أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - راتب شعبو - الوطن المنفي















المزيد.....

الوطن المنفي


راتب شعبو

الحوار المتمدن-العدد: 7112 - 2021 / 12 / 20 - 15:40
المحور: الادب والفن
    


كانت الهجرة ظاهرة شائعة في سوريا منذ زمن بعيد، بتأثير الحروب والأزمات الاقتصادية التي كانت تتعرض لها بلاد الشام. الأعداد التي تذكرها الموسوعة الحرة (ويكيبيديا) كبيرة ومفاجئة، حتى مع الأخذ في الحسبان أن المقصود هي سوريا الطبيعية التي تشمل فلسطين والأردن ولبنان إضافة إلى سوريا الحالية. تذكر الموسوعة مثلاً أن هناك 8 مليون سوري في أميركا الشمالية انصهروا بالمجتمع الأميركي، و4 مليون ما زالوا متمسكين بجنسيتهم ومحافظين على أصولهم. وأن هناك حي في مانهاتن اسمه "سوريا الصغيرة". وتصبح الأرقام في أميركا الجنوبية أكبر، 12 مليون ممن ذابوا في المجتمع و11 مليون ممن ما زالوا يحتفظون بجنسيتهم وأصولهم.
رغم هذا لا يمكننا أن نقول إن سوريا كانت أرضاً طاردة لأهالها، ذلك أن أميركا كانت وجهة مقصودة لكل شعوب الأرض، بوصفها "أرض الأحلام" بالنسبة للناس الذين تضيق سبل عيشهم. غير أن ظاهرة خروج السوريين بعد 2011، وبشكل أكثر وضوحاً بعد 2013، تختلف عما سبق. هنا لم يخرج السوريون بحثاً عن حياة أفضل، بل بحثاً عن حياة، عن أي قدر من الأمان الذي يصون الحياة من القتل المباشر. خرج الميسور والفقير ومن بينهما، سواء بسواء.
***
مع أننا نستخدم "المنفى" للتعبير عن حال السوريين الذين وجدوا أنفسهم مدفوعين إلى الرحيل عن بلدهم إلى أي مكان آخر متاح، نتيجة تفاقم الصراع المسلح وتحول الدولة السورية، بكل مقدراتها وتحالفاتها، إلى وسيلة قتل وسلب وإخضاع، فإننا نقول إن "المنفى" ليس هو المفهوم الدقيق لوصف حال هؤلاء السوريين الذين تشتتوا في أصقاع الأرض.
كان يُفهم من النفي أنه وسيلة قمعية للخلاص من الأشخاص الذين يشكلون، أو ترى السلطات أنهم يشكلون، تهديداً لسيطرة السلطات القائمة، بإبعادهم عن وطنهم أو إبعادهم إلى مناطق نائية ومعزولة منه. كان في النفي إذن، على قسوته الباهظة، شيء من الاعتبار، أو لنقل، شيء من التقدير للشخص المنفي، بوصفه "خطراً"، لا تقتله السلطات ولا تسجنه إنما تبعده عن وطنه، فتحقق بذلك غرضين، أولاً تتخلص من خطره، وثانياً تعاقبه بالغربة.
في التصور العام يكون النفي فردياً أو "نخبوياً". لكن ملايين السوريين يجدون أنفسهم "منفيين" اليوم. لم يخرجوا من بلادهم لأنهم خطرين، بل خرجوا هرباً من الخطر. لم تقل لهم سلطة محددة إنكم خطرون وعليكم الخروج. كيف يكون الناس العزل خطيرين على آلة حرب منفلتة من أي قيد أخلاقي؟ على العكس، آلة الحرب المنفلتة تحتاج إلى الضحايا، فالرصاصة التي تنطلق ولا تجد أمامها سوى الفراغ هي رصاصة تعيسة، ولم يخرج هؤلاء اللاجئون إلا لأنهم لا يرغبون في أن يكونوا سبباً لسعادة الرصاص. لم يخرجوا لأنهم خطرين، فما من أحد خطير أمام الرصاص.
***
في الاعتبار الذاتي، كما في السياق السياسي، الفارق ليس قليلاً بين من يُنفى ومن يخرج هارباً. المنفي يمكن اعتباره مقاوماً، ويمكن أن يستند نفسياً على هذا في اعتباره الذاتي، أما الفار فهو مهزوم، ولا يجد مستنداً لاعتباره الذاتي سوى الأمل الباهت في أن يكون مفيداً لسوريا قادمة، أو سوى هدوء الضمير. وقد يستعيد اعتباره الذاتي بشيء من النجاح في "منفاه"، أي بشيء من الانقطاع عن وطنه الأم.
قلنا إنه لا يصح تماماً وصف السوريين الذين يعيشون في الشتات اليوم بأنهم "منفيون"، ولكننا لا نعثر على كلمة أخرى تحيط بهذا الحال. الهجرة أو التهجير أو الرحيل أو النزوح أو اللجوء ... الخ، كلمات معبرة ولكنها مبتورة، يغلب فيها اللون المؤقت، فيها تركيز على الفعل الآني الذي تندفع إليه جماعة بشرية تحت تأثير ما، أكثر من التركيز على حال هؤلاء البشر بعد ذلك الفعل. في هذه الكلمات تركيز على الفعل الحاد وليس على الفعل المزمن. إنها كلمات ساخنة تنقل سخونة الحدث الذي ينسف استقرار حياة أهل بلد ما، ويدفعهم إلى الفعل الأقسى في الحياة، إلى الرحيل عن موطنهم. فيما نريد نحن التعبير عن "البرودة" التالية للحدث. لنقل إننا نريد الحديث، ليس عن الصدمة، بل عما بعد الصدمة، عن نتائجها واتجاه فعل تأثيراتها، أو عنها وهي تبرد وتتصلب عناصرها، عنها وهي تستمر وتتحول إلى روتين يومي. لنقل إننا نريد الحديث عن كيف يتعايش المصدوم مع مفاعيل صدمة كبيرة غيرت شروط حياته بالكامل، فلم نجد سوى مفهوم "المنفى".
***
قلنا "المنفى" ولم نقل "الغربة"، فالغربة شعور يأتي من البعد عن مكان نشأة الإنسان وتكوينه، عن المكان "الطبيعي" للإنسان، بصرف النظر عن أسباب البعد. كما أنه شعور قابل للولادة في قلب من لم يغادروا مكانهم، حين تصبح شروط الحياة في هذا المكان قاسية إلى حد شعور المرء بأن المكان نفسه يتنكر له. الغربة لا تتولد فقط من الابتعاد عن الوطن، وقد قيل "إن الفقر في الوطن غربة"، فكيف إذا اجتمع الفقر إلى النزوح عن مكان السكن المعتاد، إلى عدم توفر مأوى، فيسكن المرء وعائلته سنوات لا تنتهي في خيام لا تقي من تقلبات الطقس، وهو في "وطنه"، وفي كثير من الأحيان لا تجد العائلة حتى خيمة تؤويها، فتعيش في العراء. هذا يدفعنا للحديث ليس فقط عن الإنسان المنفي، بل وعن "الوطن المنفي"، الحال الذي يكون أكثر قسوة، لأن فيه نزع عناصر الوطن من الوطن، أو تحويل الوطن إلى منفى، أو نفي الوطن عن أهله. ولذلك جعلنا عبارة "الوطن المنفي" عنواناُ لملفنا.
كذلك لم نقل "المهجر"، لأن في هذه المفردة قدر من الاختيار لم يتوفر للسوريين الهاربين من الموت. لم يختر السوريون خروجهم أو وجهتهم، كان عليهم أن يخرجوا إلى البلد الأقرب الذي كان، على هذا، ملجأ وليس مهجراً.
***
الحدث الساخن يجتذب الأضواء والانتباه، ولكن الأضواء لا تحب برودة الروتين ما بعد الحدث، لذلك تغمر الظلال المنفى فيما هو يهضم المنفيين ببطء وثبات. أردنا أن نفكر في هذا الحال البارد الذي يبدو لنا موضوعاً شديد الأهمية، ليس فقط على حياة "المنفيين" بل وعلى حياة سوريا الممكنة في المستقبل، بقدر ما يشكل هؤلاء "المنفيون" جزءاً منها.
يفرض علينا هول ما وصلنا إليه من "نفي"، أن نتأمل في مواضيع مثل: كيف يستقر المنفي، وهل يستقر، وعلى أي أساس يتوازن، وهل يتوازن. كيف تصبح مع الزمن صلته ببلده الأم.
غير أن منافي السوريين ليست واحدة، من حيث شروط الحياة. من يعيشون في مخيمات اللاجئين في الأردن (الزعتري، الأزرق، الاماراتي الأردني ...)، أو في لبنان (البقاع، عرسال، عكار، جبل لبنان ...) أو في العراق (إقليم كردستان العراق بشكل أساسي) أو في المخيمات القريبة من الحدود التركية، ليسوا كمن تمكنوا من الوصول إلى تركيا وهؤلاء ليسوا كمن استطاع اللجوء إلى أوروبا. يبدو هذا واضحاً من أرقام العائدين من اللاجئين بحسب تقارير الأمم المتحدة. ومن الطبيعي أن يقود اختلاف المنافي إلى اختلاف النتائج والآثار. هناك مناف تسعى إلى دمج اللاجئين، وأخرى لا تريد أو لا تستطيع سوى تركهم على هامش المجتمع. في الأولى يلوح للمنفي تجاوز حالة النفي، باستبدال الوطن، وفي الثانية يتضاعف النفي، فيجد المنفي نفسه منفياً مرة ثانية، مرة من وطنه ومرة من المجتمع الذي لجأ إليه.
***
هناك نفي من نوع آخر يُمارس على السوريين الذين لم يخرجوا من بلدهم. عملية تمارسها تركيا على المناطق التي تسيطر عليها من شمال سورية، وأخرى تمارسها إيران على من تستطيع الوصول إليهم من السوريين. في الحالتين تملأ قوى أجنبية فراغاً ناجماً عن ضعف الدولة السورية وتفككها في صراعها المدمر ضد إرادة غالبية الشعب السوري.
تلحق تتولى الدولة التركية المناطق السورية بإدارتها وتملأ الفراغ الخدمي ومنه التعليمي، وتكرس حضورها الثقافي واللغوي والرمزي، و"تنفي" من السوري انتماءه الوطني السوري. فيما تقوم إيران بجذب قطاعات من الشعب السوري إلى ولاءات ثقافية ومذهبية وحتى سياسية، غير سورية، مستغلة حاجات الناس الاقتصادية والأمنية.
في الحالتين، تجري على قدم وساق عملية سرقة الوطنية السورية من وجدان السوريين، أو بكلام آخر، يجري "نفي الوطن" من وعي قطاعات كبيرة من السوريين الذين لم يخرجوا إلى المنافي، فجاء المنفى إلى بيوتهم، في تكامل أو تواطؤ بين المستبد الداخلي وصاحب المطامع الخارجي.
***
النفي ينطوي على معنى الإبعاد وعلى معنى الإلغاء. النفي السياسي يستهدف الإلغاء عبر الإبعاد. الفاعلية والحضور والتأثير تعني مقاومة الإلغاء وهذا يعني الحد من مفاعيل المنفى. نعتقد أن الرابط الوجداني بالأرض الأم له الغلبة، وأن كل حضور للسوريين، على أي مستوى كان، من شأنه أن يغذي القوة التي تجعل سوريا تعود من منفاها وتنتصر لذاتها.



#راتب_شعبو (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- الشيخ إمام في عالمي المغاير
- تيار يميني يثير ذعر الفرنسيين
- إشكالية -الجيش السياسي- في السودان وغيره
- بمناسبة الحديث عن مجلس عسكري سوري
- العالقون على حدود بولونيا، أي درس؟
- أسرار الحديقة
- الدولة العميقة والمسارات المستورة للسلطة
- الانقلاب في السودان، عن المعجبين بحكم القوة
- السودان: يا سلطة مدنية، يا ثورة أبدية
- السلطة وركائزها النفسية
- بين إريك زيمور وقيس سعيد
- نقد المعارضة الجذرية
- على ضوء الحاضر السوري الكئيب
- بين سجنين، أبطال في أمة مفككة
- ضرورة التمييز ومعرفة الفروق
- درعا، قليل مما يمكن قوله
- الحديقة في المنفى
- أصوات سورية تعلو بالخيبة
- أفغانستان وظاهرة التنكر الوطني
- موت البرامج السياسية


المزيد.....




- -البحث عن منفذ لخروج السيد رامبو- في دور السينما مطلع 2025
- مهرجان مراكش يكرم المخرج الكندي ديفيد كروننبرغ
- أفلام تتناول المثلية الجنسية تطغى على النقاش في مهرجان مراكش ...
- الروائي إبراهيم فرغلي: الذكاء الاصطناعي وسيلة محدودي الموهبة ...
- المخرج الصربي أمير كوستوريتسا: أشعر أنني روسي
- بوتين يعلق على فيلم -شعب المسيح في عصرنا-
- من المسرح إلى -أم كلثوم-.. رحلة منى زكي بين المغامرة والتجدي ...
- مهرجان العراق الدولي للأطفال.. رسالة أمل واستثمار في المستقب ...
- بوراك أوزجيفيت في موسكو لتصوير مسلسل روسي
- تبادل معارض للفن في فترة حكم السلالات الإمبراطورية بين روسيا ...


المزيد.....

- تجربة الميج 21 الأولي لفاطمة ياسين / محمد دوير
- مذكرات -آل پاتشينو- عن -العرّاب- / جلال نعيم
- التجريب والتأسيس في مسرح السيد حافظ / عبد الكريم برشيد
- مداخل أوليّة إلى عوالم السيد حافظ السرديّة / د. أمل درويش
- التلاحم الدلالي والبلاغي في معلقة امريء القيس والأرض اليباب ... / حسين علوان حسين
- التجريب في الرواية والمسرح عند السيد حافظ في عيون كتاب ونقا ... / نواف يونس وآخرون
- دلالة المفارقات الموضوعاتية في أعمال السيد حافظ الروائية - و ... / نادية سعدوني
- المرأة بين التسلط والقهر في مسرح الطفل للسيد حافظ وآخرين / د. راندا حلمى السعيد
- سراب مختلف ألوانه / خالد علي سليفاني
- جماليات الكتابة المسرحية الموجهة للطفل في مسرحية سندس للسيد ... / أمال قندوز - فاطنة بوكركب


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - الادب والفن - راتب شعبو - الوطن المنفي