أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - مواضيع وابحاث سياسية - رابح لونيسي - معضلة الإقلاع الإقتصادي في منطقتنا بين الوطنية الإشتراكية والإملاءات النيوليبيرالية















المزيد.....


معضلة الإقلاع الإقتصادي في منطقتنا بين الوطنية الإشتراكية والإملاءات النيوليبيرالية


رابح لونيسي
أكاديمي

(Rabah Lounici)


الحوار المتمدن-العدد: 7089 - 2021 / 11 / 27 - 17:40
المحور: مواضيع وابحاث سياسية
    


كثر الحديث حول تخلف منطقتنا، وطرحت عدة حلول من أجل إقلاع إقتصادي حقيقي، لكنها باءت كلها بالفشل، إلا أنه لا يمكن لأي باحث إقتصادي موضوعي أن ينفي أننا عرفنا محاولات جادة في بعض الدول عند بدايات إسترجاع إستقلالها عندما عملت الأنظمة الوطنية الإشتراكية على تحقيق ذلك الإقلاع عندما طرحت المشكل في جوهره، وهو ضرورة فك الإرتباط بالرأسمالية العالمية منطلقة من نظريات التبعية المفسرة لتفسير التخلف التي انتشرت بقوة في ستينيات وسبعينيات القرن20، والتي تربط تخلفنا بتوسع الرأسمالية، مما أدى إلى التبادل اللامتكافيء، فقد عملت أنظمة بقيادة أمثال هواري بومدين في الجزائر وجمال عبدالناصر في مصر وباتريس لوممبا في الكونغو ونكوامي نكروما في غانا وغيرهم على طرح المشكل في جوهره بالعمل من أجل التحرر الإقتصادي بغض النظر عن إرتكابهم اخطاء تعود إلى ضعف الإطارات الإقتصادية والكفاءات آنذاك، إضافة إلى عدم ربط مشاريعهم بالحريات الديمقراطية، والذي كان أحد أسباب فشل المشاريع الإشتراكية سواء في هذه الدول أو في الإتحاد السوفياتي وأوروبا الشرقية وغيرها.
لكنهم رغم ذلك فقد طرح هؤلاء المشكلة الإقتصادية في جوهرها عندما كانوا يتحدثون عن الإستعمار الجديد كما فعل نكروما مثلا صاحب كتاب "الإستعمار الجديد: آخر مراحل الإستعمار"، وكأنه يستمر في نفس طرح لنين القائل بأن "الإستعمار أعلى مراحل الرأسمالية"، فقد تنبه نكروما وغيره بأنه رغم التحرر من الإستعمار التقليدي إلا أن الإستعمار تطور إلى إستعمار جديد بالإبقاء على نفس أهداف الإستعمار التقليدي التي حددها البريطاني هوبسن في كتابه "في الإستعمار" في 1902 عندما يقول بأن للإستعمار ثلاث أهداف، وهي البحث عن الأسواق والمواد الأولية الرخيصة ومناطق للإستتثمار، وهو الذي جعل لنين ينتبه إلى إستحالة إنتصار الإشتراكية عالميا دون القضاء على الإستعمار لأنه هو الذي أنقد الرأسمالية من الإنهيار، فدعا شعوب الشرق إلى الثورة عليه في بيانه الشهير في1919، فهذا الأمر الذي انتبه له لنين لم ينتبه له رواد الماركسية الأوائل كماركس وأنجلس، ولعل يعود ذلك إلى أن الإستعمار لم يصل أوجه في عهدهم كي ينتبهوا إلى ذلك بشكل جلي؟ فهل عدم الإنتباه إلى الإستعمار بصفته الأداة الرئيسية التي سمحت للرأسمالية بالتكيف والتطور وإنقاذ نفسها معناه أن الطروحات الماركسية حول الرأسمالية وتطورها وميكانيزمات عملها وقدرتها على التكيف تحتاج إلى مراجعات وتطوير وإثراء؟.
يعد كتاب الرأسمال في أجزائه الثلاث من أهم الكتب التي فككت النظام الرأسمالي وطريقة عمله وميكانيزماته وتطوراته أين يقول ماركس أن إنتشار البؤس بشكل مريع يعود إلى تطور هذا النظام الرأسمالي إلى إحتكار الثروة في يد عدد محدود جدا مقابل الإفقار للإنسانية، مما سيدفع إلى ثورة البروليتاريا والقضاء على الملكية الفردية التي هي سبب تزايد الإستغلال الرأسمالي، لكن لم يعط لنا لا ماركس ولا أنجلس التنظيم السياسي للنظام الجديد أو ما سماه في كتابهما "البيان الشيوعي" في 1848 ب"دكتاتورية البروليتاريا"، بل وضعا فقط الأسس النظرية له، وتركا الأمر مفتوحا للإجتهادات حسب الظروف والأوضاع، فلنين هو الذي وضع أسس نظام السوفييتات (أي مجالس العمال والفلاحين والجنود) بعد الثورة البولشفية في 1917 في روسيا، لكن حاول إدخال بعض التصحيحات على سياساته فيما بعد بداية بسياسته المعروفة ب"السياسة الإقتصادية الجديدة" لأنه أدرك بأن المرور على المرحلة الرأسمالية ضرورية قبل الوصول إلى الإشتراكية كما قال ماركس من قبل، وهو ما سميت ب"رأسمالية الدولة كمرحلة للمرور إلى الإشتراكية"، إلا أنه وافته المنية قبل مواصلة تصحيحاته، ليدخل النظام السوفياتي في إنحرافات كبيرة على يد خليفته ستالين الذي قمع الحريات الديمقراطية بشكل مريع متناسيا أومتجاهلا كل الأفكار التنويرية لماركس التي أوردها في الكثير من أعماله وكتاباته، ومنها كتابه "المسألة اليهودية" اين يدعوا صراحة إلى الحريات والديمقراطية ومبدأ المواطنة وغيرها، فقد كان لهذا القمع للحريات الديمقراطية وراء ظهور البرجوازية البيروقراطية داخل النظام الستاليني وغيرها من النظم المشابهة لها، وهم الذين أستغلوا نفوذهم في الإدارة والحزب للإثراء غير المباشر دون أن يجدوا أصواتا وتنظيمات معارضة تصدهم عن ذلك، وهي الظاهرة التي نبه لها بشكل مستفيض اليوناني كورنيليوس كاستورياديس Cornelius Castoriadis منذ أربعينيات القرن الماضي في جل كتبه وخاصة في مجلته الشهيرة "إشتراكية أو بربارية"(Socialisme ou Barbarie).
أن ماقاله ماركس حول تزايد البؤس بسبب الإحتكارات الرأسمالية هو نفس ماقاله ريكاردو من قبل، وهو تزايد البؤس بسبب تزايد إحتكار الآراضي الزراعية في يد عدد محدود من الملاك، لكن لم يتساءل ريكاردو وغيره بأي حق يمتلك الإنسان الأرض، وهو لم يخلقها أصلا؟، فمن المفروض أن يمتلك عمله والمنتوج الزراعي الذي كان وراءه فقط لا غير، ونشير بأن قبل ريكاردو قد نبه جان جاك روسو في كتابه "أصل التفاوت بين البشر" على أن كل الشرور بدأت منذ أن قال الإنسان أن هذه القطعة من الأرض هي ملكيتي الخاصة، فأستولى عليها برغم أنه لم يخلقها أو ينتجها، وهو الأمر الذي فهمه منذ15 قرن الخليفة العادل عمر بن الخطاب الذي رفع شعار "الأرض لمن يخدمها" أي يمتلك الإنسان إنتاجه فقط، وليس الأرض، فقد فهم عمر بن الخطاب روح العدالة في الإسلام آنذاك على عكس إسلام البترو- دولار الخليجي اليوم الذي تحالف مع الرأسمالية العالمية لكسر كل محاولة لإقامة العدالة الإجتماعية، فكفر بومدين وعبدالناصر وكل من تبنى الإشتراكية، وحارب الرأسمالية العالمية الإستغلالية، فلو عاصرهم جمال الدين ألأفغاني لكفره أيضا إسلام البترو- دولار لأنه تبنى الإشتراكية، وقال بأنها من روح الإسلام، بل يعد الأفغاني أول من أستخدم المصطلح العربي "الإشتراكية"، فعندما لاحظ الأفكار الإجتماعية المنتشرة بقوة في أوروبا القرن 19 عندما تم نفيه إليها قال أنها افكار موجودة في الإسلام، وان هناك حديث نبوي يقول"الناس شركاء في الماء والنار والكلأ" أي إشتراك الناس في القطاعات الإستراتيجية والحيوية، فأخرج من هذا الحديث كلمة "الإشتراكية" ككلمة مقابلة لكلمة "السوسياليزم" المتداولة في أوروبا. فلنشر أن إسلام البترو- دولار المتحالف مع الرأسمالية العالمية كان أحد أسباب فشل كل محاولات الإقلاع الإقتصادي في منطقتنا، وما يؤلم هو ما كشفه جورج قرم وزير المالية اللبناني الأسبق عن دور إسلام البترو- دولار الخليجي في دفع لبنان إلى الإفلاس الذي يعيشه اليوم من خلال دعمه لرفيق الحريري ذو الجنسية السعودية- اللبنانية المرتبط بشبكة نهب وسلب عالمية تدعمها القوى الرأسمالية أفقرت لبنان، ونهبت ثرواته، وقد كشف كل ذلك بالأرقام والإحصائيات والأدلة في كتابه "لبنان المعاصر-التاريخ والمجتمع-". فحديثنا عن تجربة لبنان هو تحذير منا بأن كل دولة تسمح بتدخل إسلام البترو- دولار الخليجي المتحالف مع الرأسمالية العالمية في تسيير شؤونها الداخلية، خاصة الإقتصادية منها سيكون مصيرها نفس مصير لبنان.
أن التطور الإقتصادي وقوى الإنتاج وتنامي الثورة الصناعية الذي وقع بعد ما كتبه ريكاردون والذي صاحبه بؤس مريع صوره الكثير من الأدباء والروائيين جعل ماركس ينقل نفس فكرة ريكاردو حول الأرض إلى المجال الصناعي، وهو ما جعل البعض يطرح أمامنا اليوم إعادة التفكير فيما قاله ماركس بسبب التطورات الحاصلة اليوم من تطور كبير لقوى الإنتاج لم تكن موجودة في عهد ماركس، ومنها خاصة تطور تكنولوجيا الإتصالات والذكاء الإصطناعي وغيرها التي سيكون لها تأثير كبير مستقبلا، وقد حاول كل من جاك آتالي، وكذلك الأمريكي ألغور التنبأ بمختلف هذه التطورات، لكن حتى ماركس ذاته أشار إلى ذلك، ونبه قرائه لذلك عندما يقول بأنه يحلل ويفكك الرأسمالية وميكانيزمات عملها على المدى المتوسط لأنه لايمكن له أن يعلم التطورات المستقبلية البعيدة لمختلف قوى الإنتاج.
فقد حاول الفرنسي توماس بيكيتي Thomas Pikettyمواصلة عمل ماركس عندما كتب كتابه الضخم الذي وصل حوالي ألف صفحة عام 2013 بعنوان "الرأس المال في القرن21" محاولا إيجاد إجابة على نفس السؤال وهو: هل فعلا سيزداد الفقر والبؤس وعدم التوزيع العادل للثروة مستقبلا؟، ويعطي لكتابه أهمية كبرى مقارنة بما فعله ماركس أو ريكاردو من قبل لأنه يقول بأنه يمتلك اليوم معلومات أكبر حول الضرائب والمداخيل وتوزيعها وغيرها مركزا على عدة دول، كما أنه يشير إلى إنخفاض التفاوت الطبقي في عدة فترات من التاريخ مركزا على الفترة الممتدة مابين 1880 و1914، مما يدحض في نظره طروحات ماركس حول تزايد البؤس والتفاوت الطبقي كلما تطورت الرأسمالية، كما يستند توماس بيكيتي على بحوث الأمريكي والأوكراني الأصل سيمون كوزنتس Simon Kuznets في1956 ومن قبل أين يحاول أن يثبت بالأرقام والإحصائيات أنه كلما تزايد التطور الرأسمالي كلما أقتربنا من توزيع عادل للثروة، وهي من الأبحاث التي وظفت أثناء الحرب الباردة لمواجهة الأفكار الإشتراكية وإثبات فعالية النظام الرأسمالي في تحقيق الرخاء وإقامة العدالة الإجتماعية طبيعيا، وكأن هناك قاغدة وسر خفي وراء ذلك.
لكن ما يسجل على توماس بيكيتي وكذلك كوزنتس هو عدم إشارتهم على الإطلاق إلى الدور الذي لعبه الإستعمار الأوروبي لبلداننا في تحقيق ذلك كله، بل لم يلمحوا حتى مجرد التلميح إلى ذلك، وكأن لاعلاقة للإستعمار بالتطورات الرأسمالية وإنقاذ نفسها من الإنهيار، وما يؤسف له أنه حتى هربرت ماركيوز المحسوب على الماركسيين لم يشر إطلاقا إلى الدور الذي لعبه الإستعمار في تحقيق رفاهية في الغرب الرأسمالي عندما يتحدث عن إندماج البروليتاريا في الأنظمة الرأسمالية وتزايد ما يسميه ذوي الياقات البيضاء كالمهندسين والموظفين وغيرهم الراضين بوضعهم مثلهم في ذلك مثل ذوي الياقات الزرقاء أي عمال المصانع اليدويين، ولهذا يستحيل قيام ثورة إشتراكية في هذه الدول على يد البروليتاريا، ويرى أنها لا يمكن أن تأتي هذه الثورة إلا على يد المقصين عنصريا كالسود في امريكا وكذلك المهمشين المهاجرين من الأرياف إلى حوافي المدن، وهم الذين يسميهم ماركس ثم فرانز فانون ب"حثالة البروليتاريا" محملين لها أسباب فشل كل الثورات، كما يضيف هربرت ماركيوز الطلبة كطبقة ثورية متأثرا في ذلك بأحداث ماي 1968 في أوروبا، والتي تحكمت في بعض أعماله التي ظهرت في نفس الفترة.
فبشأن أعمال توماس بيكيتي وكتابه الذي بيع بشكل كبير عالميا نتيجة للسيطرة الرأسمالية على الإعلام والدعاية مادام أنها تروج لكل عمل يخدمها، وتطمس وتشوه كل من يفضحها، ويعطي بدائل لها، فبيكيتي تناول فقط الدول الرأسمالية الكبرى مع إهماله التام للتفاوت الطبقي في الدول الفقيرة مبررا ذلك بعدم توفر المعطيات والأرقام والإحصائيات التي يمكن له الإستناد عليها، كما لايخفي بيكيتي عدائه للأنظمة الإشتراكية التي يرى أنها قد أثبتت فشلها دون أن يبحث عن الأسباب العميقة لذلك، ومنها ربطها بالأحادية الحزبية ومنع الحريات الديمقراطية كما أشرنا إلى ذلك سابقا، وكذلك إنقاذ الرأسمالية ذاتها وتقوية نفسها بإستعمارها بلداننا، فأصبحت قوية وبإمكانها توفير مداخيل وثروات كبيرة ناتجة عن نهبها لنا ثم توزيعها على مواطنيها، فللأسف بيكيتي لم يتطرق إلى هذه القضايا إطلاقا ولو بالإشارة أو التلميح، فلنتصور لو لم تستعمر بلداننا، وتربط إقتصادياتنا بالإقتصاديات الإستعمارية إلى حد اليوم هل ستصمد الأنظمة الرأسمالية أمام ثورات إجتماعية كانت في الأفق في في فرنسا وأنجلترا وغيرها لولا لجوء هذه الدول إلى إستعمارنا كحل لأول أزمة دورية حدثت للرأسمالية الصناعية في أوروبا في القرن19، لكن الأمر الإيجابي في عمل بيكيتي في نظرنا هو إثارته قضية التعليم والتكوين العلمي كعامل مؤثر في تخفيف مختلف التفاوتات الطبقية في المجتمع، وهو ما أثارناه بشكل كبير في كتابنا "النظام البديل للإستبداد-تنظيم جديد للدولة والإقتصاد والمجتمع" أين تطرقنا إلى ضرورة ثورة علمية إلى جانب فك الإرتباط بالرأسمالية العالمية، ووضعنا آليات وميكانيزمات لتحقيقها كي تتقدم شعوبنا، ويتم القضاء على تخلفها وبؤسها.
نلاحظ أنه في نفس الوقت الذي انتشرت فيه بقوة اليوم كتابات بيكيتي وميلتون فريدمان وغيرهم من دعاة النيو ليبيرالية التي تسيطر على كل الأدوات الأيديولوجية كالمدراس والجامعات والإعلام ودور النشر وغيرها، بل عمدت حتى إلى تمييع مناهج العلوم الإجتماعية والإقتصادية والإنسانية في الجامعات كي لا يلتفت بالنقد والتفكيك للرأسمالية العالمية، واختفت مقابل ذلك كتابات وطروحات أصحاب نظريات التبعية كسمير أمين وكذلك إقتصاديو أمريكا اللاتينية كجيوفاني آريغي Giovanni Arrighi وأندري غونتر فرانك André Gunder rank وغيرهم الكثير، كما تم تغييب الإقتصاد السياسي الذي يسمح بفهم مختلف الآليات وميكانيزماتها بتحويل الدراسات الإقتصادية إلى عمليات حسابية ورياضية بحتة، فرضخ الجميع إلى فكرة أن الرأسمالية هو الحل للتخلف، لكن أي رأسمالية بالنسبة لدول منطقتنا، فإن كانت الرأسمالية التابعة، فمعناه تزايد التخلف والبؤس عندنا لأنها ستحقق نفس أهداف الإستعمار التقليدي، وهو جعل بلداننا مجرد أسواق للسلع التي تنتجها المصانع الرأسمالية ومصدرا للمواد الأولية والطاقة طبقا للتقسيم الدولي للعمل الذي وضع في القرن19 في غياب شعوبنا، وكذلك مجرد مناطق للإستثمار في الصناعات الإستخراجية، وممكن يسمح بغقامة بعض الصناعات الملوثة التي أرادت بعض دول الغرب التخلص منها ونقلها إلى بلداننا، وهو ما يفسر لنا حصول طفرة في بعض الدول التي تسمى بالصاعدة منذ تسعينيات القرن20. فان أستمرينا في نفس السياسات، فمعناه تواصل تخلفنا وبؤسنا وتزايد رفاه العالم الرأسمالي الغربي الذي يواصل في نهب وسلب ثرواتنا بشكل غير مباشر، ثم يعيد توزيعها على مواطنيه في الغرب الرأسمالي.
ونريد ان نفتح قوس بشأن نقل هذه الصناعات من الغرب إلى بعض الدول التي تم ترشيحها لذلك بحكم توفر قاعدة صناعية فيها، ومن هذه الدول كانت الجزائر أحدها بفعل توفر قاعدة صناعية أنشات في عهد بومدين، لكن عرقل ذلك المستوردون الذين صعدوا بقوة بعد وفاته، وسيطروا على دواليب الدولة، فتحالفوا بشكل غير مباشر مع بعض جماعات الإسلام السياسي التي يسيطر عليها أيضا بعض المستوردين، وهو احد العوامل التي كانت تختفي وراء الإرهاب الذي ضرب إستقرار الجزائر في التسعينيات، فتم إستبعادها من طرف الراغبين في نقل هذه الصناعات إليها، وهو نفس ما حدث لمصر، وقد أنتهى الأمر اليوم إلى القضاء على تلك القاعدة الصناعية كلية، فتحولت الجزائر إلى مجرد مستورد للسلع على يد هؤلاء المستوردين.
نعتقد أن الوحيدين الذين فهموا جوهر المشكل هم الوطنيون الإشتراكيون عندنا الذين ذكرناهم آنفا عندما طرجوا في الستينيات والسبعينيات من القرن الماضي ضرورة فك الإرتباط بالرأسمالية العالمية وتحقيق الإستقلال الإقتصادي بالتركيز على إقامة ثورات صناعية في بلداننا كما فعل بومدين في الجزائر وعبدالناصر في مصر وغيرهم، وكان هؤلاء يطرحون فكرة إقامة نظام إقتصادي عالمي جديد مكان هذا النظام الإقتصادي العالمي المجحف، فكانوا فعلا يجرمون الإستعمار في جوهره الإستغلالي الإقتصادي الذي لازلنا نعاني منه إلى حد اليوم، فكانوا لا يكثرون الحديث عن جرائمه في حق الإنسان كالقتل والتعذيب لأنها كانت بديهية لديهم، فمن لايعرف أن الإستعمار كان يقتل في البشر، ويذبحهم منذ إعتدائه على آراضينا، فكل من يغيب هذه الجريمة الإقتصادية التي لازالت مستمرة إلى حد اليوم، وهو ربط إقتصادياتنا بإلإقتصاديات الإستعمارية وبالغرب الرأسمالي وضرورة التحرر من ذلك ما هو في الحقيقة إلا عميل لهذا الإستعمار مهما تبجح بالحديث عن جرائم الإستعمار في حق البشر، فهو لايريد في الحقيقة إلا إستمرار هذا الإرتباط الإقتصادي بإقتصاديات القوى الإستعمارية السابقة، فكأن هذا الإستعمار لم يخرج من بلداننا مادام مصالحه الإقتصادية التي كان يحصل عليها بإستعمارنا مباشرة لازالت قائمة إلى حد اليوم رغم تغنينا بالسيادة الوطنية، كما أن الإبقاء على هذا الإرتباط فهو في خدمة طبقة المستوردين أو الكمبرادور أو مانسميهم بوكلاء القوى الرأسمالية الإستعمارية السابقة التي سيطرت على هذه الدول، ويرفضون الذهاب إلى الإقتصاد المنتج، ويعرقلون أي محاولات للقيام بذلك.
طبعا نحن لا ننفي وجود بعض الأخطاء في مشاريع هؤلاء الإشتراكيين الوطنيين، لكن فكرتهم صحيحة في جوهرها، فلو واصلنا في نفس المنوال آنذاك، وأدخلنا بعض التصحيحات على بعض الإختلالات لكنا اليوم في موقع أحسن، لكن للأسف تعرض كل هؤلاء لحرب من الداخل والخارج، فمن الداخل تمت محاربتهم من الكمبرادور أو الراغبين في الإستيراد فقط دون القيام بأي إستثمارات في القطاعات المنتجة في الداخل، وكانوا مدعومين من الغرب الرأسمالي، وقد تم ذلك بطرق شتى، خاصة بعد وفاتهم المشكوك فيها لأنه تم التخلي عن مشاريعهم، ليتزايد اليوم التخلف والبؤس أكثر، كما تعرضوا لحملات من قوى الغرب الرأسمالي التي كانوا يطلقون عليها هؤلاء الإشتركيين الوطنيين مصطلحات الإستعمار الجديد أو الأمبريالية، فهم كانوا محقين في تسمياتهم لهم لأنهم فهموا جوهر الصراع العالمي آنذاك، والذي هو مغيب تماما اليوم بحكم سيطرة تامة للمستوردين أو طبقة الكمبرادور المرتبطة بمراكز القوى الرأسمالية على مقاليد دولنا، والتي تواصل تحقيق نفس أهداف الإستعمار التقليدي، وهو تسويق سلعه عندنا وتموينه بمواد أولية وطاقة بأسعار بخسة وفتح المجال للإستثمار في الصناعات الإستخراجية، فقد كانت أمريكا وفرنسا وبريطانيا تدعي أنها تحاربهم لأنهم عملاء للسوفيات في إطار الحرب الباردة، لكن ذلك ليس صحيح على الإطلاق، فقد كانت تحاربهم لأنهم طرجوا أصل وجوهر مشكلة تخلف دولهم، فعملوا من أجل تقدمها وتحررها وإقلاعها إقتصاديا، وهو ما سيضر بشكل كبير جدا بمصالح هذه الدول الرأسمالية لأنها لن تجد ما تحلبه بشكل ناعم من خيرات شعوبنا كي ترشي بها طبقاتها الضعيفة، فتثور على هذا النظام الرأسمالي غير العادل، ولو أننا لا ننفي تحالف هؤلاء الإشتراكيين الوطنيين مع الإتحاد السوفياتي الذي وعى أن الإستعمار ثم الإستعمار الجديد هو راء صمود الرأسمالية التي كانت تنهب ثروات شعوبنا، لتوزع جزء منها على بؤسائها، فترشيهم كي يصمتوا ويشعروا أنهم على أحس حال، ففك الإرتباط نهائيا بهذه الرأسمالية الإستغلاليةهو كفيل بإنهيار المعسكر الرأسمالي، وقد كان إضعاف الإتحاد السوفياتي الذي كنا نستند عليه لمواجهة قوى الغرب الرأسمالي قد زادنا ضعفا وإذلالا أمام هذا الغرب الذي فرض علينا اليوم، ولازال يفرض سياسات تخدم المركز الرأسمالي، وتمنع تقدمنا والقيام بإستثمارات في القطاعات المنتجة أي الإبقاء على رأسمالية تابعة عندنا يتحكم فيها الكمبرادور المرتبط بالمركز الرأسمالي بدل إقامة ما نسميه برأسمالية وطنية تدور حول الذات ومبنية على دفع الكمبرادور إلى الإستثمار في القطاعات المنتجة، وكذلك القيام بثورات صناعية وعلمية في دولنا، كما لا يجب ان نخفي أن بعض التيارات الدينية عندنا المدعومة بإسلام البترو- دولار الخليجي قد لعبت دورا كبيرا في إضعاف الإتحاد السوفياتي الذي كنا نستند عليه لمواجهة قوى الغرب الرأسمالي عندما انخرط هذا التيار منذ الأربعينيات في محاربة الشيوعية بدعوى معاداتها للدين، فتحالفت بذلك مع هذا الغرب الرأسمالي، ووصلت إلى أوج هذا االتحالف في تجنيد مسلمين لمحاربة السوفيات في أفغانستان الذي كانت الفخ المنصب للإتحاد السوفياتي كي تغرقه فيه كما وقع للأمريكان في الفيتنام، وقد كانت حرب أفغانستان ومشروع حرب النجوم وأسباب ذاتية داخل النظام السوفياتي ذاته وغيرها من العوامل وراء إنهيار المعسكر الشيوعي الذي كنا نستند عليه لمواجهة الغرب الرأسمالي، فلعل الكثير لايعلمون أن إنشاء حركة عدم الإنحياز وطرح فكرة الحياد الإيجابي كان أحد أهدافها هو الإستفادة من الحرب الباردة والصراع بين الغرب الرأسمالي والشرق الشيوعي لخدمة مصالح شعوبنا ودولنا، لكن ماذا استفدنا بسقوط الإتحاد السوفياتي، فإننا لم نأخذ إلا الخذلان والإذلال ومنعنا من الصمود ورضوخنا للإملاءات النيوليبيرالية المتوحشة وصندوق النقد الدولي وقوى الإستعمار السابقة التي تريد فقط إبقائنا أسواقا لها ومصدرا للمواد الأولية ومناطق للإستثمار في الصناعات الإستخراجية، وتمنعنا من القيام بأي إقتصاد منتج، وتقف مع الأنظمة التي يتحكم فيها الكمبرادور أو المستوردين ووكلاء مصانع الرأسمالية العالمية عندنا، فحتى الصين الشعبية التي يمكن ان نحلم بمساعدتها لنا، فهي لن تقوم بذلك لأنها حتى هي اليوم دخلت في نفس منطق القوى الرأسمالية، وهو أن نبقى مجرد أسواق لسلعها كما أننا أسواقا لسلع الغرب الرأسمالي لأن الصين هو البلد الوحيد من الدول التي شاركت في مؤتمر باندونغ في 1955 الذي تمكن من النجاح في إقامة رأسمالية وطنية تدور حول الذات، وأصبحت بذلك لاتختلف عن الرأسماليات الأخرى، ولهذا حتى هي لن تسمح مثلها في ذلك مثل الدول الرأسمالية التقليدية بإقامة رأسمالية وطنية عندنا لأن ذلك من شانه أن يضعفها هي كما يضعف دول رأسمالية تقليدية، لكن يمكن للصين أن تساعدنا إلا في حالة واحدة وهي قيادة دول العالم الثالث لمواجهة الغرب الرأسمالي في إطار حرب باردة جديدة قادمة، يدفعنا كل ما سبق إلى الدعوة إلى إعادة بعث فكرة عدم الإنحياز أو فكرة الأفرو-آسيوية، لكن على الصعيد الإقتصادي من أجل التعاون لمواجهة كل ضغوطات هذه الدوال الرأسمالية علينا التي تمنعنا من الإنتقال من رأسمالية تابعة تخدم الغرب إلى رأسمالية وطنية تخدم مصالحنا وإقتصادياتنا، وتعيد التوازن العالمي بينننا والغرب الرأسمالي، فتتوزع الرفاهية بشكل عادل على كل المستوى العالمي.



#رابح_لونيسي (هاشتاغ)       Rabah_Lounici#          



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- ماذا بقي من -علم الإستغراب- لحسن حنفي؟
- هل سار ماكرون على نفس خطى جيسكار ديستان؟
- هل الشمولية الإلكترونية هو الخطر القادم؟
- مقاربة جديدة للحد من تكرار أحداث تونس أو غيرها
- الحل الأمثل للدفاع عن الإنسان في فلسطين
- عرقلة حركة التاريخ بغطاء ديني
- أفكار فوضوية دون باكونين
- الخريف العربي والحراك الجزائري-أوجه التشابه والإختلاف-
- دعوة لربط تجريم الإستعمار بالقضاء على نظام إقتصادي عالمي مجح ...
- قراءة في المشروع التمهيدي لقانون الإنتخابات الجزائري-المساوا ...
- أي دور للزراعة في تحقيق الإقلاع الإقتصادي؟
- الديمقراطية والرأسمالية بين التناقض والترابط
- موريس جولي والتأسيس للميكيافيلية الناعمة
- الإستعانة بمالك بن نبي لقراءة تصريحات ماكرون الأخيرة
- من أجل هدف إستراتيجي أعلى ومحركات لتحقيقه
- ما وراء التصعيد المغربي الأخير في الصحراء الغربية؟
- هل الديمقراطية حتمية تاريخية؟
- ما وراء الإستفتاء على الدستور في الجزائر؟
- نحو المطالبة الشعبية ب-الدولة العلمية-
- مقاربة لتوطين الديمقراطية في منطقتنا


المزيد.....




- صدمة في الولايات المتحدة.. رجل يضرم النار في جسده أمام محكمة ...
- صلاح السعدني .. رحيل -عمدة الفن المصري-
- وفاة مراسل حربي في دونيتسك متعاون مع وكالة -سبوتنيك- الروسية ...
- -بلومبيرغ-: ألمانيا تعتزم شراء 4 منظومات باتريوت إضافية مقاب ...
- قناة ABC الأمريكية تتحدث عن استهداف إسرائيل منشأة نووية إيرا ...
- بالفيديو.. مدافع -د-30- الروسية تدمر منظومة حرب إلكترونية في ...
- وزير خارجية إيران: المسيرات الإسرائيلية لم تسبب خسائر مادية ...
- هيئة رقابة بريطانية: بوريس جونسون ينتهك قواعد الحكومة
- غزيون يصفون الهجمات الإسرائيلية الإيرانية المتبادلة بأنها ضر ...
- أسطول الحرية يستعد للإبحار من تركيا إلى غزة


المزيد.....

- الفصل الثالث: في باطن الأرض من كتاب “الذاكرة المصادرة، محنة ... / ماري سيغارا
- الموجود والمفقود من عوامل الثورة في الربيع العربي / رسلان جادالله عامر
- 7 تشرين الأول وحرب الإبادة الصهيونية على مستعمًرة قطاع غزة / زهير الصباغ
- العراق وإيران: من العصر الإخميني إلى العصر الخميني / حميد الكفائي
- جريدة طريق الثورة، العدد 72، سبتمبر-أكتوبر 2022 / حزب الكادحين
- جريدة طريق الثورة، العدد 73، أفريل-ماي 2023 / حزب الكادحين
- جريدة طريق الثورة، العدد 74، جوان-جويلية 2023 / حزب الكادحين
- جريدة طريق الثورة، العدد 75، أوت-سبتمبر 2023 / حزب الكادحين
- جريدة طريق الثورة، العدد 76، أكتوبر-نوفمبر 2023 / حزب الكادحين
- قصة اهل الكهف بين مصدرها الاصلي والقرآن والسردية الاسلامية / جدو جبريل


المزيد.....

الصفحة الرئيسية - مواضيع وابحاث سياسية - رابح لونيسي - معضلة الإقلاع الإقتصادي في منطقتنا بين الوطنية الإشتراكية والإملاءات النيوليبيرالية