أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - دراسات وابحاث في التاريخ والتراث واللغات - عمر قنديل - حوار مع الدكتور باسم فليفل















المزيد.....


حوار مع الدكتور باسم فليفل


عمر قنديل
كاتب وباحث

(Omar Kandil)


الحوار المتمدن-العدد: 7090 - 2021 / 11 / 28 - 23:24
المحور: دراسات وابحاث في التاريخ والتراث واللغات
    


باسم فليفل هو مؤرخ لبناني حصل على درجة الفلسفة في التاريخ الحديث والمعاصر من جامعة بيروت العربية، له عدة مؤلفات حول العصر العثماني، وهو موظف في مكتبة يافث التذكارية في الجامعة الأمريكية في بيروت.
أُجري هذا الحوار مع الدكتور فليفل بعد موافقته على نشر نصِّ الحوار وفق رخصة المشاع الإبداعي المُلزمة بنسب العمل لصاحبه.

- في البداية أُرحب بك دكتور باسم؛ قرأت العديد من الدراسات التاريخية لك، لعلّ أبرزها كتاب "العثمانيون وحماية لبنان في عصر الأمير فخر الدين الكبير"، قبل الدخول في صلب المسألة أود سؤالك عن العصر العُثماني بشكلٍ عام فغالباً ما يُشار إليه على أنّه عصرٌ "غير عربي" ويختلف عن الخلافات السابقة مثل الأمويّة والعباسية بل يُشبّه أحياناً بالاحتلال فما مدى قُرب هذه العبارات من الحقيقة؟
• مرحبًا بكم. في الدراسات التاريخيَّة لا يجوز إسقاط مفاهيم مُعاصرة على عصرٍ سابق لم تكن فيه هذه المفاهيم موجودة. خلال أغلب مراحل التاريخ الإسلامي لم يكن الشعور القومي - كما نفهمه اليوم - مُتجذرٌ في النُفُوس، فالقوميَّة والدين اندمجا في قالبٍ واحدٍ يصعب فصله آنذاك، خاصَّةً في المراكز الحضريَّة الإسلاميَّة الكُبرى، التي اندمجت فيها مُختلف العناصر البشريَّة وانصهرت في بوتقةٍ واحدة، مثل بغداد وسامرَّاء ودمشق والقاهرة والقيروان وفاس وقُرطُبة وقونية وإستانبول وأصفهان وبُخارى وسمرقند وغيرها من الحواضر الإسلاميَّة، فكان أن وُلدت الهويَّة الحضاريَّة والثقافيَّة الإسلاميَّة الجامعة لكُل الأقوام المُسلمة على اختلاف عرقياتها. حتى الأقوام التي بقيت مُنعزلة إلى حدٍ ما، كبدو نجد مثلًا أو سكان جبال أفغانستان، لم تكن عزلتها كاملة بفعل الحركة التجاريَّة النشطة التي عرفتها ديار الإسلام، وكذلك بفعل الحركة العلميَّة التي نتج عنها انتقال طُلَّاب العلم والعُلماء من مسقط رؤوسهم إلى بلادٍ أُخرى، وتثاقفهم وأهلها. بناءً عليه لا يجوز وصف العصر الفُلاني بأنه عربي بمعنى أنَّ العرب والعروبة طغت عليه، لكن جرت العادة على قول: الحضارة العربيَّة الإسلاميَّة، على اعتبار أنَّ العربيَّة كانت لغة العلوم والآداب والفلسفة والتواصل المُشترك بين المُسلمين وغير المُسلمين من أهل المنطقة، سواء كانوا عربًا أم عجمًا.
أمَّا العصر العُثماني تحديدًا، فالبعض يصفه بالتُركي على اعتبار أنَّ العُثمانيون أتراكًا، وفي هذا خطأ كبير أيضًا. فمن جهة: لم تكن تلك المرة الأولى التي حكمت فيها سُلالة تُركية أو غير عربيَّة المنطقة المعروفة اليوم بالشرق الأوسط وشمال أفريقيا، فالطولونيين والإخشيديين والسلاجقة والزنكيين والمماليك البحرية كانوا أتراكًا، وبحسب بعض المصادر التُراثيَّة فإنَّ بعض حُكَّام هذه السُلالات كانوا بالكاد يُحسنون العربيَّة وبعضهم كان لا يفهمها أصلًا. رُغم ذلك نجد أنَّ العديد من المُؤلفات المُعاصرة تضع هذه السُلالات تحت جناح التاريخ «العربي». ومن حُكَّام هذه السُلالات من يُصنَّف من أبطال العرب والإسلام: نور الدين زنكي (تُركُماني)، ألب أرسلان (تُركي غُزي = أوغوزي)، سيف الدين قُطُز (خوارزمي = تُركُماني)، الظاهر بيبرس (قفجاقي أو قازاقي بحسب آراءٍ مُعاصرة)، فلماذا يختلف العصر العُثماني عن ما سبقه؟ ولم يختلف الحُكَّام العُثمانيون عن أسلافهم الأعاجم الذين حكموا المنطقة العربية؟
أيضًا، كان العُثمانيون عبر أغلب تاريخهم لا يُطلقون على أنفُسهم تسمية «تُرك» أو «أتراك»، كونها كانت في عُرفهم تعني الشخص الهمجي غير المُتحضر، فهي كانت تُرادف عندهم بدو آسيا الوُسطى الذين لم يعرفوا التمدن، ويُمكن لقارئ الكُتب العُثمانيَّة أن يُلاحظ كيف يُميِّز المُؤرخون بين ما هو تُركي وما هو عُثماني. الاعتزاز بالهويَّة القوميَّة التُركيَّة ظهر في السنوات الأخيرة من حياة الدولة العُثمانيَّة، بعدما تولَّى حزب الاتحاد والترقي إدارة شؤون البلاد بدايةً من سنة 1908م، وعمل على تزكية القوميَّة التُركيَّة والتغني بها والرفع من شأنها، وحاول فرضها على كافَّة شعوب الدولة بالقُوَّة.
بناءً على هذا، لم يختلف العصر العُثماني عن ما سبقه من عُصُورٍ من حيث تكوينه، فالدولة كانت من أكثر دول العالم تنوعًا بالأعراق والأديان، وإن تحدث حُكَّامها التُركيَّة لُغةً أُمًا، فقد سبق وأن تحدث غيرهم من حُكَّام المُسلمين هذه اللُغة، وإن كانت أغلب رعيَّتهم عربيَّة. أيضًا، جميع السلاطين العُثمانيين بدايةً من السُلطان الثالث مُراد بن أورخان، الشهير بـ«خُداونكار» كانوا يتحدثون العربية بطلاقة، وجميعهم دون استثناء كانوا قادرين على نظم الشعر بها، فهم بهذا يتفوقون على سلاطين بعض السُلالات كالمماليك والسلاجقة، كما أنَّ الإقبال على تعلُّم اللُغة العربيَّة بل الحرص على تعليمها لغير العرب من الناطقين بالتُركيَّة، كان أمرًا شائعًا لِلغاية، كما تُظهر لنا الإجازات التي كان يمنحها العُلماء لِلطُلَّاب، ثُمَّ الشهادات المدرسيَّة لاحقًا، التي كانت تصدر عن مدارس تقع ضمن أراضٍ يُشكِّلُ التُرك أغلب أهلها. ولا يُخفى على أحد أنَّ ربط الشعوب المُسلمة باللُغة العربيَّة يعني ربطهم بروح الإسلام وأرومته، والدولة العُثمانيَّة كانت أولًا وأخيرًا دولة إسلاميَّة، فحرص حُكَّامها حرصًا كبيرًا على تمتين صلة رعيَّتهم المُسلمة باللغة العربيَّة في سبيل الحفاظ على كيان وهويَّة الدولة.
أمَّا عن وصف الدولة العُثمانيَّة بالمُحتلَّة، فهذا كلامٌ غير صحيح طبعًا وفيه تحامل كبير وإساءة لِهذه المرحلة من تاريخ الإسلام. الاحتلال هو حُلُول شعب جديد مكان أهل البلاد الأصليين واستغلال خيراتهم ومواردهم لِصالح الوافدين الجُدد، ويترافق ذلك مع نُفُورٍ بين الأهالي والوافدين الجُدد بحيث لا يندمج الطرفان ويُمكن مُلاحظة شرخٌ واضح بينهما، أي نوعٌ من التمييز، وهذا ما لا يصدق على الدولة العُثمانية. من يطلع على التاريخ العُثماني يُدرك أن العثمانيون دخلوا البلاد العربية بِرضى أهلها، بل إنَّ أعيان البلاد كانوا يُراسلون السُلطان سليم الأول ويطلبون منه المجيء إليهم ويعقدون معه التحالفات السرية ضد المماليك الذين كانت دولتهم قد شاخت وضعفت ولم تعد هي نفسها دولة الأبطال الذين دحروا المغول والصليبيين قبل نحو ثلاثة قُرُون من دخول العُثمانيين إلى الشَّام ومصر. هذا الواقع يُؤيده ابن إياس، وهو مُؤرِّخٌ معروفٌ بميله علنًا للمماليك كونه كان منهم، فهو لا يتردد بالاعتراف بظلم السلطان قانصوه الغوري، فقد نظم به بضعة أبياتٍ بُعيد انهزامه في معركة مرج دابق قائلًا:

إعجبوا لِلأشرف الغوريِّ الذي مُذ تزايد ظُلمه في القاهرة
زال عنهُ مُلكُهُ في ساعةٍ خسر الدُنيا إذًا والآخرة

ويقول العلَّامة مُحمَّد كُرد علي: «كَانَتِ الشَّامُ أُخْتُ مِصْرَ فِي آخِرِ الدَّوْلَةِ الشَّرْكَسِيَّةِ تُقَاسِمُهَا شقَائِهَا شِقَّ الأَبْلَمَة، فَيَسْتَبِدُّ الْمُتَغَلِّبَةُ مِنَ الْمَمَالِيكِ بِالْأَحْكَامِ بِحَسْبِ ضِعْفَ صَاحِبَ مِصْرَ وَقُوَّتِهِ، وَالصَّالِحُ فِي نُوَّابِهَا وَمُلُوكِهَا قَلِيلٌ. وَلَمْ يَسْعَد الْقُطْرَانِ بَعْدَ فِتْنَةِ تَيْمُورَلَنك بِسُلْطَانٍ عَادِلٍ يَطُولُ عَهْدُهُ لِيَعَرِفَ مَوَاقِعَ الضِّعْفِ فَيَسُدْ خَلَلُهَا، وَيُزِيحَ بِحُسْنِ الْإِدَارَةِ عِلَلَهَا… أَحَسَّ أَكْثَرُ النَّاسِ بِمَا عَرَّضَ لِلدَّوْلَةِ مِنَ الضِّعْفِ فَأَخَذُوا يَتَطَلَّعُونَ إِلَى الدَّوْلَةِ الْعُثْمَانِيَّةِ، وَكَانَتْ إِلَى الشام وَمِصْرَ أقْرَبَ الدُّوَلِ الْإِسْلَامِيَّةِ الْكُبْرَى… وَقَدْ وَقَرَتْ فِي النُّفُوسِ مُنْذُ أَسَّسَ بُنْيَانِهَا السُّلْطَانَ عُثْمَانَ التُّرْكُمَانِيِّ…»

أضف إلى ذلك، كان وجود الدولة العُثمانيَّة في مصر والشَّام سببًا لِدفع الاعتداءات الغربيَّة على بلادنا، فمن المعروف أنَّ الحملات الصليبيَّة لم تنقطع بُخُروج الإفرنج من عكَّا سنة 1291م، بل تتابعت على شكل غاراتٍ بحريَّةٍ صغيرة كانت تُهاجم السواحل الشَّاميَّة والمصريَّة بين الحين والآخر، فتقتل وتسلب، وكذلك كانت السُفن التجاريَّة الإسلاميَّة عرضةً لِلاعتداءات الإسبانيَّة والبُرتُغاليَّة تحديدًا، بعدما نمت هاتان القُوَّتان نتيجة حركة الكشوفات الجُغرافيَّة في الأمريكتين وفي الشرق الأقصى والهند، وسعي الإسبان والبُرتُغاليين إلى إزاحة المُسلمين عُمومًا وأهالي شبه الجزيرة العربيَّة والشَّام ومصر خُصوصًا عن الهيمنة على الطرق التجاريَّة، وأهمها طريق تجارة الحرير والتوابل. ولمَّا تمكن الإسبان من السيطرة على بعض أنحاء المغرب العربي، وأقام البُرتُغاليُّون بعض المُستعمرات على ثُغُور البحر الأحمر والخليج العربي، تعاملوا مع الأهالي بمنطق العنصريَّة الصليبيَّة، أو ما يُمكننا تسميته اليوم باليمين الأبيض المُتطرِّف، ولم يرتدع هؤلاء إلا بسبب القُوَّة البحريَّة العُثمانيَّة خُصوصًا والعسكريَّة عُمومًا، التي نقلت الحرب من المشرق العربي إلى قلب أوروبا، فأصبح المُسلمون في وضعيَّة الهُجُوم بعد أن كانوا في وضعيَّة الدفاع لنحو قرنين. أخيرًا، دعونا نسأل ببساطة: إن كان لا يصح في المؤلفات العربيَّة تسمية عصر الحُكَّام الأعاجم لبلادنا احتلالًا (المماليك والطولونيين والإخشيديين والأيوبيين والزنكيين والسلاجقة والبويهيين والجلائريين...إلخ) فلمَ يصح ذلك مع العثمانيين فقط؟ الحضارة الإسلاميَّة عابرة للقوميَّات، ولا يجوز طبعها بهيئة مُعيَّنة وحصرها ضمنها.

- تحدثت في استهلال الكتاب عن "تطويع التاريخ لتحقيقِ غاياتٍ مُعينة" واعتبرت أنّ هذا ينطبق على لبنان وأغلب الدول العربيّة، السؤال هُنا عن العبارة بشكل خاص وعن تناقضها ربّما فمثلما يُطوّع التاريخ اليوم لا شكّ أنَّه طُوّع من قبل الخلافة العثمانية أيضاً؟
• لم يكن العُثمانيُّون بحاجةٍ لتطويع تاريخهم أو الكذب فيه، كونهم كانوا في موقع القُوَّة طيلة ثلاثة قُرُونٍ منه، وفي موقع التعامل مع أوروبا ندًا لند طيلة قرنٍ ونصف تقريبًا. وحتَّى القرن والنصف الأخير من حياة الدولة، الذي كانت فيه ضعيفة تتقاذفها الدول الأوروبية، لا يظهر لنا في المؤلفات العُثمانيَّة ما يُناقض ما ذكرته كتابات الدُول الأوروبية الظافرة. كثيرًا ما يطال التطويع والتزوير شخصيَّاتٌ محوريَّة في تاريخ الأُمم والدُول، لنأخذ على سبيل المثال بضع حالاتٍ من التاريخ العُثماني:
1. السُلطان سليم الأوَّل: بفضله توحَّد المُسلمون في دولةٍ واحدةٍ تحت ظل قيادةٍ مركزيَّةٍ وحيدة لأوَّل مرَّة في التاريخ مُنذُ بداية العصر العبَّاسي الثاني الذي شهد استقلال الإمارات والدُويلات المُختلفة. رُغم ذلك لا يُنكر أحد من المُؤرخين العُثمانيين أنَّ أهم عيوب هذا السُلطان أنَّه كان بطَّاشًا يميل لسفك الدماء، فلم يُحاول أحدهم جعله بطلًا مُنزهًا عن الخطأ.
2. السُلطان سُليمان القانوني: رُغم أنَّهُ يُصوَّر حاكمًا مثاليًا في كثيرٍ من المؤلفات الشرقيَّة والغربيَّة، وهو فعلًا من أعظم الحُكَّام في التاريخ، لا يُخفي المُؤرخون العُثمانيون أنَّهُ ارتكب خطيئةً في أواخر حياته هي قتله ابنه الأكبر مُصطفى بدسيسة زوجته الروسيَّة خُرَّم (روكسلانة). مثل هذه الحادثة قد تدفع مؤرخي زمانه إلى تجميل هذه الفاجعة وتبرير هذا الفعل، لكن هُناك إجماعٌ تقريبًا على أنها كانت خطأً كبيرًا.
3. السُلطان مُراد الثالث: رُغم الإجماع على أنَّهُ كان مُتدينًا، لا أحد من مؤرخي عصره أنكر أنه قتل جميع إخوته لمَّا تربع على العرش، خوفًا من أن يُنازعوه المُلك. بل إنَّ مؤرخي زمانه لم يُخفوا إحدى أموره الشخصيَّة، وهي أنَّهُ كان مُصابٌ بالعجز الجنسي. مثل هذه المعلومات مُهينة ومُسيئة لسيرة أي حاكم، ومن الأولى عند مؤرخيه إخفائها، لكننا نقرأها في كُتُبهم، على سبيل المثال كتاب جامع التواريخ لأحمد مُنجِّم باشي.
أيضًا لو قارنا ما كتبه مُؤرخون عُثمانيُّون، مثل مُنجم باشي على سبيل المثال، مع ما كتبه مؤرخون مماليك، كابن إياس، حول فترة دخول العثمانيين إلى البلاد العربيَّة، لوجدنا كثيرًا من التطابق، كاتفاق كُلٍ منهما أنَّ الأُمراء الشوام كانوا يُكاتبون السُلطان سليم وينخرطون عن طيب خاطر تحت جناح الدولة العُثمانيَّة، بعدما كرهوا الحكم المملوكي الذي أصبح مُتعسفًا في أواخر حياة الدولة المملوكيَّة.
من الأمثلة الأُخرى التي أُحب الاستشهاد بها حول هذه النُقطة، مسألة الفتنة الطائفيَّة في الديار الشَّاميَّة سنة 1860م، فمن المعروف أنَّ والي دمشق ساهم آنذاك في قتل وتشريد المسيحيين، ولا تُنكر المراجع العُثمانيَّة المُعاصرة ذلك، سواء التي كُتبت في الشَّام أو مصر أو على يد مُؤرخين ناطقين بالتُركيَّة، فهم يُؤكدون على دور الوالي في إذكاء نار الفتنة وبأنَّ السلطنة رأت في استمرارها فسادًا كبيرًا، فأطفئتها.
بالإجمال فإنَّ المُؤرخين المُسلمين كانوا حريصين على نقل الصورة بأقرب ما يكون إلى الحقيقة. أقول أقرب ما يكون لأننا رُغم ذلك نجد مُبالغات في بعض الأمور كأعداد الجُيُوش مثلًا، أو في المُبالغة في وصف أهوال كارثة مُعينة شهدها الكاتب، حيثُ تكون مُبالغته جرَّاء صدمته. أيضًا، فإنَّ المؤرخين المُحرِّفين عُرفوا من قبل أقرانهم في زمانهم وبعدهم، منهم على سبيل المثال رشيد الدين الهمذاني، مُؤرِّخ المغول في إيران، الذي اخترع لجنكيز خان نسبًا يصل إلى الإمام عليّ كرَّم الله وجهه، وافترى على الخليفة العباسي المُستعصم بالله أمورًا كثيرة منها أنه كان يلهو مع جاريته أثناء حصار المغول لبغداد، ولا ندري كيف علم بهذه المعلومة.

- في العودة لذلك العصر وبالحديث عن الأمير فخر الدين تحديداً، ما هو سبب إمساك الأمير فخر الدين بزمام السُّلطة وعلى ماذا استندت إماراة لبنان حينها في ازدهارها، وهنا أيضاً يُطرح سؤال آخر فبلاد الشام تاريخياً كانت متنوّعة الثقافات والأديان والأعراق وهذا سبب عدم استقرا المنطقة فعلى ماذا بنى الأمير فخر الدين استقرار البلاد حينها؟
• آلت إمارة الشوف إلى الأمير فخر الدين عبر الوراثة، فبعد وفاة أبيه قرقُماز أصبح هو أمير البلاد المذكورة، وفي وقتٍ لاحقٍ تغلَّب على الأُمراء المُجاورين بقُوَّته العسكريَّة وضمَّ إقطاعاتهم، في حين صاهر بعضهم الآخر، فأصبح أميرًا على كامل جبل لُبنان، وفي وقتٍ لاحقٍ مدَّد إمارته لتشمل أغلب بلاد الشَّام. الرواية الكلاسيكيَّة تقول أنَّ فخر الدين وشقيقه يونس وضعا بِعهدة خالهما بعد مقتل والدهما على يد والي مصر الذي حمل على جبل لُبنان بإيعازٍ من السلطنة العُثمانيَّة بُعيد حادثة جون عكَّار الشهيرة التي نُهبت فيها قافلة خِراج مصر وقيل أنَّ قُرقُماز اتُهم فيها زورًا وبُهتانًا، لكن دراسات حديثة، أبرزها دراسات الدكتور عبد الرحيم أبو حسين، أُستاذ التاريخ العثماني في الجامعة الأميركية في بيروت، استند فيها على الوثائق الرسمية العثمانية، تُظهر أن الحقيقة أبعد ما يكون عن الرواية المُتداولة في كُتُب التاريخ الموجهة للطالب اللُبناني، فقرقُماز كان يُثير الفتنة ويقطع الطُرق ويُهاجم القوافل، بل يُحتمل أنَّهُ لم يُقتل على أيدي العُثمانيين بل حُجِّم، وبحسب بعض المصادر فهو قُتل في صراعٍ مع أميرٍ آخر، وفي مصادر أُخرى سممه بعض أتباعه. بجميع الأحوال فإنَّهُ من المُؤكَّد أنَّ قُرقُماز كان أميرًا فعليًا للشوف وأنَّهُ هو والد فخر الدين الشهير، وأنَّ الإمارة انتقلت إلى الأخير بالوراثة.
استندت الإمارة المعنيَّة في ازدهارها على التجارة مع أوروبا، وبالأخص الدويلات البحريَّة الإيطاليَّة وفي مُقدمتها غراندوقيَّة توسكانة إضافةً إلى الإمبراطوريَّة الإسبانيَّة. وكانت أبرز صادرات جبل لُبنان وساحله هي المنسوجات الحريريَّة الفاخرة، يليها الصابون والزيت، وقد حقَّقت هذه المُنتجات شُهرةً واسعةً في أوروبا وجنى أصحاب هذه التجارة أرباحًا وفيرة في ظل الحُكم المعني. كذلك، كان للعلاقات الدبلوماسيَّة التي أقامها فخر الدين مع توسكانة والبابويَّة وإسبانيا، عن طريق المُبتعثين الموارنة إلى روما، أثرٌ كبير في تقوية وتمتين حركة التجارة الغربيَّة مع الموانئ الشاميَّة العُثمانيَّة. ومن الواضح أنَّ السلطنة العُثمانيَّة كانت على دراية بكُل ما يجري، وأنها كانت تغض البصر عن تصرُّف فخر الدين تصرُّف السيِّد المُستقل طالما كان في ذلك فائدة للدولة ولأهلها، ولم يتخطَّ الأوروبيون حُدودهم ويُحاولوا تطبيق أهدافهم المُبطنة. وما أن تبيَّن أنَّ توسكانة كانت تسعى إلى بسط نفوذها على مدينة صور، برضا ومعرفة فخر الدين، واتخاذ المدينة مُنطلقًا نحو احتلال بيت المقدس، انقضَّ العُثمانيُّون، مُمثلون بوالي دمشق أحمد باشا الكُجُك، على جبل لُبنان وأنهوا حركة الأمير فخر الدين.
يُصوَّر الأمير فخر الدين في كثيرٍ من المُؤلَّفات اللُبنانيَّة على أنَّهُ لم يعرف التمييز وعامل جميع الأطياف بِمُساواة، لكن يظهر أنَّ الواقع كان عكس ذلك. من دون شك أنَّ فخر الدين كان ميكياڤيليًّا، فقد استعان بحاشيةٍ من جميع الملل والطوائف، لكنني أؤمن بأنَّهُ فعل ذلك لإدراكه أنَّهُ يحكم منطقة مُتنوِّعة ولا يستطيع أن يُعادي أي جماعةٍ من أهلها وإلَّا لن يُكتب النجاح لمشروعه التوسُّعي الاستقلالي، كما أننا نستدل على ذلك من خلال تسخيره أهل طرابُلس الشَّام في نقل أحجار قصور آل سيفا، أُمراء طرابُلس، الذين هاجمهم وهدم قُصُورهم بُعيد عودته من أوروبا سنة 1618م، انتقامًا منهم كونهم أغاروا على عاصمته دير القمر أثناء غيابه وأحرقوا قصره، فأجبر أهالي المدينة على نقل الردم نحو الجبل، فهلك منهم الكثير. أضف إلى ذلك، كما ذكرت سابقًا كان الأمير فخر الدين مُدركًا لِخطَّة البابويَّة القاضية باحتلال بيت المقدس وإحياء المملكة اللاتينيَّة التي قامت في بلادنا بُعيد الحملة الصليبيَّة الأولى سنة 1099م، وفي أواخر عهده اقترح على دوقيَّة توسكانة أن يقود جُيُوش البابا بنفسه نحو بيت المقدس. من الواضح أنَّ من يُؤيِّد هذا المشروع ليس حريصًا على الحفاظ على التركيبة المُتنوِّعة لبلاده، فالمشروع الصليبي كان دومًا مشروعًا إقصائيًّا تقدَّمت فيه العناصر الأوروبيَّة الكاثوليكيَّة على غيرها.
عُمومًا، فإنَّ فخر الدين ضمن ولاء العديد من الفئات عن طريق تقريب زُعمائهم إليه واللعب على الأوتار الحسَّاسة، فمن جهة الدُرُوز كان الأمر سهلًا كونه أغلب الظن دُرزي المذهب، ومن جهة المسيحيين وبالأخص الموارنة، كان مُدبِّره الخاص مارونيًّا وأغدق على أبناء هذه الطائفة العطايا وفتح لهم قنوات التواصل مع روما، وساهم في بناء بعض الكنائس مثل كنيسة بكفيَّا وكنيسة العربانيَّة، فاعتزُّوا في عهده. ومن جهة المُسلمين، فإنَّ مُؤرِّخه الخاص وكاتب سيرته، الشيخ أحمد الخالدي الصفدي، كان مُسلمًا سُنيًّا، وساهم في بناء بعض المساجد مثل جامع القاع في البقاع والجامع البرَّاني في صيدا، كما تشهد إحدى الوثائق أنَّهُ عزم الحج إلى البيت الحرام وراسل شريف مكَّة يطلب منه إبقاء الأمر سرًا عن السلطنة العُثمانيَّة، فرحَّب به الأخير لكنه رفض كتم الأمر عن السلطنة. لكنني أعتقد أنَّ هذا لم يُفد الأمير كثيرًا في الوسط الإسلامي الشَّامي، فأهل طرابُلس لم يغفروا للأمير ما فعله بهم، وتُشير المراجع أنَّ أهل صيدا (المُسلمين والأرثوذكس) كانوا شديدي التذمُّر من تزايد النفوذ الغربي في مدينتهم، رُغم الحركة التجاريَّة النشطة الذي رافقته. أخيرًا نستدل أنَّ الأمير فخر الدين لم يكن صاحب شعبيَّة كبيرة – في الوسط الإسلامي على الأقل – من خلال أبياتٍ أوردها المُؤرِّخ الدمشقي مُحمَّد بن فضل الله المُحبي، في كتابه الشهير: خُلاصة الأثر في أعيان القرن الحادي عشر، على لسان أحد الشُعراء الذي لم يُسميه، عندما هُزم الأمير فخر الدين واعتُقل على يد الوالي أحمد باشا الكُجُك:

ابنُ معنٍ ما كان إلَّا خبَّالا ضعضع الكون واستمال ومالا
مكَّن الله منه أحمد باشا وكفى الله المؤمنين القتالا



#عمر_قنديل (هاشتاغ)       Omar_Kandil#          



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)

الكاتب-ة لايسمح بالتعليق على هذا الموضوع


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- في فشل الماركسية العربية
- في تفكيك بعض المصطلحات العلمية
- امرسون وإعادة بناء البراغماتية
- دفاعاً عن الماركسية


المزيد.....




- ماذا يعني إصدار مذكرات توقيف من الجنائية الدولية بحق نتانياه ...
- هولندا: سنعتقل نتنياهو وغالانت
- مصدر: مرتزقة فرنسيون أطلقوا النار على المدنيين في مدينة سيلي ...
- مكتب نتنياهو يعلق على مذكرتي اعتقاله وغالانت
- متى يكون الصداع علامة على مشكلة صحية خطيرة؟
- الأسباب الأكثر شيوعا لعقم الرجال
- -القسام- تعلن الإجهاز على 15 جنديا إسرائيليا في بيت لاهيا من ...
- كأس -بيلي جين كينغ- للتنس: سيدات إيطاليا يحرزن اللقب
- شاهد.. متهم يحطم جدار غرفة التحقيق ويحاول الهرب من الشرطة
- -أصبح من التاريخ-.. مغردون يتفاعلون مع مقتل مؤرخ إسرائيلي بج ...


المزيد.....

- الانسان في فجر الحضارة / مالك ابوعليا
- مسألة أصل ثقافات العصر الحجري في شمال القسم الأوروبي من الات ... / مالك ابوعليا
- مسرح الطفل وفنتازيا التكوين المعرفي بين الخيال الاسترجاعي وا ... / أبو الحسن سلام
- تاريخ البشرية القديم / مالك ابوعليا
- تراث بحزاني النسخة الاخيرة / ممتاز حسين خلو
- فى الأسطورة العرقية اليهودية / سعيد العليمى
- غورباتشوف والانهيار السوفيتي / دلير زنكنة
- الكيمياء الصوفيّة وصناعة الدُّعاة / نايف سلوم
- الشعر البدوي في مصر قراءة تأويلية / زينب محمد عبد الرحيم
- عبد الله العروي.. المفكر العربي المعاصر / أحمد رباص


المزيد.....

الصفحة الرئيسية - دراسات وابحاث في التاريخ والتراث واللغات - عمر قنديل - حوار مع الدكتور باسم فليفل