|
جدتي وتنور الطين
ابتسام الحاج زكي
الحوار المتمدن-العدد: 7080 - 2021 / 11 / 17 - 20:41
المحور:
الادب والفن
كعادتها استفاقت من نومها المتقطع ، والزاخر بالأحلام العابرة للأزمان ، فبين أمس تولّی وراهن ينشب أظفارة في يوميات صادرتها تبجحات تدَّعي الحنو الممسك للخيزرانة ، والملوّح بها كلما حاول الراهن مدّ عنقه انفلاتا من وصاية تستمد بقائها من تنويمة أيام مصادرة ، شعرت بقشعريرة ما أن لسعت جسدها المتغضّن برودة خريف ثائر من دونية تجيد الفصول الثلاثة تصويبها نحوه , ليزداد تجهمّا وعدائية وإن كان الندّ عجوزا نبذت لعبة التحدي منذ سنين أتت على الأخضر واليابس ، ردّدت في سرّها وبطفولة " باردة کلش " توضأت وعيناها تدور في ثنايا بيتها القديم ، وكأنها تتفحص محتوياته خوفا من السرقة ، فحياة التمدن لم تمح من بالها ذلك العراء الذي كانوا يعيشونة في جنوب خلفوّه خلف خطوات تبحث عن بحبوحة لعيش تمنوّه کریما، الجنوب ذلك السحر الذي ظل خياله يلاحقهم وأنفاسه ترافقهم أنّى اتجهت بهم صروف الدهر ، توجهت صوب التنور الحديدي لتتأكد من غطائه كانت تصرُّ على التعامل معه وكأنه ذلك التنور الذي كانت تتفنن في نحته ومن ثم تشييده ليشيع فيما بعد لقب ( صوغة أم التنانير ) محتفظة بنسخة متآكلة منه فالله وحده يعلم ما تخفية الأيام " كان ردّها على محاولات إزالته بحجة شغله لحيّز من مساحة بيتهم الصغير مذكِّرة بتلك العودة الصاغرة والمعتذرة للتنور العتيد التي تلت الحرب الأخيرة : وكيف أن منزلهم كان يضجُّ بالنسوة الباحثات عن بديل لتنانير حديدية أضحت محض سلعة فائضة عن الحاجة لشحّة وقودها ، فالتقهقر إلى الوراء شعار ترفعه الحروب دوما ، وكأن تنور الطين قدرنا الذي لا فرار منه ، خطواتها بدأت تثّاقل يوما بعد آخر منكمشة من برودة داهمتها من دون حساب " اشششششششاه اشششششششاه " كانت تتمتم بذلك وأن لم یکن البرد بحجم هذا الارتجاف المزعوم. الرتابة والإيقاع البطيء خيّما على حياة الإيغال في وحشة الغياب لأحبة تباينت أسباب غيابهم ، بين ميتة طبيعية وبین میتات مبتكرة ، وبين من ابتعدت بهم هموم الحياة عن وطن يتخلى بكرم عن أبنائه البررة وجدت نفسها في حجرة قديمة كانت بمثابة منزل صغير يحوي مطبخها الصغير المتكون من طباخ يعود لسنين خاوية وأوان قديمة استهلكتها الأيام لتبعثرها على محمل صغير يتكون من ثلاثة رفوف صدئة ، مطبخها الصغير هذا كان يقرب من المكان الذي افترشته لنومها وبالجهة المجاورة وضعت ثلاجتها الصغيرة التي تعود لحقبة ابتعدت كثيرا عن ذاكرتها . تناولت إفطارها المعتاد ، استکان الشاي والبيضة المسلوقة ورغيف خبز مدّخر. عيشها في الحجرة جعلها تنعم بشيء من الهدوء، خلا حاجتها إلى الحمام الذي ظلت تعاني من بعده النسبي ولا سيما والوهن يدّب نحو خطواتها التعبة ، لتجد صعوبة في الوصول إليه ما اضطّرها إلى الاستعانة ببديل بدائي يسعفها في لحظات تخونها فيها قدماها ومرات كثيرة عضلات مثانة أضعفتها الشيخوخة وتبعاتها، كانت تعيش ألم الوحدة على الرغم من أحفاد قذفت بهم قسوة الغياب القسري لإيقاع حياة لا يقوون فيه على النظر مجرد النظر لمن حولهم عدّت العدّة للخروج . عباءة لوّحت الشمس لونها وبقايا کیس طحين جعلت منه (علاگة السوك ) وبضع نقود أحكمتها بكيسها المتدلي حول صدرها المحتفظة به من أيامها الخوالي، وأخذت تسحب قدميها فجسدها المتكوِّر أصبح خائرا ولا يجد من يحمل أعبائه إلا هاتين القدمين هاهي ذي تقف قبالة الشارع ترقب سيارة تقلّها إلى السوق ... اليوم هو الموعد الأسبوعي للتسوق ، فشراء السمكة واللحم لا يمكن الاعتماد فيهما على الآخرين ، لذا لا بدَّ من قيامها بالمهمّة بنفسها وأن بدت شاقة فهي أقدر على الموازنة بين ما ادّخر من نقود ، وبين لهيب أسعار هذه اللحوم المستعر. يطول انتظاره الفرج برؤية سيارة تقلّها إلى السوق كانت فيما مضى تزورها وبحسب الحاجة التي تلجئها بعض الأحيان للتسوق أكثر من مرة في اليوم الواحد ، لتقفز أمام ناظريها بعد أن تفترش الطريق صورة تعدّها أجمل ما رأت عيناها عندما كانت تذهب راكضة مع والدها لاصطياد الأسماك من شطّ جنوبهم ، وكيف أن فرح والدها يتحول إليها لا شعوريا عندما يحظى بسمكة بنيّة أو قطّان " سمج العمارة وبس ... إيييييييه وين يلّگي " تمتمت بصوت خفيض ، سبح خيالها في ثنايا فردوسها المفقود ، متذکرة جولاتها بطلب من والدتها بحثا عن بقايا سعف وجريد نخل يابس وبعض المطّال لتشوي لهم السمك المخلوط مع عجينة طحين الرز ، طريقة شيّه كانت تدفعها للقول :ـ يمه شلون ناكله وعليه كل هذا الوسخ. ـ "ولج هذا وگود موش وسخ " كان يأتيها صوت والدتها ناهرا إياها ، لعبة التواصل بين الماضي البعيد وصوره الجميلة وبين قسوة الحاضر الذي يفتك بخيوط واهنة تربطها بذلك الزمن الجميل ، يدفعانها إلى التشبث بذاكرتها المجهدة لتحتفظ بذكراها وجوه طواها الغياب لعقود شاطرتها حلاوة تلك الأيام لم يتبق منها إلا القليل الذين ربما يحسدونها على نعمة الخروج هذه فمنهم من أقعدته الأيام وعجز عن قضاء أبسط حاجاته ، ومنهم من فتكت بذاكرتة آفة النسيان وعاد لا يفهم من بعد علمه شينا . تستنفر كل قواها كلما لاحت لها سيارة من بعد والبعد بالنسبة لعينيها الكليلتين يعني الدنوّ من لعبة الحياه ذاتها، فإن نجد الأشياء قبالتنا ولا نقوى على الإمساك بها فهذا هو العجز بعينه، تثب واقفة علّها تجد لها مكانا بين الركاب، ولكن سرعان ما تعود أدراجها متمتة بلهجتها المتذمّرة "شمالهم اليوم شو محد يرضى يوگفلي" لتطلقها حسرة على حالها هذه الدنيا التي بقدر ما تضحكنا تبكينا أضعافا مضاعفة، كان صنع تنور الطين لا يأخذ منها إلّا دقائق معدودة لتنحته على أحسن شكل، باهرة المحيطين بها لسرعة ورشاقة عملها الذي اتقنته بطول الممارسة، ليؤازر مردود عملها أجر زوجها ولكي يمضيا قدما برحلتها العرجاء حياة جادت عليهم بستة أولاد وفتاة التهمها الموت بعد ولادة متعسِّرة لطفلها الثالث، الرحيل المبكر لوحيدتها وأن مضى عليه أكثر من أربعين سنة ترك في نفسها جرحا يزداد غورا بتوالي غيابات لأحبة انتزعتهم الحياة من ناظريها قاذفة بهم في أعماق روحها المهشّمة. تنهض من جديد مستدعية ما لديها من قوّة فسيارة واز واحدة أشفقت عليها وهاهي ذي تغذُّ الخطى المتهالكة باتجاهها ووجهها تغطّيه ابتسامة طفولة ضائعة، تترنّح خلف السيارة التي ابتعدت عنها مسافة، وأخيرا هي والسيارة الواز في مواجهة صادمة يبدو أن الغلبة فيها لتلك السيارة المتباهية بعنفوان فتوتها الأقدر على تحدّي وعورة الحياة وتعرجّاتها، فالسيارة كانت أنأى من أن تحنو على عجوز أعجزها الولوج إلى باحة هذه المكينة الحديدية والتي أسموها وازا؛ لتذعن لواقع غابت عن حساباته يباب سنين لعجوز لا تنطبق على يقينياتها مواصفاته القياسية مطلقة للرياح الساكنة دبيبها علّها تشفق على شيخوخة فتحملها إلى حيث مبتغاها.
#ابتسام_الحاج_زكي (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
الكاتب-ة لايسمح
بالتعليق على هذا
الموضوع
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
سيرتي المشذّبة
-
نفوسنا حين تتناجى!
-
أين الفرار؟!
-
العلوة
-
ولا يزال
-
عصرة أنفاس
-
صفحة من دون الصفحات
-
ما أشقاها من ذاكرة!
-
إلامَ الحنين؟
-
ومضة باهتة
-
أقنعة خانقة
-
بين المطرقة والسندان
-
إلامَ تُشير بوصلتي؟!
-
متاهة
-
وتمضى
-
وريقات صفراء ونقش مزعوم
-
حروف يضاهي بزغ الفجر بياضها
-
نلوذ وأنّى اللواذ؟
-
إلامَ الحنين؟!
-
لأنني أعشقها
المزيد.....
-
طالبان تحظر هذه الأعمال الأدبية..وتلاحق صور الكائنات الحية
-
ظاهرة الدروس الخصوصية.. ترسيخ للفوارق الاجتماعية والثقافية ف
...
-
24ساعه افلام.. تردد روتانا سينما الجديد 2024 على النايل سات
...
-
معجب يفاجئ نجما مصريا بطلب غريب في الشارع (فيديو)
-
بيع لوحة -إمبراطورية الضوء- السريالية بمبلغ قياسي!
-
بشعار -العالم في كتاب-.. انطلاق معرض الكويت الدولي للكتاب في
...
-
-الشتاء الأبدي- الروسي يعرض في القاهرة (فيديو)
-
حفل إطلاق كتاب -رَحِم العالم.. أمومة عابرة للحدود- للناقدة ش
...
-
انطلاق فعاليات معرض الكويت الدولي للكتاب 2024
-
-سرقة قلادة أم كلثوم الذهبية في مصر-.. حفيدة كوكب الشرق تكشف
...
المزيد.....
-
مداخل أوليّة إلى عوالم السيد حافظ السرديّة
/ د. أمل درويش
-
التلاحم الدلالي والبلاغي في معلقة امريء القيس والأرض اليباب
...
/ حسين علوان حسين
-
التجريب في الرواية والمسرح عند السيد حافظ في عيون كتاب ونقا
...
/ نواف يونس وآخرون
-
دلالة المفارقات الموضوعاتية في أعمال السيد حافظ الروائية - و
...
/ نادية سعدوني
-
المرأة بين التسلط والقهر في مسرح الطفل للسيد حافظ وآخرين
/ د. راندا حلمى السعيد
-
سراب مختلف ألوانه
/ خالد علي سليفاني
-
جماليات الكتابة المسرحية الموجهة للطفل في مسرحية سندس للسيد
...
/ أمال قندوز - فاطنة بوكركب
-
السيد حافظ أيقونة دراما الطفل
/ د. أحمد محمود أحمد سعيد
-
اللغة الشعرية فى مسرح الطفل عند السيد حافظ
/ صبرينة نصري نجود نصري
-
ببليوغرافيا الكاتب السيد الحافظ وأهم أعماله في المسرح والرو
...
/ السيد حافظ
المزيد.....
|