|
الدكتوراة
هدى أحمد
(Huda Ahmed Alawy)
الحوار المتمدن-العدد: 7104 - 2021 / 12 / 12 - 07:28
المحور:
الادب والفن
على نبرة صوت الأب الحانية استيقظتْ سمر بعد أن كانت تنقش في حلمها معركة لتسترد ساندوتشاتها التي سرقتها منها سعاد، وهكذا لقّنت صديقتها العتيدة درساً لن تنساه. كان هذا كلّه مجرّد حلم وردي حيث كانت سمر خجلانة لدرجة أن القطّة صارت تأكل عشاءها ولم تفعل شيئاً.. هكذا ردّت بكلّ أدب كعادتها.. فجلس الأب على حافة السرير مسترسلاً : ـ من المنطق أن أرى نفسي قد أصبحت رجلاً هرماً جفَّ حبر الزمان على جسده، ولم يأمل شيئاً سوى الاطمئنان على ابنته، فقاطعته ابنته بمنطق قريب إلى سياق كلامه لتوفّر له الاطمئنان فردّ الأب كما لو كان يريد أن يسرّها بشيء: ـ يا ليت حلمي قد تحقق لكي أراك في كنف رجل يحبك آهٍ نعم.. أعلم يقيناً أنكِ في المرحلة الثانوية، ولكن الشعور العميق بالموت حقيقة، تعلمين سلفاً أن طبيعة مرضي أحالتني على التقاعد ولحسن الحظ إذ طلب يدك عمك عروساً لنجله فمن الطبيعي لن أجد زوجاً أفضل منه كياسةً.. نزل الخبر عليها كالصاعقة وكأنّما رمى بجسدها شبحٌ من شرفة ناطحة سحاب، وظلّ جسدها يهوي في الغلاف الجويّ كريشةٍ لا وزن لها حتى استقرّت جامدة في مكان عميق من دون حركة، وكعادتها فلم تمهل نفسها للتفكير، فهي لا تزال صغيرة ولم يسعفها وعيها يوماً لتدرك أنّ لها ابن عم يدرس لنيل الدكتوراة في الخارج سوى من أحاديث أبيها وذلك حين ذكر لها مرّة يوم مجيئه من سفرة في عطلة، فالواقع لم ترفض طلب أبيها، وفي الجانب الآخر كان والد أحمد يقوم بجهدٍ مضاعف ليقنع ابنه لكي يقبل هذه الزيجة، صحيح أنَّ الأخير قد قبل، ولكنه مع كلَ ذلك طفق يخطّط للإنفصال عنها كان يرى فيها أنموذجاً لصورة شخص لا يليق به وهو الأستاذ الجامعي، وحين أُجريت مراسيم الزفاف وأصبحا كغريبين قريبين تحت سقف واحد، إلّا أنَّ كلّاً منهما كان يحمل أفكاراً في إطار من رؤية تتباعد بعد المشرق عن المغرب، هذة القروية المتواضعة كان أقصى أحلامها قطعة من الكيك تتقاسمها مع صديقتها سعاد، فالأستاذ الجامعي ظلّ يرسم مستقبله بريشة ذهبية لها بريق تلك الأوروبية بعيداً عن القروية كما يظنّ هو: أصبح الغريبان يتشاركان في منزل واحد وغرفة واحدة، حيث بقيت هي كأميرة بهدوئها المعهود، وبقي هو بصخبه الذي يخفي خلفه مشاعر نبيلة، فالواقع كان كلّ ذلك يدل على وجود لغز لا يلبث أن يتحوّل إلى طبيعة ـ أريحية ـ كانت في أغرب أحولها مواقف، فالوقت يمر سريعاً، أمّا هي فبقيت في خياله كوردة يانعة تحمل في ثناياها رائحة زكية، وهكذا تقلّص حيّز عصبيته مما أثار ذلك في نفسه الدهشة فصار يسأل مستغرباً عن سبب بروده المفاجئ، يا هل ترى كان مسحوراً مثلاً؟ فكأنّ شذا عبيرها قد ساقه إلى جنّة.. إمتنع من دون وعي عن مغادرة مكانه الأنيس، كانت هناك قوّة جاذبة كبرى تردعه في عمق إحساسه، تكاد تكون محاولة ذهابه بعيداً مسألة غامضة، ولكن أليس هذا الاعتقاد خاطئاً؟ هذا الموقف الذي بزغت بذرته في قلبه ظلَّ بعيداً عن جوهر الحب.. إنتظرته الفتاة الأوروبية على أحرٍّ من الجمر في أحد الفنادق الراقية كي يذهبا معاً ويتزوجان، فحين أخبر والده بسفره فذلك يعني أنّه قد منح نفسه فرصة كي يقرّب ابنة عمه ليسير الزواج كما خطّط له، ولكن ذلك لم يحدث وما كان على الأب أن يعترض، هذا ما جعله يتمم الزواج بالفعل.. هبَّ في اتجاه الفندق مسرعاً ليلحق بالفتاة الأوربية التي كانت في انتظاره، وإن كان يقنع نفسه أحياناً على أساس أنّ التجربة التي عاشها تبقى مسألة طبيعية مهما تغيرت الطرائق، يعرف في قرارة نفسه أنّ الفتاة القروية ذات الضفائر لما تزل لم تؤثر في وجدانه بذلك السحر الذي أحدث انقلاباً، إذ إنّ ألم فراقها لا يعدو غير وخز لأبرٍ بين حنايا قلبه، وهذا لا شك يزول حتماً بمجرّد لقائه بفتاته الأوروبية المختلفة تمام الاختلاف عن تلك القروية التي كانت تعامله كملك متوّج على عرش حياتها.. لم يعلم أنّ نهاية علاقته بها كانت كشرارة البدء على رغم من أنّ الألم ظلّ يغلّفها بعض الأحيان، ولكن هذا الغلاف في جوهره كان الأساس لحياة أنثى ناجحة قوية مثابرة بعد هذا الحدث وهذا الجزء من حياتها التي لم تستطع أن تقتطعه يوماً.. إعتادت الجلوس وحدها لتسرح في غياهب التخطيط لمستقبلها، كيف لها أن تنسى ذلك الرجل المغرور الذي جعل قلبها مستعمرةً خالصةً لحبه، وأمّا عن أبيها فكان الحزن والصمت يجعلانه يحيد عن تقابلهما، فكلّما قابلها آثر الصمت إلّا من بعض كلمات أصبحت في ما بعد معزوفةً تثير شجونها، وبمرور الأيام استطاعت أن تكرس جميع وقتها للدراسة وهذا ما كان يشفي صدر الوالد ولو قليلاً .. إحتلّت الفرحة قلبها أخيراً بعد ما حصلت على مجموع نقاط في الثانوية العامة وكانت تلك البداية بارقة أمل لفتاة نال الحزنُ من قلبها الرقيق، كان لا بدّ من أن يحدث شيء في خضمّ هذه الأحداث في حين أنّ صاحبنا كان يحاول تحقيق آماله مع الفتاة الأوروبية حتى إذا ما تجسّدت في خياله القروية لتتراءى له كملاك أو أنّه قد يكتشف يوماً أن يدها الرقيقة تلامس خصلات شعره فتنتابه حينذاك قشعريرة تسري في ذرات جسدة فيستفيق حزيناً، فلا يعلم في الحقيقة لمَ تراكم كلّ هذا الحزن في قلبه أيعقل أنه قد أصبح العاشق الأخرس الذي لا تُفهم إشاراتة لغموضها؟ نفدَ صبر الفتاة الأوروبية وقررت أن تجافيه بسبب اهماله المطّرد لها، وهكذا تفرّقا، فالرجل يعاني عقدة الخواجة على أساس أنّ كل ما هو أجنبي يبقى الأفضل من منظوره، ربما كانت تجربة ارتباطه بها مثل تجارب كثيرة حدثت قبله، وكأنه أراد أن يعيش إخلاصاً حقيقياً لتلك القروية بما يحمل من مشاعر جياشة لها، فأصبح ينقاد إليها بجسده ومضت سنوات ثلاث حتى قرّر العودة إلى بلده ليدرّس مادة القانون في الجامعة الرئيسة، وما إن جاء موعد محاضرته التي سيلقيها في الجامعة حتى لمحته الفتاة القروية في باب القاعة وهو يدخل فانتابتها حالة من الغليان ممزوجة بحالة من الشوق، ولكنها حرصت كلّ الحرص ألّا يراها وألّا تحضر المحاضرة في الأقل حتى تستجمع قواها وبسرعة عصفور مسجون أطلق من قفص خرجت من بين حشد الطلبة مسرعة لتلتقط أنفاسها ودموعها تداعب وجنتيها الورديتين قاصدة المكتبة لتدفن جرحها الغائر وسط الكتب، ولأنّها كانت مضطربة لذا فلم تلاحظ أنّ شخصاً ما أمسك بالكتاب الذي اختارته فانساب صوت رخيم إلى أذنيها ـ سأختار غيره ـ لم تعرف أنَّ الصوت الجهوري هذا كان صوت أستاذ مادة القانون الدولي ورفيق دربها ومن غلبها ذات يوم، فلا تعلم شيئاً عن تلك الرعدة التي أصابتها.. إذاً لا بدّ من أن يكون هذا هو أستاذها الجديد، وعلى حين غرّة دار بينهما حوار حتى تمنّى ألّا تراه كأستاذ، بل كان أحبّ إلى قلبه أن يطول بينهما حديث شائق لا ينقطع .. أخبر رفيق اغترابه ليفاجئه لأنه لقي فتاة أحلامه الساحرة، ولأنّه صديقه العتيد فلم يرفض له طلباً نزولاً إلى رغبته في أن يراها ولو لهنيهة ليشبع فضوله في الأقل، وليعرف كيف أخذت بلبّ صاحبه ولامست وهج روحه وعواطفه، في الواقع لم يعلم أن يكون هناك من يختبئ بين أرفف الكتب ويتحاشى اللقاءات، ولكن يد القدر حينما تضع لمساتها فلا يستطيع أيّ مخلوق في الكون ردعها.. أمّا هي فقد ظلّت مستغرقة في قراءة كتاب ولم تنتبه البتة لأحد وإلّا لما بقيت شاخصة تحت أنظارهما، صُعق صديقه وكأنما غمرته عاصفة ثلجية، وقف صامتاً لم يعبأ بكلام ولم يشعر إلّا بغليان مياه الغيرة تحرق كلّ ذرة في جسده فاسترجع شريط ذكرياته.... كان الأستاذ متيقناً من نفسه أنها لن تغفر له أبداً ولن تنسى يوم تركها وحيدةً تتجرّع الألم فلما سمعت صوته دهشت وكأنها ترفع أطناناً من الألم حين لحق بها ردّت محاولة التماسه.
#هدى_أحمد (هاشتاغ)
Huda_Ahmed_Alawy#
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
الكينونة
-
الفدائيّ
-
البراكين
-
القمح الأسمر
-
أخرس يصرخ الكلام في حلقه
-
شجرة الحنين
-
الطائر الحالم
-
وطن كالقمر
-
الفراشة
-
مرَّ طيفك في أحلامي
-
الشجرة
-
شتاء الضيف
-
القهوة
-
جرس الباب
-
ميثاق الهوى
-
لا تدع العصافير تهاجر
-
لمست النار كي أفيق
-
أمير
-
ذلك الوجع
المزيد.....
-
-الشارقة للفنون- تعلن الفائزين بمنحة إنتاج الأفلام القصيرة
-
فيلم -الحائط الرابع-: القوة السامية للفن في زمن الحرب
-
أول ناد غنائي للرجال فقط في تونس يعالج الضغوط بالموسيقى
-
إصدارات جديدة للكاتب العراقي مجيد الكفائي
-
الكاتبة ريم مراد تطرح رواية -إليك أنتمي- في معرض الكتاب الدو
...
-
-ما هنالك-.. الأديب إبراهيم المويلحي راويا لآخر أيام العثمان
...
-
تخطى 120 مليون جنيه.. -الحريفة 2- يدخل قائمة أعلى الأفلام ال
...
-
جائزة الشيخ حمد للترجمة والتفاهم الدولي تكرِّم المؤسسات الإع
...
-
نقل الموناليزا لمكان آخر.. متحف اللوفر في حالة حرجة
-
الموسم السادس: قيامة عثمان الحلقة 178 باللغة العربية على ترد
...
المزيد.....
-
مختارات من الشعر العربي المعاصر كتاب كامل
/ كاظم حسن سعيد
-
نظرات نقدية في تجربة السيد حافظ الإبداعية 111
/ مصطفى رمضاني
-
جحيم المعتقلات في العراق كتاب كامل
/ كاظم حسن سعيد
-
رضاب سام
/ سجاد حسن عواد
-
اللغة الشعرية في رواية كابتشينو ل السيد حافظ - 110
/ وردة عطابي - إشراق عماري
-
تجربة الميج 21 الأولي لفاطمة ياسين
/ محمد دوير
-
مذكرات -آل پاتشينو- عن -العرّاب-
/ جلال نعيم
-
التجريب والتأسيس في مسرح السيد حافظ
/ عبد الكريم برشيد
-
مداخل أوليّة إلى عوالم السيد حافظ السرديّة
/ د. أمل درويش
-
التلاحم الدلالي والبلاغي في معلقة امريء القيس والأرض اليباب
...
/ حسين علوان حسين
المزيد.....
|