|
رأسمالية الدولة والديكتاتورية
أنطون بانيكوك
الحوار المتمدن-العدد: 7111 - 2021 / 12 / 19 - 01:15
المحور:
ابحاث يسارية واشتراكية وشيوعية
أنطون بانيكوك خلال سنواته البرلينية- من كتاب جون جيربر
نشر النص عام 1936 في مجلة Rätekorrespondenz ـ
كثيراً ما تستخدم عبارة “رأسمالية الدولة” بشكلين مختلفين: أولاً، كشكل اقتصادي تقوم الدولة فيه بدور صاحب العمل الرأسمالي، وتستغل العمال فيه لصالح الدولة. يعد نظام البريد الفيدرالي أو السكك الحديدية المملوكة من الدولة أمثلة على هذا النوع من الرأسمالية. في روسيا، يسيطر هذا الشكل من رأسمالية الدولة في قطاع الصناعة: يجرى تخطيط العمل وتمويله وإدارته من الدولة، وتعين الدولة مديري المصانع وتعد الأرباح من مداخيل الدولة. ثانياً، نجد أن حالة تُعرّف بأنها رأسمالية الدولة (أو اشتراكية الدولة) تتحكم بموجبه الدولة بالمشاريع الرأسمالية. هذا التعريف مضلل، رغم ذلك، لا يزال يوجد في ظل هذه الحالات رأسمالية بشكل ملكية خاصة، على الرغم من أن مالك المؤسسة لم يعد السيد الوحيد، وسلطته مقيدة طالما يوجد نوع من التأمين الاجتماعي يقبل به العمال.
يتعلق الأمر بمدى تدخل الدولة في المؤسسات الخاصة. إذا أقرت الدولة قوانين معينة تؤثر على ظروف العمل، مثل توظيف العمال وفصلهم من العمل، أو تمويل المؤسسات من نظام مصرفي فيدرالي، أو إذا منحت الإعانات لدعم تجارة التصدير، أو إذا كان الحد الأقصى لتوزيع الأرباح محدداً- عندها سنصل إلى حالة تنظم فيها الدولة الحياة الاقتصادية بكاملها. سيختلف ذلك عن رأسمالية الدولة الصارمة بدرجات معينة. نظراً إلى الوضع الاقتصادي الحالي في ألمانيا [1936] يمكننا أن نعتبر وجود نوع من رأسمالية الدولة هناك. مالكو الصناعات الكبيرة في ألمانيا ليسوا خاضعين للدولة إنما هم القوة الحاكمة في ألمانيا عبر الفاشيين الذين يتولون المناصب الحكومية. تطور الحزب الاشتراكي القومي كأداة لهؤلاء المالكين. من جهة أخرى، في روسيا، تدمرت البرجوازية على يد ثورة أكتوبر واختفت تماماً كطبقة حاكمة. سيطرت بيروقراطية الحكومة الروسية على الصناعة النامية. يمكن تطوير رأسمالية الدولة الروسية حيث لم يعد يوجد برجوازية. في ألمانيا، كما في غربي أوروبا والولايات المتحدة، البرجوازية تتمتع بسلطة كاملة، حيث تملك رأس المال، ووسائل الإنتاج. هذه العناصر هي ضرورية لوجود الرأسمالية. العامل الحاسم هو طابع تلك الطبقة التي تمتلك سيطرة كاملة على رأس المال وليس الشكل الداخلي للإدارة ولا درجة تدخل الدولة في الحياة الاقتصادية للسكان. إذا اعتبرت هذه الطبقة أنه يجب الالتزام بتنظيم أكثر صرامة- وهي خطوة من شأنها جعل الرأسماليين الصغار أكثر اعتماداً على إرادة كبار الرأسماليين- فإن طابع الرأسمالية الخاصة سيبقى مستمراً. لذلك يجب التمييز بين رأسمالية الدولة والرأسمالية الخاصة التي يمكن أن تنظمها الدولة إلى أقصى الحدود.
لا يجب النظر إلى التنظيمات الصارمة على أنها مجرد محاولة لإيجاد مخرج من الأزمة. تلعب الاعتبارات السياسية دوراً كذلك. تشير أمثلة تنظيم الدولة إلى هدف واحد: التحضير للحرب. تنظم الصناعة، وكذلك إنتاج المزارعين من المواد الغذائية- من أجل الاستعداد للحرب. بعد أن تراجعت البرجوازية الألمانية بفعل نتائج الحرب الأخيرة- التي سلبت منها الأراضي والمواد الأولية والمستعمرات ورأس المال، تحاول إعادة تأهيل قواها المتبقية من خلال التمركز الصارم. بالنظر إلى الحرب كخيار أخير، إنها تضع أكبر قدر ممكن من مواردها تحت سيطرة الدولة. عند مواجهة الهدف المشترك المتمثل بوجود قوة عالمية جديدة، توضع المصالح الخاصة لمختلف أقسام البرجوازية في الخلف. تواجه كل القوى الرأسمالية هذا السؤال: إلى أي مدى ينبغي أن يعهد إلى الدولة، بصفتها ممثلة المصالح المشتركة للبرجوازية الوطنية، بسلطة على الأشخاص والأموال والصناعة في الصراع العالمي على السلطة؟ وهذا ما يفسر لماذا في الدول التي يسكن فيها أعداد متزايدة من الفقراء، ولا تسيطر على مستعمرات أو تسيطر على عدد قليل (مثل إيطاليا، وألمانيا، واليابان) استولت الدولة على القوة الأعظم.
يمكن للإنسان أن يسأل التالي: أليست رأسمالية الدولة هي “المخرج” الوحيد للبرجوازية؟ من الواضح أن رأسمالية الدولة ستكون مجدية، فقط إذا كان بالإمكان إدارة العملية الانتاجية بأكملها وتخطيطها مركزياً من فوق لتلبية حاجات الشعب والقضاء على الأزمات. إذا حصلت مثل تلك الظروف، إن البرجوازية ستتوقف عن أن تكون برجوازية حقيقية. داخل المجتمع البرجوازي، لا تُستغل الطبقة العاملة فحسب، إنما يجب وجود صراع دائم بين مختلف أجزاء الطبقة الرأسمالية من أجل السيطرة على الأسواق ومصادر استثمار رأس المال. هذا الصراع بين الرأسماليين مختلف تماماً عن المنافسة الحرة القديمة في السوق. تحت غطاء تعاون رأس المال داخل بلد هناك صراع مستمر بين الاحتكارات الكبيرة. لا يمكن للرأسماليين التصرف كمجرد جامعي أرباح، تاركين المبادرة للمسؤولين بالدولة للاهتمام باستغلال الطبقة العاملة. يتصارع الرأسماليون فيما بينهم من أجل تحقيق الأرباح والسيطرة على الدولة من أجل حماية مصالحهم القطاعية كما يمتد مجال عملها إلى خارج حدود الدولة. على الرغم من حصول تركز قوي خلال الأزمة الحالية داخل كل دولة رأسمالية، إلا أنه ما زال يوجد تداخلات دولية قوية (لرأس المال الكبير). في شكل الصراع بين الأمم، يستمر صراع الرأسماليين، حيث تؤدي الأزمة السياسية الشديدة خلال الحرب والهزيمة إلى أزمة اقتصادية.
لذلك عندما يطرح السؤال حول إذا كانت رأسمالية الدولة- بالمعنى الذي استعملته فوق- هي مرحلة وسيطة ضرورية قبل استيلاء البروليتاريا على السلطة، هل ستكون الشكل الأعلى للرأسمالية التي أقامتها البرجوازية؟ الجواب هو لا. من جهة أخرى، إذا كان الإنسان يعني من خلال رأسمالية الدولة الرقابة الشديدة والتنظيم الصارم لرأس المال الخاص من قبل الدولة، فإن الإجابة هي نعم، درجة سيطرة الدولة متغيرة داخل بلد ما تبعاً للوقت والظروف، والحفاظ على مستوى الأرباح وزيادتها التي تتحقق بطرق عديدة، استناداً إلى الظروف التاريخية والسياسية والعلاقات بين الطبقات.
Ⅱ
هدف الطبقة العاملة هو التحرر من الاستغلال. هذا الهدف لا يمكن بلوغه ولا يمكن تحقيقه بواسطة طبقة حاكمة موجّهة جديدة تحل مكان البرجوازية. لا يمكن تحقيقه إلا من خلال سيطرة العمال أنفسهم على الإنتاج.
رغم ذلك، من الممكن والمحتمل جداً أن تصبح رأسمالية الدولة مرحلة وسيطة، حتى تنجح البروليتاريا في تأسيس الشيوعية. رغم ذلك، لا يمكن أن يحدث هذا لأسباب اقتصادية إنما لأسباب سياسية. لن تكون رأسمالية الدولة نتيجة الأزمات الاقتصادية بل نتيجة الصراع الطبقي. في المرحلة الأخيرة من الرأسمالية، يكون الصراع الطبقي القوة الأكثر أهمية التي تحدد تصرفات البرجوازية وتشكل اقتصاد الدولة.
من المتوقع، نتيجة التوترات والصراعات الاقتصادية العظيمة، أن يتحول الصراع الطبقي للبروليتاريا المستقبلية إلى عمل جماهيري؛ سواء كان هذا العمل الجماهيري ناتجاً عن نضالات من أجل تصحيح الأجور أو أزمات اقتصادية، سواء كان شكلها متمثلاً بالإضرابات الاقتصادية أو أعمال شغب أو كفاح مسلح؛ ستؤسس البروليتاريا مجالس عمالية- أجهزة رامية إلى تقرير المصير وتنفيذ نضالات موحدة. سيكون هذا هو الحال في ألمانيا. حيث دمرت الأجهزة السياسية القديمة للنضال الطبقي؛ يقف العمال جنباً إلى جنب كأفراد دون ولاء آخر سوى ولاء لطبقهم. في حال تطور حركات سياسية بعيدة المدى في ألمانيا، يمكن للعمال أن يعملوا فقط كطبقة، وأن يناضلوا فقط كطبقة عندما يعارضون المبدأ الرأسمالي للديكتاتورية الفردية بواسطة المبدأ البروليتاري لتقرير مصير الجماهير. في الدول البرلمانية الأخرى، من ناحية أخرى، يعاني العمال من إعاقة شديدة في تطوير العمل النقابي المستقل من خلال أنشطة الأحزاب السياسية. تَعِدُ هذه الأحزاب الطبقة العاملة بأساليب نضال أكثر أماناً، وتفرض على العمال قيادتهم وتجعل من غالبية السكان تلحقها من دون تفكير، بمساعدة من آليات الدعاية الخاصة بها. هذه المعوقات في ألمانيا باتت تقليداً يحتضر.
إن مثل هذه النضالات الجماهيرية الأولية ليست سوى بداية مرحلة التطور الثوري. لنفترض وضعاً مؤاتياً للبروليتاريا: إن العمل البروليتاري قوي للغاية بحيث يشل ويسقط الدولة البرجوازية. على الرغم من الإجماع في هذا الصدد، قد تختلف درجة نضج الجماهير. لن يُكتسب تصور واضح للأهداف والطرق والوسائل إلا خلال عملية الثورة وبعد الانتصار الأول ستؤكد الاختلافات فيما يتعلق بالتكتيكات الإضافية نفسها. ظهر المتحدثون باسم الأحزاب الاشتراكية والشيوعية؛ التي لم تمت، على الأقل ما زالت أفكارهم حية بين الأجزاء “المعتدلة” من الطبقة العاملة. حان الوقت الآن لتطبيق برنامجهم الخاص من “اشتراكية الدولة”.
إن العمال الأكثر تقدمية الذين يجب أن يكون هدفهم وضع قيادة النضال تحت سيطرة الطبقة العاملة من خلال المجالس العمالية، (وبالتالي إضعاف قوة الدولة العدوة) وسيواجهون من خلال الدعاية “الاشتراكية” التي ستؤكد على ضرورة الإسراع ببناء النظام الاشتراكي عن طريق حكومة “اشتراكية”. ستكون هناك تحذيرات ضد المطالب المتطرفة، ومناشدات خجولة لأولئك الأفراد الذين لا يمكنهم تصور فكرة الشيوعية البروليتارية بالنسبة لهم، وسوف تقدم حلول وسط مع الإصلاحيين البرجوازيين، وكذلك تطمين الأخيرة بدلا من إجبارها عبر المصادرة من خلال مواجهة حادة. ستبذل المحاولات لمنع العمال من تحقيق الأهداف الثورية- عن الصراع الطبقي الحازم. حول هذا النوع من الدعاية سيحتشد أولئك الذين يشعرون أنهم مدعوون ليكونوا على رأس الحزب أو لتزعم العمال. سيكون من بين هؤلاء القادة قسماً كبيراً من المثقفين الذين يتكيفون بسهولة مع “اشتراكية الدولة” ولكن ليس الشيوعية المجالسية، وسترى أقسام أخرى من البرجوازية في نضالات العمال موقعاً طبقياً جديداً يمكنهم من خلاله محاربة الشيوعية بنجاح. سيكون شعار معركة هؤلاء “الاشتراكية ضد الفوضى” الذين يريدون إنقاذ الرأسمالية.
إن نتيجة هذا النضال تعتمد على نضج الطبقة العاملة الثورية. أولئك الذين يعتقدون الآن أن كل ما على الإنسان فعله هو انتظار الفعل الثوري، لأن الضائقة الاقتصادية ستعلّم العمال طريقة التصرف بشكل صحيح، هم ضحايا الوهم. من المؤكد أن العمال سيتعلمون بسرعة ويتصرفون بفعالية في الأوقات الثورية. خلال ذلك، من المرجح حصول هزائم شديدة، الأمر الذي سيؤدي إلى وقوع أعداد كبيرة من الضحايا. وكلما كان تنوير البروليتاريا جارياً، سيكون هجوم الجماهير أكثر قوة ضد محاولة “القادة” توجيه نضالهم باتجاه اشتراكية الدولة. بالنظر إلى الصعوبات التي تواجهها مهمة التنوير اليوم، يبدو أنه من غير المحتمل وجود طريق مفتوحة أمام العمال للوصول إلى الحرية دون انتكاسات. في هذه الحالة تكمن إمكانيات رأسمالية الدولة كمرحلة وسيطة قبل مجيء الشيوعية.
هكذا فإن الطبقة الرأسمالية لن تتبنى رأسمالية الدولة لمعالجة مشاكلها الاقتصادية. يمكن للرأسمالية الاحتكارية، خاصة حين استخدام الدولة كديكتاتورية فاشية، أن تؤمن لنفسها معظم مميزات منظمة واحدة من دون التخلي عن سيطرتها على الإنتاج. مع ذلك، ستكون بوضع مختلف عندما تشعر بضغط من الطبقة العاملة بأن الشكل القديم من الرأسمالية الخاصة لم يعد ممكناً الحفاظ عليه. عندها ستكون رأسمالية الدولة هي المخرج: الحفاظ عل الاستغلال ضمن شكل مجتمع “اشتراكي”، حيث يتولاه “القادة الأكثر قدرة” و”أفضل العقول” و”رجال النضال العظماء” الذين سيوجهون الإنتاج وتعمل الجماهير بكل طاعة تحت قيادتها. سواء سميت هذه الحالة برأسمالية الدولة أو اشتراكية الدولة، لا فرق من ناحية المبدأ. إذا أشار المرء إلى المصطلح الأول “رأسمالية الدولة” باعتباره نظام حكم يستند على بيروقراطية الدولة أو إلى العبارة الثانية “اشتراكية الدولة” باعتبارها نظام حكم يتشارك فيه الموظفون الضروريون العمل مع العمال، بصفتهم خداما مطيعين ومخلصين للمجتمع، يكمن الاختلاف بينهما في التحليل النهائي في مقدار الرواتب والمقياس النوعي للنفوذ في العلاقات الحزبية.
هذا الشكل من المجتمع لا يمكن أن يبقى مستقراً، إنه نوع من الردة التي ستتمرد عليه الطبقة العاملة من جديد. تحته يكمن مستوى معين من النظام ولكن يظل الإنتاج مقيداً. ولا تزال التنمية الاجتماعية معرقلة. تمكنت روسيا، خلال هذا الشكل من التنظيم، من التحول من شبه بربرية إلى رأسمالية متطورة، حتى أنها تجاوزت إنجازات الرأسمالية الخاصة في الدول الغربية. في هذه العملية يظهر الحماس الواضح بين الطبقات البرجوازية “الناشئة”، حيثما تبدأ الرأسمالية مسارها. ولكن رأسمالية الدولة هذه لا يمكن أن تتقدم. في أوروبا الغربية وأميركا، لن يكون نفس الشكل من التنظيم الاقتصادي تقدمياً، لأنه سيمنع ظهور الشيوعية. سيعرقل الثورة الضرورية في الإنتاج؛ أي أنها ستكون رجعية في طبيعتها وتتخذ الشكل السياسي للديكتاتورية.
Ⅲ
يؤكد بعض الماركسيين أن ماركس وإنغلز تنبآ بهذا التطور في المجتمع إلى رأسمالية الدولة. لكننا لا نعرف في أي قول لماركس بشأن رأسمالية الدولة يمكن استنتاج منه أنه رأى في الدولة دور الرأسمالي الوحيد، على أنها المرحلة الأخيرة من المجتمع الرأسمالي. لقد رأى ماركس في الدولة جهاز القمع الذي يستخدمه المجتمع البرجوازي ضد الطبقة العاملة. بالنسبة إلى إنغلز: “تستولي البروليتاريا على سلطة الدولة ثم تغير ملكية وسائل الإنتاج إلى ملكية للدولة”.
وهذا يعني أن تغيير الملكية إلى ملكية الدولة لم يحصل من قبل. إن أي محاولة لجعل عبارة إنغلز هذه هي المسؤولة عن نظرية رأسمالية الدولة، تجعل إنغلز متناقضاً مع نفسه. كذلك، لا يوجد تأكيد لذلك يمكن العثور عليه في الظروف الفعلية. لا تزال السكك الحديدية في البلدان الرأسمالية المتطورة، كإنكلترا والولايات المتحدة، بيد الشركات الرأسمالية الخاصة. وحدها الخدمات البريدية والبرقية تملكها الدول في معظم البلدان، ولكن لأسباب أخرى لا علاقة لها بحالة التطور فيها. السكك الحديدية الألمانية ملكتها الدولة لأسباب عسكرية في الغالب. إن رأسمالية الدولة الوحيدة التي تمكنت من نقل وسائل الإنتاج إلى ملكية الدولة هي روسيا، ولكن ليس بسبب تطورها، إنما بسبب انخفاض درجة تطورها. لا يوجد شيء يمكن إيجاده في كتابات إنغلز يمكن تطبيقها على الظروف السائدة في ألمانيا وإيطاليا اليوم، فهذه الأنظمة قوية للغاية، وتقييد حرية الرأسمالية الخاصة تحصل من جانب دولة قوية.
هذا طبيعي للغاية، لأن إنغلز ليس نبياً، لقد كان مجرد عالم يدرك جيداً مسار النمو الاجتماعي. ما شرحه كان الاتجاهات الأساسية في هذا التطور ومعناها. نظريات النمو يعبر عنها بشكل أفضل عند الحديث عنها بما يتعلق بالمستقبل، لذلك ليس مضراً توخي الحذر في التعبير عنها. إن التعبير الأقل حذراً، كما هول الحال غالباً مع إنغلز، لا يقلل من أهمية التوقعات على الأقل، على الرغم من أن الوقائع لا تتطابق دوماً مع التنبؤات. يحق لشخص بمستواه أن يتوقع أن يحصل التعامل مع افتراضاته بانتباه، على الرغم من أنه جرى التوصل إليها تحت ظروف محددة. إن استنتاج ميول الرأسمالية وتطورها، وتشكيلها ضمن نظريات متسقة وشاملة يعطي لماركس وإنغلز موقعاً بارزاً بين أبرز المفكرين والعلماء في القرن التاسع عشر، ولكن الوصف الدقيق للبنية الاجتماعية بكل تفاصيلها لما سيحصل بعد 50 سنة كان مستحيلاً حتى بالنسبة إليهما.
أصبحت الديكتاتوريات، مثل تلك في إيطاليا وألمانيا، ضرورية كوسيلة قسرية لفرض النظام الجديد والقيود المنظمة على الكتلة الممانعة من الرأسماليين الصغار. لهذا السبب كثيرا ما ينظر إلى هذه الديكتاتورية على أنها الشكل السياسي المستقبلي لمجتمع الرأسمالية المتقدمة في كل أنحاء العالم.
خلال أربعين عاماً أشارت الصحافة الاشتراكية إلى أن الملكية العسكرية هي الشكل السياسي للمجتمع الذي ينتمي إلى مجتمع رأسمالي مركز. فالبرجوازية بحاجة إلى قيصر والأرستقراطية والجيش للدفاع بوجه الطبقة العاملة الثورية من ناحية، والدول المجاورة من ناحية أخرى. خلال 10 سنوات، سيطر اعتقاد بأن الجمهورية هي الشكل الحقيقي للحكومة في الرأسمالية المتطورة، لأن البرجوازية ستهيمن تحت هذا الشكل من الدولة. الآن تعتبر الديكتاتورية هي الشكل المطلوب للحكومة. مهما كان الشكل، يتم إيجاد الأسباب لما هو أكثر ملاءمة. في الوقت نفسه، تحتفظ دول مثل إنكلترا وفرنسا والولايات المتحدة وبلجيكا، الرأسمالية الشديدة التركيز، والمتقدمة، بنفس شكل الحكومة البرلمانية، سواء كانت في ظل جمهورية أو مملكة. هذا يؤكد أن الرأسمالية تختار العديد من الطرق المؤدية إلى نفس الاتجاه، كما أنه يثبت أنه لا ينبغي الاستعجال في استخلاص النتائج من التجارب في بلد واحد وتطبيقها على العالم بأكمله.
في كل بلد يتولى رأس المال الكبير الحكم من خلال المؤسسات السياسية الموجودة، والمتطورة عبر التاريخ والتقاليد، التي تتغير بعد ذلك وظائفها بوضوح. انكلترا هي مثل على ذلك. هناك النظام البرلماني إلى جانب مقدار مرتفع من الحرية الشخصية والاستقلالية الناجحة جداً لدرجة لا يوجد أي أثر للاشتراكية أو الشيوعية أو الفكر الثوري بين الطبقات العاملة. هناك كذلك الرأسمالية الاحتكارية المتنامية والمتطورة. هناك أيضاً تسيطر الرأسمالية على الحكومة. هناك، أيضاً، تتخذ الحكومة إجراءات للتغلب على نتائج الكساد، ولكنها تمكنت من النجاح دون الاستناد إلى ديكتاتورية. هذا لا يجعل من انكلترا دولة ديمقراطية، لأنه ومنذ نصف قرن مضى، قامت مجموعتان من الأرستقراطية بتشكيل الحكومة بالتناوب، والظروف هي ذاتها سائدة حتى اليوم. ولكنهم يحكمون بطرق مختلفة. قد تكون هذه الطرق أكثر فعالية على المدى الطويل من الديكتاتورية الوحشية. وبالمقارنة مع ألمانيا، يبدو أن الحكم المتساوي والقوي للرأسمالية الانكليزي هو الأكثر طبيعية. في ألمانيا أجبر ضغط الشرطة والحكومة العمال على الانتساب في حركات راديكالية، وبالتالي نال العمال على سلطة سياسية خارجية، ليس عبر جهود داخلية كبيرة من قبلهم، إنما عبر الهزيمة العسكرية لحكامهم، وفي الختام رأوا السلطة التي دمرتها ديكتاتورية شديدة، الناتجة عن ثورة برجوازية صغيرة مولها رأس المال الاحتكاري. لا ينبغي تفسير هذا على أنه يعني أن الشكل الانكليزي هو الطبيعي، والألماني هو الشكل غير الطبيعي، تماماً كما سيكون من الخطأ افتراض العكس. يجب الحكم على كل قضية لوحدها، لكل دولة نوع الحكومة التي نتجت من مسار تطورها السياسي الخاص.
من خلال مراقبة الولايات المتحدة، نجد في هذه الأرض حيث يتركز بشدة رأس المال الاحتكاري مع رغبة ضئيلة للتحول إلى ديكتاتورية كما هو الحال في انكلترا. في ظل إدارة روزفلت، نفذت بعض القوانين والإجراءات من أجل التخفيف من نتائج الكساد، وبعضها كان مبتكرا بالكامل. من بينها، اعتمدت بداية سياسة اجتماعية، كانت حتى وقتها بعيدة بالكامل عن السياسة الأميركية. لكن رأس المال الخاص يتمرد بالفعل ويشعر فعلياً أنه قوي بما يكفي لمتابعة مساره في الصراع السياسي على السلطة. إذا نظرنا إلى ذلك من الولايات المتحدة، فإن الديكتاتوريات في الكثير من الدول الأوروبية تبدو وكأنها ثقل، مدمرة للحرية، والذي ينبغي أن تتحمله دول أوروبا التي تتعرض كبيرة، لأن الصراعات الموروثة تجعلها تتدمر بشكل متبادل، ولكن ليس كما هي بالفعل، إنما أشكال منظمة هادفة من أكثر الرأسماليات تطوراً.
إن الحجج من أجل الحركة العمالية الجديدة، التي نسميها المجالس الشيوعية، لا تجد أساساً لها في رأسمالية الدولة والديكتاتورية الفاشية. تمثل هذه الحركة حاجة حيوية للطبقات العاملة ولا بد أن تتطور في كل مكان. إنها تصبح ضرورة بسبب الصعود الكبير لقوة رأس المال، لأنه مقابل قوة بهذا الحجم تصبح الأشكال العتيقة للحركة العمالية عاجزة، لذلك يجب العمل على إيجاد وسائل حديثة للنضال. لهذا السبب، لا يمكن أن يستند أي برنامج للحركة العمالية الجديدة إلى رأسمالية الدولة أو الفاشية أو الديكتاتورية كأسباب لها، ولكن فقط على القوة المتزايدة لرأس المال وعجز الحركة العمالية القديمة في التعامل مع هذه القوة.
بالنسبة للطبقات العاملة في الدول الفاشية حيث يسود الشرطان، هناك القوة الصاعدة لرأس المال هي التي تمسك بالديكتاتورية السياسية وكذلك الاقتصادية للبلد. عندما ترتبط البروباغندا لأشكال جديدة من العمل بوجود الديكتاتورية، فإنها تكون كما ينبغي. ولكن سيكون غبياً بناء برنامج أممي وفق هذه المبادئ متناسين أن الظروف في البلدان الأخرى تختلف بشكل جذري عن تلك الموجودة في الدول الفاشية.
#أنطون_بانيكوك (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
أنطون بانيكوك / الملكية العامة و الملكية الجماعية ( 1947 ) -
...
المزيد.....
-
مظلوم عبدي لفرانس24: -لسنا امتدادا لحزب العمال الكردستاني وم
...
-
لبنان يسارع للكشف عن مصير المفقودين والمخفيين قسرا في سوريا
...
-
متضامنون مع «نقابة العاملين بأندية هيئة قناة السويس» وحق الت
...
-
التصديق على أحكام عسكرية بحق 62 من أهالي سيناء لمطالبتهم بـ«
...
-
تنعي حركة «الاشتراكيين الثوريين» ببالغ الحزن الدكتور يحيى ال
...
-
الحزب الشيوعي يرحب بمؤتمر مجلس السلم والتضامن: نطلع لبناء عا
...
-
أردوغان: انتهت صلاحية حزب العمال الكردستاني وحان وقت تحييد ا
...
-
العدد 584 من جريدة النهج الديمقراطي
-
بوتين يعرب عن رأيه بقضية دفن جثمان لينين
-
عقار -الجنود السوفييت الخارقين-.. آخر ضحاياه نجم تشلسي
المزيد.....
-
نهاية الهيمنة الغربية؟ في الطريق نحو نظام عالمي جديد
/ حامد فضل الله
-
الاقتصاد السوفياتي: كيف عمل، ولماذا فشل
/ آدم بوث
-
الإسهام الرئيسي للمادية التاريخية في علم الاجتماع باعتبارها
...
/ غازي الصوراني
-
الرؤية الشيوعية الثورية لحل القضية الفلسطينية: أي طريق للحل؟
/ محمد حسام
-
طرد المرتدّ غوباد غاندي من الحزب الشيوعي الهندي ( الماوي ) و
...
/ شادي الشماوي
-
النمو الاقتصادي السوفيتي التاريخي وكيف استفاد الشعب من ذلك ا
...
/ حسام عامر
-
الحراك الشعبي بفجيج ينير طريق المقاومة من أجل حق السكان في ا
...
/ أزيكي عمر
-
الثورة الماوية فى الهند و الحزب الشيوعي الهندي ( الماوي )
/ شادي الشماوي
-
هل كان الاتحاد السوفييتي "رأسمالية دولة" و"إمبريالية اشتراكي
...
/ ثاناسيس سبانيديس
-
حركة المثليين: التحرر والثورة
/ أليسيو ماركوني
المزيد.....
|