|
مرحلة حرجة من عمر الثورة السودانية
محمد حسن خليل
الحوار المتمدن-العدد: 7078 - 2021 / 11 / 15 - 20:48
المحور:
الثورات والانتفاضات الجماهيرية
تمر الثورة السودانية بمرحلة حرجة شديدة الأهمية من صراعها الممتد مع النظام القديم. ولابد من عدم حصر رؤية الصراع في حدود المواجهة بين المكون المدني والعسكري في المجلس السيادي أو بين حمدوك رئيس الوزراء وبين البرهان رأس النظام العسكري، فالثورة أوسع وأشمل من ذلك. دروس الثورات الصراع الحقيقي في أعقاب كل ثورة هو بين الثورة والنظام القديم، فالثورة تهدف لتغيير النظام الذي ثارت ضده، بينما يحاول النظام القديم بكل قواه، وفي القلب منها جيشه، ومسلحا بكل الخبرات التاريخية للأنظمة في الحفاظ على نفسها، يحاول تعديل ميزان القوى لصالحه. وهو يدرك أنه إذا لم يستطع قمع أو ذبح الثورة واضطر للتنازل، فإنه يعتبر ذلك فترة مؤقتة، ويسعى لتبريد الثورة، انتظارا لتعديل ميزان القوى بما يمكنه من استعادة نفوذه القديم أو معظمه، سواء عبر الانتقال التدريجي أو عبر الانقلابات. لكل هذا فقانون الثورات، الذي يزداد إدراكنا له بعد خبراتنا الملموسة من خلال ثورات العقد الأخير في مختلف البلدان العربية، يظهر أولا أن أهداف الثورات، الكبيرة بطبيعتها، لا تتحقق كلها بضربة واحدة، ولكنها تستغرق مراحل ونضالات، وحسبنا تذكر أن الثورة الفرنسية لعام 1789 حققت أهدافها الكاملة بعد مرحلتها الرابعة أو الخامسة عام 1871! كما يعلمنا قانون الثورات أن الصراع الحتمي في أعقاب كل مرحلة من الثورة هو الصراع بين قوى الثورة وأهدافها وبين النظام القديم، الذي قد يضعف وقد يقدم على تنازلات كبيرة تشمل حتى التضحية ببعض أركان أو أجنحة النظام، ولكنها لا تستسلم إلا مجبرة، ولا تَنْفَذ حيلها ومحاولاتها لاستعادة الأوضاع لصالحها، وتساعدها الخبرات التاريخية للأنظمة في الحفاظ على نفسها من المخاطر الداخلية والخارجية! مسار الثورة وفي بداية المرحلة الراهنة عند انفجار الثورة في الفترة بين ديسمبر 2018 وإبريل 2019 رفعت شعارات ضد الغلاء وشح الوقود وانخفاض قيمة العملة أمام الدولار، وكذلك ضد النظام القديم. واستمرت الثورة لمدة 4 أشهر حتى يوم 6 أبريل، وبدأ اعتصام أمام القيادة العامة لقوات الشعب المسلحة داعيين لإسقاط نظام حزب المؤتمر الوطني الحاكم وضد نظام العسكر والرئيس عمر حسن أحمد البشير. اضطر النظام القديم، وجوهره النظام العسكري وقيادة الجيش، اضطر إلى تقديم تنازل أمام الثورة بالتضحية بالرئيس عمر البشير وبحزب المؤتمر الحاكم، والسعي للظهور بمظهر انحياز الجيش للثورة، وتم تشكيل المجلس العسكري لحكم البلاد. إلا أن قوى الثورة لم تكتفِ -عن حق- بذلك التنازل، بل استمرت بالاعتصام حتى تحقيق مطالب ثورتهم. ودار صراع قوى في الشارع بين قوى الثورة والنظام القديم في الفترة بين إبريل وأغسطس. دار الصراع قبيل توقيع الوثيقة الدستورية حول الفترة الانتقالية بين سنتين وأربع سنوات، وحول قيادة المجلس السيادي وهل تكون للمكون العسكري أم للمدنيين. قدم الثوار تضحيات كثيرة، وظهر هذا بالذات أثناء الاعتصام أمام المجلس العسكري، والذي تم قمعه بمذبحة في 30 يونيو 2019. وكانت محصلة الصراع إعلان التوقيع على الوثيقة الدستورية في 17/8/2019. عكست تلك الوثيقة توازن القوى بين قوى الثورة المتمثلة في "إعلان قوى الحرية والتغير"، والمكونة من تجمع المهنيين وعدد من أحزاب المعارضة، وبين المجلس العسكري. تم الاتفاق على تشكيل مجلس سيادي يتولى مهام رئيس الجمهورية ويحكم لفترة انتقالية مدتها ثلاث سنوات، ويتولى المجلس العسكري رئاستها أول عامين ثم تنتقل السلطة للجناح المدني. أدى الاتفاق إلى انسلاخ الحزب الشيوعي السوداني عن تحالف قوى الحرية والتغيير هو ومؤيدوه من تحالف المهنيين اعتراضا على الاتفاق، وإن استمروا بالطبع في التعاون معه في قضايا الديمقراطية والثورة ولكن من خارج التحالف. يرى البعض أن هذا الاتفاق هو اتفاق هش منذ البداية لتناقض الأهداف بين المكون الثوري، الذي كان يطالب بإسقاط حكم العسكر وليس فقط حكم البشير، وبين مكون يمثل القسم الأساسي في النظام القديم، أي الجيش الرجعي القديم. إلا أن تلك هي طبيعة الأمور، فعندما لا يتيح ميزان القوى الفعلي أمام أي منهما تحقيق مطالبه كاملة، يمثل الاتفاق نقطة استراحة لكل منهما، ولكنها لا تمنع كليهما من السعي لتطوير ميزان القوى لصالحها. في الفترة بين بدء عمل المجلس السيادي بمكونيه منذ أغسطس- سبتمبر 2019 وبين الانقلاب الأخير سعى كل من قوى الثورة وقوى النظام القديم في تعزيز مواقعها وفقا لأسلوبها ووفقا للمتغيرات المحيطة. عملت قوى الثورة على استئصال أسس النظام القديم مثل نجاحها في الضغط لإنشاء لجنة إزالة التمكين لمواجهة ما فعله الإخوان المسلمون خلال فترة حكمهم من تمكين حكمهم داخل المؤسسة العسكرية وداخل جهاز الدولة المدني، ثم الضغط المتواصل من أجل تفعيل تلك اللجنة. كما عملت قوى الثورة على تعبئة الجماهير حول شعارات الثورة، وفضح الإخوان المسلمين ومناهضة أطروحاتهم. مشكلة الأقليات وتكتيكات النظام القديم أما قوى النظام القديم فسعت لاستغلال الظروف المحيطة لتعزيز قوتها. ولما كان النظام السوداني قبل الثورة نظاما استبداديا مركزيا ينكر حق أقاليم الأطراف في التنمية والمشاركة في السلطة، رغم ثرائها بالموارد الطبيعية، فقد نشأت حركات معارضة، حمل معظمها السلاح. بعد الثورة كان الكل يجمع على ضرورة الحل الديمقراطي لمشاكل الأقليات القومية، رغم اختلاف المحتوي بين القوى بالطبع، في مختلف الأقاليم. أما بالنسبة لمواقف تلك القوى في المحافظات فنرى أن الكثير منها انضم للثورة واعتبر نفسه جناحا عسكريا لها، ولكنها أيضا شملت الكثير من القوى المحافظة. اتفاق جوبا للسلام وتوابعه جاء توقيع اتفاق جوبا للسلام بين الحكومة المركزية وبين معظم الفصائل وبوساطة جنوب السودان في أكتوبر 2020، جاء محطة هامة في مسار الثورة السودانية. جوهر الاتفاق هو تقديم تنازلات للقوى المتمردة يتمثل في التخلي عن المركزية الشديدة وإعطاء سلطات وصلاحيات أوسع للأقاليم، مع اتفاق على وقف إطلاق النار وإنهاء الحرب الأهلية، وإشراك تلك الأطراف في السلطة وعضوية المجلس السيادي. وجوهر الاتفاق تقدميّ وديمقراطي بالطبع، إذ يقوي من الحريات الديمقراطية للأقاليم على حساب السلطات الاستبدادية للسلطة المركزية. إلا أن الاتفاق قد عدل أسسا هامة في الوثيقة الدستورية التي اتفقت عليها مكونات المجلس السيادي المدنية والعسكرية، إذ مدد الفترة الانتقالية إلى أربع سنوات، ووسع المجلس السيادي بضم ممثلين للحركات العسكرية في الولايات، ومعظمهم من المؤيدين للمكون العسكري في مجلس السيادة. ظهر الدور المحافظ لبعض قوى الأقليات جليا متمثلا في انحياز حاكم دارفور منى أركو مناوى ووزير المالية خليل إبراهيم للمجلس العسكري وتأييد قيادة المجلس العسكري لباقي المرحلة الانتقالية، وإعلانهما الانسلاخً من تحالف الحرية والتغيير وتشكيل ما سمىّ بميثاق التوافق الوطني وفي نفس السياق جاءت أحداث شرق السودان لتمثل خطوة أخرى لتعزيز القوى الرجعية. قامت قوى الشرق، من خلال تحكمها بمواني الاتصال البحري الحصرية لكل من السودان وجنوب السودان على البحر الأحمر، بالضغط على النظام بوقف الصادرات والواردات، التي تشمل صادرات كل من السودان وجنوب السودان من البترول وغيره، والواردات الحيوية لكلتا الدولتين من غذاء وأدوية ومختلف المواد الضرورية. تخلط الشرق بين بعض المطالب العادلة مثل مواجهة الإهمال المزمن لتنمية الأقاليم وتطوير المؤسسات التنموية الإنتاجية ومؤسسات الخدمات من تعليم وصحة في الشرق، وبين ما تطلق عليه تعديل مسار الشرق في اتفاقية جوبا للسلام. إلا أن قوى الشرق الرجعية طالبت تحت تلك المظلة بمطالب رجعية من نوع وقف أعمال لجنة مناهضة التمكين التي تسعى لاستئصال النظام القديم، وطالبت بتكوين مجلس عسكري جديد يكون ممثلاً لأقاليم السودان الستة، وكذلك تغيير حكومة حمدوك، وذلك كله تحت مظلة المطالبة بإلغاء مسار الشرق في اتفاقية جوبا للسلام! ويؤكد بعض المراقبين على العلاقات القوية بين قيادات قوى الشرق تلك مع أركان النظام القديم والإخوان المسلمين. الأزمة الاقتصادية نقطة الضعف أمام الثورات الحالية كان الاختبار التالي أمام الثورة هو الأزمة الاقتصادية الملحة وطريق حلها، وهذه هي نفس العقبة الكأداء التي واجهت كل الثورات العربية منذ عام 2011. في الوقت الذي يدعم فيه الوعي الشعبي عشية الثورة مطلب إسقاط النظام السياسي القديم والظفر بالديمقراطية وتحقيق مطالب اقتصادية حياتية مباشرة، إلا أن هذا الوعي لا يرتقي إلى تقديم برنامج اقتصادي متكامل، يمثل بديلا تنمويا وطنيا مستقلا ومنحازا لأغلبية الشعب الفقيرة. والسودان يعاني من أزمة اقتصادية هيكلية، فرغم مساحات الأراضي الزراعية الهائلة وموارد المياه النهرية والمطرية والثروة الحيوانية التي تتجاوز 100 مليون رأس، فهو مستورد صاف للغذاء. والإنتاج الصناعي يقتصر على بعض الصناعات الخفيفة، ويعاني السودان من عجز مزمن، سواء عجز داخلي في الموازنة العامة للدولة أو عجز خارجي في ميزان المدفوعات. وتتفاقم الأزمة في السنين الأخيرة، حيث يتناقص الناتج المحلي الإجمالي تدريجيا من حوالي 45 مليار دولار عام 2017 وحتى 34 مليار دولار عام 2020. وزادت نسبة السكان تحت خط الفقر من 48% عام 2019 إلى 56% عام 2020. هنا تتلقف القوى الإمبريالية وأدواتها من مؤسسات التمويل الدولية، بالذات البنك والصندوق الدوليين، ملتقية في ذلك بالطبع بالقوى الرأسمالية التابعة في الداخل، تتلقف الفرصة لعرض تدخلها لحل المظهر النقدي للأزمة، أي أزمة الديون والعجز الداخلي والخارجي، عبر تقديم قروض، بالذات من صندوق النقد الدولي. في الوقت الذي تمثل فيه تلك القروض حلا لمشكلة السيولة النقدية، بالذات اللازمة لسداد الديون بعد أن تحل آجال سداد أقساطها في موعدها، فإنها تفرض شروطا تعمق التبعية الاقتصادية، وتؤدي إلى تفاقم الأزمة الاقتصادية وزيادة معاناة الجماهير. منطق تلك الشروط يتمثل في مثلث الرعب الشهير للسياسات النيوليبرالية: السياسات التقشفية التي تشمل تخفيض الإنفاق على الخدمات والدعم ورفع سعر الوقود والأغذية، كما تشمل خصخصة المرافق والأصول القومية، وتخفيض العملة. جاء عبد الله حمدوك، الممثل المدني في السلطة، لكي يعلن من أول لحظة أن الأولوية لحل الأزمة الاقتصادية هي عقد قرض بقيمة ثماني مليارات دولار تحتاجها الحكومة، وستتفاوض من أجلها مع صندوق النقد الدولي. ولا شك في ان وجود عبد الله حمدوك على رأس الوزارة التي قادت التفاوض مع صندوق النقد الدولي والامتثال لشروطه خلال أكثر من عامين منذ أغسطس 2019 وحتى الانقلاب تمثل فترة كافية لاختبار ما يؤدي إليه الخضوع لشروط صندوق النقد الدولي. كما تمثل السودان مثالا كلاسيكيا على موقف البنك والصندوق من الدول المدينة المعسرة، ونتائج تلك السياسات. مؤسسات التمويل الدولية كريمة فقط في إعطاء الوعود تحت مختلف المسميات، بينما الشروط الحقيقية في وادِ آخر، والنتيجة في أثرها على حياة الشعب كارثة أخرى. نقطة البدء أن السودان مدين بحوالي 60 مليار دولار ومتأخر عليه أقساط مستحقة لمعظم الدائنين، بالذات البنك والصندوق الدوليين وبنك التنمية الأفريقية. (مراجع مختارة تشمل كل الحقائق الاقتصادية مذكورة في نهاية المقال). وتنقسم ديون السودان إلى ديون ثنائية، وديون متعددة الأطراف، وديون تجارية. وقد تجاوزت قيمة الديون 150% من إجمالي الناتج المحلي الإجمالي، كما مثلت أكثر من عشرة أضعاف الصادرات، مما يعسر من إمكانيات السداد ويفسر التعثر الحادث متمثلا في أعباء الديون المتأخرة. والوعد الذي تعد به مؤسسات التمويل الدولية السودان هو تخفيض نسبة من ديونه قد تصل في حدها الأقصى إلى 90% منها وفق مبادرة هيبيك التي تهدف إلى تخفيض أعباء ديون البلدان المؤهلة بحيث لا تتجاوز الأعباء السنوية الواجب سدادها 150% من صادراتها حتى تتماشى مع قدرتها على السداد، وتسديد الأقساط على ستة عشر عاما. ما هو الثمن الذي يتعين على السودان دفعه؟ نجد ذلك في الإعلان عن نتائج اجتماعات مجلسي الإدارة في المؤسستين الدوليتين في مارس 2021 للنظر في أهلية السودان للانضمام للبرنامج، وقبل أي تخفيض فعليّ. لقد قرر المجلسان في اجتماعات مارس 2021 ثم في اجتماعات 30 يونيو 2021، أقرا بأهلية السودان للانضمام إلى مبادرة تخفيض الديون بناء على حسن سيره وسلوكه في الفترة السابقة بعد تأهله لها بإجراءات عديدة. لقد تأهل سياسيا بشطب اسمه من القائمة السوداء للدول الراعية للإرهاب في ديسمبر 2020. كما قام بسداد متأخرات ديونه المستحقة للسداد (رغم أنه لم يتمكن من ذلك إلا من خلال قروض جديدة من الولايات المتحدة وغيرها). كما قام بتحرير سعر الصرف في فبراير 2021 مما أدى لتخفيض هائل في سعر الجنيه السوداني، حيث ارتفع سعر الدولار من 55 جنيها سودانيا كسعر رسمي قبل التعويم إلى 375 جنيها سودانيا بعده! لهذا نال السودان قبول ورضاء مؤسسات التمويل الدولية! وتستمر الأمور على نفس المنوال سواء من حكومة السودان أو من مؤسسات التمويل الدولية. أقدم النظام السوداني على رفع الدعم بالكامل عن الوقود، ويصرح حمدوك بأن هناك حاجة لخطوات لا تحظى بشعبية كبيرة (!)، من أجل ضمان تخفيض الديون، ويرتفع التضخم في مايو 2021 إلى 379%! ومن الأسباب الرئيسية تسييل عجز المالية العامة (بالاقتراض المصرفي وطباعة النقود) ونقص الغذاء والوقود. وعن هذه الطرق ذات العبء الاجتماعي الكبير، وعن طريق مزيد من القروض، تمكن السودان من سداد المتأخرات المستحقة من الديون لكل من البنك الدولي وبنك التنمية الأفريقي وصندوق النقد الدولي في شهور مارس ومايو ويونيو على التوالي، مما أهله في اجتماع الصندوق في 29 يونيو لمرحلة أوسع من التيسيرات. هل يعني هذا أن السودان أصبح مؤهلا فعلا للاستفادة من كل ما تسمح به مبادرة هيبيك؟ لا، فمنطق مؤسسات التمويل الدولية لابد وأن يتضمن القدرة المتواصلة على فرض الشروط، وآخر الشروط هي تحقيق المستهدفات من الإجراءات في مواجهة الفقر (؟!) واستمراره لمدة عام! إجراء غير محدد يستمر لفترة طويلة كحد أدنى سنة يمكن أن تعترض الوعد بالانضمام لبرنامج تخفيض الديون! كل هذا يتم عبر متابعة متقاربة من التقارير والاجتماعات المتوالية بين الطرفين، وتملك مؤسسات التمويل حتى التراجع عن التسهيلات التي منحتها كما رأينا بالتهديد بعدم شطب الديون الفرنسية ووقف التسهيلات الأمريكية بعد انقلاب البرهان! قادت تلك السياسة الاقتصادية، سياسة البنك والصندوق الدوليين وحمدوك والبرهان، إلى النتائج التي قادت إليها في كل مكان طبقت فيه، ألا وهو خروج الجماهير ضد الإفقار. انفجرت المظاهرات ضد الفقر وغلاء الوقود والغذاء وانهيار قيمة العملة في سبتمبر الماضي. ورغم هذا لم تتعد الشعارات المطالب المباشرة بحق الجماهير في الحياة. والمثير هو أن تلك الأزمة الجماهيرية استعملها البرهان في صراعه ضد حمدوك حين اعتبرها دليلا على فشل المكون المدني في إدارة الاقتصاد، وكأنه لم يكن موافقا على برنامج مؤسسات التمويل الدولية! إذن لماذا يتم التعامل مع حل الأزمة الاقتصادية عن هذا الطريق المهلك الذي يدمر الأحوال المعيشية للشعب وكأنه "الخلاص الوحيد" و"الدواء المر" القابل للتعاطي من أجل "الإصلاح الاقتصادي" المزعوم؟ في الواقع لم يطرح على الساحة الشعبية بقوة أي بديل آخر متكامل! لا يمكن أن يقتصر البديل الاقتصادي على مجرد المطالبة بغذاء ووقود أقل سعرا، بل لابد من طرح بديل متكامل، سياسات للإصلاح الاقتصادي الحقيقي بديلا عن "إصلاح صندوق النقد" المدمر للشروط الحياتية للجماهير. لابد من طرح بديل متكامل للسياسات التي تجمع بين التقشف والخصخصة وتخفيض العملة متمثلا في برنامج تنموي يقوم على إدارة الموارد الطبيعية للبلاد لزيادة الإنتاج الزراعي الصناعي وزيادة الاكتفاء الذاتي تدريجيا، وبشكل مستدام، ولصالح فقراء الشعب السوداني في المقام الأول. والمثال الواضح للتعارض الفج بين سياسات التبعية الاقتصادية الحالية وبين السياسات التنموية لصالح الجماهير هو السياسة الزراعية. والمفارقة أن السودان الذي يتمتع بأكبر مساحة قابلة للزراعة وتوافر المياه التي تؤهله لأن يصبح سلة الغذاء للعالم العربي مازال يستورد غذاءً! لا تشتمل السياسة الاقتصادية الزراعية على تنمية الإنتاج الزراعي عن طريق الاستفادة بالأراضي المتاحة، ولصالح المنتج، الفلاح السوداني، بل يهدر كل هذا لصالح التركيز على تنمية مساحات محددة عن طريق الاستثمار الخارجي لسد حاجة المستثمر، دول الخليج عادة، للسلع الغذائية. وموارد السودان الطبيعية لا تقتصر على الأرض والمياه، ولا حتى على أكثر من 120 مليون رأس ماشية، بل إن مساحته الهائلة تعطيه تنوعا هائلا في الموارد، والموارد المعدنية تشتمل على البترول والذهب وغيرها. والشكل الأساسي وربما الوحيد لاستثمار تلك الأصول هو بيع حقوق الاستغلال كامتيازات للأجانب، دون محاولة استثمار تلك الموارد عن طريق الدولة أو بمشاركتها الفعالة المتزايدة. وبديلا عن سياسات صندوق النقد الدولي بما فيها تخفيض سعر العملة الذي يقود للتضخم وآثاره من إعادة توزيع الدخل لصالح الطبقات المالكة وفي غير صالح الفقراء وذوي الأجور والمعاشات الثابتة، بديلا عن هذا لابد من سياسة تحمل عبئ الأزمة على الطبقات القادرة من خلال الضرائب التصاعدية وضريبة الثروة ولو لمرة واحدة، والتأميمات للهياكل الرئيسية للاقتصاد، والتدرج في هذا وفق ميزان القوى الملموس ووعي والتفاف جماهير الشعب المنظمة حول ذلك البرنامج. الموقف الدولي والإقليمي من الانقلاب الموقف الأمريكي الأوروبي يدين الانقلاب وينادي بعودة حكومة حمدوك، والأسباب بالطبع ظاهرة: فالنظام المدني- العسكري الذي يستطيع أن يكون أكثر تأمينا للنظام قد استجاب لكل مقومات البرنامج النيوليبرالي للغرب ومؤسسات التمويل الدولية، كما استجاب للمطالب السياسية بالتطبيع مع إسرائيل، بالإضافة لأنه أكثر استقرارا من النظم العسكرية. وعلى الجهة الأخرى فإن الموقف الروسي الصيني يبدو أكثر تعاطفا مع نظام البرهان، ويمنع قرارات إدانة صريحة له من مجلس الأمن، رغم الدعوات بالطبع للتفاوض والصلح بين مكونات النظام السوداني. الموقف الصيني مفهوم الدوافع، فالسياسة الصينية كسياسة برجماتية لا يهمها إلا مصلحتها، ومصالحها الكبيرة في التعامل مع السودان الدولة واضحة، التجارة والاستثمارات. الصين الشريك التجاري الرئيسي للسودان، وتشتري الصين البترول السوداني منذ ما قبل قسمة السودان، ولها امتيازات في التنقيب عن المعادن، كما أنها تتعاقد على إنشاء مطار وميناء وغيرها. وروسيا لا تختلف من حيث المنطق، حيث إنها مورد السلاح الأول للجيش السوداني (والصين متواجدة في هذا المجال أيضا). كما أنها شديدة الاهتمام بإقامة قاعدة بحرية على الأراضي السودانية المطلة على البحر الأحمر، حيث من المعروف الأهمية الاستراتيجية لمنطقة باب المندب والقرن الأفريقي في العلاقات الجيوسياسية المعاصرة. الدول العربية بالطبع لا تهتم، ولا تفضل بالطبع، نظاما ديمقراطيا، وهي خلف العظات حول التفاوض والصلح مع المدنيين تؤيد النظام العسكري، من غير أن يقود هذا بالطبع إلى قطع علاقاتها مع أي نظام حاكم في السودان: فهي تستثمر في الزراعة في السودان تأمينا لمواردها الغذائية، ولعل الأموال الخليجية أن تعوض انسحاب الدعم المالي الغربي الذي يجري التهديد به من أجل الضغط لعودة الديمقراطية. مصر بالطبع لا تملك ترف خسارة السودان تحت أي بند، حيث الاحتياج الاستراتيجي للنيل وضرورة التنسيق مع السودان بشأنه. كما أن التشابه مع المسار المصري للثورة، البدء بموقف الجيش المدعي أنه يستجيب لمطالب الثورة في الديمقراطية، وحتى يتخلى عن قسم من النظام القديم (مبارك في مصر والبشير في السودان)، إلا أنه يسعى لاستعادة النظام القديم أو الحد الأقصى منه متى ثبت أقدامه واستطاع ذلك. مسارات المستقبل والمستقبل رهن بميزان القوى في الصراع الراهن، حيث يمكن تلمس احتمالات ثلاثة: أولها هو نجاح البرهان في قمع الثورة وسيادة نظام استبدادي رجعي، والاستناد إلى التأييد الصيني الروسي العربي وتأمين استئصال التغيرات التي جاءت بها الثورة، باستثناءات منها درجة من التحول نحو الفيدرالية لإنهاء الحروب الأهلية المستمرة منذ عقود. الاحتمال الثاني هو نجاح الثورة الشعبية في كسب المعركة في هذه الجولة والتقدم بقضية الثورة، على صعيد الديمقراطية، ثم على صعيد المطالب الاقتصادية المباشرة (والتي نرجو أن تتطور إلى برنامج اقتصادي متكامل في مقابل برنامج التبعية للغرب)، وهو بالطبع ما يحقق- ليس فقط مصالح الشعب السوداني ولكن أيضا مصالح الجماهير السودانية والجماهير العربية في الدخول بقوة إلى ساحة فرض اختياراتها التحررية الديمقراطية. الاحتمال الثالث هو وصول توازن القوى إلى نوع من الحل الوسط بعودة نوع من الحكم المدني، سواء بحمدوك أو بغيره، في إطار سيادة تأثير المكون العسكري حارس النظام القديم. حقا إن سلوك البرهان الأخير بحل مجلس السيادة وإعادة تكوينه بعد إخراج ممثلي قوى الحرية والتغيير منه واستبدالهم بمدنيين على مقاس العسكريين، هذا السلوك ينبئ عن رفض الخضوع للضغوط الداخلية والخارجية للوصول إلى إشراك قوى الثورة والأحزاب في نوع من الحكم، ولكن هذا لم يمنح النظام الاستقرار بعد. تبقى الكلمة الأخيرة للشعوب. ينطبق هذا سواء نجحت القوى الثورية في كسب هذه الجولة وتقويض المحاولة الانقلابية للجيش، أم نجح الجيش في تمرير بعض أو كل اختياراته بتأميم الثورة وإعادة جوهر النظام القديم. إن قضايا الشعوب لا تموت، والثورات تحقق مطالبها عبر مراحل، وكل نجاحات تمثل تراثا ملهما وخبرات هامة للقوى الثورية، كما أن كل تراجع لابد وأن تعقبه جولة أخرى للشعب السوداني البطل ضد أعدائه. بعض المصادر: 1. الأزمة السودانية بين المقدمات والسيناريوهات. د. أماني الطويل. الأهرام في 27 أكتوبر 2021 على الرابط: https://gate.ahram.org.eg/daily/NewsQ/828988.aspx 2. بيان صحفي - صندوق النقد الدولي والبنك الدولي ينظران في أهلية السودان للحصول على المساعدة. موقع صندوق النقد الدولي على الرابط https://www.imf.org/en/About/Factsheets/Sheets/2016/08/01/16/11/Debt-Relief-Under-the-Heavily-Indebted-Poor-Countries-Initiative 3. أسئلة أساسية عن السودان. موقع صندوق النقد الدولي على الرابط https://www.imf.org/ar/Countries/SDN/frequently-asked-questions-on-sudan 4. مأزق السداد" يتربص بقدرة السودان على تمويل قروضه (تقرير) على الرابط https://www.aa.com.tr/ar/%D8%A7%D9%82%D8%AA%D8%B5%D8%A7%D8%AF/%D9%85%D8%A3%D8%B2%D9%82-%D8%A7%D9%84%D8%B3%D8%AF%D8%A7%D8%AF-%D9%8A%D8%AA%D8%B1%D8%A8%D8%B5-%D8%A8%D9%82%D8%AF%D8%B1%D8%A9-%D8%A7%D9%84%D8%B3%D9%88%D8%AF%D8%A7%D9%86-%D8%B9%D9%84%D9%89-%D8%AA%D9%85%D9%88%D9%8A%D9%84-%D9%82%D8%B1%D9%88%D8%B6%D9%87-%D8%AA%D9%82%D8%B1%D9%8A%D8%B1/2382120 5. العالم يدعم السودان.. شطب ديون ومنح بالمليارات موقع صندوق النقد الدولي على الرابط imf.org/ar/News/Articles/2021/03/26/pr2187-sudan-imf-and-wb-consider-sudan-eligible-for-assistance-under-enhanced- -initiative 6. الناتج المحلي الإجمالي في السودان على الرابط https://almalomat.com/309585/%D8%A7%D9%84%D9%86%D8%A7%D8%AA%D8%AC-%D8%A7%D9%84%D9%85%D8%AD%D9%84%D9%8A-%D8%A7%D9%84%D8%A5%D8%AC%D9%85%D8%A7%D9%84%D9%8A-%D9%81%D9%8A-%D8%A7%D9%84%D8%B3%D9%88%D8%AF%D8%A7%D9%86/ 7. السفير الصيني ما شينمين يقبل مقابلة خاصة مع جريدة "صوت السودان "على الرابط https://www.mfa.gov.cn/chinaarabcf2018//ara/zagx/sjfc/t185556
#محمد_حسن_خليل (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
إيران والغرب والعرب
-
أفغانستان بين النجاح والفشل
-
نظرة سريعة على وباء كوفيد 19 في منتصف عام 2021
-
حرائق، فيضانات، أعاصير
-
الحق في الحياة والأجور في مصر
-
ملاحظات على أثر أزمة كورونا على السياسات الاقتصادية العالمية
-
تصاعد الإرهاب والاستهانة بالمشاعر الدينية
-
السلام مقابل السلام والسلام الأمريكي الإسرائيلي
-
المواجهة بين مصر وأثيوبيا
-
السباق على المركز العاشر- إيران والنادي النووي
-
أولاد الناس- ثلاثية المماليك لريم بسيوني
-
المأزق اللبناني وآفاق الحلول
-
الحديد والصلب بين التخطيط ومنطق المقاولين
-
الديمقراطية الأمريكية وخطر الترامبية؟!
-
موجة الخصخصة والإفقار والمقاومة
-
حقوق الإنسان والحريات والتمويل الأجنبي
-
حرب أكتوبر والمفارقة الكبرى
-
الثورة اللبنانية بين المخاطر والتحديات
-
مجلس الشيوخ فى مصر ردة عن الدستور
-
لبنان بين المطرقة والسندان
المزيد.....
-
هولندا: اليمين المتطرف يدين مذكرتي المحكمة الجنائية لاعتقال
...
-
الاتحاد الأوروبي بين مطرقة نقص العمالة وسندان اليمين المتطرف
...
-
السيناتور بيرني ساندرز:اتهامات الجنائية الدولية لنتنياهو وغا
...
-
بيرني ساندرز: اذا لم يحترم العالم القانون الدولي فسننحدر نحو
...
-
حسن العبودي// دفاعا عن الجدال... دفاعا عن الجدل (ملحق الجزء
...
-
الحراك الشعبي بفجيج ينير طريق المقاومة من أجل حق السكان في ا
...
-
جورج عبد الله.. الماروني الذي لم يندم على 40 عاما في سجون فر
...
-
بيان للمكتب السياسي لحزب التقدم والاشتراكية
-
«الديمقراطية» ترحب بقرار الجنائية الدولية، وتدعو المجتمع الد
...
-
الوزير يفتتح «المونوريل» بدماء «عمال المطرية»
المزيد.....
-
ثورة تشرين
/ مظاهر ريسان
-
كراسات شيوعية (إيطاليا،سبتمبر 1920: وإحتلال المصانع) دائرة ل
...
/ عبدالرؤوف بطيخ
-
ورقة سياسية حول تطورات الوضع السياسي
/ الحزب الشيوعي السوداني
-
كتاب تجربة ثورة ديسمبر ودروسها
/ تاج السر عثمان
-
غاندي عرّاب الثورة السلمية وملهمها: (اللاعنف) ضد العنف منهجا
...
/ علي أسعد وطفة
-
يناير المصري.. والأفق ما بعد الحداثي
/ محمد دوير
-
احتجاجات تشرين 2019 في العراق من منظور المشاركين فيها
/ فارس كمال نظمي و مازن حاتم
-
أكتوبر 1917: مفارقة انتصار -البلشفية القديمة-
/ دلير زنكنة
-
ماهية الوضع الثورى وسماته السياسية - مقالات نظرية -لينين ، ت
...
/ سعيد العليمى
-
عفرين تقاوم عفرين تنتصر - ملفّ طريق الثورة
/ حزب الكادحين
المزيد.....
|