10- """"ص 180
11- """""ص 186
12- """"""ص 188
13- """"ص 189
#كامل_عباس (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟